الخميس، 14 فبراير 2013

سماع الوان

سماعُ ألوان وتذوّق أشكال!(*)

دالاّت(1) قيّمة في فهمنا دماغ الإنسان ووظائفه، تكشفها دراسات أجريت

على أولئك الذين تمتزج إحساساتهم بعضها ببعض(2).

<S .V. راماشاندران> ـ <M .E. هبارد>


حينما يصنع <M. بليكسلي> فطائر «الهامبرگر» بيديه ويعطيها شكلها، يشعر بطعم مر قوي في فمه. وترى <E. جونز> (وهو اسم مستعار) لونًا أزرق حينما تصغي إلى النغمة دو دييز C sharp وهي تعزف على البيانو، في حين تثير الأنغام الأخرى لديها ألوانا متفاوتة إلى حد كبير تغدو فيه مفاتيح البيانو مكوّدة لونيا color-coded، الأمر الذي يسهل عليها تذكر السلالم الموسيقية وعزفها. وحينما ينظر <J. كولمان> إلى أرقام سوداء مطبوعة، فإنه يراها ملونة بألوان يختلف الواحد منها عن الآخر. إن <بليكسلي> و<جونز> و<كولمان> هم من بين قلة من أناس لا يختلفون عن الأسوياء إلا في أنهم ذوو حس مواكب. فهم يدركون العالم العادي بطرق غير عادية، ويبدون وكأنهم يسكنون أرضا غامضة ليست ملكا لأحد، تقع بين الخيال والواقع. فعند هؤلاء تختلط إحساسات اللمس والذوق والسمع والرؤية والشم عوضا عن أن تبقى منفصلة بعضها عن بعض.


لقد عَرَف العلماء الحديثون الحسَّ المواكب منذ عام 1880، حينما نشر <F. گالتون> [وهو أحد أقرباء <Ch. داروين>] مقالة علمية عن هذه الظاهرة في مجلة Nature. بيد أن معظمهم لم يعرها اهتماما وعدّها ضربا من الأوهام أو نتيجة لتعاطي مخدر ما (يولِّد LSD والمسكالين تأثيرات مشابهة) أو مجرد أمر غريب. ولكن منذ خمس سنوات بدأنا وآخرون غيرنا نكتشف السيرورات الدماغية التي يمكن أن تفسر الحس المواكب. وخلال ذلك عثرنا أيضا على دالاّت clues تخص بعضا من أكثر مظاهر العقل البشري غموضا، مثل: نشوء الفكر التجريدي، واستخدام المجاز، وربما اللغة أيضا.


نظرة إجمالية/ الحس المواكب(**)

• إن مصطلح الحس المواكب [المأخوذ من الجذر الأغريقي syn بمعنى «معا»، وaisthesis بمعنى «إدراك»]، يمثل حالة يعاني فيها أناس مزجا بين نوعين من الإحساسات أو أكثر؛ وفيما عدا ذلك هم أسوياء تماما.
• لقد ظل يُنظر إلى هذه الظاهرة عقودا من السنين على أنها اختلاق أو محض ذكريات، ولكن تبين مؤخرا أنها حقيقة. وربما تحدث بسبب تفعيل متصالب تقوم فيه باحتان دماغيتان منفصلتان ببعث النشاط كل في الأخرى
• فيما يستكشف العلماء الآليات المعنية بالحس المواكب، فإنهم يتعرفون كذلك كيف يعالج الدماغ المعلومات الحسية عموما وكيف يستعملها في إقامة ارتباطات تجريدية بين ما يبدو أنها مدخلات لا علاقة بينها.


يتمثل التفسير الشائع للحس المواكب في أن المصابين به يستشعرون ذكريات الطفولة وارتباطاتها ويعيشونها. فلربما سبق لشخص ما أن لعب بمغانط magnets الثلاجة يوم كان طفلا، وكان حينها الرقم 5 أحمر والرقم 6 أخضر. ولكن نظرية الربط هذه لا تجيب عن سبب اقتصار الاحتفاظ بمثل هذه الذكريات الحسية النشيطة على بعض الناس فقط. فأنت قد تفكر بالبرد حينما تنظر إلى صورة مكعب من الثلج، ولكن يحتمل ألا تشعر بالبرد مهما يكن عدد المرات التي واجهتَ بها الثلج والجليد في صِباك.


وهناك فكرة أخرى سائدة ترى أن ذوي الحس المواكب هم مستخدمون للمجاز فحسب حينما يصفون نغمة دو بيمول C flat بأنها «حمراء»، وحينما يقولون إن طعم الدجاج «شائك» pointy ـ وذلك تماما على نحوِ ما يمكن أن نقول أنا وأنت عباراتِ «قميص صاخب» loud shirt و«جبنة حادة» sharp cheese. ونشير إلى أن لغتنا العادية حافلة بمثل هذه الاستخدامات المجازية المرتبطة بالحس، وربما ليس ذوو الحس المواكب إلا أناسا يتمتعون بموهبة خاصة في هذا المجال.


في عام 1999، بدأنا محاولة اكتشاف ما إذا كان الحس المواكب خبرة حسية حقيقية، مع العلم بأن هذا التساؤل البسيط المضلل قد أزعج الباحثين في هذا المجال عقودا عدة. وتتمثل إحدى المقاربات الطبيعية بالشروع في توجيه السؤال الصريح التالي للأفراد المفحوصين: «هل هذا محض ذِكْرَى أم أنك ترى اللون فعلا وكأنه أمامك مباشرة؟» فعندما حاولنا طرح هذا السؤال لم نحظ بالشيء الكثير؛ إذ أجاب بعض المفحوصين بالقول: «آه، إنني أراه بوضوح تام.» ولكن الإجابات الأكثر تواترا كانت: «أكاد أن أراه، وأكاد ألا أراه،» أو «كلا، إنه ليس ذِكْرَى. إنني أرى الرقم أحمر بشكل واضح، ولكنني أعرف أيضا أنه ليس هكذا، بل إنه أسود، ولذلك يجب أن يكون ذِكْرَى حسبما أظن.»


ولكي يحدد علماء النفس إن كان تأثيرٌ ما أمرا مدركا حقا، فإنهم غالبا ما يستعملون اختبارا بسيطا يدعى الفَصْل segregation أو البروز pop-out. فإذا نظرتَ إلى مجموعة خطوط مائلة مبعثرة وسط حشد من الخطوط الشاقولية، برزت الخطوط المائلة بوضوح. وفي الواقع، تستطيع فصلها فورا عن الخلفية وتجميعها ذهنيا لتشكل على سبيل المثال شكلا مثلثيا منفصلا. وعلى نحو مشابه، إذا كانت معظم عناصر الخلفية نقاطا خضراء وطُلِب إليك البحث عن أهداف حمراء، فإن هذه الأخيرة تبرز بشكل جلي. وبالمقابل، إن مجموعة الأرقام 2 السوداء المبعثرة بين مجموعة أرقام 5 من اللون نفسه تختلط فيما بينها تقريبا [انظر الشكل في الصفحة 72]، فيغدو من الصعب تحديد الأرقام 2 وتمييزها دون الانهماك في معاينة الأرقام الواحد تلو الآخر، مع أن كل رقم بمفرده واضح الاختلاف عما يجاوره، مثلما يختلف الخط المائل بوضوح عن الخط الشاقولي. وهكذا يمكننا الاستنتاج أن ملامح أولية أو بدائية معينة فقط، مثل اللون واتجاه الخط، تستطيع أن تقدم أساسا للتجميع grouping؛ في حين لا تستطيع فعل ذلك رموز tokens تفوقها تعقيدا من الناحية الإدراكية، مثل الأعداد.


لقد تساءلنا: ماذا سيحدث إذا ما أَرَيْنا الأرقامَ المختلطة لأفراد الحس المواكب، الذين يبصرون لونا أحمر على سبيل المثال حينما يرون الرقم 5 ولونا أخضر حينما يرون الرقم 2. ولهذه الغاية رتبنا الأرقام 2 على نحو شكلت فيه مثلثا. فإذا كان الحس المواكب أثرا حسيا حقيقيا، وجب على مفحوصينا أن يروا المثلث بسهولة لأن الأرقام ستبدو لهم ملونة.


حينما أجرينا اختبارات البروز هذه على متطوعين جاء الجواب شديد الوضوح. فخلافا للمفحوصين الأسوياء ذكر أصحاب الحس المواكب الشكلَ المتكوِّن من مجموعات الأرقام بشكل صحيح حتى 90 في المئة من الحالات (وهذا بالضبط ما يفعله غير أصحاب الحس المواكب حين تكون الأرقام ذات ألوان مختلفة حقا). وتبرهن هذه النتيجة على أن الألوان المُسْتَحَثَّة هي حسية حقا، وأن أصحاب الحس المواكب لا يفتعلون الأمر افتعالا، ويستحيل عليهم تلفيق إنجازهم هذا. وفي مثال آخر لافت للنظر طلبنا إلى أحد أصحاب الحس المواكب الذين يرون الرقم 5 ملونا بالأحمر أن يراقب عرضا حاسوبيا. وظهر أنه لم يستطع أن يُعْلِمَنا اللحظة التي أضفنا فيها خِفْية لونا أحمر إلى الرقم الأبيض ما لم يكن هذا اللون الأحمر قويا إلى حد كاف؛ في حين استطاع أن يكتشف فورا لونا أخضر أضيف إلى الرقم 5.


المعالجة الإبصارية(***)

إن التأكيد بأن الحس المواكب شأن حقيقي يستتبعه سؤال عن سبب استشعار بعض الناس هذه الظاهرة الغريبة. وتقودنا تجاربنا إلى تحبيذ فكرة كون أصحاب الحس المواكب يعانون ذلك نتيجة نوع من التشبيك (الإسلاك) المتصالب cross wiring في الدماغ. وقد سبق لهذا المفهوم الأساسي أن اقتُرح بشكل مبدئي من نحو مئة عام؛ ولكننا الآن حددنا أين يمكن أن يحدث مثل هذا التشبيك المتصالب في الدماغ وكيف يحدث.




إن فهم العوامل البيولوجية العصبية الفاعلة يتطلب بعض الإحاطة بالكيفية التي يعالج بها الدماغ المعلوماتِ الإبصارية [انظر الشكل في الصفحة 70]. فبعد أن ينعكس الضوء من مشهدٍ ما ويسقط على المخاريط (مستقبلات اللون) في العين، تذهب الإشارات العصبية neural signals من شبكية العين إلى الباحة 17 في الفص القذالي (القفوي) عند مؤخر الدماغ. وهناك تَلْقى الصورةُ مزيدا من التظهير داخل تجمعات موضعية (أو نقاط blobs)، فتتحول إلى خاصيات بسيطة كاللون والحركة والشكل والعمق. وبعدئذ، تُرسَل المعلومات عن هذه الصفات وتوزَّع على بضع مناطق مبثوثة في أعماق الفصين الصدغي والجداري. ففي حالة اللون تذهب المعلومة إلى الباحة V4 في التلفيف المغزلي fusiform gyrus من الفص الصدغي. ومن هناك ترحَّل هذه المعلومة إلى باحات أكثر علوا في تراتبية hierarchy مراكز اللون، بما في ذلك منطقة واقعة بالقرب من رقعة (لطخة) patch في قشرة المخ تدعى TPO (لكونها ملتقى الفصوص الثلاثة: الصدغي والجداري والقذالي). وقد تُعنى هذه الباحات العليا بالجوانب الأكثر تعقيدا في التظهير اللوني. فمثلا تبدو أوراق الأشجار عند الغسق بالخضرة نفسها التي تظهر بها في وضح النهار على الرغم من أن تمازج أطوال الموجات التي تعكسها هذه الأوراق في الحالتين مختلف جدا.


الإشارات الممتزجة(****)

في واحد من أكثر أشكال الحس المواكب شيوعا يستثير النظرُ إلى أحد الأعداد لونا محددا. ويحدث هذا، على ما يظهر، لأن باحات الدماغ التي لا تتآثر في الحالة السوية حين معالجة الأعداد أو الألوان تفعِّل إحداها الأخرى عند أصحاب الحس المواكب.
الملتقى الصدغي الجداري القذالي (TPO)
تنتقل الإشارات العصبية الصادرة عن شبكية العين بوساطة إشعاع بصري إلى الباحة 17 في مؤخر الدماغ، حيث تتفكك إلى صفات بسيطة كاللون والشكل والحركة والعمق.
تتابع المعلومة اللونية مسارها إلى الباحة V4 حيث يتم قربها أيضا تمثيل المظهر الإبصاري للأعداد ـ وهي تشكل بذلك موقعا لوصل تصالبي بين باحتي اللون والعدد، [الأسهم القصيرة القرنفلية والخضراء].
وأخيرا، يتقدم اللون «إلى الأعلى»، وصولا إلى باحة قريبة من ملتقى الفصوص الثلاثة TPO (الصدغي والجداري والقذالي)، حيث يمكن إنجاز معالجة لونية أكثر تعقيدا. وعلى نحو مشابه، تحدث مرحلة حوسبة عددية لاحقة في التلفيف الزاوي الذي هو جزء من الملتقى TPO يُعنى بمفاهيم التتالي والكم. وهذا يمكن أن يفسر الحس المواكب لدى أُناس يربطون الألوان بالتتالي العددي المجرد، مثل أيام الأسبوع.
منظر لمؤخر دماغ شخص ذي حس مواكب تم تصويره بالرنين المغنطيسي الوظيفي، يُبدي نشاطا شديدا (اللون الأصفر) في باحة المعالجة اللونية V4 فيما ينظر المفحوص إلى أرقام بيضاء على خلفية رمادية اللون. ولا تكون هذه الباحة ناشطة لدى ذوي الإدراك السوي حينما يشاهدون الأرقام ذاتها.


وكذلك يبدو أن الحوسبة العددية numerical computation تتم على مراحل؛ إذ تحدث خطوة مبكرة في التلفيف المغزلي، حيث يجري تمثيل الأشكال الحقيقية للأعداد، وخطوة لاحقة في التلفيف الزاوي angular gyrus الذي هو جزء من الرقعة TPO يختص بالمفاهيم العددية مثل التَّرْتيبية ordinality (بمعنى التتالي) والأساسية cardinality (بمعنى الكمّ). (فعندما يتأذى التلفيف الزاويّ بسكتة دماغية stroke أو ورم، يبقى المريض قادرا على تحديد الأعداد ولكنه لا يبقى قادرا على القسمة أو الطرح. أما الضرب فغالبا ما ينجو لأنه يُتعلَّم بالاستظهار من غير فهم.) يضاف إلى ذلك أن دراسات تصوير الدماغ في البشر تلمِّح بقوة إلى أن حروف الهجاء أو الأعداد (وحدات الكتابة graphemes) الممثلة إبصاريا تفعِّل الخلايا في التلفيف المغزلي، في حين تتم معالجة أصوات المقاطع (الفونيمات(3) phonemes) في موقع أكثر علوا في الجوار العام للرقعة TPO كذلك.


ولما كان كل من الألوان والأعداد يعالَج أوليا في التلفيف المغزلي، ومن ثم بالقرب من التلفيف الزاوي، فقد تراءى لنا أن الحس المواكب اللوني العددي (الخاص باللون والأعداد) قد ينجم عن تشبيك متصالب بين الباحة V4 وباحة المَظْهَر العددي number-appearance area (وكلتاهما في التلفيف المغزلي)، أو بين الباحة اللونية العليا وباحة المفهوم العددي (وكلتاهما في الملتقى TPO). وهناك أشكال أخرى لهذه الحالة أكثر غرابة يمكن أن يسببها تشبيك متصالب مشابه بين مناطق مختلفة للمعالجة الحسية (التظهير الحسي). وبما أن المركز السمعي في الفصين الصدغيين قريب أيضا من الباحة الدماغية العليا التي تستقبل الإشارات اللونية من الباحة V4، فقد يفسر ذلك الحسَّ المواكبَ اللونيَّ الصوتي (الخاص باللون والصوت). وعلى نحو مماثل، إن التذوق من خلال اللمس لدى <M. بليكسلي> ربما يحدث بسبب تشبيك متصالب بين القشرة المخية الذوقية في منطقة تدعى الجزيرة insula وقشرة مجاورة تمثل اللمس بالأيدي.


وبافتراض أن التشبيك العصبي المتصالب يؤلف مصدر الحس المواكب، فإننا نتساءل: لماذا يحدث ذلك؟ إننا نعرف أن هذا الحس يتكرر في الأسرة الواحدة؛ مما يجعله ذا مكون وراثي. فلربما تُسبب طفرةٌ ما ظهورَ وصلات بين باحات دماغية تكون في العادة مستقلة بعضها عن بعض. أو لربما تفضي الطفرة إلى تشذيبٍ معيب لوصلات سابقة الوجود بين باحات لا يقوم بينها في الحالة العادية إلا عدد ضئيل من الوصلات. فإذا كان للطفرة أن تفصح عن نفسها (أي أن تمارس تأثيرها) في بعض الباحات الدماغية دون غيرها، فإن هذا الخليط المرقع قد يفسر لماذا يخلط بعض أصحاب الحس المواكب الألوانَ بالأعداد؛ في حين يرى آخرون الألوان حينما يسمعون فونيمات أو نغمات موسيقية. ونشير هنا إلى أن من يملك أحد أنماط الحس المواكب يُحتَمل أن يملك نمطا آخر من هذا الحس؛ وذلك يعزز هذه الفكرة.


وعلى الرغم من أننا فكّرنا منذ البداية في وجود مادي للتشبيك المتصالب، فقد توصلنا إلى التحقق من أن التأثير نفسه يمكن أن يحدث إذا كان التشبيك ـ بمعنى عدد الوصلات بين المناطق ـ جيدا، ولكن هناك خللا في توازن المواد الكيميائية الجائلة بين هذه المناطق. ولذلك فإننا نتحدث الآن عن تفعيل متصالب. فمثلا، غالبا ما تُثَبِّط فعاليتا منطقتين دماغيتين متجاورتين إحداهما الأخرى؛ الأمر الذي يؤدي إلى تقليل التخاطب المتصالب. وكذلك فإن اللاتوازن imbalance الكيميائي من النوع الذي يقلل مثل هذا التثبيط (على سبيل المثال، عن طريق كبت عمل أحد النواقل العصبية المثبِّطة أو الإخفاق في إنتاج مُثبِّطٍ ما) سيجعل فعالية إحدى الباحتين تثير فعالية الباحة المجاورة. ومن الناحية النظرية، فإن مثل هذا التفعيل المتصالب يمكن أن يحدث كذلك بين باحات مستقلة متباعدة؛ مما يفسر بعضا من أقل أشكال الحس المواكب شيوعا.


يأتي دعم فكرة التفعيل المتصالب من تجارب أخرى، يساعد بعضها أيضا على تفسير الأشكال المتباينة التي قد يأخذها الحس المواكب. ويستفيد أحدها من ظاهرة إبصارية تعرف باسم التزاحم crowding [انظر الشكل في الصفحة 72]. فإذا حدّقتَ في إشارة + صغيرة موجودة داخل صورةٍ ما تحتوي كذلك على الرقم 5 بعيدا عنها في أحد الجانبين، فإنك ستجد أنه يسهل عليك تمييز هذا الرقم، حتى إن كنت لا تنظر إليه مباشرة. ولكن إذا قمنا الآن بإحاطة الرقم 5 بأربعة أرقام أخرى، مثل الرقم 3، فإنك لن تبقى قادرا على تحديده؛ إذ يبدو خارج نطاق التركيز. وهكذا فإن المتطوعين من ذوي الإدراك السوي لا ينجحون في تحديد هذا الرقم إلا بالمصادفة فحسب. ولا يحدث هذا بسبب تشوش الأشياء في محيط الرؤية. ومع كل شيء، استطعت رؤية الرقم 5 بوضوح تام حين لم يكن محاطا بالأرقام 3، ولا تستطيع الآن تعيينه بسبب بواعث الاهتمام المحدودة؛ إذ إن الأرقام 3 المحيطة به تصرف اهتمامك بعيدا عن الرقم 5 المركزي وتمنعك من رؤيته.


لقد ظهرت مفاجأة كبيرة حينما أعطينا الاختبار نفسه لاثنين من أصحاب الحس المواكب. فقد نظرا إلى ذلك العرض وأبديا ملاحظات مثل: «أنا لا أستطيع رؤية الرقم الأوسط. إنه مشوش ولكنه يبدو أحمر اللون، ولهذا فإنني أخمن أنه يجب أن يكون الرقم 5.» ومع أن الرقم الأوسط لم يتسجل بشكل واع، فيبدو أن الدماغ كان مع ذلك يعالجه في مكان ما. وهكذا فإن أصحاب الحس المواكب يستطيعون استعمال هذا اللون لاستنباط ما كان عليه هذا الرقم بطريقة عقلانية. فإذا كانت نظريتنا صحيحة، فإن هذا الاكتشاف ينطوي ضمنا على أن العدد يُعالَج في التلفيف المغزلي ويثير اللون المناسب قبل المرحلة التي يحدث فيها تأثير التزاحم في الدماغ. ومن قبيل المفارقة، فإن النتيجة هي أنه حتى العدد «غير المرئي» يستطيع إحداث حس مواكب.


لقد توصلنا إلى نتيجة أخرى تدعم أيضا هذا الاستنتاج. فعندما قللنا التباين بين العدد والخلفية صار اللون المواكب أقل وضوحا، حتى إن المفحوصين لم يروا لونا على الإطلاق في حالة التباين المنخفض وإن كان العدد واضحا تماما. وفي حين تُظهر تجارب التزاحم أنه يمكن لعدد غير مرئي أن يثير لونا، فإن تجارب التباين تشير على عكس ذلك إلى أن مشاهدة العدد لا تضمن رؤية لون. فلربما تنشِّط الأعدادُ ذات التباين المنخفض خلايا في التلفيف المغزلي بقدر يكفي لإدراكٍ واع للعدد، غير أنه لا يكفي للتنشيط المتصالب للخلايا اللونية في الباحةV4.




وأخيرا، وجدنا أننا إذا أَرَيْنا أصحاب الحس المواكب أرقاما رومانية (ولنقل الرقم V) فإنهم لا يشاهدون لونا، مما يوحي بأن ما يبعث اللون لا يتمثل في المفهوم الرقمي، بل في المظهر الإبصاري لوحدات الكتابة. وتشير هذه الملاحظة أيضا إلى قيام تنشيط متصالب داخل التلفيف المغزلي نفسه لدى أصحاب الحس المواكب العددي-اللوني، لأن تلك البنية (أي التلفيف المغزلي) تُعنى بشكل رئيسي بتحليل الشكل الإبصاري وليس بالمدلول ذي المستوى العالي للعدد. ونشير هنا إلى الإشكالية المحيرة التالية: تَخَيَّلْ صورة ذات رقم 5 كبير يتكون من أرقام 3 صغيرة؛ فإنك إما أن ترى «الغابة» (المتمثلة في الرقم 5) أو أن تركز بدقة على «الأشجار» (المتمثلة في الأرقام 3). وقد ذكر اثنان من مفحوصي الحس المواكب أنهما شاهدا اللون يتبدل بحسب تركيزهما. ويعني هذا الاختبار ضمنا أن الحس المواكب، على الرغم من إمكان نشوئه نتيجة للمظهر الإبصاري وحده ـ وليس من المفهوم العالي المستوى ـ فإن الطريقة التي يتم بها تبويب المدخلات الإبصارية بالاعتماد على الانتباه هي أمر حاسم أيضا.


ولكن حين بدأنا نستقبل متطوعين آخرين، سرعان ما اتضح أن أصحاب الحس المواكب الذين يلوّنون عالمهم ليسوا جميعا متشابهين. فبالنسبة إلى البعض، تبعث حتى أيام الأسبوع أو شهور السنة إحساسا لونيا. فقد يكون يوم الاثنين أخضر ويوم الأربعاء قرنفليا، والشهر 12 أصفر.


عالَم مكوَّد لونيا(*****)

في اختبار لقابليات الفصل الإبصاري visual segregation، يستطيع أصحاب الحس المواكب الذين يربطون لونا محددا بعدد معلوم أن يروا على الفور نموذجا معينا يتوزع في أرجاء صورة ذات أرقام سوداء مبعثرة فوق صفحة بيضاء. فبينما يجب على الشخص ذي الإدراك السوي أن يتولى التفتيش رقما رقما لتمييز الأرقام 2 من الأرقام 5 في مثالنا هذا (في اليسار)، فإن مجموعة الأرقام 2 التي تشكل مثلثا تبرز واضحة للعيان عند صاحب الحس المواكب (في اليمين).
تتضح لأصحاب الحس المواكب الأرقام «غير المرئية» في أحد الاختبارات الإدراكية. فعندما يحدق شخص ما في جسم مركزي، وهو هنا إشارة +، تسهل عليه رؤية رقم وحيد يقع على مبعدة منها في أحد الجوانب، وذلك باستخدام الرؤية المحيطية (في اليسار). ولكن إذا كان الرقم محاطا بأرقام أخرى غيره (في اليمين)، فإنه يبدو ضبابيا ـ غير مرئي ـ بالنسبة إلى الشخص العادي. وعلى النقيض من ذلك، يستطيع صاحب الحس المواكب أن يستنبط الرقم المركزي بفضل ما يثيره ذلك الرقم لديه من لون.


إن الشيء الوحيد الذي يجمع بين أيام الأسبوع والشهور والأعداد يتمثل في مفهوم التتالي العددي أو التَّرْتيبيّة. وبالنسبة إلى بعض أصحاب الحس المواكب ربما كان ما يثير اللون هو المفهوم التجريدي للتتالي العددي، وليس المظهر الإبصاري للعدد. فيا ترى هل يَحْدث التشبيك المتصالب لدى هؤلاء الأفراد بين التلفيف الزاوي والباحة اللونية العليا بالقرب من الرقعة TPO عوضا عن أن يحدث بين باحات في التلفيف المغزلي؟ إذا كان الأمر هكذا، فإن ذلك التآثر سيفسر لماذا تسبب حتى التمثيلات العددية المجردة أو فكرة الأرقام التي تبعثها أيام الأسبوع أو الشهور، إثارة قوية لألوان معينة. وبقول آخر: تنشأ الأنماط المختلفة من الحس المواكب تبعا للمكان الذي تعبِّر فيه الجينة الطافرة عن نفسها في الدماغ. فهو إما أن يكون حسا مواكبا «عالي المستوى» ناجما عن مفهوم عددي، أو حسا مواكبا «خفيض المستوى» يولده المظهر الإبصاري وحده. وبالمثل، فإن المظهر الإبصاري لحرف ما في بعض الأشكال الخفيضة المستوى يمكن أن يولد لونا؛ في حين إن الصوت الذي يستدعيه الحرف في الأشكال العالية المستوى (أو ما يسمى الفونيمة) هو الذي يولد اللون. ونذكر هنا أن الفونيمات يجري تمثيلها بالقرب من الرقعة TPO.


ولاحظنا أيضا حالة نعتقد أن التفعيل المتصالب فيها لصاحب حس مواكب مصاب بعمى الألوان أتاح له أن يرى أرقاما ملونة بألوان لا يستطيع أن يدركها لولاه. ومن الطريف أنه نعت هذه الألوان بأنها «ألوان مريخية». فمع أن المستقبلات اللونية لشبكية عَيْنَيه لا تستطيع معالجة أطوال موجية معينة، فإننا نرى أن باحته الدماغية اللونية تعمل بشكل جيد وأنها تتنشط تصالبيا حينما يرى أرقاما.


إننا نجري الآن بالاشتراك مع <G. بوينتون> [من معهد سولك Salk للدراسات البيولوجية في سان دييگو] تجارب بالتصوير الدماغي. وقد حصلنا على دليل مبدئي عن تفعيل موضعي للباحة اللونية V4 بطريقة تنبأت بها نظريتُنا عن التفعيل المتصالب في الحس المواكب، مع العلم بأن <J. گراي> [من معهد الطب النفسي في لندن] وزملاءه قد ذكروا نتائج مشابهة لذلك. فلدى عرض أرقام سوداء وبيضاء على مصابين بالحس المواكب، تولد لديهم تفعيل دماغي ليس في باحة الأعداد فقط (مثلما هي الحال لدى الأفراد الأسوياء) بل في باحة الألوان أيضا. كما لاحظت مجموعتنا فروقا بين أنماط أصحاب الحس المواكب. فقد أظهر أحد مفحوصينا من ذوي الحس المواكب المنخفض تفعيلا في المراحل المبكرة من المعالجة اللونية يفوق كثيرا نظيره لدى الأفراد الشواهد controls. وعلى النقيض، يُبدي أصحاب الحس المواكب المرتفع تفعيلا أقل في هذه المراحل المبكرة.


استخدام واسع للمجاز(******)

يمكن أن تساعد تبصراتُنا حول الأساس الطبي العصبي للحس المواكب على تفسير بعض من إبداع الرسامين والشعراء والروائيين. ووفقا لإحدى الدراسات، فإن حالة الحس المواكب تشيع لدى المبدعين سبعة أضعاف شيوعها لدى عموم الناس.


يتشارك العديد من المبدعين في واحدة من المهارات تتمثل في براعة استعمال المجاز، كالقول «إنه الشرق، وجولييت هي الشمس.» فكأنما أدمغتهم قد أُعدت لتقيم صلات بين نُطُق لا علاقة بينها في الظاهر، مثل الشمس وشابة جميلة. وبقول آخر، فمثلما يتضمن الحس المواكب إقامة وصلات اعتباطية بين كيانات إدراكية لا علاقة بينها في الظاهر ـ كالألوان والأعداد، فإن استخدام المجاز يتضمن إقامة صلات بين عوالم من المفاهيم لا علاقة بينها ظاهريا. وربما ليس هذا الأمر مجرد مصادفة.


ومن المحتمل أن الكثير من المفاهيم العالية المستوى راسخ في مناطق (أو خرائط) دماغية نوعية. وإذا ما تَفَحَّصْتَها فلن تجد ما هو أكثر تجريدا من العدد؛ ومع ذلك فهو ممثَّل، حسبما رأينا، في منطقة دماغية صغيرة نسبيا، ألا وهي التلفيف الزاوي. ولنقل إن الطفرة التي تسبب، بحسب اعتقادنا، الحس المواكب تولد فيضا من الاتصالات بين الخرائط الدماغية المختلفة ـ أي الرُّقع الصغيرة من القشرة المخية التي تمثل كينونات إدراكية نوعية مثل حِدّة sharpness الأشكال أو تقوسها curviness، أو تدرج الألوان في حالة الخرائط اللونية. وبالاعتماد على مكان واتساع الموقع الذي حل فيه التعبير عن السمة trait، يمكن الوصول إلى كل من الحس المواكب والنزوع إلى الوصل بين مفاهيم وأفكار لا علاقة بينها ظاهريا، أي: الإبداع اختصارا. ولسوف يفسر هذا الأمر سبب بُقيا جينة الحس المواكب العديم الفائدة ظاهريا عند الناس.


لغز اللغة(*******)

يمكن أن يزودنا الحس المواكب بتبصرات
حول تطور الفكر واللغة
تخيل عُصبة من أسلاف الإنسان القديم وقد بادرت إلى ابتكار لغة. من الواضح أن أفرادها لم يبدؤوا بقائد يقول لهم: «هيا، انظروا إلى هذا ودعونا نسمّه بانانا (موزة). رددوا جميعا با ـ نا ـ نا.» ولكن مما لا شك فيه أن تلك الزمرة كانت تمتلك مجموعة من القابليات هيأت أساس التواصل اللفظي المنهجي. وتوحي دراستنا عن الأساس البيولوجي العصبي للحس المواكب أن القدرة على استخدام المجاز ـ أي إدراك العلاقات العميقة بين الأشياء المتباينة وغير المتصلة ظاهريا ـ هو الذي قدم البذرة الأولى لظهور اللغة في نهاية المطاف.
يتصف البشر بنزوع غريزي لربط أصوات معينة بأشكال مرئية معينة؛ الأمر الذي كان مهما في جعل البشر القدامى يشرعون في استخدام مفردات مشتركة. يضاف إلى ذلك، أن الباحات الدماغية النوعية التي تُعالج الأشكال المرئية للأشياء والحروف والأعداد وأصوات الكلمات تستطيع أن تُنشط بعضها بعضا، حتى لدى غير أصحاب الحس المواكب؛ مما يجعل الناس يتوقعون أن يكون للأشكال الخشنة، على سبيل المثال، أسماء ذات جرس غليظ.
وهناك نمطان آخران للاتصالات العصبية يدعمان فكرتنا. أولهما أن الباحات الحسية المتعلقة بالأشكال المرئية وبالسمع في الجزء الخلفي من الدماغ يمكنها أن تنشِّط تصالبيا باحات حركية نوعية في جزء الدماغ الأمامي الذي يشارك في الكلام. فالانعطاف البصري الحاد أو الصوت الغليظ يستحثان باحة التحكم الحركي المسؤولة عن الكلام على توليد انعطاف مساو مفاجئ للسان على الحنك. [أو لنأخذ في الاعتبار الكلمات المَحْكية التالية: "diminutive" و"teenyweeny" و"un peu" التي تقتضي زم الشفتين لمحاكاة الحجم الصغير للشيء). ويبدو أن الدماغ يمتلك قواعد موجودة مسبقا لترجمةِ ما نرى ونسمع إلى حركات فموية تعكس تلك المُدْخلات.
وثانيهما حدوث نوع من اندلاق الإشارات بين باحتين حركيتين متقاربتين؛ أي حدوث تراكب بين الإشارات التي تتحكم في تتالي الحركات العضلية المطلوبة لإيماءات اليدين والإشارات التي تتحكم في الحركات العضلية المطلوبة للفم. ونحن ندعو هذا التأثير «الحركة التصاحبية» synkinesia(4). وكما لفت <Ch. داروين> النظر، فحينما نقص ورقة بالمقص قد يطبق فكَّانا أو يفغران بشكل لاواع، وكأنهما يجاريان حركات اليد. ونشير هنا إلى أن العديد من اللغويين لا يستسيغون نظرية أن الإيماء اليدوي قد هيأ لمرحلة اللغة الصوتية، ولكننا نعتقد أن «الحركة التصاحبية» توحي بإمكان وقوعهم في الخطأ.
لنفترض أن أسلافنا البشر القدامى تواصلوا فيما بينهم بشكل رئيسي بوساطة أصوات انفعالية كالشّخْر (الشخير)(5) والتأوّه والعويل والزعيق، والمعروف أنها أصوات يولدها النصف المخي الأيمن وباحة في الفصين الأماميين تختص بالانفعال. وبعدئذ طور البشر القدامى نظاما إيمائيا بدائيا تعقد وازداد إتقانا بشكل تدريجي. ومن السهل علينا أن نتخيل كيف يمكن أن تكون حركة اليد المخصصة لجر أحدٍ ما نحوك قد ارتقت إلى تلويحٍ يعني «تعال إليّ». فإذا جرت ترجمة مثل هذه الإيماءات من خلال الحركية التصاحبية إلى حركات لعضلات الفم والوجه، وإذا تم تمرير التفوهات الحَلْقية الانفعالية عبر هذه الحركاتٍ اللسانية والفموية، فربما كانت النتيجة الكلمات المَحْكية الأولى.
والآن كيف نُضمِّن مخطَّطنا هذا بناء الجملة syntax، أي: قواعد استخدام الكلمات والعبارات في اللغة؟ إننا نعتقد أن تطور استعمال البشر القدامى للأدوات ربما أدى دورا مهما في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال، يشبه تسلسل بناء الأدوات (من تشكيل لرأس المطرقة أولا ثم تثبيت لذلك الرأس على مقبض. ثم فرم اللحم به) إدخال العبارات في جمل أكبر منها. واقتداء بالطبيبة النفسانية <P. گرينفلد> [من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس] نقترح أن الباحات الدماغية الأمامية التي تطورت كتجمع فرعي لغرض استخدام الأداة، قد تحولت لاحقا نحو أداء وظيفة جديدة تماما تتمثل في وصل الكلمات في عبارات وجمل.
صحيح إن مثل هذه المخططات لا تشرح كل خاصية دقيقة في اللغة الحديثة، ولكن يتراءى لنا أن هذه العناصر كانت أساسية في تسيير الأحداث التي بلغت الأوج في اللغة الحالية.
حينما يُطرح السؤال عن أي الشكلين (في الأعلى) هو «بوبا» وأيهما هو «كيكي» فإن 98 في المئة من المجيبين يختارون اسم بوبا للشكل الذي يبدو كلطخة حبر واسم كيكي للشكل الآخر. ويزعم المؤلفان أن مقدرة الدماغ على استنباط صفة تجريدية مشتركة بين شيئين (مثل شكل مرئي ذي أثلام واسم ذي نبرة صوتية غليظة) ـ ربما مهدت الطريق لتطور استخدام المجاز وربما لظهور مفردات مشتركة أيضا.


وإضافة إلى أن بحثنا يوضِّح سبب احتمال نزوع الفنانين إلى معاناة الحس المواكب، فهو يوحي بأننا جميعا نمتلك بعض القابلية لهذا النزوع، وأن هذه السمة هي التي ربما هيأت الأساس لتطور التَّجْريد الذي هو مقدرة يتفوق فيها البشر. ونشير هنا إلى أن الملتقى الصدغي الجداري القذالي "TPO" (وبداخله التلفيف الزاوي)، الذي يؤدي دورا في هذه الظاهرة، يؤثر عادة في الاصطناع الشكلي المتصالب cross-modal synthesis. فهو المنطقة الدماغية التي يعتقد أن معلومات اللمس والسمع والرؤية تتلاقى فيها لتتيح إنشاء مدركات عالية المستوى. فمثلا نقول: إن القطة زغباء (لمسا) وتموء وتخرخر (سمعا) وذات مظهر معين (رؤية) ورائحة خاصة (شمّا)؛ وجميع هذه الصفات يتم استخراجها في الوقت ذاته إذا ما تذكرنا قطة أو سمعنا كلمةَ «قطة».


ترى هل يمكن أن يكون التلفيف الزاوي (الذي هو أكبر حجما بدرجة كبيرة لدى البشر منه لدى القرود والنسانيس) قد تطور أصلا من أجل تحقيق الارتباطات الشكلية المتصالبة، ثم تحول بعد ذلك إلى وظائف أخرى أكثر تجريدا كاستخدام المجاز مثلا؟ دعنا نتأمل رسميْن من الرسوم كان قد صممهما في الأصل عالم النفس <W. كوهلر>: أحدهما يشبه نشافة حبر؛ والآخر يشبه قطعة مثلّمة من زجاج مهشم. فحينما نسأل: «أي الرسمين هو «بوبا» وأيهما هو «كيكي»؟ يشير 98 في المئة من الناس إلى نشافة الحبر على أنها (بوبا) وإلى الرسم الآخر على أنه (كيكي). وربما يحصل ذلك بسبب المنحنيات ذات الشكل الأميبي السلس الذي يحاكي على نحو مجازي التمورات اللطيفة للصوت (بوبا) وفق ما يتم تمثيله في مراكز السمع بالدماغ، وكذلك بسبب الانعطاف inflection التدريجي للشفتين أثناء توليدهما صوت (بوبا) الانحنائي. وعلى النقيض من ذلك، فإن الشكل الموجي للصوت (كيكي) وما يصحبه من انعطاف حاد للسان في الحنك يحاكيان التغيرات المفاجئة في الشكل المرئي المهشم. وما الشيء الوحيد الذي يجمع بين هاتين الصفتين للصوت كيكي إلا ما يتمثل في الخاصية التجريدية للانثلام jaggedness التي يتم استخلاصها في مكان ما بجوار الملتقى TPO ويحتمل أن يكون هو التلفيف الزاوي. (ونشير هنا إلى أننا وجدنا مؤخرا أن المصابين بتلف في التلفيف الزاوي يفقدون تأثير بوبا-كيكي bouba-kiki effect، أي إنهم لا يستطيعون الملاءمة بين الشكل والصوت الصحيح). وبهذا المعنى ربما نكون جميعا مصابين بحسٍّ مواكب خفي.


وهكذا يؤدي التلفيف الزاوي نمطا تجريديا أوليا جدا يتمثل في استخلاص القاسم المشترك لمجموعة كينونات غير متشابهة إلى حد كبير. صحيح أننا لا نعرف كيف يؤدي هذا التلفيف تلك المهمة على وجه دقيق، ولكن حينما برزت قابلية التعاطي بالتجريد الشكلي المتصالب، فربما تمهد الطريق بوساطتها أمام أنماط التجريد الأكثر تعقيدا. ونذكر هنا أن الانتقال الانتهازي opportunistic takeover من وظيفة ما إلى وظيفة مختلفة أمر شائع في التطور. فعلى سبيل المثال، تطورت عُظَيْمات الأذن المستعملة في السمع عند الثدييات من مؤخَّر العظم الفكي لدى الزواحف. وربما هيأ التجريد الشكلي المتصالب بذور ظهور اللغة، إضافة إلى استخدام المجاز والتفكير التجريدي [انظر الإطار في الصفحة 73].


أسئلة شائعة(********)

هل توجد أنماط مختلفة من الحس المواكب؟
يُحصي العلم نحو 50 نمطا. وتتكرر هذه الحالة في الأُسر. ويمكن أن تشيع أكثر لدى النساء والمبدعين، حيث يحتمل أن تصيب شخصا واحدا بين كل 200 منهم. وفي أكثر الأنماط انتشارا يثير النظر إلى الأعداد أو الاستماع إلى النغمات إحساسا لونيا. وفي أحد الأنواع النادرة، يرتبط كل حرف بالجنس المذكر أو المؤنث؛ الأمر الذي يعد مثالا على ميل الدماغ لشطر العالم إلى فئات ثنائية.
إذا كان صاحب الحس المواكب يربط بين لون ما وحرف أو رقم واحد، ماذا يحدث حين ينظر إلى شفع من الأحرف مثل زe"" أو إلى رقمين معا مثل "25"؟
إنه يرى الألوان التي تتوافق مع الحروف والأرقام الفرادى. ولكن إذا اقتربت الحروف والأرقام بعضها من بعض اقترابا كبيرا، فإن الواحد منها قد يُلْغي الآخر [يتلاشى اللون]. أما إذا كان الاثنان يثيران اللون نفسه، فإن أحدهما يعزز الآخر.
هل يهم كون الحروف كبيرة (أي: حروف استهلالية) أم صغيرة (أي: حروف غير استهلالية)؟
الجواب: كلا، على العموم. ولكن أفرادا ذكروا في بعض الأحيان رؤيتهم لونا أقل شدة في حالة الحروف الصغيرة، أو ظهور الحروف الصغيرة لماعة أو حتى مبقعة.
كيف تظهر الكلمات الكاملة؟
غالبا ما ينتشر لون الحرف الأول عبر الكلمة كلها، وحتى الحروف الساكنة، كالحرف "p" في الكلمة "psalm"، فإنها تسبب هذا الأثر.
ماذا لو كان صاحب الحس المواكب متعدد اللغات؟
قد تكون إحدى اللغات ذات وحدات كتابية graphemes ملونة؛ في حين لا تكون اللغة الثانية (أو اللغات الأخرى) ملونة. وربما يرجع ذلك إلى أن اللغات المختلفة يتم تمثيلها في مناطق دماغية مختلفة.
ماذا يحدث حينما يرسم الشخص صورة ذهنية لحرف أو رقم؟
يمكن أن يثير التخيل لونا أقوى مما يبعثه النظر إلى حرف أو رقم حقيقي. وربما يكمن ذلك في أن تلك الممارسة تفعِّل الباحات الدماغية نفسها التي تفعلها مشاهدة الألوان الحقيقية. ولكن نظرا إلى عدم ورود إشارات منافسة من عدد حقيقي تأتي من شبكية العين، فإن الحرف أو العدد المتخيل يبعث لونا مواكبا أقوى.
هل يحسِّن الحس المواكب الذاكرة؟
يستطيع الحس المواكب تحسين الذاكرة. فقد وصف عالم الأعصاب الروسي الراحل <R .A. لوريا> شخصا قوي الذاكرة يمتلك مقدرة رائعة على التذكر بسبب ترابط حواسه الخمس جميعها؛ بل إن امتلاك حاستين مترابطتين قد يفيد في تحسين الذاكرة.


حينما بدأنا بحثنا للوقوف على الحس المواكب لم نكن نملك أي إشارة تدل على الوجهة التي سيأخذنا إليها. ولم يدر بخلدنا قط أن هذه الظاهرة الخفية، التي طالما عُدّتْ مجرد أمر غريب، يمكن أن تقدم نافذة تطل على طبيعة التفكير.




المؤلفان

Vilayanur S. Ramachandran - Edward M. Hubbard

يتعاونان في دراسات على الحس المواكب. يدير راماشاندران «مركز الدماغ والمعرفة» في جامعة كاليفورنيا بسان دييگو؛ كما يشغل وظيفة أستاذ منتدب adjunct في معهد سولك للدراسات البيولوجية. لقد تدرب طبيبا ثم حصل على الدكتوراه من جامعة كمبردج، وحاز زمالة في جامعة أكسفورد، وميدالية أرينز كاپَرْز الذهبية من الأكاديمية الملكية الهولندية، وجائزة المحاضرة الأساسية من الأكاديمية الأمريكية لعلم الأعصاب؛ كما ألقى محاضرات الBBC Reith لعام 2003. وهذه هي مقالته الرابعة التي كتبها لمجلة Scientific American. أما هبارد فهو طالب دراسات عليا في قسمي علم النفس والعلوم المعرفية في جامعة كاليفورنيا بسان دييگو، ويجمع بحثه بين الفيزياء النفسية وتصوير وظائف الأعضاء بالرنين المغنطيسي من أجل استكشاف الأساس العصبي للظواهر الحسية المتعددة. ولأنه عضو مؤسس للجمعية الأمريكية للحس المواكب، فقد ساعد على تنظيم اجتماعها السنوي الثاني في جامعة كاليفورنيا بسان دييگو لعام 2001.



مراجع للاستزادة

The Man Who Tasted Shapes. R. E. Cytowic. MIT Press, 1993.

Synaesthesia: Classic and Contemporary Readings. S. Baron-Cohen and J. E. Harrison. Blackwell, 1997.

Psychophysical Investigations into the Neural Basis of Synaesthesia. V. S. Ramachandran and E. M. Hubbard in proceedings of the Royal Society of London, B, Vol. 268, pages 979-983; 2001.

Synaesthesia: A Window into Perception, Thought and Language. V. S. Ramachandran and E. M. Hubbard in Journal of Consciousness Studies, Vol. 8, No. 12, pages 3-34; 2001.

Synaesthetic Photisms Influence Visual Perception. D. Smilek, M. J. Dixon, C. Cudahy and M. Merikle in Journal of Cognitive Neuroscience, Vol. 13, No. 7, pages 930-936; 2001.

Functional Magnetic Resonance Imaging of Synaesthesia: Activation of V4/V8 by Spoken Words. J. A. Nunn, L. J. Gregory, M. Brammer, S. C. R. Williams, D. M. Parslow, M. J. Morgan, R. G. Morris, E. T. Bullmore, S. Baron-Cohen and J. A. Gray in Nature Neuroscience, Vol. 5, pages 371-375; 2002.

For more information, visit www.sciam.com/ontheweb

Scientific American, May 2003




(*) HEARING COLORS, TASTING SHAPES

(**) Overview/ Synesthesia

(***) Visual Processing

(****) Mingled Signals

(*****) Color-Coded World

(******) A Way with Metaphor

(*******) The Puzzle Language

(********) Common Questions




(1) clues

(2) أو المصابون بالحس المواكب synesthesia: ويسمى أيضا الحس المشترك، وهو الإحساس بأحد المنبهات الحسية عن طريق حاسة أخرى غير المختصة بذلك المنبه، مثل إعطاء الصوت انطباعا عن اللون. (التحرير)

(3) الفونيمة هي صوت ملفوظ، به تتميز كلمة عن أخرى، مثل: big وpig؛ فالصوت b والصوت p هما فونيمتان. (التحرير)

(4) حركة لاإرادية تصادف الحركات الهادفة التي يقوم بها جزء بعيد عن الجسد، كتأرجح الذراعين أثناء السير.

(5) grunt: صوت عميق يصدره الخنزير (ونحوه) من الحلق. (التحرير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق