الأربعاء، 13 فبراير 2013

اعصاب ودماغ

اتجاهات في علم الأعصاب
آلية التفكير
إن الدراسات التي تُجرى على أدمغة القرود، والتي تم إجراؤها
مؤخرا على أدمغة البشر، تكشف عن الأسس (المرتكزات)
العصبية للذاكرة العاملة، وهي واحدة من أهم وظائف العقل.
في مختبر بسرداب مظلم في حرم المعاهد الوطنية للصحة (NIH) بولاية مريلاند الأمريكية، يكسب متطوعون مئة دولار مقابل استلقائهم مدة ساعتين ورؤوسهم داخل ماكينة ضخمة للتصوير بالرنين (التجاوب) المغنطيسي (MRI)، يحدقون في شاشة تنعكس على مرآة. وتعرض الشاشة بشكل دوري صورا بالأسود والأبيض: بعضها وجوه وبعضها الآخر حزم مختلطة من الضوء والظلال. فعندما يظهر وجه على الشاشة يعطي الفرد المفحوص إشارة عن طريق الضغط على أزرار تبين إن كان الوجه جديدا أو أنه الوجه نفسه الذي ظهر قبل ثوان كهدف للتذكر.
وفي مراحل الاختبار تقصف ماكينة التصوير MRI دماغ المتطوع بموجات لاسلكية التردد (راديوية التواتر) radio-frequency تؤدي إلى إثارة ذرات هيدروجين في مجرى الدم، مما يجعل هذه الذرات تبث إشارات ذاتية خاصة بها. ومن ثم تحوّل هذه الماكينة تنافر النغمات cacophony الكهرمغنطيسية إلى خرائط مكوَّدة لونيا، أي ترمز ألوانها إلى مستويات استهلاك الأكسجين في كافة أجزاء دماغ الفرد المفحوص. ولما كان الاستهلاك الزائد للأكسجين ينجم عن نشاط عصبي متعاظم، فإن الباحثين يستطيعون تحليل هذه الخرائط (الصور) الدماغية لمعرفة أي أجزاء الدماغ يعمل بنشاط أكبر حينما يتعرف الشخص وجها من الوجوه.
في دراسة عن نشاط الدماغ يستلقي الشخص المتطوع داخل جهاز للتصوير بالرنين المغنطيسي (MRI) موجود في المعاهد الوطنية للصحة. وفي هذه الصورة تشاهد إحدى المتطوعات ـ عن طريق نظرها إلى مرآة ـ شاشة تعرض دالاّت clues إبصارية منتقاة، عبارة عن وجوه. وعندما تتعرف هذه المتطوعة الدالة التي توافق معايير معينة، تضغط بإصبعها واحدا من زرين اثنين، فيسجل الجهاز MRI أيا من أجزاء دماغها يكون الأكثر نشاطا حينما تقوم بتفحص الدالات ومن ثم تعرّفها.
وبإجراء تجارب من هذا القبيل، بدأ الباحثون يفهمون جيدا السيرورات العصبية التي تشكل الأساس «للذاكرة العاملة» working memory، وهي المخزن المحدود والقصير الأمد للمعلومات الحالية المعنية التي نعتمد عليها عندما نفهم جملةً ما أو نتتبع خطة عمل مقررة من قبل أو نتذكر أحد أرقام الهواتف. فمثلا، عندما نستدعي إلى عقلنا اسم الرئيس الروسي فإن هذه المعلومة يتم نسخها (استحضارها) مؤقتا من الذاكرة الطويلة الأمد (البعيدة) إلى الذاكرة العاملة.
لقد بينت الدراسات النفسية أن الذاكرة العاملة أمر جوهري لقدرة الإنسان على التفكير والإقناع وإصدار الأحكام التي تستند إلى تذكر القرائن في سياق الكلام contextual information. وهناك أسباب إنسانية ملحة لفهم الذاكرة العاملة؛ إذ يُعتقد أن مرض الفصام (انفصام الشخصية) schizophrenia، وهو من أشد الأمراض العقلية تدميرا، ينجم جزئيا عن عيب في منظومة الذاكرة العاملة هذه. وتقول <P. گولدمان-راكيك> (من جامعة ييل، وهي إحدى أبرز الباحثين في الذاكرة العاملة) إن دراسات الأساس الجزيئي لهذه الذاكرة «تتضمن ما يساعد على المعالجة الدوائية للمرض العقلي.»
وقد بدأ جهد بحثي مكثف بتقديم معلومات مفصلة عن باحات areas الدماغ المسؤولة وهي منهمكة في تأدية هذه الوظيفة الذهنية الحيوية، كما ألقى الضوء على أنماط النشاط العصبي الذي يجعلها تعمل. ويزداد يوما بعد يوم وضوح الدور المهم للكيماويات الدماغية النوعية في الذاكرة العاملة. ولكن مع كل هذا التقدم، مازال على الباحثين أن يتفقوا على طريقة التحكم في الذاكرة العاملة وعلى تعضيتها organization، أي ترتيبها وتنظيمها وفهم طريقة عملها بدقة وبالتفصيل.
من الإلكترودات إلى التصوير MRI السريع
يتضمن الطراز الأولي لاختبار الذاكرة العاملة ما يدعى الانتقاء المتأخر delayed choice، إذ يعطي الحيوان أو الشخص المفحوص إشارة عندما يرى دالة cue نوعية ما موجودة في مكان كانت قد وضعت فيه قبل فترة محددة من الانتظار. وهكذا، يُترك لأحد القرود إمكانية الانتقاء بين جرّتين في موقعين مختلفين ويكافأ عند إشارته إلى الجرة التي رأى فيها الطعام سابقا.
لا تقدم هذه المهمة أي مفتاح للاستجابة الصحيحة وقت الاختبار، ولذا يجب أن يعتمد القرد على تذكُّره للمكان الصحيح. وهناك اختبار مقارب يُكافأ فيه الحيوان على تذكره ولو حتى لصورة واحدة من الصور التي عُرضت عليه في البداية كهدف. ويُعتبر ما شارك فيه متطوعو المعاهد NIH، الذين كانوا يتذكرون الوجوه، ضربا من هذا الاختبار.
وإلى حد كبير، عززت النجاحات التقانية مقدرة الباحثين على سبر الأسس (المرتكزات) العصبية لمثل هذه القدرات العقلية. فمنذ نحو أربعين عاما، بدأ الباحثون بدراسة نشاط المخ في الذاكرة العاملة، وذلك عن طريق غرز إلكترودات (أقطاب كهربية) داخل عصبونات محددة في أدمغة القرود. ولكن لهذه الطريقة محدوديتها. فمع أن أدمغة القردة تتشابه تشريحيا بشكل واضح مع أدمغة البشر، فإن سلوك الحيوانات أبسط بكثير، الأمر الذي يجعل المقارنات المفصلة مع تفكير الإنسان مشكوكا فيها. ولأن الحيوانات تفتقر إلى اللغة فإنه يجب تدريبها بصبر على مدى أسابيع حتى تتقن المهام التي يستطيع الإنسان تعرُّفها في دقيقة واحدة.
عند البشر والقردة تتمتع القشرة المخية قبل الجبهية بحيوية لتأمين الاختزان المؤقت للمعلومات الذي يُعرف بالذاكرة العاملة، وتقوم مهمات مختلفة باستثارة مناطق فرعية داخل القشرة المخية قبل الجبهية، وإن كانت تفاصيل ذلك مازالت موضع جدل وخلاف.
ويُعتبر استخدام تقنيات التسجيل بالإلكترودات لدى البشر غير مقبولة أخلاقيا. ولذا يحاول الباحثون أن يتعرّفوا وظائف أجزاء الدماغ البشري عن طريق دراسة نتائج التلف الذي تسببه الإصابات أو الأمراض أو الجراحات العلاجية. ومع ذلك، فللمرضى تواريخ طبية مختلفة، كما تتباين الأشكال الدقيقة لأدمغتهم؛ وبذلك يكون تفسير هذه البيانات السريرية مضلِّلا في أحسن الأحوال.
وفي وقت مبكر من هذا العقد، حقق التصوير الطبقي (المقطعي) بالبث الپوزيتروني positron emission tomography (أو ما يرمز له اختصارا بالتفرس بوساطة التصوير PET) خطوات هائلة بإظهاره أيَّ أجزاءِ الدماغ البشري تكون الأكثر انشغالا أثناء أداء المهمات المختلفة (مثل سماع الكلمات أو التكلم). ولكن التصوير PET يتطلب تعريضَ المفحوصين لواسمات (عناصر استشفافية) tracers ذات نشاط إشعاعي يمكّن من تتبعها. ولحفظ جرعات الإشعاع ضمن الحدود المقبولة يضطر الباحثون إلى استخدام تقنيات لا تقوى على مَيْز resolve الباحات الدماغية إلا إلى أجزاء يفصل بين كل منها نحو سنتيمتر واحد. ويضاف إلى ذلك أن الصور المأخوذة بوساطة التقنية PET أثناء اختبار الانتقاء المتأخر تكون بطيئة لدرجة لا تميز بين نمط النشاط العصبي لهدفٍ ما منطبعٍ في العقل والنمط الذي يتبعه بعد ثوان حينما يتم تعرّف الهدف.
أما التقنية الجديدة المستخدمة في المعاهد NIH وأمكنة أخرى غيرها والتي تدعى التصوير الوظيفي بالرنين المغنطيسي functional MRIفيمكنها مَيْز مكان العصبونات الناشطة بحدود نحو ملّيمترين فيما بينها، وتتصف بسرعة تكفي لدراسة النشاط قبل تعرّف الدماغ إحدى الدالات (الدلالات) على الشاشة وبعد التعرف. وقد أصبحت هذه التقنية السريعة التطور سيِّدة فنّ التصوير الوظيفي للدماغ طوال العامين الماضيين.
أحجية القرد
ولكن مازالت التجارب التي تستخدم الإلكترودات المغروسة في أدمغة القرود تقدم معلومات جوهرية، لأنها تكشف بتفصيل دقيق ما يحدث أثناء استجابة الرئيسات primates للدالات والمكافآت، في جدول يحسب الزمن بالملّي ثانية (أي بأجزاء من ألف من الثانية). فعندما تشغّل الحيوانات الذاكرة العاملة، يمكن أن يكون لعدة مناطق دماغية دور في ذلك. ولكن حسبما أظهر <J. فوستر> (من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في السبعينات من هذا القرن) فهناك باحة واحدة تكون مشتركة على الدوام وهي القشرة المخية قبل الجبهية prefrontal cortex.
إن القشرة المخية قبل الجبهية طبقة نسيجية تقع خلف الجبهة مباشرة. وبسبب اتصالاتها العصبية تقريبا مع جميع باحات الدماغ التي تعالج المعلومات الحسية، فإنها تقع في مكان مناسب يسمح بالاحتفاظ بمخزونٍ مرن (قابل للزيادة) من المعلومات اللازمة لأية مهمة على وشك الحدوث. كما أنها ذلك الجزء من الدماغ الذي نما أكثر ما يكون لدى البشر مقارنة بنظيره لدى القردة. فالقردة التي تفتقد بعض أجزاء قشرتها المخية قبل الجبهية تحتفظ بذاكرتها الطويلة الأمد long-term memory، ولكنها تتعثّر بشكل تعيس في اختبارات الانتقاء المتأخر. ويعاني البشر المصابون بمثل هذه الحالة انخفاضا في سعة الانتباه وفي القدرة على التخطيط.
لقد أجرى فوستر مع كل من <K. كوبوتا> و <H. نيكي> (من مركز الرئيسات في كيوتو) تسجيلات كهربائية مستقاة من تشكيلة من العصبونات في القشرة المخية قبل الجبهية للقرد، بما في ذلك بعض العصبونات التي لم تَنْشط بوضوح إلا حينما كانت الحيوانات تستحوذ على المعلومات في الذاكرة العاملة. وفيما بعد، سبرت الباحثة گولدمان-راكيك وزملاؤها الذاكرة العاملة في القردة باختبارات أكثر تطورا، فبينوا أن النشاط العصبي قبل الجبهي أثناء اختبار الانتقاء المتأخر يتطابق في الحقيقة تماما مع أداء الذاكرة العاملة.
وقد تابعت گولدمان-راكيك ومساعدها <G. ويليامز> مشوار التحليل حتى المستوى التَّحْتخلوي subcellular، وبيّنا أن مستقبلات الناقل العصبي «دوپامين» dopamine يؤثر بشكل حيوي في استجابة الخلايا الموجودة في القشرة المخية قبل الجبهية وفي وظائفها بالذاكرة العاملة. وتدوِّن گولدمان-راكيك ذلك قائلة: «لا يوجد أي مثال آخر أعرفه» لبحث يجتاز الهوة (ويشير إلى العلاقة) بين السلوك والوظيفة التحتخلوية. وقد أظهرت هذه الباحثة مع زملائها مؤخرا أن إعطاء القردة الأدوية المضادة للفصام مدة ستة أشهر تُحدث تغييرات نوعية في أعداد نوعيْن مختلفين من مستقبلات الدوپامين في تلك المنطقة، الأمر الذي يُعتبر دليلا إضافيا على أن الفصام ـ أو معالجته ـ يغير الوظيفة السوية هناك.
هذا وإن بحثا أجراه علماء آخرون يدعم الرأي القائل بأن القشرة المخية قبل الجبهية تستطيع تقوية الذاكرة العاملة. وقد كشف <R. ديسيمون> من المعهد الوطني للصحة العقلية (NIMH) ومعه <E. ميلّر> و <C. إريكسون> وآخرون، عصبونات موجودة في القشرة المخية قبل الجبهية للقرد تضطرم fire بمعدلات مختلفة أثناء اختبار الانتقاء المتأخر. وتعتمد هذه المعدلات على الهدف الذي رآه الحيوان سابقا. أما العصبونات الموجودة في الأقسام الأخرى من الدماغ فإنها على العموم «تنسى» الهدف حينما يظهر منبه مشتِّت، إذ يتغير معدل اضطرامها. وعلى النقيض من ذلك، تحافظ العصبونات قبل الجبهية التي اكتشفها ديسيمون وزملاؤه على معدل نشاطها أثناء اختبار الانتقاء المتأخر، وحتى بعد تعرض الحيوان لمنبهات مشتِّتة غير ذات صلة.
يُظهر التصوير بالرنين المغنطيسي أن الباحات (الأجزاء) [4، 5، 6] من القشرة المخية قبل الجبهية تنشط حينما يتم تذكر وجهٍ ما، في حين تستجيب باحات أخرى [1، 2، 3] للوجوه والنماذج المرئية.
وهكذا يظهر أن النشاط في بعض العصبونات قبل الجبهية يجسد بشكل مباشر الذاكرة العاملة المؤقتة لهيئة (مظهر) الهدف الذي ينشده الحيوان. وقد وجد باحثون آخرون عصبونات قبل جبهية يبدو أنها تحفظ المواقع في الذاكرة العاملة؛ إذ عثر <G. دي پليگرينو> (من جامعة بولونيا) و <S. وايز> (من المعهد الوطني للصحة العقلية) على عصبونات قبل جبهية تكون الأكثر انشغالا عندما يضطر الحيوان إلى أن يتذكر المكان الذي شاهد فيه دالّةً ما. وتُخْفِق المنبهات في استثارة الفعالية نفسها ما لم تقع هذه المنبهات في المكان الذي شوهدت فيه من قبل، وبذا يشكل الهدف المنشود لذلك الاختبار.
وعليه، تستطيع عصبونات موجودة في القشرة المخية قبل الجبهية أن تتحكم بوضوح في طريقة استجابة الحيوانات خلال اختبار الانتقاء المتأخر. ويقول فوستر (الذي يعد أحد الرواد في هذا المجال) إن «القشرة المخية قبل الجبهية تقوم بالوظيفة المهيمنة على الترتيب الزمني للسلوك»، وذلك عن طريق إبقاء الشبكات التي تحفظ المعلومات المهمة الحالية في حالة فاعلة. ويمكن لعصبونات القشرة المخية قبل الجبهية أن تمارس تأثيرها أيضا بِطُرقٍ أكثر حِذْقا وبراعة.
يعتقد ديسيمون أن القشرة المخية قبل الجبهية يمكنها، إلى جانب تحكمها بشكل مباشر في الاستجابات في اختبارات الانتقاء المتأخر، أن توالف (تناغم) tune الجهاز الإبصاري (وربما أجهزة إدراكية أخرى) لتتلاءم مع المهمة التي توشك أن تقوم بها. ويوحي ديسيمون «أن ما يتم تحميله في الذاكرة العاملة يذهب ثانية إلى المعالجة الحسية.» وقد أظهرت مئات التجارب على كل من الحيوانات والناس أن الكائنات الحية يزيد احتمال إدراكها وارتكاسها (استجابتها) للدالات التي ترتبط بحاجاتها الحالية على إدراكها وارتكاسها للمنبهات غير ذات الصلة. ويفسر هذا الأثر سببَ ميلنا إلى الانتباه للرائحة المنبعثة من شواء grill في الجوار مثلا أثناء جوعنا أكثر منه بعد الأكل. فإذا كان ديسيمون على حق، تكون القشرة المخية قبل الجبهية مسؤولة عن تركيز انتباه الحيوان، وربما تقوم بتوجيه إدراكه awareness.
يَنْشُطُ جانبا القشرةِ المخية قبل الجبهية بشكل واضح (في الأعلى) حينما يؤدي المفحوصون المتطوعون اختبارات تحليلية صعبة (الصورة اليسرى). أما أثناء التفكير المعتدل فإن النشاط ينخفض ويتركز في الجانب الأيمن (الصورة اليمنى).
وتؤيد الدراسات بالتصوير PET والتصوير MRI الأدلةَ المستقاة من أذيات الدماغ بأن القشرة المخية قبل الجبهية لدى الإنسان، شأنها شأن ما يقابلها لدى القرود، ذات أهمية مركزية للذاكرة العاملة. وقد صوَّرت عدة مجموعات بحثية في هذه الأيام النشاطَ الذي يحدث في القشرة المخية قبل الجبهية حينما يتذكر الناس الأشياء من لحظة إلى أخرى. وقد تتطلب مهمات مختلفة مناطق دماغية أخرى قريبة من مؤخَّر الرأس، ولكن القشرة قبل الجبهية لدى الرئيسات عموما تبدو دائما مشغولة حينما يُحتَفظ بالمعلومة المستهدفة «في العقل» in mind.
البلاء في التفاصيل
وبعد أن بيَّن الباحثون أن القشرة المخية قبل الجبهية ذات أهمية حاسمة للذاكرة العاملة، أرادوا منطقيا أن يفهموا بنيتها الداخلية. وقد وجدت گولدمان-راكيك ومساعدوها (في ييل) دليلا على أن النشاط قبل الجبهي يقتصر على منطقة فرعية نوعية، حينما يتذكر الحيوان معلومة عن الموضع الحيزي (المكاني) لشيء ما. وهناك باحة منفصلة تحتها تكون الأكثر نشاطا حينما يتذكر الحيوان هيئة الشيء. وقد قادت هذه المكتشفات، إلى جانب ملاحظات عن تشريح المسالك العصبية، إلى أن تقترح گولدمان-راكيك أن القشرة المخية قبل الجبهية تتعضى (تنتظم) على هيئة مناطق تَختزن بشكل مؤقت معلومات عن القطاعات الحسية المختلفة: حيث تتخصص منطقة لقطاع الدالات الحيزية وأخرى لقطاع الدالات الخاصة بهيئة الشيء وربما مناطق غيرهما لأنماطٍ مختلفة من الدالات.
وعلاوة على ذلك، توجد بعض الإشارات إلى أن القشرة المخية قبل الجبهية يمكن أن تترتب في خطوط قطاعية نوعية domain specific lines مشابهة. وقد ذكرت <S. كورتني> و <L. أونگرلايدر> وزملاؤهما ـ في دراسة نشروها في العام 1996 واستخدموا فيها التصوير PET في المعهد الوطني للصحة العقلية ـ أنه توجد لدى البشر، مثلما توجد لدى القردة التي درستها گولدمان-راكيك، باحات دماغية معينة تنشط بشكل خاص أثناء التمارين التي تطالب الذاكرة العاملة بالتفاصيل الإبصارية والمواقع الحيزية للأشياء. وعلاوة على ذلك، تقع أكثر المناطق الدماغية نشاطا في أمكنة متشابهة نسبيا لدى كلا النوعين (البشر والقردة).
ويعارض اقتراحُ گولدمان-راكيك حول تعضية organization القشرة المخية قبل الجبهية الفكرةَ المعيارية للمكوِّنات المختلفة للذاكرة العاملة. ففي عام 1974، اقترح عالم النفس البريطاني <A. بادلي> اتصاف الذاكرة العاملة ببنية ذات مراتب (تسلسل) هرمية hierarchical فيها جهاز تنفيذي executive system في القشرة المخية قبل الجبهية يحدد أمكنة المعالجة، فيخصص توابع (مُخدمات) موالية لتتولى المعلومات اللفظية والحيزية. وافتُرض أن تكون توابع الذاكرة خلف القشرة قبل الجبهية مباشرة، ولكن گولدمان-راكيك لا تقتنع أصلا بأن سيرورات الدماغ التنفيذية مقصورة على موقعٍ خاص. وعلاوة على ذلك فإن الذاكرات memories المرتبة في قطاعات حسب النموذج التقليدي تقع في جهةٍ ما خلف القشرة قبل الجبهية وليس ضمنها.
وفي هذه الأيام، تقدم كفاءة التصوير الفائق السرعة بالتقنية MRI العونَ في حل هذه المسألة؛ إذ إن دراسة أجرتها كورتني وأونگرلايدر وزملاؤهما ونشرت في الشهر 4/1997 في مجلة الطبيعة Nature، تعيّن ذلك الجزءَ من الدماغ الذي يكون الأكثرَ حيوية حينما تحتفظ الذاكرة العاملة بصورة لوجهٍ ما. وفي عدة دراسات مختلفة، تم اعتبار تلك المنطقة المتمثلة في الجزء المتوسط من القشرة المخية قبل الجبهية الموقعَ الأساسي للذاكرة العاملة.
ومع ذلك، يشير أونگرلايدر إلى أن اختبار تعرّف الوجه الذي استخدمته كورتني وزملاؤها لا يتضمن أية وظائف تنفيذية واضحة. وعليه فإن ما توصلوا إليه يناقض الرأي القائل بأن الوظائف التنفيذية وحدها تستقر داخل القشرة المخية قبل الجبهية، ولكنه يتوافق مع مخطط گولدمان-راكيك. وعلى نحو مشابه، عثر <J. كوهن> (من جامعة كارنيگي ميلّون) ومعاونوه على منطقة من القشرة قبل الجبهية تطابق جزئيا المنطقة التي حددتها كورتني وتَنْشُط أثناء تذكر المفحوصين حروفا يرونها بالتتالي. وكلما ازداد المطلوب تذكُّره من المفحوصين في تجربة كوهن، ازداد نشاط مناطقهم قبل الجبهية. وبذلك توحي نتائج كوهن أيضا أن الذاكرات العاملة يتم فعلا اختزانها جزئيا في القشرة المخية قبل الجبهية. ويقول وايز إن التعضي القطاعي النوعي domain-specific organization للقشرة المخية قبل الجبهية هو الفكرة الغالبة.
ولكن وايز نفسُه لا يُقِرُّ بوجهة النظر السائدة هذه. فهو على سبيل المثال يشير إلى دراسة وردت في مجلة العلم Science في الشهر 5/1997 أجراها ميلّر ورفاقه في معهد ماساتشوستس للتقانة، حيث سجل الباحثون من عصبوناتٍ في القشرة المخية قبل الجبهية للقردة أثناء حلها اختبارات متأخرة الانتقاء تطلّبت تذكّر معلومات عن كل من الهيئة والمواقع الحيزية للأشياء. فوجد ميلّر أن أكثر من نصف العصبونات التي سَجَّل نشاطها كان حساسا لكلتا الخاصيتين، وهي نتيجة لا تُتوقَّع لو كان التعضي القطاعي النوعي هو السائد. ويقول ميلّر: «إنها، أي النتيجة، تعارض وجهة نظر گولدمان-راكيك القائلة بأن الهيئة والموقع تتم معالجتهما في جزأين مختلفين من القشرة المخية قبل الجبهية».
وتجيب گولدمان-راكيك بأنها وزملاءها قد وجدوا مؤخرا مئات الخلايا في جزء من القشرة قبل الجبهية تستجيب بشكل انتقائي ـ حتى في الحيوانات غير المدرَّبة ـ للأشياء أو الوجوه؛ وتجزم بوجود أدلة أخرى على أن المعلومات يتم تنظيمها في تلك الباحة جزئيا بوساطة القطاع الحسي sensory domain. تقول: «إننا نشعر فعلا بتعاظم الأدلة على أن وظائف العصبونات في القشرة المخية قبل الجبهية تمليها إلى حد كبير المُدْخَلات inputs الحسية للعصبونات». وعلاوة على ذلك، تعتقد گولدمان-راكيك أن المشكلات التقنية تُلقي ظلال الشك على تجربة ميلّر. وترى أن الأهداف التي استخدمها كانت قريبة جدا من مركز الحقل الإبصاري الذي يمكن أن يولِّد اضطرامات (استثارات) زائفة.
الاحتفاظ بضبط النفس
لقد قدّم <M. پترايدس>، (من جامعة ماك گيل) وهو شخصية قيادية أخرى في هذا الميدان، تحدِّيا مختلفا لوجهة النظر المعيارية هذه؛ إذ تشير دراساته إلى مستويين مستقلين للمعالجة processing كلاهما يقعان داخل القشرة المخية قبل الجبهية ويتمايزان حسب رأيه في التجريد abstractness الذي يمارسانه في المعالجة وليس في كونهما يحفظان المعلومات المتعلقة بالمواقع والأشياء حسب رأي گولدمان-راكيك. فالمستوى الأدنى مرتبة في التسلسل ـ وهو الأخفض طبيعيا في الدماغ من حيث الموقع والإدراك ـ يسترجع البيانات من مخزن الذاكرة الطويلة الأمد الكائن في مكان آخر. أما المستوى الأعلى (الأرقى)، وهو جانبي ظهري dorsolateral، فإنه على عكس سابقه يراقب سيرورات الدماغ ويمكّنه من متابعة تسلسل الأحداث العديدة. ويتم استدعاء هذا المستوى المراقب الأعلى حينما يُطلب إلى المفحوصين على سبيل المثال أن ينطقوا قائمة عشوائية لكل رقم من 1 إلى 10 من دون تكرار: وهنا يكون على المفحوص أن يتذكر كل رقم سبق انتقاؤه.
تبدي مناطق الدماغ نشاطا أكبر حينما يكون على المفحوصين أن يتذكروا المزيد من الحروف في اختبار الذاكرة. وتقع إحدى هذه المناطق (الأقرب إلى الناظر) في القشرة المخية قبل الجبهية اليمنى.
يرى پترايدس أن البشر والقردة المصابين بآفات في الجزء الجانبي الظهري من القشرة المخية قبل الجبهية تتعطل قدراتهم على ضبط سيروراتهم العقلية الذاتية؛ إذ يصبح أداؤهم سيئا في الاختبارات الخاصة التي ابتكرها والتي تتطلب من المفحوصين أن يتذكروا استجاباتهم السابقة خلال الاختبار. ويذكر پترايدس كذلك دراسات باستخدام التصوير PET على البشر الأصحاء وجدتْ نشاطا زائدا في المنطقة نفسها حينما أدى المفحوصون الاختبارات التي استخدمها. وتكون النتيجة هي نفسها سواء أتضمنت الاختبارات دالات حيزية أم لم تتضمن. ويقول: «يبدو أن المادة ليست ذات شأن، بل إن السيرورة هي الأمر الحاسم.»
لقد وجد باحثون آخرون أدلة تؤيد فكرة اعتبار الأجزاء العليا من القشرة المخية قبل الجبهية مفتاحا للضبط الذاتي self monitoring. ففي تجربة أجراها <M. دسپوزيتو> ومساعدوه (في جامعة پنسلڤانيا)، أنجز متطوعون اختبارا أو اختبارين اثنين لا يتطلب الواحد منهما منفردا الذاكرة العاملة. فقد تطلّب أحد الاختبارين أن يقول المفحوصون أي الكلمات في قائمة أثناء تلاوتها جهارا كانت أسماء خضراوات، في حين تطلّب الاختبار الآخر أن يضاهي المفحوصون أداء هيئة شكل هندسي يرونه بأوضاع مختلفة. وقد بيّن التصوير MRI أن القشرة المخية قبل الجبهية لم تنشط إلا حينما حاول المفحوصون أداء كلا الاختبارين في وقت واحد. هذا وقد عرض دسپوزيتو في اجتماع جمعية علم الأعصاب المعرفي cognitive neuroscience في الشهر 4/1997، تحليلا أعلى (أبعد) meta لخمس وعشرين دراسة مختلفة استخدمتْ التصوير العصبي. وقد أيد ذلك التحليل فكرة پترايدس العامة بأن المهمات التي تتضمن مزيدا من الحساب تستخدم مناطق عليا من القشرة المخية قبل الجبهية. ويقول دسپوزيتو: «لقد كان مدهشا أن نتوصل إلى ذلك».
وكذلك أكد تحليل دسپوزيتو إشارات سابقة بأن البشر يتمثلون (يحفظون) أنماطا مختلفة من المعلومات في أنصاف مختلفة من الدماغ بتفاوت أكبر كثيرا مما تفعله القردة. ولكن التحليل الأعلى هذا لم يكتشف التميز إلى علوي وسفلي بين الذاكرة العاملة لصفات الأشياء وأمكنتها، كما تعتقد گولدمان-راكيك.
لقد اتضح عدم تناظر نصفي الكرة المخية عند البشر لباحثين آخرين كذلك. فقد استخدم <J. گابرييلي> وزملاؤه (في جامعة ستانفورد) التصوير MRI في دراسة أدمغة متطوعين كانوا يحلّون أحجيات مصوَّرة مثل تلك التي غالبا ما نجدها في اختبارات الذكاء. وكانت الأحجيات من أنماط ثلاثة: مجموعة سهلة جدا تتطلب من المفحوص مجرد انتقاء رمز مطابق لعيّنة. والمجموعة الثانية كانت أصعب قليلا من سابقتها، إذ كان على الناس أن ينتقوا شكلا فيه مجموعة ملامح مركبة ليست موجودة في سلسلة أشكال العيِّنة. في حين احتوت المجموعة الثالثة على مشكلات معقدة تتطلب تفكيرا تحليليا.
تلقي دراسة گابرييلي بعض الضوء على الجدل حول تعضية القشرة المخية قبل الجبهية. فحينما تأمّل المتطوعون الصنف المتوسط (البيني) من المهمات التي كانت تشبه إلى حد كبير اختبارات الباحثين الآخرين عند دراسة الذاكرة العاملة، نشط بشكل واضح الجانب الأيمن من الجزء العلوي للقشرة المخية قبل الجبهية. وأكثر من ذلك، كان النشاط في الباحات areas التي وجد الباحثون الآخرون أنها تُستخدم لدى اختزان دالاّت عن الموقع الحيزي. وتتوافق هذه النتيجة مع فكرة گولدمان-راكيك بأن الذاكرة العاملة المتعلقة بالموقع الحيّزي يتم اختزانها في المناطق العليا للقشرة المخية قبل الجبهية، لأن هذه المهمات المتوسطة كانت تتطلب جميعها أن يشاهد المفحوصون الملامح (المعالم) في مواقع مختلفة.
ولكن عندما عمل المتطوعون في تجربة گابرييلي على المسائل الصعبة، غدت القشرات المخية قبل الجبهية للمفحوصين نشطة في الجانبين، بل حتى أكثر نشاطا في الجانب الأيسر. وقد ولَّدت الصعوبة المضافة نموذجا من التنشيط يشبه ذاك الذي وجده پترايدس في اختباراته عن الضبط الذاتي.
وهكذا تُقدِّم بيانات گابرييلي بعض الدعم لنظرية پترايدس عن المستوى التنفيذي الأعلى في القشرة المخية قبل الجبهية وكذلك لوجهة نظر گولدمان-راكيك بوجود مناطق قطاعية نوعية في هذه القشرة. يقول گابرييلي: «توجد حتما أمكنة قطاعية نوعية». ويتابع قائلا: «وهناك أمكنة أخرى تعلوها». وبعبارة أخرى، يمكن أن يكون كل من طرفي الحوار في مسألة الترتيب القطاعي النوعي للقشرة المخية قبل الجبهية على حق. ومع ذلك، فقد ذكر<M. راشورث> وزملاؤه (من جامعة أكسفورد) في عدد الشهر 5/1997من مجلة العلوم العصبية Neurosciences أن القردة المصابة بآفات كبيرة في قشرتها المخية قبل الجبهية السفلية تبقى قادرة على الأداء الجيد في اختبارات الانتقاء المتأخر. ويلقي هذا الاكتشاف شكا جديدا على النظرية القائلة بأن الذاكرة العاملة للأشياء تقبع هناك، ويبدو أنه يساند پترايدس.
قد تمضي أعوام قبل الإجابة عن التساؤلات المُعَلَّقة بالنسبة للقشرة المخية قبل الجبهية وفهم عملية القيام بالوظائف التنفيذية للدماغ على نحو يرضي جميع الأطراف. تقول گولدمان-راكيك متأملة: «كلما وضعتَ نظرية هاجمها الناس.» و«الجميع يسهمون في هذا الميدان». وتتضح تدريجيا وببطء طريقة عمل جهاز صنع القرار الدماغي. وأخيرا تشير گولدمان-راكيك «إننا نقترب من النقطة التي نستطيع عندها أن نفهم الأساس الخلوي للمعرفة (الإدراك) cognition

مراجع للاستزادة
COGNITIVE NEUROSCIENCE. Special section in Science, Vol. 275, pages 1580-1610; March 15, 1997.
DOWN-REGULATION OF THE D1 AND D5 DOPAMINE RECEPTORS IN THE PRIMATE PREFRONTAL CORTEX BY CHRONIC TREATMENT WITH ANTIPSYCHOTIC DRUGS. Michael S. Lidow, John D. Elsworth and Patricia S. Goldman-Rakic in Journal of Pharmacology and Experimental Therapeutics, Vol. 281, No. 1, pages 597-603; April 1997.
TEMPORAL DYNAMICS OF BRAIN ACTIVATION DURING A WORKING MEMORY TASK. J. D. Cohen, W. M. Perlstein, T. S. Braver, L. E. Nystrom, D. C. Noll, J. Jonides and E. E. Smith in Nature, Vol. 386, pages 604-608; April 10, 1997.
TRANSIENT AND SUSTAINED ACTIVITY IN A DISTRIBUTED NEURAL SYSTEM FOR HUMAN WORKING MEMORY. S. M. Courtney, L. G. Ungerleider, K. Keil and James V. Haxby, ibid, pages 608-611.
INTEGRATION OF WHAT AND WHERE IN THE PRIMATE PREFRONTAL CORTEX. S. Chenchal Rao, Gregor Rainer and Earl K. Miller in Science, Vol. 276, pages 821-824; May 2, 1997.
Scientific American, August 1997

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق