الاثنين، 11 فبراير 2013

شكلة شعر



الإنسان قد تفرحه أشياء صغيرة، وقد تنغّص عليه عيشته، أيضاً، أشياء صغيرة. كما قد يفرح الإنسان، أحياناً، بأشياء لا يملكها ولكن يظنّ أنّه يملكها. وليس المقصود بذلك قدرة الوهم على بثّ الفرح أو جلب الأحزان، وإنْ كان للوهم قدرة لا تنكر على فعل الأفاعيل في حياة الناس. ثمّة فعل لا أظنّ أنّ هناك أفواهاً بمنأى عن استعماله وتمريره في طيّات أحاديثها، وهو فعل"افتكر"، والدور الذي يلعبه هذا الفعل في حياتنا، سلباً او إيجاباً، ممّا يستحقّ التوقّف عنده، على ما أظنّ. و"الافتكار" هو، بكلّ بساطة، اعتقاد وجود شيء في الوقت الذي لا يكون فيه موجوداً، أو اعتقاد عدم وجود شيء ما في الوقت الذي يكون فيه موجوداً، أو عدم توقّع حدوث ما حدث، والعيش على أساس أنّ ما حدث لم يحدث. خطر ببالي هذا التعريف لفعل" افتكر" وأنا اقرأ حكاية بسيطة لا تخلو من طرافة وواقعيّة في دلالاتها الوارفة والمحيِّرة.

 تتناول الحكاية مشاهدَ أو لقطاتٍ معدودةً من سيرة فتاة، في مطلع عمرها، في الوقت الذي تتفتح فيه أحلامها كما يتفتّح جسدها على مباهج الحياة، إلاّ أنّ الفتاة كانت فقيرة، وفقيرة جدّاً، والفقر، أحياناً، لا يختلف وقعه عن زنزانة انفراديّة. عانت الفتاة من اليتم فهي لا تعرف والدها إلاّ بالاسم، كانت الأمّ تكدح، أغلب الوقت، في أعمال بسيطة لإعالة نفسها وابنتها الوحيدة، لم ينلها من كونها وحيدةً شيئٌ من الامتيازات. كانت الفتاة تحلم في أوقات الأعياد بملابس جديدة أو بعض أنواع الحلى، وثمّة أطفال كثيرون لا يتزامن حصولهم على ملابس جديدة مع إطلالة الأعياد. العيد جرح في عيون كثير من الأطفال الفقراء.

ذات يوم، ناولت والدة الفتاة ابنتها حفنة ضئيلة من النقود بمناسبة عيد الميلاد، وقالت لها: اشتري ما تشتهي عيناك، لم تصدّق الفتاة هذه اللحظة المارقة في حياتها، حفنة من النقود، على قلّتها، غيّرت نفسيّتها، فالقدرة على الشراء هي قدرة، أيضاً، على التخلّص من بعض الهموم، وتقمّص حياة أخرى. ذهبت الفتاة إلى المدينة بخطى متعثرة، فهي لم تعتدْ التجوّل في الأسواق، والتجوّل لمن لا يملك ما يقيم أود الرغاب قد يسبب بعض التعاسة، وليس بالضرورة أن يكون ترفيهاً للنظر أو ترويحاً عن النفس. راحت الفتاة تتصفّح واجهات المحلاّت وهي تقبض بيديها الفرحتين على قطع النقود، ولكنّها كانت تمشي وهي خجول بملابسها الرثّة وهيأتها التي تنمّ عن سوء الحال.  كانت تتأمل، وهي تمشي، وجوه الناس وملامحهم وتقول مخاطبة نفسها بحسرة : كلّهم خير منّي، لا شيء أنا، لا أحد يعيرني أدنى اهتمام؟ لست أكثر من نكرة رثّة الحال والأسمال. لمحت، وهي تعبر الشارع وتتكلّم مع نفسها، ذلك الفتى الذي يثير إعجابها وطالما حلمت لو يكون فارس أحلامها، ولكن سرعان ما كانت تكشط تلك الرغبة العصيّة عن بالها، مستبعدة أن يكون من نصيبها، وكانت تسرح متخيّلة شكل الفتاة التي ستشاركه حياته وتغبطها على هناءتها المنتظرة.

كانت الأفكار السوداء الكابية تطحنها حين اقتربت من واجهة محلّ لبيع الحلى ولاحظت عنده مجموعة منوّعة من شكلات الشَّعَر فدخلت المحلّ، ووقفت أمام الشكلات  تتأمّل أشكالها وألوانها، اقترب منها البائع وقال لها: شعرك الأشقر تليق به هذه الشكلة، وكانت عبارة عن شكلة شعر على شكل زهرة خضراء اللون. ولكن الفتاة لم تكن ترغب في شراء الشكلة لأنّ ثمنها سوف يلتهم أغلب ما معها من نقود، إلاّ أنّ البائع دنا منها، وعلّق الشكلة على خصلة من شعرها، ثم أحضر مرآة لترى الجمال الذي أضفته الزهرة الخضراء على وجهها وشعرها الذهبيّ. حين تأمّلت الفتاة وجهها في المرآة، لم تعرف نفسها، كان وجهها مشعّاً بالجمال، ففتحت كيس المال بلا تردّد ونقدت البائع ثمن الشكلة بعد أن رأت فعلها السحريّ على ملامح وجهها وخصلات شعرها. خرجت الفتاة مسرعة من المحلّ فارتطمت، وهي خارجة، برجل عجوز عند مدخل المحلّ، ولكنّها لم تتوقف حتّى للاعتذار منه. رنّ صوت العجوز في أذنيها كما لو كان ينده لها ولكنّها لم تلتفت إليه وتابعت سيرها، وقدماها، بالكاد، تلامسان الأرض. لاحظت شيئاً غريباً، لأوّل مرّة، في الطريق وهي تمشي، نظرات الناس إليها لم تعد هي هي، وراحت تعبر سمعها عبارات ما خطرت ببال أذنيها من قبل، كلمات تتناهى إلى سمعها من قبيل: أفي حارتنا فتاة حسناء! ونحن لا نعرف ذلك؟ بنت من هي يا ترى؟ قالت بينها وبين نفسها: أيعقل أن تغيّر شكْلة شعر مصيري ومصير عيون الناس؟ هل أنا في حلم أم في علم؟ تابعت طريقها، ولحسن الصدف اعترض طريقها ذلك الفتى الذي كانت تحلم لو يكون فارس أحلامها الوردية، توقّف أمامها، ولمعة الإعجاب بادية في عينيه، واقترح عليها لو تقبل دعوته لتكون رفيقة سهرة العيد. لم تصدّق أذناها ما سمعت. ماذا تفعل بي الدنيا؟ تمتمت شفتاها. قرّرت بلمح البصر أن تعود إلى محلّ الحلى لتشتري بما تبقى معها من نقود قطعة أخرى من الحلى. ولكن ما إن دخلت باب المحلّ حتّى لمحها العجوز الذي ارتطمت به لدى خروجها من المحلّ فاقترب منها وقال لها وبسمة طيبة تعلو شفتيه: كنت متأكّداً من عودتك إلى المحلّ أيّتها الحسناء؟ استغربت الفتاة كلمات العجوز، ولم تفقه لها معنى، كيف عرف أني سأعود، وأنا نفسي لم أكن أعرف أنّي سأعود؟ وسرعان ما انتبهت إلى معنى كلماته حين مدّ يده وناولها شكْلة الشَّعر التي كانت قد سقطت من شعرها وهي مسرعة دون أن تنتبه إلى سقوطها عن شعرها.

الحكاية تنتهي هنا، تنتهي حين نعرف أنّ الشكلة التي غيّر وجودها شعر الفتاة ومشاعرها لم تكن معلّقة على شعر الفتاة! ما الذي جعل الفتاة إذن تعتقد أنّ نظرات الناس إليها تغيّرت؟ ما الذي أطلق العنان لألسنة المعجبين؟

 لم تقل لنا الحكاية كيف أعادت الفتاة قراءة نظرات الناس لها بعد أن اكتشفت أنّ الشكلة لم تكن معلّقة إلاّ في مخيّلتها؟ كما لم تذكر الحكاية تعليق الفتاة على كلمات الناس بعد أن اكتشفت غياب الشكلة.

 وليس لكلّ الحكايات، لحسن الحظّ، ولعٌ بالنهايات!


 بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق