كتبهابلال عبد الهادي ، في 5 أيار 2012 الساعة: 06:00 ص
بسم الله الرحمن الرحيم.
مقدمة
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
الحمد لله الذي دلّ على معرفته بإتقان صنعته، وبديع لطائف حكمته، وبما أودعه نفوس المميزين من أعلام ربوبيته، واستحق على كل مكلف الخنوع لعظمته، والخشوع لعزته، والشكر والإشادة بما أسبغ من نعمته، ونشر من رحمته، وجعل قلوب أوليائه تسرح في ميادين محاسن ما ابتدعه، وعقولهم ترتاح لما من عليهم من استنباط المعرفة بما اخترعه، فأغناهم بالتنعم بما بسط لهم من المباحات، عما زجرهم عنه من المحظورات، فصار ما تدركه العقول من لطيف ما أنشأه، وشريف الغرض فيما ابتدأه، وغريب أفعاله في تدبير عباده، وتصريفهم، وتقدير منافعهم ومصالحهم، أقواتاً لها تربى على أقوات أجسادها التي هي أوعية تشتمل عليها، وأشهد أن لا إله إلا الله، وليّ النعم كلها دون من سواه، وأنه لا فلاح إلا لمن هداه، ولا صلاح إلا لمن عصمه من إتباع هواه، وأن محمداً عبده الذي ارتضاه، ونبيه الذي اختاره واجتباه، ورسوله الذي ائتمنه واصطفاه، ورفعه وأعلاه، وخصه بختم النبوة وحباه، وأبانه بأعلى منازل الفضل على كل آدمي عداه، ونسأله أن يصلي عليه وعلى آله ويسلم أزكى تسلم وصلاة، ويكرمه أتم تكريم وأنباه، ويجعلنا من الآوين إلى ظله وذراه، والداعين إلى نوره وهداه، ويعصمنا من الخروج عن طاعته، والولوج في معصيته، ويوفقنا لإيثار عبادته، ومجانبة عصيانه ومخالفته، وهو لي الإنعام بذلك، والتيسير له، والمعونة عليه من رحمته.أما بعد، فإنني منذ مدة مضت، وسنةَ خلت، فكرت في أشياء من عجائب خلق الله وحكمه، وأياديه ونعمه، ومثلاته ونقمه، وقد اكتنفتني هموم وأحزان، ولوعات وأشجان، وفنون شتى من حوادث الزمان، وما قد فشا في الناس من التظالم التحاسد، والتقاطع والتباعد، وأن ما هو أولى بهم من الأنس للمجانسة، قد فارقوه إلى الاستيحاش للمنافسة، وحصلت على الاستئناس بالوحدة والخلوة، ثم تطلعت إلى جليس طمعاً في أنس وسلوة، فأعوزني ذو لب عاقل، واتفق لي كل غبي جاهل، فلاح لي أن أنشئ كتاباً أضمنه أنواعاً من الجد الذي يستفاد ويعتمد عليه، ومن الهزل في أثنائه ما يسر استماعه ويستراح إليه، فإن اختلاف الأنواع يسهل النظر فيها، وينشط الوقوف عليها، ويوفر الاستمتاع بها، وأن أضمنه علوماً غزيرة وآداباً كثيرة، وأجعله مجالس موزعة على الأيام والليالي، ولم اشترط فيها مبلغاً من العدد محصوراً ولا قدراً من المجالس محظوراً، ثم إن طوارق الزمان وموانعه، وأحداثه وفجائعه، وعوائقه وقواطعه، وأهواله وفظائعه، حالت بين وبين ما آثرته، ونفسي على هذه متعلقة به، ومؤثرة له ومنازعة إليه، إلى حيث انتهينا، ثم إنني حملت نفسي في هذا الوقت على الشروع فيه، الاشتغال به، وسهل الأمر علي فيه أن بعض أصحابنا يكتبه عني إملاء في الوقت بعد الوقت.
وقد صنف في نحو هذا الكتاب جماعة من أهل العلم والأدب كتباً على أنحاء مختلفة، فمنهم من جعل جملة كتابه جامعة لكتب مكتتبة، ومنهم من جعله أبواباً مبوبة، وأفرد أبوابه بفصول مميزة، ومعان خاصة غير ممتزجة، وسمى بعض هؤلاء ما ألفه الجواهر وبعضهم زاد المسافر وبعضهم الزهرة وبعضهم أنس الوحدة، في أشباه لهذه السمات عدة، وعمل أبو العباس محمد بن يزيد النحوي كتابه الذي سماه الكامل، وضمنه أخباراً وقصصاً لا إسناد لكثير منها، وأودعه من اشتقاق اللغة وشرحها وبيان أسرارها وفقهها ما يأتي مثله به لسعة علمه وقوة فهمه، ولطيف فكرته، وصفاء قريحته، ومن جلي النحو والإعراب وغامضها ما يقل وجود من يسد فيه مسده، إلا أن كتابه هذا مقصر عما وسمه به، واختاره من ترجمته، وغير لائق به ما آثره من تسميته، فحطه بهذا عن منزلة - لولا ما صنعه - كانت حاصلة له، فسبحان الله ما أبين انتفاء هذا الكتاب عن نسبه، وأشد منافاته للقبه! وأنشأ الصولي كتاباً سماها الأنواع مبوباً أبواباً شتى غير مستوفاة، وأتى فيه بأشياء مستحسنة على ما ضم إليه من أمور مستهجنة، وصنف أيضاً كتاباً كأبي قماش سماه النوادر، وهجاه بعض الشعراء بما كرهت حكايته، وإن كان حين وقف عليه فيما بلغني استغرب ضحكاً، غير أن الجميل أجمل، والتسلم من أعراض الناس أمثل، وصنف قوماً كتباً في هذا الباب تشتمل على فقر من الآداب والفوائد منثورة غير مبوبة، ومخلوطة غير مقيدة، بفصول متميزة ولا أبواب متحيزة.
وقد سميت كتابي الجليس الصالح الكافي، والأنيس الناصح الشافي وأودعته كثيراً من فنون العلوم والآداب، على غير حصر بفصول وأبواب، وضمنته كثيراً من محاسن الكلام وجواهره، وملحه ونوادره، وذكرت فيه أصولاً من العلم أتبعتها شرح ما يتشعب منها، ويتصل بها بحسب ما يحضر في الحال، مما يؤمن معه الملال، ومن وقف على ما أتيت به من هذا، علم أن كتابنا أحق بأن يوصف بالكمال والاستيفاء، والتمام والاستقصاء، وصدق وسمه بالجليس والأنيس، فإن الكتاب إذا حوى ما وصفناه من الحكمة وأنواع الفائدة، كان لمقتنيه والناظر فيه بمنزلة جليس كامل وأنيس فاضل، وصاحب أمين عاقل، وقد قيل في الكتاب ما معناه أنه حاضر نفعه، مأمون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إليك، ويمل بملالك فينفض عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شراً، ولا يفشي عليك سراً، ولا ينم عليك، ولا يسعى بنميمة إليك، ولذلك قال بعضهم:
نعم الصاحب والجليس كتاب | تهلو به إن خانك الأصحاب | |
لا مفشياً عند القطيعة سره | وتنال منه حكمة وصواب |
لنا جلساء ما نمل حـديثـهـم | ألباء مأمونون غيباً ومشـهـدا | |
يفيدوننا من علمهم طرف حكمة | ولا نتقي منهم لسـانـاً ولا يداً |
وذكر عن عبد الله بن المبارك أنه سئل: أما تستوحش من مقامك منفرداً بهيت? فقال: كيف يستوحش من يجالس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وقد كان بعض من كان له في الدنيا صيت ومكانة، عاتبني على ملازمتي المنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي ما عودته من الإلمام به وغشيان حضرته، وقال لي: أما تستوحش الوحدة ونحو هذا من المقالة، فقلت له: أنا في منزلي إذا خلوت من جليس يقصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، في أحسن أنس وأجمله، وأعلاه وأنبله، لأنني أنظر في آثار الملائكة والأنبياء، والأئمة والعلماء، وخواص الأعلام الحكماء، وإلى غيرهم من الخلفاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، والكتاب والبلغاء، والرجاز والشعراء، وكأنني مجالس لهم، ومستأنس بهم، وغير ناء عن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فيما انتهى إلي من حكمهم وآرائهم.
وقد تجشمت إملاء هذا الكتاب على ما خلفته ورائي من طول السنين، حصلت فيه من عشر التسعين، مع ترادف الهموم وتكاثف الغموم، ومشاهدة ما أزال مرتمضاً به، وممتعضاً منه لفساد الزمان وانتكاسه، وعجيب تقلبه وانعكاسه، واختلاطه وارتكاسه، ووضعه الأعلام الرفعاء، ورفعه الطغام الوضعاء، فقد أحل الأراذل محل الأفاضل، وأعطى السفيه الأخرق حظ النبيه العاقل، وصرف نصيب العالم إلى الجاهل، وصير الناقص مكان الوافر الكامل، والراجح الفاضل، وقدم على العلم المبرز الغفل الخامل، ولقد قلت في بعض ما دفعت إليه، وامتحنت به، حين منعت النصف، وحملت على الخسف، حتى انقدت للعنف، وأصبحت عند الغلبة والعسف:
علام أعوم في الشبه | وأمري غير مشتبـه | |
أرى الأيام معتـبـراً | على ما بي من الوله | |
بلحظ غير ذي سـنة | وحظ غير منتـبـه | |
أروح وأغتدي غبنـاً | أكثر من أقـل بـه |
أأقتبس الضياء من الضبـاب | وألتمس الشراب من السراب | |
أريد من الزمان النـذل بـذلاَ | وأرياً من جنى سلع وصاب | |
أرجي أن ألاقي لاشتـياقـي | سراة الناس في زمن الكلاب |
هذريان هـذر هــذاءة | موشك السقطة ذو لب نثر |
إذا كان الخطاء أقل ضـراً | وأنجحَ بالأمور من الصوابِ | |
وكان النِّوك مَحْموداً مـذالاً | وكان الدهر يرجع بانقلابِ |
وعطِّلت المكارمُ والمعالـي | وأُغلقَ دون ذلك كلُّ بـابِ | |
ويوعد كل ذي حَسَـب ودينٍ | وقُرِّب كل مهتوك الحجابِ | |
فما أحدٌ أضنَّ بـمـا لـديه | من المتحرج المحْضِ اللُّباب |
وولّى بعضهم خَرْجاً وحربـا | وولِّي بعضهم فصلَ الخطابِ |
وأنا منه هذه الرسالة إلى هذا الموضع، ومبتدئ بما قصدت إيداعه هذه الكتاب وتضمينه إياه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق