الخميس، 14 فبراير 2013

الفكر الحديث(*)

 
توحي اكتشافات مثيرة للجدل بأن جذور فكرنا، الذي نتباهى به،
تمتد إلى أعماق تتجاوز كثيرا ما يُظنّ على نطاق واسع.
في كيب تاون، بجنوب إفريقيا، يقوم<C.هِنشيلوود>بإفراغ كيس بلاستيكي صغير ويناولني مربعا من ورق مقوّى رثّ أزرق اللون وُضعت عليه 19 قوقعة (صدفة) مرتبة في ثلاثة صفوف أفقية حجم كل منها لا يتجاوز نواة حبة من القمح. قد يبدو هذا المنظر لشخص من عامة الناس شيئا عاديا غير لافت للنظر، إذ إنه مجرد بضعة دروع رخويات بليدة الحركة يتحول لونها إلى الرمادي مع تقدمها في السن. لكنها قد تكون في الواقع أثمن من المحتويات البراقة لعلبة مبطّنة بقماش مخملي من إنتاج مصمم المجوهرات الفرنسي الشهير<كارتييه>.
إن القواقع، التي اكتُشفت في كهف يسمى بلومبوس Blombos ويقع على بعد 200 ميل شرق كيب تاون، متماثلة تماما في الحجم، ويوجد على كلٍّ منها ثقب في نفس المكان المقابل للفم، هذا ما ذكره<هنشيلوود>، وهو عالم آثار في جامعة بيرگن بالنرويج. يعتقد هذا العالِم أن هذه القواقع جُمعت وثُقِبَتْ من قِبَلِ أُناس قبل نحو000 75سنة ليصنعوا منها حبلا مجدولا من الخرز اللماع الشبيه باللؤلؤ. وإن صحّ قوله، فإن هذه القواقع المتواضعة هي جواهرُ تاج البشرية ـ إذ إنها في هذه الحال أقدمُ دليل قاطع لا لبس فيه على أقدمِ زينة صنعها الإنسان حتى الآن، كما أنها برهان على أن أسلافنا كانوا يفكرون مثلنا، وذلك في وقت أبكر بكثير مما يظن الناس على نطاق واسع.
نظرة إجمالية/ تفكير نامٍ(**)
■ كان علماء الآثار يتصورون أن الإنسان العاقل صار يملك فكرا حديثا بسرعة ومنذ عهد قريب ـ وذلك في وقت ما خلال السنوات ال 000 50سنة الماضية، بعد أكثر من 000 100 سنة من بلوغه الحداثة التشريحية anatomical modernity.
■ لكن مكتشفات جديدة في إفريقيا تشير إلى أن قسما كبيرا من عناصر السلوك البشري الحديث يمكن تعقبه لدى العودة بالزمن كثيرا إلى الوراء.
■ هذه المكتشفاتُ توحي بأن الإنسان العاقل كان يملك في بواكيره عقلا حاذقا، وأنه لم يكن يستعمل عقله المبدع إلاّ إذا كان ذلك مفيدا، عند ازدياد عدد السكان مثلا.
■ لكن الإنسان العاقل لم يكن هو الإنسان البدائي الوحيد الذي يمتلك مثل هذه المعرفة المتقدمة، إذ تشير بعض الصناعات اليدوية إلى أن النياندرتاليين لا يقلون موهبة عنه.
انفجار سلوكي أعظم(***)
تؤكد معظم التفسيرات أن «أصل الإنسان العاقل»(1) الحديث تشريحيا كان إفريقيا صرفا. فالمستحاثات (الأحافير) التي كُشِفَ النقابُ عنها عام 2003 في منطقة هيرتو(2) بإثيوبيا، يعود تاريخها إلى قبل000 160سنة. وفي الشهر2/2005أعلن الباحثون أنهم حددوا تاريخ بقايا إنسان عاقل في موقع آخر في إثيوبيا اسمه أومو كيبيش Omo Kibish، ومن المحتمل أن يُرْجِعَ هذا التأريخُ أصلَ نوعنا البشري إلى000 195سنة خلت.
والأقل وضوحا بكثير من هذا هو تحديد التاريخ الذي أصبح فيه نوعنا البشري معاصرا في فكره. فخلال العقدين الماضيين، كانت وجهة النظر السائدة هي أن البشرية اجتازت طفرةً سلوكية قبل نحو000 40سنة. وقد اعتمد العلماء في تقديرهم هذا، في المقام الأول، على الآثار الثقافية لأوروبيِّي العصر الجليدي. وفي أوروبا، يُقَسَّم سجلّ الآثار المتصلة بهذا الموضوع إلى العصر الپاليوليتي الأوسط(3) (الذي انتهى قبل أكثر من نحو000 40سنة) والعصر الپاليوليتي الأعلى(4) (الذي بدأ قبل نحو40000سنة)، وقد لا يكون الفرق بين هذين العصرين كبيرا جدّا. وفي الحقيقة، يبدو أن الناس في العصر الپاليوليتي الأوسط قد صنعوا، في الأغلب، نفس الأدوات الحجرية البسيطة نسبيا، التي كان الناس يصنعونها طوال عشرات الآلاف من السنين. وفي المقابل، فإن الناس في العصر الپاليوليتي الأعلى كانوا روادًا في سلسلة من الممارسات المعقدة. فبلمحة عين جيولوجية، قام الناس، من وادي الرّون إلى السهل الروسي، بإنتاج أسلحة متطورة وتكوينِ شبكاتِ طرق تجارية لمسافات بعيدة، وأخذوا في التعبير عن أنفسهم من خلال الفن والموسيقى. ويمكن القول إنهم انخرطوا، عموما، في جميع أنماط الأنشطة التي يربطها علماء الآثار(5) عادة بالحداثة. وقد مثّل ذلك، من جميع الأوجه، الطفرة الكبرى إلى الأمام(6).
وربّما لم يكن بمحض المصادفة أنه خلال الانتقال من العصر الپاليوليتي الأوسط إلى الأعلى، بدأ البشر الحديثو المظهر بإشهار مطالبتهم بأوروبا، التي كانت حتى ذلك الحين منطقة نِيَانْدِرْتالِيَّة(7) تماما.
ومع أن هوية صانعي المنتَجات اليدوية البشرية المبكرة في العصر الپاليوليتي الأعلى غير معروفة على وجه التأكيد، بسبب الافتقار إلى مخلفات بشرية في تلك المواقع، فإنه يُفْترض تقليديّا بأنهم نوع بشري حديث تشريحيا وليسوا نياندرتاليين. وهكذا ظن بعض الباحثين أن المواجهة بين هاتين المجموعتين من البشر استنهضت في الغزاة قدرة إبداعيّة كانت هاجعة حتى ذلك الحين.
ربما يكون التزين بالجواهر وبطلاء الأجساد قد بدأ في وقت أبكر بكثير مما كان يُظَنّ سابقا. وتتضمّن الدلالاتُ المبكّرةُ على استعمال مثل هذه الرموز ـ التي يعتقد كثير من علماء الآثار أنها عنصر رئيسيّ للسلوك البشري الحديث ـ خرزات صدفيّة عمرها 000 75سنة (في اليسار) وُجدت في كهف بلومبوس بجنوب إفريقيا.
ويحاجّ متخصصون آخرون في أن الانفجار الثقافي الواضح في أوروبا حدث نتيجة انتقال تمّ في وقت أبكر إلى حدٍّ ما في إفريقيا. ويؤكد <G.R.كلاين> [من جامعة ستانفورد] أن التغير السريع من العصر الپاليوليتي الأوسط إلى العصر الپاليوليتي الأعلى يعكس صورة تحوّل جرى من 5000 إلى000 10سنة قبلا في أفريقيا، حيث تسمى المرحلتان الثقافيتان المقابلتان العصر الحجريّ الأوسط(8) والعصر الحجري المتأخر(9). والقوة الدافعة لهذا التغير لم تكن مواجهة مع نمط آخر من كائنات شبيهة بالإنسان(10) (لأنه بحلول ذلك الوقت في إفريقيا لم يتعرّض نوعنا البشري إلى منافسة مع أنواع بشرية أخرى)، إنما كانت القوةَ الدافعةَ طفرة جينية حدثت قبل000 50سنة وغيرت السيرورات العصبية، وبذلك أُطلق العنان لقوى أسلافنا الإبداعية.
والدليل الرئيسي على صحة هذا النموذج يأتي ـ على حد قول <كلاين> ـ من موقع في وسط كينيا يسمى إنكاپون ياموتو(11)، أي «كهف الشفق»، الذي يحدد بداية العصر الحجري المتأخر بأنها كانت قبل000 45إلى000 50سنة. ففي هذا الموقع، عثر<H.S.أمبروز>[من جامعة إلينوي] وفريقه، على سكاكين مصنوعة من زجاج بركاني أسود ومكاشط بحجم ظفر الإبهام. والأهم من هذا، أنهم وجدوا خرزات لها أشكال أقراص صغيرة صُنعت من قشورِ بيض النعام في العصر الحجري المتأخر يعود تاريخها إلى000 43سنة خلت. وفي هذه الأيام، مازال يجري بين القناصين-الجمّاعين في گونگ سان(12) ببوتْسوَانا تبادل هدايا بشكل جدائل مكونة من خرزات متماثلة. ويفترض<أمبروز>أن صُنّاع الخرزات القدامى في إنكاپون ياموتو قد أنتجوها لنفس السبب، وهو تعزيز العلاقات الجيدة بمجموعات أخرى لحمايتهم في الأوقات العصيبة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن<كلاين>يرى أن ثمة قدرة جينية للتواصل بوساطة الرموز ـ انسجاما مع المهارات المعرفية لتوليد تقانات أفضل للصيد واستعمال الموارد ـ ربما كانت هي التي مكّنت نوعنا البشري أخيرا، بعد نحو000 150سنة من نشوئه، من الانطلاق من قارته الأم لاكتساح العالم.
بذور التغير(****)
بيد أن ثمة عددا قليلا، لكنْ متزايدا، من علماء الآثار الذين تجنبوا، في السنوات الأخيرة، نظريات الانفجار الأعظم(13) في نشوء الثقافة لمصلحة نموذج مختلف جوهريا. ويعتقد مؤيدوهم أنه لم تكن هناك مدة زمنية فاصلة بين الجسم والدماغ. وهم يؤكدون أن السلوك البشري الحديث تكوّن خلال مدة طويلة في عملية يمكن وصفها بطريقة أكثر ملاءمة بأنها تطوُّر أكثر من كونها ثورة. ويعتقد بعض الباحثين أن الحداثة المعرفية(14) ربما تطورت في أنواع بشرية أخرى، مثل النياندرتاليين.
إن الفكرة التي مفادها أن للإبداع الفريد لنوعنا البشري جذورا قد تمتد إلى أقدم العصور الجيولوجية، ليست جديدة؛ فلسنوات عدة كان العلماء يعرفون قدرا ضئيلا من الأشياء التي توحي بأن البشر كانوا ينخرطون في ممارسات حديثة تسبق بمدة طويلة أول مرة قام فيها الإنسان العاقل بالرسم على جدار كهف في فرنسا. ويضيف العلماء إلى تلك الرسوم ثلاثة رماح خشبية من شوننگن بألمانيا عمرها 000 400 سنة؛ وما يُزْعَمُ بأنه تمثال صغير من موقع يسمى بيريخات رام في فلسطين عمره000 233سنة؛ وقطعة من الصوّان مثلّمة الحافات مع أقواس متحدة المركز من القنيطرة في سوريا عمرها 000 60؛ وقطعتين من العظام المثلّمة من كهف مصب نهر كلاسيس بجنوب إفريقيا عمرهما000 100سنة؛ ولوحا مصقولا مصنوعا من أسنان فيل الماموث الضخم من تاتا Tata بالمجر يراوح عمره بين 000 50و000 100 سنة. بيد أن كثيرا من علماء الآثار ينظرون إلى هذه البقايا بارتياب، إما لأن أعمارها غير موثوقة، وإما لأن أهميتها غير واضحة. وكل أَمارة على عقل متقدم بدا قديما حقا، فُسِّرت بأنها نتاجُ عبقري بين مجموعة من الأشخاص المتوسطي القدرات.
قواقع حلزونية جُمعت من مصب نهر يبعد نحو 12 ميلا من كهف بلومبوس، ثم ثقبت بوساطة مخرز عظمي. وتدل علامات البري (الاهتراء) حول الثقوب على أن هذه القواقع قد نُظمت معًا ربما لتكوِّن عِقدًا أو سِوارًا.
وقد أصبح الدفاع عن هذا أكثر صعوبة بسبب المجموعة المتزايدة من الأدلة في إفريقيا على أن التحول الشكلي العقلي في أسلافنا بدأ قبل بداية العصر الحجري المتأخر بكثير. وفي مقالة عنوانها «الثورة التي لم يكن لها وجود: تفسير جديد لنشأة السلوك البشري الحديث»(15)، أَعلنت مؤلفتاها موقفيهما من هذا الموضوع. فهما تحاجّان في أن كثيرا من مكوّنات السلوك البشري الحديث، الذي يقال بأنه ظهر قبل ما يراوح بين000 40 و000 50 سنة، يمكن رؤيتها قبل ذلك بعشرات الآلاف من السنين في بعض المواقع خلال العصر الحجري الأوسط. إضافة إلى ذلك، فإن كثيرا من هذه المكوّنات لا تبدو أنها أتت دفعة واحدة، بل تدريجيا، وذلك في مواقع مبعثرة هنا وهناك، وفي أزمنة بعيدة عن بعضها بعضا.
وفي ثلاثة مواقع في كاتاندا Katanda بجمهورية الكونغو الديموقراطية، وجدت بروكس و<J.يلين>[من المعهد السميثسوني] رماحا معقدة مزودة بأشواك لصيد الحيتان مصنوعة من العظم، ويقولان إن هذه الرماح تعود إلى000 80 سنة على الأقل، وهذا يجعلها تنتمي إلى العصر الحجري الأوسط. وتُظْهِرُ تلك المصنوعات اليدوية مستوى من التعقيد ليس أدنى من ذاك الذي شوهد في الرماح التي عمرها 000 25سنة، والتي صنعت في أوروبا. وهذا المستوى لا يقتصر على تعقيد تصميم ذلك السلاح فحسب، وإنما يتضمن أيضا اختيارَ المادة الأوّليّة التي صنع منها: فاستعمال العظام والعاج في صناعة الأدوات كان يُظَنُّ أنه لم يحدث إلاّ بحلول العصر الپاليوليتي الأوسط والعصر الپاليوليتي الأعلى. إلى ذلك، وُجدت بقايا أسماك السّلّور النيليّة العملاقة على بعض رماح كاتاندا، وهذا يوحي للمنقبين عن الآثار بأن الناس كانوا يذهبون إلى هناك في موسم وضع الأسماك لبيوضها ـ وهذا نوع من التخطيط الموسمي للموارد كان يُظنّ سابقًا أنه مقصور على الأشخاص الذين أتوا فيما بعد ذلك العصر.
ثمة مواقع أخرى في العصر الحجري الأوسط، مثل G≠ (ترمز≠ إلى قرقعة صوتية) في صحراء كالاهاري ببوتْسوَانا، يعود تاريخها إلى 000 77 سنة خلت، وقد وُجد فيها بقايا حيوان مقتول، وهذا يدحض زعما آخر غالبا ما كان يردّده البعض، وهو أن قدامى البشر لم يكونوا يحسنون الصيد مثل أولئك الذين عاشوا في العصر الحجري المتأخر. ويبدو أن سكان الموقع G≠ كانوا يطارِدون بانتظام فرائس ضخمة وخطرة مثل حمار الوحش والخنزير الإفريقي. وقد اقترحت <J.H.ديكون>[من جامعة ستيلينبوش] أن البشر في بعض المواقع، مثل كهف مصب نهر كلاسيس بجنوب إفريقيا، كانوا قبل أكثر من000 60سنة يحرقون عمدًا الأراضي العشبية تمهيدا لتكاثر بعض الدرنات الجذرية المغذّية، التي يُعرف أنها تُفَرِّخُ بعد تعرضها للنار.
وتشير بعض المكتشفات إلى أن أنماطا معينة اشتهرت بالحداثة السلوكية قد نشأت حتى قبل ظهور الإنسان العاقل. وفي أواخر صيف عام 2005، كشفت الحفريات التي أجراها فريق<ماك بريرتي>في موقع قريب من بحيرة بارينكو في كينيا شفراتٍ حجرية ـ كانت في وقت من الأوقات سمة مميزة لمواد العصر الپاليوليتي الأعلى ـ عمرها أكثر من000 510سنة. وفي موقع قريب، اكتشف فريقها أيضا، في طبقات من الأرض عمرها285000 سنة على الأقل، كميات كبيرة من أكسيد الحديد المائي الأحمر(16) مع مجالخ حجرية لشحذها. وقد رأت<ماك بريرتي>في هذا إشارة إلى أن سكان بارينگو في العصر الحجري الأوسط كانوا يستعملون مواد تلوينية لأغراض رمزية ـ لتزيين أجسادهم، مثلا ـ تماما كما يفعل كثير من الناس في أيامنا هذه. (بارينگو ليس الموقعَ الوحيدَ الذي يزودنا بشواهد قديمة مذهلة على جلخ أكسيد الحديد، إذ إن كهف النهرين التوأمين(17) في زامبيا وفّر موادَّ مشابهة تعود إلى أكثر من000 200سنة.) وتتضمن مجموعة من العُدَدِ عمرها 130000سنة، وُجدت في الموقع المسمى مأوى صخرة مومبا(18) في تنزانيا، رقاقات صُنِعَتْ من زجاج بركانيٍّ أسود كان يندفع في مجرى بركاني يبعد عن ذلك الموقع نحو 200 ميل، وهذا دليل قاطع على أن الكائنات الشبيهة بالإنسان التي صنعت هذه الأدوات كانت تقايضها بمواد أولية غريبة مع مجموعات أخرى.
إبداعات العصر الحجري(*****)
الرمزية Symbolism. إن ابتكار الخزن الخارجي للمعلومات ـ سواء أكانت تتعلق بالجواهر، أم باللغة أم بالأدوات ـ كان نقطة انعطاف في تطور السلوك البشري، هذا ما يقوله<C.هنشيلوود>[من جامعة بيرگن بالنرويج] وقد يكون الإنسان العاقل امتلك الأدوات اللازمة للتفكير الرمزي بحلول الوقت الذي نشأ فيه هذا الإنسان، وذلك قبل نحو195000سنة على الأقل، ويتضح ذلك عند إلقاء نظرات سريعة، من وقت إلى آخر، على السجل الأركيولوجي. ولكن في ذلك الوقت، وفيه فقط، الذي أصبح فيه الترميز الأساس في التنظيم السلوكي البشري ـ الذي يؤدي مثلا إلى تكوين شبكات تجارية وتحالفية ـ تحقّقت الإمكانات الكاملة لهذه الرمزية.
كارثة بيئية Ecological disaster. توحي البيانات الجينية بأن الإنسان العاقل قد مرّ بعنق الزجاجة قبل نحو000 70سنة. ويفترض<H.S.أمبروز>[من جامعة إلينوي] أن الأجسام التي انهمرت نتيجة انفجار لجبل توبا Mount Toba بسومطرة في ذلك الوقت تقريبا، ربما خلّفت شتاء بركانيا مدمرا استمر ست سنوات، أعقبه عصر جليدي مدته 1000 سنة. وهؤلاء الأفراد الذين تعاونوا وتقاسموا الموارد فيما بينهم ـ خارج حدود مجموعاتهم المحلية ـ كانوا أفضل الناس استعدادا لتجاوز البيئة القاسية التي عانوها، وقد مرت جيناتهم عبر الأجيال اللاحقة. وهذه الظروف المتطرّفة دعمت في عنفها الانتقالَ من مستوى الفوج troop level إلى مستوى القبيلة.
تقانة القذائف projectile technology. إن ابتكار أسلحة القذائف ما بين 45000 -000 35 سنة خلت سمح للبشر بقتل طرائِد ضخمة ـ وبشر آخرين ـ من مسافةٍ مأمونة. ويقول<J.شِيَا>[من جامعة ستوني بروك] إن هذا وفّر للناس حافزًا قويا للتعاون فيما بينهم، وهذا بدوره عزّز تطوير شبكات اجتماعيّة أمكن بوساطتها تبادل المعلومات بسرعة.
النمو السكاني Population growth. كانت الطرق الحديثة تتلاشى وتختفي من الوجود في أوقات مختلفة، وفي أمكنة مختلفة، إلى أن وصل الحجم السكاني إلى كتلة حرجة critical mass. عند هذه النقطة، أسفرت المواجهات بين المجموعات والتنافس فيما بينها على الموارد عن إحداث سلوك رمزي، كما حفزت الابتكار التقاني. وهذا ما يؤكده باحثون، من ضمنهم <A.بروكس>[من جامعة جورج واشنطن] و<S.ماك بيريرتي>[من جامعة گونكتكيت]. ومع تزايد عدد الأشخاص الممارسين هذا السلوك أخذوا يتشبّثون به بدلا من سلوك المواجهات المميتة التي تؤدي إلى انقراض المجموعات حتى آخر فرد فيها.
الطفرة الدماغية Brain mutation. كان لطفرة جينية حدثت قبل نحو000 50سنة أثر مؤات تمخّض عن تغيير نظام الاتصالات في الدماغ البشري بحيث أصبح قادرا عليـ التفكير الرمزي بما في ذلك اللغة ؛ هذا ما يحاجّ فيه<G.R.كلاين>[من جامعة ستانفورد] وهو يرى أن للبشر الذين مروا بتلك الطفرة ميزة جوهرية على أولئك الذين لم يمروا بها، ثم إنهم بزّوهم وحلّوا محلّهم.
أظهرت المكتشفات الأثرية في إفريقيا أن عناصر السلوك البشري الحديث ربما برزت قبل أكثر من 000 40سنة (انظر المخطط في الأعلى)، وهذا يخالف ادعاءات سابقة مبنيّة على السجل الأوروبي. لكن الخبراء متفقون على أن ثمة عددًا أكبر بكثير من الأشخاص كانوا منخرطين في هذه الممارسات بعد ذلك التاريخ وليس قبله. وقد وُضع عدد من الفرضيات لمعالجة هذه النقطة الدقيقة ـ لا يستثني بعضُها البعضَ الآخر (في الأسفل).
بيد أن النقاد رفضوا هذه المكتشفات بناء على الشكوك المحيطة بتاريخها في بعض الحالات، وعلى مقاصد صانعيها في حالات أخرى. ويرى المشككون أن أكسيد الحديد ربما كان يُستعمل بوصفه مادة لاصقة لتثبيت النِّصال على المقابض الخشبية، أو بوصفه مادة مضادة للجراثيم تستعمل لمعالجة جلود الحيوانات.
أذكياء بالنسبة إلى عصرهم(******)
إن هذا الجو العام للجدل، الذي طال أمده، هو الذي سلط الأضواء على المكتشفات في بلومبوس. ففي عام 1991، عثر<هنشيلوود>على تراكمات أثرية في كهف بلومبوس، وذلك عندما كان يبحث عن مواقع ساحلية أحدث ليُجري فيها حفرياته من أجل حصوله على الدكتوراه. كان هذا الكهف، الواقع قريبا من مدينة Still Bay في الرأس الجنوبي لجنوب إفريقيا على جرف عال يطل على المحيط الهندي، يحوي بضع قطع صنعت في العصر الحديث(19) كان يبحث عنها لكنها كانت تبدو وفيرة بين مواد العصر الحجري الأوسط. لكن هذا كان خارج مجال بحثه في ذلك الحين. بيد أنه وفر التمويل اللازم لعودته إلى بلومبوس عام 1997 ليشرع في حفرياته بجد. ومنذ ذلك الوقت، استخرج<هنشيلوود>وفريقه من الأرض مجموعة مذهلة من أدوات متطورةٍ وأشياء رمزية، وهم، بعملهم هذا، رسموا صورة للبشر القدامى الذين كانوا يفكرون مثلنا.
وقد استُخْرِج من طبقات أرضية يعود تاريخها ـ الذي حُسِب بعدةِ طرق ـ إلى 000 75سنة خلت، عدد كبير من الأدوات المتقدمة، من ضمنها 40 أداة عظمية، كثير منها مخارز (مثاقب) جيدة الصنع، ومئات من رماح ثنائية الوجه مستدقة الأطراف مصنوعة من السيلكريت(20)، وأحجار يصعب إعطاؤها شكلا محدّدا، ربما كان يستعملها سكان بلومبوس لصيد البقر الوحشي وطرائد أخرى كانت تجوب تلك المنطقة. وكان لايزيد طول بعض الأدوات المستدقة الأطراف على إنش واحد، وهذا يوحي أنها ربما كانت تُستعمل كقذائف. وتبيّن عِظام أنواع مختلفة من الأسماك التي تعيش في أعماق البحار ـ عمر أقدمها قد يتجاوز000 130سنة ـ أن قاطني بلومبوس كانوا يملكون التجهيزات اللازمة لاصطياد أحياء مائية من المحيط يزيد وزنها على 80 باوندا.
وتشير مواقد الطبخ إلى أن منطقة الكهف كانت مأهولة، كما تُظهر الأسنانُ التي تعود إلى بالغين وأطفال، أنه كانت تقيم هناك أفراد عائلة. لكنّ وجودَ عدد كبيرٍ من الأدوات الحجرية المستدقة الأطراف جعل<هنشيلوود>يفكر فيما إذا كان يوجد في الكهف أيضا ورشة لتصنيع هذه الأدوات، حيث يقوم الكبار بتعليم الصغار طريقة صنعها.
ربما يكون هؤلاء قد مارسوا تقاليد أخرى أيضا. وأهم شيء اكتُشف في بلومبوس هو ذاك الذي يبيّن أن سكانه كانوا يفكرون رمزيا. وحتى الآن، عثر الفريق على قطعة واحدة من العظم المحزّز، وتسعِ شرائحَ يُحتمل أنها من أكسيد الحديد الأحمر، ودستات من الخرز الصغير ـ وجميعها مأخوذة من نفس الطبقات الأرضية التي يبلغ عمرها000 75 سنة، والتي وجدت فيها العُدد. إضافة إلى ذلك، فإن الترسبات التي يتجاوز عمرها000 130سنة تحتوي على مقادير كبيرة من أكسيد الحديد المصنّع، وقد اتخذ بعضها شكل أصابع من الطباشير.
تخطيط الحداثة(*******)
ظهر النوع البشري الذي يشبهنا قبل000 195سنة، هذا ما تؤيده مستحاثات الإنسان العاقل التي استُخرجت من موقع أوموكيبيش بإثيوبيا. لكن علماء الآثار يروْن أن البشر لم يشرعوا في انتهاج سلوك مماثل لسلوكنا إلا بعد ذلك بنحو000 150سنة. وتنشأ هذه الفكرة، إلى حد بعيد، عن المخلّفات الثقافية المكتشفة في أوروبا، حيث ازدهر الفن والطقوس، وحدثت التقدمات التقانية وأشياء أخرى تدل على التفكير الحديث، وكان ذلك مفاجئا ولافتا للنظر قبل نحو000 40سنة، أي، تقريبا، في الوقت الذي بدأ فيه النوع البشري الحديث تشريحيا باستيطان أوروبا. وتبيّن مكتشفات حديثة، ومن ضمنها تلك التي استُخرجت من كهف بلومبوس بجنوب إفريقيا، أن كثيرا من الممارسات المتطورة لم تنشأ قبل نحو40000سنة فقط، وإنما قبل مدة طويلة، وذلك في مواقع خارج أوروبا، وهذا يوحي بأن الناس كانوا يكافئوننا معرفيّا وذلك بحلول الزمن الذي بلغوا فيه الحداثة التشريحية، إنْ لم يكن قبل ذلك. وفي الحقيقة، فإن كون بعض النِيَانْدِرْتالِيين، على الأقل، فكّروا رمزيا، يجعل من الممكن وجود مثل هذه القدرات في آخر سلف مشترك للنياندرتاليين وللإنسان العاقل. ويبين المخطط السفلي المواقع التي ورد ذكرها في هذه المقالة.
ربما لن يعرف العلماء أبدًا ما تعنيه بالضبط هذه الأشياء المبهمة لصانعيها، بيد أن أهميتها لهم كانت شيئًا واضحا. وقد أظهرت التحليلات الطويلة والمرهقة لقطعتين من أكسيد الحديد المنقوش، والتي أشرف عليها<F.دِرّيكو>[من جامعة بوردو بفرنسا] أن الصخور التي لها لون الصدأ كانت تُشْحَذُ يدويا في أحد جانبيها بغية تشكيل سطح صغير، يُخَرَّشُ بعد ذلك عدة مرات بأداة حجرية مستدقة الطرف. أمّا قطع أكسيد الحديد الكبرى، فكانت مؤطّرة بخطوط سميكة وواضحة تشكل مجموعات متعارضة من المستقيمات المتوازية.
كانت صناعة الخرز عملا يتطلب أيضا بذل جهود كبيرة. ويعتقد<هنشيلوود>أن الأصداف البحرية للقواقع من النوع ناساريوس كروسيانوس(21)، جُمِعَتْ من مصبَّي نهرين يبعدان 12 ميلا عن الكهف، ولايزالان موجودين حتى الآن. وفي مقالة نُشرت في عدد الشهر1/2005 من «مجلة التطور البشري»(22)، كتبها<هنشيلوود> وزملاؤه، ذُكِرَ أن إعادة بناء تجارب العملية التي كانت تُنَفَّذُ لثقب الأصداف، تشير إلى أن صانعي المجوهرات الثمينة كانوا يستعملون أدوات عظمية مستدقة الأطراف لاختراق الصدفة من الداخل إلى الخارج ـ وهذه تقنية كانت تسفر عموما عن كسر الأصداف عندما كان أعضاء الفريق يطبّقونها. وبعد ثقب الخرزات، يبدو أنها كانت تُسْلَكُ في خيط لتشكيل طوق منها. وتشير آثار أكسيد الحديد الأحمر الموجودة على الأصداف إلى أنها ربما كانت مستندة إلى جلود الناس المطلية بأكسيد الحديد.
قطعة من أكسيد الحديد استُخرجت من موقع بلومبوس، وهي منقوشة بوساطة حجر مستدق الطرف. وربما كانت تدوينًا للسجلات، أو كانت تمثل تصميما جماليا. ويوحي الجهدُ المطلوبُ لتحضير هذه القطعة وحفرُ العلاماتِ بأنها عمل يستدعي تفكيرا سابقا، لا مجردَ نشاط عابث وغير هادف.
ويعلن<ماك بريرتي>أنه فيما يتعلق بالمستوى المعرفي المتقدم في العصر الحجري الأوسط، فإن «بلومبوس هو الدليل القاطع على تقدم ذلك المستوى.» لكن <هنشيلوود>لم يقنع الجميع بتعليله. فقد وردت شكوك من<R.وايت>[من جامعة نيويورك وهو خبير بزينات الأجسام التي كانت تستعمل في العصر الپاليوليتي الأعلى]، مفادها أن الثقوب والسطيحات التي تبدو بالية على أصداف ناساريوس هي نتيجة لسيرورات طبيعية لا لعمل يدوي بشري.
يأتي كثيرا، ويختفي سريعا(********)
بيد أننا إذا قرأنا الأمور قراءة صحيحة، فإن المكتشفات الشهيرة في بلومبوس تقدم شواهد قيّمة على أن مجموعة واحدة على الأقل من البشر كانت تمتلك طاقما عقليا حديثا قبل أكثر بكثير من50000سنة، وهذا يجعل الادعاءات السابقة بوجود حداثة سلوكية مبكرة أمرا يسهل تقبله. وقد تدعم هذه الادعاءات، أيضا، المكتشفاتُ الحديثةُ كتلك التي حدثت في دايپكلوف Diepkloof بالرأس الغربي لجنوب إفريقيا التي زودتنا بقطع محزّزة من قشور بيض النعام يعود تاريخها إلى نحو000 60سنة خلت، والمكتشفاتُ التي عثر عليها في لويانگالاني Loiyangalani في تنزانيا، حيث وجد العاملون خرزات من قشور بيض النعام عمرها نحو 000 70سنة.
بيد أن المشكلة التي تظل قائمة تتجلى في أن معظم مواقع العصر الحجري الأوسط تبدي قدرا ضئيلا أو لا شيء من السمات التي يستعملها الباحثون كي يحددوا تماما المعرفة المتنامية في السجلات الأركيولوجية. ومع أن ثمة عدة مواقع أخرى ـ في جنوب إفريقيا، مثلا ـ وفرت للباحثين أدوات مستدقة الطرف ذات وجهين، فإنها لا تقدم دليلا على وجود سلوك رمزي. وبالطبع، فإن العبارة التي يحبّ المؤرخون ترديدها، وهي أن عدم اكتشاف الدليل ليس دليلا على عدم وجوده، صحيحة؛ إذ إن من المحتمل أن يكون الناس الذين عاشوا في تلك المواقع أبدعوا فنّا وزيّنوا أجسادهم، لكنْ لم يبق منها على مرّ الزمن سوى أدواتهم الحجريّة.
ربما كان النمط Pattern الذي اتضح لنا حتى الآن في السجلّ الإفريقي، والذي يتمثل في لمحات سريعة وقصيرة الأمد عن الحداثة المعرفية السابقة لنشوء العصر الحجري المتأخر ودلالات عامة على هذه الحداثة بعد ذلك، إنما هو لمجرد كونها مصنوعة من مصنوعات الإنسان القديم حظيت بالبقاء أو للعدد الضئيل نسبيا من المواقع الإفريقية التي أجريت فيها حفريات حتى الآن. ومرة أخرى، فقد يكون هذا الذي يحدث على نحو متقطع هو بالضبط ما يتعين على علماء الآثار توقع رؤيته إذا كان الإنسان العاقل الحديث تشريحيا قد امتلك القدرة على انتهاج السلوك البشري الحديث، لكنه لا يمتلك تلك القدرة إلاّ عندما يرى فيها فائدة تعود عليه بالنفع، وهذا ما يراه كثير من المؤمنين بنظرية التطور التدريجي.
ويفترض<ماك بريرتي>وآخرون أن أكثر الظروف ملاءمة لإظهار أنماط السلوك المتقدم ثقافيّا، هي تلك المنسوبة إلى حجم سكانيٍّ كبير. فتكاثر السكان يوجه ضغطا أكبر على الموارد، مما يجبر أسلافنا على ابتكار طرق تتسم بذكاء أعلى لتأمين الغذاء والمواد اللازمة لصناعة التجهيزات. ثم إن وجود عدد كبير من الناس صعّد فرص المواجهات بين المجموعات المختلفة. وقد يكون الخرز وطلي الأجساد وحتى صناعة الأدوات باتباع أساليب معينة، مجرد مؤشرات إلى انتماءِ فرد إلى عشيرة معينة ووضعهِ الاجتماعي فيها، وهذا أمر مهم جدًا عند امتلاك موارد محدودة. وربما أدت الأشياء الرمزية دورَ مُخَفِّف للاحتكاكات الاجتماعية خلال الأوقات العصيبة.
ويقول<هنشيلوود>: «عليك أن تفعل خيرا للمجموعات المحيطة بك، لأن هذا هو الطريق الذي يسمح لك بالحصول على شركاء. فإذا كان ثمة نظام معمول به لتبادل الهدايا، فهذا أسلوب يمكّنك من الحفاظ على علاقات جيدة بغيرك.» وفي الحقيقة، فإن تقديم الهدايا قد يفسر سبب الصقل الفني لبعض الأدوات التي وجدت في بلومبوس.
يرى الباحث أن كهف بلومبوس كان جنة حقيقية عندما عاش هناك بشر قبل 000 75سنة. وكانت ينابيع المياه العذبة محاذية لقاعدة صخرة الكهف، كما كانت هِبَاتُ البحر تأتي إلى الساحة الخلفية. وكانت تجول في تلك المنطقة الظباءُ الإفريقية الضخمةُ، التي لها لحم لذيذ المذاق، وأنواع أخرى من بقر الوحش، ثم إن الطقس كان لطيفًا كما هو في هذه الأيام. ومنذ عام 1994، بدأ<هنشيلوود>وفريقه باستخراج قطع أثرية تنتمي إلى العصر الحجري الأوسط من هذا الكهف، وكانوا يدوّنون بدقة موقع كل قطعة استُخرجت منه. وتمثل هذه السنةُ السنةَ التاسعةَ لعمليات الحفر التي ينفّذها هذا الفريق.
وبالعكس، فعندما تضاءل عدد السكان، تراجع مستوى هذه الممارسات المتقدمة ـ ربما لأن الناس العاملين فيها ماتوا، أو لأنه في غياب المنافسة لم تكن هذه الممارسات مربحة، ومن ثم طواها النسيان. ويوفر أهل <تسمانيا> مثالا حديثا على هذه العلاقة: فعندما وصل الأوروبيون إلى تلك المنطقة في القرن السابع عشر، واجهوا أشخاصا ذوي ثقافة مادية أبسط حتى من ثقافة العصر الحجري الأوسط، إذ إن معظم ما كان لديهم أدوات من الرقاقات الحجرية. وفي الحقيقة، فمن وجهة نظر أركيولوجية، لابد أن تحقق تقريبا جميع اختبارات الحداثة التي تطبّق على هذه المخلّفات ـ ونعني بها الاختبارات التي تطبّق عادةً على المواقع قبل التاريخية. لكن السجلات تبيّن أن التسمانيين كانوا يقتنون قبل عدة آلاف من السنين مجموعة أكبر بكثير من الأدوات، التي كانت تتضمن عُدَدا عظمية، وشباكا للصيد، وأقواسا وسهاما. ويبدو أن التسمانيين القدامى كانوا يملكون جميع أحدث الأدوات قبل أن تعزل مستويات البحر المرتفعة جزيرتهم عن البر الرئيسي قبل000 10سنة، لكنهم فقدوا تقاناتهم في سياق تحولهم إلى مجموعة سكانية صغيرة انفصلت عن سكان أستراليا الأصليين.
قد يكون هذا هو السبب في أن المواقع في جنوب إفريقيا التي تعود إلى ما يراوح بين60000 و000 30 سنة نادرا ما تبدو حاملة لسمات الحداثة، إذ إن إعادة البناء السكاني توحي بأن المجموعة البشرية في إفريقيا دُمِّرَتْ قبل نحو 000 60سنة إثر هبوط شديد في درجات الحرارة. ويقول<وايت>إن استخلاص قدرات الناس مما عملوه يُمثل مسألة إشكالية جوهرية. وهو يرى أن شعوب العصر الحجري الأوسط كانوا يملكون، دون ريب، القدرة الدماغية التي تمكنهم من السفر إلى القمر. لكن مجرد عدم قيامهم بذلك لا يعني أنهم لم يكونوا أندادنا معرفيا. ويعبّر<وايت> عن هذا بقوله: «في أي لحظة معطاة، لايبذل الناس كامل طاقاتهم.»
تفكير رمزي(*********)
إن السؤال عن الزمان والمكان والطريقة التي أصبح بها نوعنا البشري يتسم بالحداثة المعرفية هو سؤال معقد. ويُردّ ذلك، في المقام الأول، إلى عدم اتفاق الخبراء على تحديد مكوّنات السلوك البشري الحديث، وهذا يتضمن، بأدق المعاني، كلاّ من أوجه الثقافة المتعارف عليها في هذه الأيام ـ من الزراعة إلى جهاز 23 iPod . ولجعل التعريف أكثر فائدة لعلماء الآثار، كثُر استخدام قائمة الخصائص السلوكية التي تميز العصرين الحجريين الأوسط والأعلى في أوروبا. ويستعمل آخرون الثقافات المادية للقبائل المعاصرة وتلك التي كانت موجودة منذ عهد قريب، والتي تعيش على القنص وجمع الثمار، بوصفها مرشدا ودليلا. وفي نهاية المطاف، فإن اعتبار مجموعة من الآثار دليلا على الحداثة أمر لا يتوقف على التعريف المفضّل لدى مقيِّم هذه الآثار.
الأدوات التي استُخرجت من بلومبوس أعقد وأكثر تطورا من تلك التي تُكتشف عادة في مواقع العصر الحجري الأوسط. وتضم الأدوات العظمية مخارز مستدقة الطرف مصقولة جيدا بأكسيد الحديد لتُحقِّقَ نعومة عالية.
وإذا أدخلنا هذا في الاعتبار، فإن بعض الخبراء يؤيدون التركيز على نشوء وتطور أهم سمة للمجتمعات البشرية الحديثة، ألا وهي السلوك الذي يدار بالترميز، ويتضمّن اللغة. ويؤكد<هنشيلوود>أن «القدرة على خزن الرموز خارج الدماغ البشري، هو مفتاح كل شيء في هذه الأيام». فقد لايكون نظام للاتصالات مستند إلى الرموز دليلا كاملا على الحداثة السلوكية في السجل الأركيولوجي، وهذا ما يبينه المثال التسمانيّ(24)، لكنْ يبدو أنّ الباحثين، على الأقل، يقبلونه بوصفه سمة محدِّدة للفكر البشري كما نعرفه، إنْ لم يكن السمة المحدِّدة الوحيدة له.
وما يتبقى هو معرفة المسافة الزمنية التي يجب أن نعود بها إلى الوراء لمعرفة الوقت الذي نشأت فيه الثقافة المسيَّرة بالترميز. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المكتشفات التي وُجدت خارج إفريقيا وأوروبا تساعد على إيضاح هذا الموضوع. فالشواهد المثيرة للجدل التي أتتنا من المآوي الصخرية في مالاكونانجا (25)II ونوالابيلا (26)I في المنطقة الشمالية من أستراليا، مثلا، توحي بأن البشر وصلوا إلى هناك قبل000 60سنة. وبغية الوصول إلى تلك القارة، التي هي جزيرة، كان يتعين على المهاجرين القادمين من جنوب شرق آسيا صنع مراكب بحرية متينة والإبحار 50 ميلا، على الأقل، في مياه مفتوحة، وذلك يتوقف على مستوى البحر. ويتفق العلماء، في الأغلب، على أن أي إنسان قادر على التعامل مع هذا الإنجاز الفذ لا بد أنه كان حديثا تماما. وفي كهف قفزة بفلسطين، اكتشفت<E.هوفرز>[من الجامعة العبرية بالقدس] وفريقها دستات من قطع أكسيد الحديد الأحمر قرب قبور الإنسان العاقل التي تعود إلى000 92سنة خلت. ويعتقد هؤلاء أنه جرى تسخين كميات من الأصبغة النباتية أو الحيوانية في مواقد للحصول على لون قرمزي لاستعماله في الطقوس الجنائزية.
وتطرح مكتشفات أخرى السؤالَ عمّا إذا كانت الرمزيّة مقصورة على النوع البشري الحديث تشريحيا. إن مواقع النياندرتاليين تحوي عموما شواهدَ على عمليات تصنيع منهجية لأكسيد الحديد، ويبدو أنه عندما قارب حكمهم لأوروبا على نهايته في بواكير العصر الپاليوليتي الأعلى صاغوا تقاليدهم الثقافية الخاصة بهم فيما يتعلق بتصنيع الزينات الجسدية، وهذه حقيقة يُؤكد صحتَها اكتشافُ أسنان مثقوبة وأشياءَ أخرى وُجِدَتْ في مواقعَ مثل Quinçay وGrotte du Renne في Arcy-Sur-Cure بفرنسا [انظر: «من هم النياندرتاليون؟»،مجلة العلوم، العددان8/9(2003)، ص 74]. ثم إن النياندرتاليين كانوا أيضا يدفنون موتاهم. هذا ويدور نقاش حول الطبيعة الرمزية لهذا السلوك في هذه الحالة، لأن المقابر كانت تفتقر إلى سلع توضع فيها. بيد أنه في الشهر 4/2005، الذي انعقد فيه الاجتماع السنوي لجمعية علم الإنسان في العصور الجيولوجية السالفة، قدّم<J.كوك>[من المتحف البريطاني] تقريرا ذكر فيه أن الميكروسكوبية الرقمية(27) للآثار التي وُجدت في مأوى كراپينا الصخري(28)بكرواتيا تدعم الفرضية القائلة بأن النياندرتاليين كانوا ينظّفون عظام موتاهم، وربما كان ذلك نوعا من الطقوس التي يمارسونها قبل الدفن، وليس نزع لحوم الموتى بغية أكلها.
وربّما نشأت وتطورت القدرة على التفكير رمزيا لدى النياندرتاليين ولدى الإنسان العاقل الحديث تشريحيّا كل على حدة. وقد تكون هذه القدرة برزت قبل أن تنطلق هاتان المجموعتان في مسارين تطوّريين أحدهما منفصل عن الآخر، بعد أن كان لهما سلف بدائي مشترك. ويقول<وايت>في هذا السياق: «أنا لا أستطيع إثبات ذلك، لكنني أراهن على أن الإنسان البدائي الذي عاش قبل نحو400000سنة كان قادرا على التفكير رمزيا.»
وبقدر ما يتعلق الأمر ب<هنشيلوود>، فهو يراهن على أن بزوغ التفكير رمزيا حدث في العصر الحجري الأوسط. وفي الشهر6/2005 كان<هنشيلوود>وفريقه في بداية موسم عملهم التاسع في بلومبوس. وبحلول نهاية ذلك الموسم، يكونون قد نخلوا ثلث المحتويات القديمة للكهف التي تعود إلى000 75سنة خلت، تاركين الباقي إلى غيرهم من علماء الآثار من بعدهم مع تقدمات غير متوقعة حتى الآن في تقنيات الحفر والتأريخ. ويقول<هنشيلوود>: «نحن لانحتاج في الحقيقة إلى الذهاب إلى أبعد من هذه المستويات في بلومبوس. فما نحتاج إليه هو العثور على مواقع أخرى يعود تاريخها إلى تلك الفترة الزمنية ـ أي إلى نحو000 75سنة خلت.» وهو واثق بأن مسعاهم سيتكلل بالنجاح بعد أن حدّدوا عددا من المواقع الواعدة جدا في منطقة De Hoop Nature Reserve الساحلية، التي تقع على مسافة 30 ميلا غرب بلومبوس.
ربما لا يكون السلوك المُدار بالترميز نشأ في أوروبا، لكن سجله المبكر غني فيها. ويحوي كهف شوڤيه في مقاطعة آرديش بفرنسا أقدم رسوم كهفيّة في العالم. وتعرضُ صالاتُ الآثار رسومَ مجموعة من الوحوش التي تنتمي إلى العصر الجليدي، وهي تتضمن أسودا (في الأسفل) عولجت بأكسيد الحديد قبل000 35 سنة. كان لدى قدماء الأوروبيين أيضا حبّ للموسيقى، وهذا ما تدل عليه آلة الناي المصنوعة من العظم التي عمرها000 32سنة، والتي اكتشفت في إستورتز بفرنسا (في أسفل اليمين). وكان قدامى الأوروبيين يدفنون موتاهم في احتفالات مثيرة أحيانا، كما هو مبيّن في الصُّورة (في اليمين) المنقولة عن رسم عمره 000 28سنة يمثل رفاتَ طفليْن تحيط بهما آلاف من الخرزات، وموادُّ أخرى توضَع في القبور جُلبت من سنجير بروسيا.
وعندما كنت جالسا في ساحة معهد أبحاث التراث الإفريقي(29) مفكرا في أصداف القواقع اللذيذة المذاق التي بين يدي، فكرت أيضا فيما قد تكون مثّلَتْهُ هذه الأصداف لسكان بلومبوس. وعلى نحو ما، من الصعب تصور أسلافنا القدامى مهملين شؤونهم الحياتية الأساسية المتعلقة بالطعام والماء والحيوانات الضارية والمأوى ليفكروا في مثل هذه التوافه. لكنني في وقت لاحق، عندما كنت أتابع في كيب تاون عروضًا لبعض صانعي المجوهرات ـ من قلادات الصلبان الذهبيّة إلى خواتم الخطوبة الماسيّة ـ رأيت أنه مازال من الصعب عليّ فهم أنّ الإنسان العاقل كان ذا سلوك مختلف عن سلوكنا. ربما تكون الحليّ قد تغيّرت بعض الشيء منذ 000 75سنة، لكن الرسائل الرمزية البالغة الأهمية التي تبعث بها هذه الحليّ ربما بقيت على حالها من دون أي تغيير.

المؤلف
Kate Wong
مدير تحرير في ساينتفيك أمريكان.

مراجع للاستزادة
The Revolution That Wasn't: A New Interpretation of the Origin of Modern Human Behavior. Sally McBrearty and Alison S. Brooks in Journal of Human Evolution, Vol. 39, No. 5, pages 453-563; November 2000.
Emergence of Modern Human Behavior: Middle Stone Age Engravings from South Africa. Christopher S. Henshilwood et al. in Science, Vol. 295,pages 1278-1280;February 15,2002.
The Dawn of Human Culture. Richard G. Klein, with Blake Edgar. John Wiley & Sons, 2002.
The Invisible Frontier: A Multiple Species Model for the Origin of Behavioral Modernity. Francesco d'Errico in Evolutionary Anthropology, Vol. 12, No. 4, pages 188-202; August 5, 2003.
The Origin of Modern Human Behavior: Critique of the Models and Their Test Implications. Christopher S. Henshilwood and Curtis W. Marean in Current Anthropology, Vol. 44, No. 5, pages 627-651; December 2003.
Prehistoric Art: The Symbolic Journey of Humankind. Randall White. Harry N. Abrams, 2003.
Nassarlus krousslanus Shell Beads from Blombos Cave: Evidence for Symbolic Behavior in the Middle Stone Age. Francesco d'Errico, Christopher Henshilwood, Marian Vanhaeren and Karen van Niekerk in Journal of Human Evolution, Vol. 48, No. 1, pages 3-24; January 2005.
Scientific American, June 2005

(*) THE MORNING OF THE MODERN MIND
(**) Overview/ Evolved Thinking
(***) A Behavioral Big Bang
(****) Seeds of Change
(*****) Stone Age Sophistication
(******) Smart for Their Age
(*******) Mapping Modernity
(********) Here Today, Gone Tomorrow
(*********) Symbol-Minded

(1) Homo sapiens
(2) Herto
(3) Upper Paleolithic Age
(Middle Paleolithic Age (4
(5) الأركيولوجيون.
(6) Great Leap Forward
(7) Neandertal region، وهي قريبة من دوسلدورف بألمانيا حيث وُجدت بقايا هيكل عظمي لإنسان قديم.
(8) Middle Stone Age
(9) hominid
(Later Stone Age (10
(11) Kung San
(Enkapune Ya Muto (12
(13) cognitive modernity
(big bang theories (14
(15)The Revolution That Wasn't: A New Interpretation of the origion of Modern Human Behavior
(16)red ochre ، أحد أنماط الحديد الخام.
(17) Twin Rivers Cave
(18) Mumba Rock Shelter
(19) Holocene
(silcrete (20
(21)Nassarius Kraussianus
(22)Journal of Human Evolution
(23)جهاز تشغيل ملفات حاسوبية من النوع MP3 مخصصة للأغاني. وتبلغ ذاكرته 5 جيگابايت ويمكن ربطه بجهاز حاسوبي من النوع ماكنتوش.
(24) Malakunanja II
(Tasmanian example (25
(26) digital microscopy
(Nauwalabila I (27
(28) Krapina Rock Shelter
(29) African Heritage Research Institute

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق