الأربعاء، 13 فبراير 2013

لغة الإشارة في الدماغ(*)


 

كيف يعالج الدماغ البشري اللغة؟

ثمة دراسات جديدة على الصم مستخدمي الإشارات

تلمِّح إلى إجابة عن هذا السؤال.

ـ ـ


تبين هذه الرسوم ترجمةً لعبارة «لغة الإشارة في الدماغ» إلى لغة الإشارة الأمريكية، وقد اعتمدت
هذه الرسوم على صور فوتوغرافية لشخص أصم يستخدم الإشارات.


يتمثل أحد الألغاز الكبيرة للدماغ البشري في كيفية فهمه وإنتاجه للغة. فحتى عهد قريب، كانت معظم البحوث حول هذا الموضوع تقوم على دراسة اللغات المنطوقة (المحكية) spoken languages، الإنكليزية والفرنسية والألمانية وما شابهها. وقد حقق العلماء، بدءا من منتصف القرن التاسع عشر، خطوات كبيرة على طريق تحديد مناطق الدماغ المعنية بالكلام. فعلى سبيل المثال، اكتشف عالم الأعصاب الفرنسي <P.بروكا> في عام 1861 أن المرضى الذين يستطيعون فهم اللغة المنطوقة ولكنهم يعانون صعوبة في التكلم، لديهم على الأرجح تلف في جزء من نصف الكرة المخية الأيسر يعرف الآن باسم باحة بروكا Broca 's area. وفي عام 1874 وجد الطبيب الألماني أن المرضى الذين يتكلمون بطلاقة ولكنهم يعانون صعوبات شديدة في الفهم لديهم عادةً تلف في جزء آخر من نصف الكرة المخية الأيسر، أُطلق عليه اسم باحة ڤيرنيكه Wernike's area.


هذا وقلما تسبب حالات التلف المشابهة في نصف الكرة المخية الأيمن مثل هذه الأعطال اللغوية التي تدعى حبسات aphasias. وبدلا من ذلك، كثيرا ما يصحب تلف نصف الكرة المخية الأيمن مشكلات إبصارية-حيزية (مكانية) visual-spatial شديدة، مثل عدم المقدرة على نسخ رسمٍ خطي بسيط. ولهذه الأسباب، كثيرا ما يوصف نصف الكرة المخية الأيسر بأنه نصف الكرة المخية اللفظي verbal hemisphere، في حين يوصف نصف الكرة المخية الأيمن بأنه نصف الكرة المخية الحيزي spatial hemisphere. ومع أن هذا التقسيم الثنائي يعد تبسيطا مفرطا، فهو يبين بالفعل بعض الفوارق السريرية الرئيسية بين المصابين بتلف في الجانب الأيسر من الدماغ وأولئك المصابين بتلف في الجانب الأيمن منه.


ولكن يتبقى لدينا العديد من الألغاز. وأحد هذه الألغاز يستعصي بشكل خاص على الحل، وهو معرفة السبب في أن اللغة تتخذ لنفسها هذا الموقع الذي توجد فيه. ويبدو أن موقعي باحتي بروكا وڤيرنيكه يحملان دلالة معقولة؛ إذ تقع باحة ڤيرنيكه المعنية بفهم الكلام بالقرب من القشرة المخية السمعية، وهي جزء الدماغ الذي يتلقى الإشارات الواردة من الأذنين؛ في حين تقع باحة بروكا (المعنية بإنتاج الكلام) بجوار جزء القشرة المخية المحرِّكة، الذي يتحكم في عضلات الفم والشفتين (انظر الشكل في الصفحة 22). ولكن: هل يكون التنظيم (التعضي) organization الدماغي المسؤول عن اللغة مبنيا حقا على وظيفتي السمع والتكلم؟


إحدى طرائق استكشاف هذا السؤال هي أن ندرس لغة تستخدم قنوات حسية ومحرِّكة مختلفة. فالقراءة والكتابة، بالطبع، توظفان الإبصار لغرض الفهم، وتوظفان حركات اليدين لغرض التعبير، ولكن هذين النشاطين يعتمدان عند معظم الناس (ولو جزئيا على الأقل) على المنظومات الدماغية المعنية باستعمال إحدى اللغات المنطوقة. ومع ذلك فإن لغات الإشارة sign languages لدى الصم تحقق المطلوب بشكل دقيق. وعلى مدى العقدين الماضيين قمنا بفحص مجموعات من صم يستخدمون الإشارات ويعانون تلفا في نصف الكرة المخية الأيمن أو الأيسر، نتج غالبا من سكتات دماغية. ومن خلال تقييمنا لكفاءة هؤلاء المرضى في الفهم وفي إنتاج الإشارات أخذنا نحدد هل باحات الدماغ التي تفسر لغة الإشارة وتولدها هي نفسها التي تضطلع باللغة المنطوقة. لقد ألقت النتائج المذهلة الضوء على أساليب عمل الدماغ البشري؛ وربما تساعد المختصين بعلوم الأعصاب على معالجة علل مرضاهم الصم.


إشارات اللغة(**)

يعتقد كثير من الناس ـ خطأ ـ أن لغة الإشارة ما هي إلا مجموعة مفككة من إيماءات شبيهة بإيماءات مسرح الپانتوميم(1) تجمعت معا بصورة عشوائية لإتاحة تواصل بدائي. ولكن لغات الإشارة تؤلف في الحقيقة منظومات لغوية راقية التركيب ومزودة بكل التعقيد النحوي للغات المنطوقة. فمثلما تمتلك اللغتان الإنكليزية والإيطالية قواعد معقدة لصياغة الكلمات والجمل، فإن لغات الإشارة تمتلك قواعد للإشارات الفرادى ولجمل الإشارة. وعلى النقيض من اعتقاد خطأ آخر، فإنه لا توجد لغة إشارة عالمية. فالصم في الأقطار المختلفة يستخدمون لغات إشارة متباينة جدا. وفي الواقع فإن الأصم الذي يستخدم الإشارات ويتعلم لغة إشارة أخرى وهو بالغ سوف يؤدي إشارات بلكنة accent أجنبية! إضافة إلى ذلك، فإن لغات الإشارة ليست مجرد ترجمات يدوية للُّغات المنطوقة المستعملة في المجتمعات التي يعيش فيها الصم. فلغة الإشارة الأمريكية (ASL) على سبيل المثال، لا يفهمها الأصم البريطاني، مثلما لا يفهم الأصم الأمريكي لغة الإشارة البريطانية.


وتتشارك لغة الإشارة واللغة المنطوقة في الخصائص التجريدية للغة، ولكنهما تختلفان جذريا في الشكل الأدائي الظاهر. فاللغات المنطوقة يتم تكويدها بتغيرات صوتية - زمانية acoustic-temporal changes، بمعنى: اختلافات الصوت عبر الزمن؛ في حين أن لغات الإشارة تستند إلى تغيرات إبصارية - حيزية في الإفصاح عن التباينات اللغوية (انظر الإطار في الصفحة المقابلة). ولكن كيف يؤثر هذا الاختلاف بالشكل في التنظيم (التعضي) العصبي للغة؟ قد يفترض شخص أن لغة الإشارة تتكفلها منظومات موجودة في نصف الكرة المخية الأيمن، لأن الإشارات هي علاماتٌ إبصارية-حيزية. ويمكن للمرء، وفقا لذلك، أن يحاج بأن النظير الوظيفي analogue لباحة ڤيرنيكه في لغة الإشارة لدى الأصم المستخدم للإشارات يقع بالقرب من المناطق الدماغية المسؤولة عن المعالجة الإبصارية، وأن النظير الوظيفي لباحة بروكا إنما يقع بالقرب من القشرة المخية المحرِّكة motor cortex التي تتحكم في حركات اليد والذراع.


أين مركز اللغة(***)

تشكل باحتا بروكا وڤيرنيكه منطقتين في النصف المخي الأيسر من الدماغ، تؤديان أدوارا مهمة في معالجة اللغة (وهناك مناطق عديدة أخرى غيرهما). تنشط باحة بروكا لدى الأفراد القادرين على السمع حينما يتكلمون، وتنشط لدى الناس الصم حينما يؤدون الإشارات؛ أما باحة ڤيرنيكه فإنها معنية بفهم مضمون الكلام والإشارات معا.


عندما بدأنا باختبار هذه الفرضية في الثمانينات من القرن العشرين، كان لا بد من الإجابة عن سؤالين جوهريين هما: هل يعاني الأصمُّ المستخدِم للإشارات (ذو التلف الدماغي) عيوبا في لغة الإشارة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل تشبه هذه العيوب حبسة ڤيرنيكه (بمعنى الإصابة باضطرابات في الفهم والنزعة إلى الخطأ في الكلام)، أو حبسة بروكا (بمعنى بقاء الفهم جيدا ولكن مع حدوث صعوبة في إنتاج الكلام السلس)؟ لقد كانت الإجابة عن هذين السؤالين هي نعم لا لبس فيها. وأحد المرضى الأوائل ممن درستْهم مجموعتنا كان يؤدي الإشارات بسلاسة ويستعمل جميع العلامات النحوية الصحيحة للغة الإشارة الأمريكية، بيد أن الرسالة التي نقلتها إشاراته غالبا ما جاءت غير متماسكة:


هناك طريقة (تهبط كثيرا عند النهاية) [غير مفهوم]. وعبر الرجل ماشيا ليرى الـ(غير مترابط)، امتداد (الأرض) الغرفة. وهناك يكون للرجل (يستطيع أن يعيش) سقف وضوء مع ستائر (يظل يشد لأسفل).


إن أداء المريض لهذه الإشارات غير المنتظمة، وكذلك افتقاره الواضح إلى فهم إشارات الآخرين، يشبهان جدا الأعراض لدى مرضى حبسة ڤيرنيكه المحتفظين بالسمع. وكنا قد درسنا في وقت مبكر من برنامجنا البحثي مريضة أخرى من الصم كانت تبدي صعوبة بالغة في إنتاج الإشارات. وكان على هذه المريضة أن تجهد في تشكيل وتوجيه يديها لأداء الحركة المناسبة لكل إشارة تحاولها، واقتصرت معظم تعبيراتها على إشارات منعزلة. ونذكر هنا أن هذا الأمر لم يكن مجرد مشكلة في التحكم الحركي؛ إذ إنها حينما طُلب إليها أن تنسخ copy بعض الرسوم الخطية لأشياء مثل فيل أو زهرة، أدت ذلك بدقة بالغة. وكذلك، على النقيض مما كان لدى المريضة من الصعوبات الشديدة في إنتاج لغة إشارة، فقد أبدت فهما ممتازا لهذه اللغة. وهذه الصورة من القدرات اللغوية فيها ما يوازي أعراض حبسة بروكا.


ولكن، أين كان التلف الدماغي الذي سبب هذه الحبسات الإشارية؟ لقد جاء الجواب مذهلا. كان لدى كلا المريضين آفات(2) lesions في نصف الكرة المخية الأيسر. وكان موضع هذه الآفات في عين المكان الذي نتوقع وجودها فيه لدى المرضى المحتفظين بالسمع المصابين بمشكلات مشابهة. فقد تبين أن الأصم المستخدم للإشارات الذي يعاني صعوبات في الفهم كان مصابا بتلف شمل باحة ڤيرنيكه، في حين أن المريض الذي لديه مشكلات في أداء الإشارات كان مصابا بتلف شمل باحة بروكا.


أظهرت هذه المشاهدات أن نصف الكرة المخية الأيسر يؤدي دورا حاسما في دعم لغة الإشارة. ولكن ماذا عن نصف الكرة المخية الأيمن؟ قد يظن المرء بأن تلف نصف الكرة المخية الأيمن (الذي يبدو معنيا بشكل حاسم في عدة وظائف إبصارية - حيزية) يمكن أن يكون ذا تأثير مخرب في القدرة على لغة الإشارة كذلك. ولكن هذا الزعم خطأ بشكل واضح. فقد أظهر المستخدمون للإشارات ممن أصيبوا بتلف في نصف الكرة المخية الأيمن سلاسةً ودقةً في إنتاج الإشارات، واستخدموا بسهولة قواعد النحو السوية، كما فهموا الإشارات بسهولة؛ بل إن ذلك قد صح أيضا لدى مرضى سبق لقدراتهم الإبصارية-الحيزية غير اللغوية أن تأذت بشدة بسبب ما أصيبوا به من تلف دماغي. فعلى سبيل المثال، لم يستطع متحدث بالإشارة مصاب بتلف في نصف كرته الدماغية الأيمن أن يبتدع أو أن ينسخ رسوما سهلة التعرف، كما أخفق في ملاحظة أشياء تقع في القسم الأيسر من ساحته الإبصارية visual field، وهي حالة تعرف باسم الإغفال الحيزي النصفي hemispatial neglect. ومع ذلك، فقد استطاع هذا المريض أن يتواصل مع الآخرين بشكل فعال باستخدامه لغة الإشارة.


اللبنات التركيبية للغة الإشارة(****)

يشكل موضع location الإشارة عنصرا حاسما في نقل المعنى. ففي لغة الإشارة الأمريكية يعبَّر عن إشارة «الصيف» بموضع قرب جبهة الرأس، وإشارة «بشع» بموضع قرب الأنف، في حين يعبر عن إشارة «جاف» بموضع قرب الذقن.
تتصف لغات الإشارة، شأنها شأن اللغات المنطوقة، بأن لها أنواعا عديدة من البنية اللغوية، تتضمن المستويات: الفونولوجي phonological والمورفولوجي morphological والبنائي syntactic. ففي المستوى الفونولوجي تتألف الإشارات signs من مجموعة صغيرة من المكونات، تماما مثلما تتألف الكلمات المنطوقة من مجموعة صغيرة من الحروف الساكنة والحروف المتحركة. وتتضمن مكونات الإشارات أشكال اليد، والمواضع حول الجسم حيث تتم تأدية الإشارات، وحركات اليدين والذراعين، وتوجيه اليدين (مثل توجيه راحة اليد نحو الأعلى أو نحو الأسفل). وفي لغة الإشارة الأمريكية تأخذ الإشارت التي تقابل كلمة "الصيف" و"بشع" و"جاف" نفس شكل اليد وحركتها وتوجيهها، ولكن مع اختلاف في الموضع (انظر الرسوم في هذه الصفحة). وعلى نفس المنوال، تتشارك إشارات مثل "القطار" و"الشريط" و"الكرسي" في شكل اليد وتوجيهها وموقعها، ولكنها تختلف في حركتها.
وعلى المستوى الموروفولوجي، تمتلك لغة الإشارة الأمريكية دالات نحوية grammatical markers تغير معاني الإشارات بطريقة منهجية. وتتضمن الدالات المورفولوجية في اللغة الإنكليزية مقاطع صغيرة مثل "ed-" يمكن أن تضاف إلى معظم الأفعال لتدل على الفعل الماضي past tense (كلمة "walk" تصبح "walked"). وفي حين تضاف في اللغة الإنكليزية الدالات إلى بداية الكلمة أو نهايتها، فإن الإشارات في لغة الإشارة الأمريكية يتم تحويرها باستخدام أنماط حيزية متمايزة. فمثلا، تؤدي إضافة حركة الدحرجة rolling movement إلى إشارة الفعل "يعطي" (وإلى معظم إشارات الأفعال في هذه اللغة) إلى تغيير معنى هذه الإشارة، بحيث تعني "يعطي عطاء مستمرا". ويستطيع مستخدمو الإشارات استعمال أنماط مختلفة لتحوير هذا الفعل، بحيث يعني: "يعطي الجميع" أو "يعطي كل فرد" أو "يعطي أحدهما الآخر"، إلى جانب تنوعات أخرى عديدة.
وعلى المستوى البنائي، تعين لغة الإشارة الأمريكية العلامات النحوية بين الإشارت (أي: من يفعل ماذا ولمن) بطرائق غير موجودة في اللغات المنطوقة. ففي اللغة الإنكليزية يوفر ترتيب الكلمات مفتاح الدلالة cue الرئيسي للتنظيم البنائي في جملة ما، مثل "مريم انتقدت يوسف". وإذا انعكس ترتيب الاسمين انعكس معنى الجملة. وكذلك الأمر في لغة الإشارة الأمريكية، فإن المرء يستطيع استعمال مفاتيح دلالة بترتيب الكلمات، ولكنه لا يحتاج إلى ذلك؛ إذ يستطيع مستخدمو الإشارات بدلا من ذلك أن يشيروا إلى موقع معين في الحيز حينما يؤدون إشارة أحد الأسماء، وهكذا يربطون تلك الكلمة بذلك الموقع. وبعدها يمكن لمستخدم الإشارات أن يحرك إشارة الفعل verb من موقع مريم إلى موقع يوسف ليعني أن "مريم انتقدت يوسف" وأن يحرك إشارة الفعل من موقع يوسف إلى موقع مريم ليعني العكس.


أكدت الأبحاث اللاحقة، التي تضمنت مجموعات أكبر من الصم المستخدمين للإشارات، ما تم التوصل إليه من دراسات الحالات السابقة. ففي دراسة نشرها فريقنا عام 1996، جرت مقارنة بين قدرات لغة الإشارة لدى 13 مصابا بتلف نصف الكرة المخية الأيسر (LHD) من مستخدمي الإشارات وبين قدرات لغة الإشارة لدى عشرة مستخدمين للإشارات مصابين بتلف في نصف الكرة المخية الأيمن (RHD). وقد بينت هذه الدراسة أن المصابين بالتلف الأيسر من مستخدمي الإشارات أبدوا ـ كمجموعة ـ أداء ضعيفا في تشكيلة واسعة من قياسات لغة الإشارة؛ إذ عانوا صعوبة في فهم الإشارات الفرادى وجمل الإشارة signed sentences، وكانوا كذلك عرضة لأن تظهر لديهم صعوبات في سلاسة لغة الإشارة. ويضاف إلى ذلك أنهم وجدوا صعوبة في اختبارات تسمية الصور، وكثيرا ما ارتكبوا أخطاء من قبيل حبسة التسمية(3) (اللجلجة) paraphasia ـ أي: زلات بالأيدي ـ أحلوا فيها (عن غير عمد) إشارة محل أخرى، أو أحد مكونات إشارة ما (مثل شكل اليد) محل مكون آخر. وعلى النقيض من ذلك، نجح مستخدمو الإشارات من ذوي التلف الأيمن في اجتياز جميع هذه الاختبارات. وكذلك بينت هذه الدراسة أن صعوبات سلاسة لغة الإشارة لم تنجم عن الاضطرابات العامة بالتحكم في الحركات الإرادية لليد أو الذراع؛ إذ كثيرا ما كان المرضى (الذين عانوا صعوبات في صنع الإشارات) قادرين على عمل إيماءات غير ذات مدلول باليد والذراع.


النصف المخي الأيسر للدماغ هو المهيمن فيما يخص لغة الإشارة،

تماما مثلما هو المهيمن فيما يخص الكلام.

حصلنا على نتائج مشابهة من دراسة أخرى ركَّزت على فهم لغة الإشارة لدى 19 مريضا عانوا آفات دماغية واستعملوا الإشارات طوال حياتهم. كان أحد عشر منهم مصابين بتلف في النصف المخي الأيسر، والثمانية الآخرون مصابين بتلف في النصف المخي الأيمن. وكان أداء المجموعة الأولى أسوأ بكثير من أداء المجموعة الثانية (ذات التلف الأيمن) في ثلاثة اختبارات قُيِّم بها فهمهم لإشارات فرادى ولجمل بسيطة وأخرى معقدة. وكان الأكثر تضررا من بين مستخدمي الإشارات، أولئك المصابون بتلف في الفص الصدغي الأيسر للدماغ، حيث توجد باحة ڤيرنيكه.


تشيع لدى الصم مستخدمي الإشارات المصابين بتلف في النصف المخي الأيسر مشكلة عامة تتمثل في حبسة التسمية (اللجلجة) ـ على شكل زلات يدوية تناظر زلات اللسان التي يقع بها السامعون المصابون بتلف في النصف المخي الأيسر. ويبين الشكل التوضيحي (في اليسار) الشكل الصحيح لإشارة «لطيف» fine، في حين يبين الرسم في الصفحة المقابلة خطأ كثيرا ما يقع فيه مستخدمو الإشارات المصابون بتلف النصف المخي الأيسر. ففي الشكل الأخير أدى المؤشِّر موضعَ الإشارة وحركتها على نحو صحيح، ولكنه استخدم الشكل الخطأ لليد، مما نتج منه شيء لا معنى له بلغة الإشارة الأمريكية ـ إشارة لا معنى لها تعادل حروف bline أو gine باللغة الإنكليزية.
ومع أن شكل اليد في حبسة التسمية هذه غير صحيح فيما يخص معنى «لطيف»، فإنه يستعمل في عدة إشارات أخرى بلغة الإشارة الأمريكية، مثل «يلعب» play و«كاليفورنيا». وهناك حبسات تسمية مشابهة تشمل أخطاء في صنع الموضع الصحيح للإشارة وحركتها وتوجيه اليد فيها، وكذلك تشمل أغلاطا في صياغة البنية المورفولوجية والتركيبية للغة.


توحي هذه المكتشفات ـ في جملتها ـ بأن نصف الكرة الأيسر من الدماغ هو المهيمن في لغة الإشارة، تماما مثلما هو بالنسبة إلى الكلام. ويبدو أن تعضي organization الدماغ فيما يخص اللغة لا يتأثر بشكل خاص بطريقة فهم اللغة وصنعها.


تتعقد القصة(*****)

كما لاحظنا في بداية هذه المقالة، فإن التقسيم الثنائي dichotomy الوظيفي المزعوم للدماغ إلى نصف أيمن وآخر أيسر ـ بحيث تتركز القدرات اللفظية في النصف المخي الأيسر وتتجمع القدرات الإبصارية-الحيزية في النصف المخي الأيمن، ما هو إلا تبسيط مفرط. فقد أظهرت الأبحاث على مدى العقود القليلة الماضية أن معظم القدرات المعرفية cognitive abilities يمكن تقسيمها إلى خطوات معالَجة متعددة. ومن الممكن في بعض المستويات أن يقع نشاط الدماغ في جانب واحد (بمعنى حدوثه أساسا في أحد نصفي الكرة الدماغية)، في حين قد يقع هذا النشاط في مستويات أخرى في الجانبين (بمعنى حدوثه في كلا النصفين).


فعلى سبيل المثال، تضم القدرة اللغوية مكونات كثيرة. فالشخص الذي يسمع يجب أن يكون قادرا على إدراك وإنتاج أصوات الكلام الفرادى وكذلك الكلمات التي تؤلفها هذه الأصوات؛ وبدون ذلك لا يكون المرء قادرا على التمييز بين كلمتي «باب» و«ناب». يضاف إلى ذلك أنه يجب أن يكون قادرا على تعرف الإضافات المورفولوجية [أي الشكلية الظاهرية] (مثل «مشيًا» مقابل «مَشُوا»)، وعلى تعرف تراكيب (بناء) الجمل نحويا (مثل: «الكلب طارد القطة» مقابل «الكلب طاردته القطة»)، وعلى تعرف التنغيم اللحني melodic intonation (مثل نُطق «البيت الأبيض» مع الضغط على «الأبيض» مقابل نُطقها مع الضغط على «البيت»). وأخيرا، حتى يُجري المرء حديثا مطولا، يجب أن تكون لديه القدرة على أن ينشئ ويحافظ على روابط متماسكة بين الشخصيات والأحداث عبر سياق من جمل كثيرة.




ومن بين كل مظاهر القدرة اللغوية هذه، يُعد إنتاج اللغة هو المظهر الأشد ارتباطا بنصف الكرة المخية الأيسر. فغالبا ما يعوق تلف هذا النصف المخي القدرة على انتقاء وتجميع assembling الأصوات والكلمات المناسبة عند التحدث؛ في حين أن تلف النصف المخي الأيمن قلما يفعل ذلك. أما الاستثناء الوحيد لاحتكار النصف المخي الأيسر إنتاج اللغة، فيتمثل في إبداع سياق متماسك للحديث. فقد يستطيع المصابون بتلف النصف المخي الأيمن تركيب الكلمات والجمل على نحو جيد تماما، ولكنهم كثيرا ما يتحولون من موضوع إلى آخر، لا يربطهما إلا خيط واهن.


يبدو أن إدراك اللغة وفهمها يتحددان في النصف المخي الأيسر بدرجة أقل من تحدد إنتاج اللغة فيه. صحيح إن النصفين المخيين كليهما يستطيعان تمييز أصوات الكلام الفرادى، وأن النصف المخي الأيمن يبدو ذا دور في فهم الحديث المطول، ولكن يبدو أن فك شفرة معاني الكلمات والجمل يحدث أساسا في النصف المخي الأيسر. وهذا ما قد يفسر السبب في أن اللغة كانت تُعد في الأصل مهمة يختص بها النصف المخي الأيسر وحده؛ فأكثر الاختبارات شيوعا التي تُجرى على الحُبْسات كانت تقيّم فهم وإنتاج الكلمات والجمل وليس فهم وإنتاج الأحاديث المطولة.


هذا ويمكن كذلك تفكيك القدرات الحيزية غير اللغوية إلى مكونات ذات أنماط مختلفة من حيث تعيين الجانب الذي تقع فيه lateralization. ومع أن أشد اختلالات القدرات الحيزية تحدث عادة عقب حدوث تلف النصف المخي الأيمن (لدى مجموعات الصم والسامعين على السواء)، فقد لاحظ الباحثون بعض العيوب الإبصارية - الحيزية لدى السامعين الذين أصيبوا بتلف في نصف الكرة المخية الأيسر. وتشمل هذه الأعراض عادة صعوبات في إدراك perceiving ونسخ reproducing المعالم التفصيلية على مستوى الموضع المحلي للمنبه الإبصاري، مثل التفاصيل في أحد الرسوم، مع أن هؤلاء المرضى بتلف النصف المخي الأيسر يستطيعون بصورة صحيحة تعيين أو نسخ الشكل الإجمالي لذلك الرسم. أما السامعون المصابون بتلف في النصف المخي الأيمن فيميلون إلى إبداء النمط المعكوس. ومن ثم فقد اقتُرح أن النصف المخي الأيسر مهم للإدراك الحيزي على مستوى الموضع المحلي، ومهم لمنابلته manipulation؛ في حين يكون النصف المخي الأيمن مهمًا للمعالجات ذات المستوى الشمولي.


الدماغ عضو مقسم تقسيمًا رفيعًا إلى وحدات مستقلة modules،

وكل وحدة مستقلة فيه تنتظم لأداء مهمة حوسبية computational task معينة.

وتثير هذه الصورة الأكثر تعقيدا للدماغ السؤال المهم الآتي: هل يكون تقسيم القدرات الإبصارية - الحيزية بين النصفين المخيين (على النحو الذي يقع فيه مستوى الوضع المحلي في النصف الأيسر والمستوى الشمولي في النصف الأيمن) له علاقة بتقسيم قدرات لغة الإشارة بين ذَيْنِك النصفين؟ يمكن تصوُّر الإشارات الفرادى وجمل الإشارة كقطع من اللغة، في حين يمكن أن يمثل الحديث المطول أسلوبَ جمعِ هذه القطع بعضها مع بعض. وربما يكون النصف المخي الأيسر هو المهيمن في إنتاج وفهم الإشارات وجمل الإشارة، لأن هاتين العمليتين تعتمدان على القدرات الحيزية على مستوى الموضع المحلي. وكذلك ربما يكون النصف المخي الأيمن هو المهيمن في عمليتي إنشاء الحديث المتماسك والحفاظ عليه في لغة الإشارة، لكونهما تعتمدان على القدرات الحيزية على المستوى الشمولي.


قمنا باختبار هذه الفرضية، فأكدت بحوثنا أن الكثير من الصم مستخدمي الإشارات المصابين بتلف في النصف المخي الأيمن يعانون صعوبة في الحديث المطوّل؛ إذ يمتلئ سردهم للأخبار بعبارات منحرفة السياق، بل حتى بأحاديث ملفقة ـ وهذا هو بالضبط نوع الصعوبات التي كثيرا ما يعانيها المصابون بتلف في النصف المخي الأيمن من سليمي السمع. ولكن بعض مستخدمي الإشارات المصابين بتلف في النصف المخي الأيمن يواجهون نوعا آخر من المشكلات. فالحديث المطول بلغة الإشارة له تنظيم حيزي فريد؛ فعندما يسرد مستخدم الإشارات قصةً ما تتضمن شخصيات كثيرة، فإنه يعين كل واحد من هذه الشخصيات باستخدامه موضعا location مختلفا. وهكذا يصبح الحيز الواقع أمام مستخدم الإشارات نوعا من منصة افتراضية virtual stage يحتل فيها كل من هذه الشخصيات موقعا خاصا به (أو بها). وتشير دراساتنا إلى أن بعض مستخدمي الإشارات المصابين بتلف النصف المخي الأيمن كانوا قادرين على التقيد بموضوعٍ ما أثناء حديثهم ولكنهم أخفقوا في المحافظة على إطار حيزي ثابت للشخصيات في حكاياتهم.



تبين سلسلة الرسوم أدناه الحفاظ الصحيح على الإطار الحيزي لحديث مطول بلغة الإشارة الأمريكية. في هذا الشكل تصف مستخدمة الإشارات سلسلة صور تظهر طفلين يرسم كل منهما وجه الآخر، بينما هما يجلسان إلى طاولةٍ أحدهما بجانب الآخر. في بداية الحديث ربطت مستخدمةُ الإشارات كلا من الطفلين بموضعٍ معين في الحيز: فالطفلة «إيناس» في يمين مستخدمة الإشارات؛ والطفل «بشار» في يسارها (لا يظهر ذلك في الرسم). وتشير التحولات الرهيفة في الوضع الجسمي لمستخدمة الإشارات، إضافة إلى توجيه حركة الإشارة التي تعني «الرسم بالطلاء» (من موضع «إيناس» في يمينها إلى موضع «بشار» في يسارها)، إلى أن «إيناس» ترسم «بشار» (a،b)؛ في حين تشير الحركات المعاكسة (c،d) إلى أن «بشار» يرسم «إيناس».


هل يكون أي من نوعي مشكلات الحديث المطول هذه لدى الصم مستخدمي الإشارات المصابين بتلف في النصف المخي الأيمن ذا علاقة سببية بعيوب في قدراتهم الحيزية غير اللغوية nonlinguistic؟ يبدو أن الرد سيكون بالنفي. فلقد أجرينا دراسة على أحد مستخدمي الإشارات من مرضى تلف النصف المخي الأيمن ممن أصيبت قدراتهم الحيزية بتلف شديد، ومع ذلك فإنه لم يعان مشقة في سرد قصة متماسكة وذلك بواسطة الإشارات. وبالمقابل، هناك مريض آخر مصاب بتلف في النصف المخي الأيمن لم يكن يعاني سوى مشكلات بصرية-حيزية طفيفة، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يستمر في الإبقاء على الإطار الحيزي الصحيح للشخصيات في سرد حكايته. وهكذا يتضح أن المنظومات المعرفية في النصف المخي الأيمن التي تدعم القدرات الحيزية غير اللغوية تختلف عن تلك التي تدعم الحديث المطول.


ماذا عن الصم مستخدمي الإشارات المصابين بتلف في النصف المخي الأيسر؟ هل تنجم حبسات لغة الإشارة لديهم عن الأذيات في القدرات الحيزية التي على مستوى الموضع المحلي؟ حتى ندرس هذه المسألة طلبنا إلى مجموعة من الصم مستخدمي الإشارات أن ينسخوا رسوما خطية وأشكالا متسلسلة المرتبة تتصف بملامح موضعية (محلية) local وشمولية global يسهل تعرّفها (مثال حرف "D" يبرز مميزا بين مجموعة من حروف "y" صغيرة). وجدنا هنا نزعة لدى الصم المصابين بتلف في النصف المخي الأيسر، إلى نسخ الهيئة الشمولية للرسوم بطريقة صحيحة، ولكنهم كثيرا ما أغفلوا بعض التفاصيل. وهذا يشبه تماما ما يفعله السامعون المصابون بتلف في نصف المخ الأيسر. (أما الصم المصابون بتلف في النصف المخي الأيمن فقد أظهروا النمط المعاكس، إذ رسموا صورا فيها كثير من التفاصيل وإن كان الشكل الكلي مضطرب الترتيب). هذا ولم نجد ارتباطا بين شدة العيوب الحيزية على مستوى الموضع المحلي لدى المصابين بتلف في النصف المخي الأيسر وبين شدة حبسات لغة الإشارة لديهم. وعلى عكس جميع التوقعات، يبدو أن قدرات لغة الإشارة لدى الصم مستخدمي الإشارات مدى العمر تكون مستقلة عن مهاراتهم الحيزية غير اللغوية.


إن كثيرًا من مستخدمي الإشارات المصابين بتلف النصف المخي الأيمن يقعون في أخطاء في تنظيمهم الحيزي للحديث. فهم يستطيعون ربط الشخصيات في سرد الحكاية بمواقع في الحيز من حولهم، ولكنهم كثيرا ما يخفقون في توثيق هذه المواقع على نحو ثابت. وفي الرسوم الواردة في الأسفل لم تربط مستخدمة الإشارات الإشارة التي تعني الرسم بالطلاء بموقعي «إيناس» و«بشار». وهنا يمكن أن يكون المعادل الإنگليزي لانعدام التعيين هذا هو كما يأتي: «كان بشار وإيناس يجلسان إلى طاولة وهما يرسمان. فجأة وضع شخصٌ ما الطلاء على وجه شخص ما (e،f)، ثم وضع شخص ما الطلاء على وجه شخص ما (h ،g)».


من المحتمل أن نكون قد أغفلنا بعض الاختلافات الدقيقة في تنظيم الدماغ للغة لدى المرضى السامعين ومستخدمي الإشارات. فالدراسات على المرضى المصابين بآفات دماغية تكون محدودة الدقة؛ فحتى يؤكد الباحثون بالضبط ما هي أجزاء الدماغ المعنية بلغة الإشارة سيحتاجون إلى فحص عشرات الصم مستخدمي الإشارات من المصابين بآفات في الأمكنة الصحيحة بالضبط، الأمر الذي سيستغرق عشرات السنين للعثور عليها كلها. ولكن إدخال تقانات التصوير الدماغي غير الباضعة (غير المؤذية) noninvasive ـ مثل التصوير بالرنين المغنطيسي الوظيفي (fMRI) والتصوير المقطعي (الطبقي) بالبث الپوزِتروني (PET) ـ زود العلماء بأدوات جديدة يسبرون بواسطته الأصول العصبية للغة.


استخدم الباحثون هاتين التقنيتين لدراسة دور باحة بروكا في عملية التكلم وفي صنع الإشارات. وأظهرت نتائج التصوير أن باحة بروكا تنشط حقا لدى المرضى ذوي السمع السليم حينما يتكلمون ولدى المرضى الصم حينما يؤشِّرون. وكذلك أكد التصوير الدماغي أن المناطق التي تؤدي دورا في فهم لغة الإشارة تماثل كثيرا المناطق المعنية بفهم اللغة المنطوقة. ففي دراسة أجريت عام 1998 استخدم باحثون طرائق التصوير fMRI لملاحظة النشاط الدماغي لدى أناس صم مستخدمين للإشارات مدى العمر كانوا يشاهدون أشرطة ڤيديو تتضمن جملا بلغة الإشارة الأمريكية. فعثر هؤلاء الباحثون على مناطق نشاط في عدة أجزاء من الفص الصدغي الأيسر للمخ (بما في ذلك أجزاء من باحة ڤيرنيكه) وفي عدة مناطق من الفص الجبهي الأيسر للمخ (بما في ذلك باحة بروكا).


وكذلك عثر القائمون بهذه الدراسة على مناطق نشاط في الفص الصدغي الأيمن والفص الجبهي الأيمن. وأدت هذه النتيجة ببعض الباحثين إلى أن يقترحوا أن فهم لغة الإشارة يمكن أن يكون قد استقر في جانبي الدماغ بقدر أكبر من فهم اللغة المنطوقة. ولكن وجود النشاط في هذين الجانبين قد اكتُشف كذلك في دراسات أجريت على مفحوصين من ذوي السمع السليم أثناء إصغائهم للكلام. وهناك حاجة إلى المزيد من البحوث لتوضيح دور النصف المخي الأيمن في عملية معالجة لغة الإشارة. وفي جميع الأحوال، تبين دراسة الآفات الدماغية بوضوح أن الفوارق بين اللغة المنطوقة ولغة الإشارة ـ إن وجدت ـ غالبا ما تكون فوارق دقيقة.


دروس مستقاة من لغة الإشارة(******)

تتضمن لغة الإشارة كلا من المعالجتين اللغوية والإبصارية ـ الحيزية، وهما قدرتان تتولاهما منظومتان عصبيتان مستقلتان إلى حد كبير عند الأفراد السليمي السمع. ولكن خلافا لجميع التوقعات، فإن التنظيم العصبي للغة الإشارة تتشارك عناصره مع تنظيم اللغة المنطوقة أكثر مما تتشارك مع التنظيم الدماغي للمعالجة الإبصارية ـ الحيزية. فلماذا ينبغي أن يكون الأمر هكذا؟


يتمثل الجواب الذي يطرحه خط بحثنا، وبحوث آخرين غيرنا، في أن الدماغ عضو مؤلف من وحدات مستقلة modular إلى حد كبير، وكل وحدة مستقلة فيه جرى تنظيمها للقيام بمهمة حوسبية معينة. وطبقا لهذه النظرة، لا تقتصر معالجة المعلومات الإبصارية ـ الحيزية على منطقة واحدة من الدماغ. وعوضا عن ذلك تقوم الوحدات المستقلة العصبية المختلفة بمعالجة المدخلات الإبصارية visual inputs بطرائق مختلفة. فمثلا، تتم ترجمة المدخولات الإبصارية التي تحمل المعلومات اللغوية إلى صيغة format مهيأة على أكمل وجه للمعالجة اللغوية، بحيث يتاح للدماغ التوصل إلى معاني الإشارات واستخلاص الصلات النحوية، وهلم جرا. أما المنبهات الإبصارية التي تحمل نوعا آخر من المعلومات ـ مثل ملامح أحد الرسوم وخطوطه الكفافية contours فيُجرى ترجمتها إلى صيغة مهيأة على أكمل وجه للقيام، مثلا، بتنفيذ أوامر حركية من أجل نسخ ذلك الرسم. هذا وتكون المتطلبات الحوسبية computational demands لهذين النوعين من مهمات المعالجة مختلفة جدا، الأمر الذي يترتب عليه أن تدخل فيه منظومتان عصبيتان مختلفتان.


عندما ننظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فلن نستغرب كثيرا أن يبدو فهم لغة الإشارة وصنعها مهمتين مستقلتين عن القدرات الإبصارية-الحيزية، مثل نسخ أحد الرسوم. ومع أنهما تتضمنان مدخلات inputs إبصارية ومخرجات outputs يدوية، فإن هاتين المهمتين مختلفتان جذريا. ونتيجة لذلك فإننا نتوقع أن تتشاركا في المنظومات الدماغية إلى حد ما في المستويات المحيطية من المعالجة ـ كالقشرة المخية الإبصارية الأولية التي تتلقى الإشارات من العصب البصري ـ ولكننا نتوقع أن تتباعدا في المنظومات الدماغية الأكثر مركزية والأعلى مستوى.


هذا وإن الموقف في اللغة المنطوقة ولغة الإشارة معكوس تماما. فهاتان المنظومتان مختلفتان جذريا في مدخلاتهما ومخرجاتهما، ولكن يبدو أنهما تتضمنان حوسبات لغوية متشابهة جدا. ولذلك فإننا نتوقع أن تتشارك اللغة المنطوقة ولغة الإشارة في قدر كبير من المنطقة العصبية على مستوى المنظومات الدماغية الأكثر مركزية والأعلى مستوى، ولكنهما تتباعدان عند مستويات المعالجة الأكثر محيطية. فعلى سبيل المثال، نجد عند النهاية الحسية sensory end، أن المعالجة المحيطية للكلام تحدث في القشرتين المخيتين السمعيتين لنصفي الكرة المخية، في حين تحدث المعالجة الأولية للإشارات في القشرة المخية الإبصارية. ولكن بعد المراحل الأولى من المعالجة يبدو أن الإشارات تُسيّر نحو منظومات لغوية مركزية ذات تنظيم عصبي مشترك بين كل من المتكلمين ومستخدمي الإشارات.


ويمكن أن تُثبت هذه الاكتشافات فائدتها لأطباء الأمراض العصبية في معالجتهم الصم مستخدمي الإشارات ممن عانوا سكتات دماغية؛ ذلك أن مآل المرض فيما يتعلق باسترداد مستخدمي الإشارات لقدراتهم اللغوية سيكون على الأرجح مشابها لنظيره عند المرضى السامعين ذوي التلف الدماغي ذاته. إضافة إلى ذلك، فإن على جراحي الجهاز العصبي عند استئصالهم الأورام الدماغية عند الصم مستخدمي الإشارات، أن يتخذوا الاحتياطات نفسها التي يتخذونها في حالة المرضى السامعين بهدف تفادي إتلاف المراكز اللغوية.


وسيكون التحدي الرئيسي للبحوث المستقبلية هو أن تحدد لنا أين تتوقف مراحل المعالجة المحيطية وتبدأ المراحل المركزية (أو أن تقرر ما إذا كان هناك مثل هذا الحد الفاصل بين المعالجتين أصلا). وسنكون بحاجة إلى المزيد من الدراسات لفهم طبيعة الحوسبات المنفذة عند المستويات المختلفة للمعالجة اللغوية. وإن التشابهات والتباينات بين اللغة المنطوقة ولغة الإشارة تعد عناصر ملائمة تماما للإجابة عن هذه الأسئلة.




المؤلفون

Gregory Hickok - Ursala Bellugi - Edward S. Klima

عملوا معا في موضوع حبسات لغة الإشارة عقدا من السنين. هيكوك أستاذ مشارك في قسم العلوم المعرفية بجامعة كاليفورنيا، ومدير مختبر الأبحاث المعرفية الدماغية، حيث يقوم بدراسة التشريح الوظيفي للغة. وبيلّوجي مديرة مختبر معهد سولك للعلوم العصبية المعرفية في كاليفورنيا، حيث تُجري بحوثا حول اللغة وأُسسها البيولوجية. وتشترك في الكثير من أبحاثها مع كليما، الأستاذ غير المتفرغ في جامعة كاليفورنيا بسان دييگو، وهو أيضا عالم أبحاث في معهد سولك.




مراجع للاستزادة

The Signs of Language. Edward S. Klima and Ursula Bellugi. Harvard University Press, 1979. Reprinted 1988.

What the Hands Reveal about the Brain. H. Poizner, Edward S. Klima and Ursula Bellugi. MIT Press, 1987. Reprinted by Bradford Books, 1990.

The Neural Organization of Language: Evidence from Sign Language Aphasia. G. Hickok, U. Bellugi and E. S. Klima in Trends in Cognitive Sciences, Vol. 2, No. 4, pages 129-136; April 1998.
The Signs of Aphasia. G. Hickok and U. Bellugi in Handbook of Neuropsychology, Vol. 3. Second edition. Edited R. S. Berndt. Elsevier, 2001.

Scientific American, June 2001



(*) Sign Language in the Brain

(**) The Signs of Language

(***) Where Language Lives

(****) The Building Blocks of Sign Language

(*****) The Story Gets Complicated

(******) Lessons from Sign Language




(1) Pantomime: مسرح يقدم مسرحيات صامتة تعتمد على الحركات والإشارات.

(2) آفة lesion: تخرب موضعي في النُّسج يؤدي إلى تلف وتفرق اتصال في مكونات النسيج مما يؤدي إلى فقدان جزئي أو كلي في وظيفته. (التحرير)

(3) أحد أشكال اضطراب التعبير، يتمثل في استعمال كلمات أو عبارات غير صحيحة أو استعمال كلمات صحيحة في جمل لا معنى لها. (التحرير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق