كتبهابلال عبد الهادي ، في 2 نيسان 2011 الساعة: 17:22 م
قد قرأت كتابك وفهمته،
وتتبعت كل ما فيه واستقصيته، فوجدت الذي ترجع إليه بعد التطويل، وتقف عنده بعد
التحصيل، قد سلف القول منا في عيبه، وشاع الخبر عنا في ذمه، وفي النصب لأهله،
والمباينة لأصحابه، وفي التعجب منهم، وإظهار النفي عنهم.
والجملة أن فرط العجب إذا قارن كثرة الجهل،
والتعرض للعيب إذا وافق قلة الإكتراث، بطلت المزاجر، وماتت الخواطر. ومتى تفاقم الداء، وتفاوت العلاج، صار
الوعيد لغواً مطرحاً، والعقاب حكماً مستعملاً.وقد أصبح شيخك، وليس يملك من عقابهم إلا
التوقيف، ولا من تأديبهم إلا التعريف.ولو ملكناهم ملك السلطان، وقهرناهم قهر
الولاة، لنهكناهم عقوبة بالضرب، ولقمعناهم بالحصر.والكبر - أعزك الله تعالى - باب لا يعد احتماله حلماً، ولا الصبر على
أهله حزماً، ولا ترك عقابهم عفواً، ولا الفضل عليهم مجداً، ولا التغافل عنهم كرماً،
ولا الإمساك عن ذمهم صمتاً.واعلم أن حمل الغنى أشد من حمل الفقر،
واحتمال الفقر أهون من احتمال الذل. على أن الرضا بالفقر قناعة وعز، واحتمال
الذل نذالة وسخف. ولئن كانوا قد أفرطوا في لوم العشيرة،
والتكبر على ذوي الحرمة، لقد أفرطت في سوء الاختيار، وفي طول مقامك على
العار.وأنت مع شدة عجبك بنفسك، ورضاك عن عقلك،
خالطت من موته يضحك السن، وحياته تورث الحزن، وتشاغلك به من أعظم الغبن.وشكوت تنبلهم عليك، واستصغارهم لك، وأنك
أكثر منهم في المحصول، وفي حقائق المعقول. ولو كنت كما تقول لما أقمت على الذل ولما
تجرعت الصبر وأنت بمندوحة منهم، وبنجوة عنهم. ولعارضتهم من الكبر بما يهضهم، ومن الامتعاض
بما يبهرهم.وقلت: ولو كانوا من أهل النبل عند الموازنة، أو
كان معهم ما يغلط الناس فيه عند المقايسة لعذرتهم واحتججت عنهم، ولسترت عيبهم،
ولرقعت وهيهم. ولكن أمرهم مكشوف، وظاهرهم
معروف.وإن كان أمرهم كما قلت، وشأنهم كما وصفت،
فذاك ألوم لك، وأثبت للحجة عليك.وسأؤخر عذلك إلى الفراغ منهم، وتوقيفك بعد
التنويه بهم.أقول: وإن كان النبل بالتنبل، واستحقاق العظم
بالتعظم وبقلة الندم والاعتذار، وبالتهاون بالإقرار، فكل من كان أقل حياءً، وأتم
قحة، وأشد تصلفاً، وأضعف عدة، أحق بالنبل وأولى بالعذر.وليس الذي يوجب لك الرفعة أن تكون عند نفسك
دون أن يراك الناس رفيعاً، وتكون في الحقيقة وضيعاً.ومتى كنت من أهل النبل لم يضرك التنبل، ومتى
لم تكن من أهله لم ينفعك التنبل.وليس النبل كالرزق، يكون مرزوقاً الحرمان
أليق به، ولا يكون نبيلاً السخافة أشبه به.وكل شيء من أمر الدنيا قد يحظى به غير أهله،
كما يحظى به أهله.وما ظنك بشيء المروءة خصلة من خصاله، وبعد
الهمة خلة من خلاله، وبهاء المنظر سبب من أسبابه، وجزالة اللفظ شعبة من شعبه،
والمقامات الكريمة طريق من طرقه.
فصل منه
واعلم أنك متى لم تأخذ
للنبل أهبته، ولم تقم له أداته، وتأته من وجهه، وتقم بحقه، كنت مع العناء مبغضاً،
ومع التكلف مستصلفاً.
ومن تبغض فقد استهدف للشتام،
وتصدى للملام.فإن كان لا يحفل بالشتم، ولا يجزع من الذم،
فعده ميتاً إن كان حياً؛ وكلباً إن كان إنساناً.وإن كان ممن يكترث ويجزع، ويحس ويألم، فقد
خسر الراحة والمحبة، وربح النصب والمذمة.وبعد، فالنبل كلف بالمولي عنه، شنف للمقبل
عليه، لازق بمن رفضه، شديد النفار ممن طلبه.
فصل منه
والسيد المطاع لم يسهل
عليه الكظم، ولم يكن له كنف الحلم، إلا بعد طول تجرع للغيظ، ومقاساة
للصبر. وقد كان معنى القلب دهره، ومكدود النفس
عمره، والحرب سجال بينه وبين الحلم، ودول بينه وبين الكظم. فلما انقادت له العشيرة، وسمحت له بالطاعة،
ووثق بظهور القدرة خلاف المعجزة سهل عليه الصبر، وغمر بعلوه دواعي الجزع، بطلت
المجاذبة، وذهبت المساجلة.والذي كان دعاه إلى تكلف الحلم في بدء أمره
وإلى احتمال المكروه في أول شأنه، الأمل في الرياسة، والطمع في السيادة، ثم لم يتم
له أمره، ولم يستحكم له عقده إلا بعد ثلاثة أشياء: الاحتمال، ثم الاعتياد، ثم ظهور طاعة
الرجال.ولولا خوف جميع المظلومين من أن يظن بهم
العجز، وألا يوجه احتمالهم إلى الذل لزاحم السادة في الحلم رجال ليسوا في أنفسهم
بدونهم، ولغمرهم بعض من ليس معه من أسبابهم.
فصل منه
ولا يكون المرء نبيلاً
حتى يكون نبيل الرأي، نبيل اللفظ، نبيل العقل، نبيل الخلق، نبيل المنظر، بعيد
المذهب في التنزه، طاهر الثوب من الفحش، إن وافق ذلك عرقاً صالحاً، ومجداً
تالداً.
فالخارجي قد يتنبل بنفسه، والنابتي قد يخرج
بطبعه. ولكل عز أول، وأول كل قديم حادث.ومن حقوق النبل أن تتواضع لمن هو دونك،
وتنصف من هو مثلك، وتتنبل على من هو فوقك.
فصل منه
وكان بعض الأشراف في
زمان الأحنف، لا يحتقر أحداً، ولا يتحرك لزائر، وكان يقول: " ثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل " فكان الأحنف ما يزداد إلا علواً، وكان ذلك
الرجل لا يزداد إلا تسفلاً.وقد ذم الله تعالى المتكبرين، ولعن
المتجبرين، وأجمعت الأمة على عيبه، والبراءة منه، وحتى سمي المتكبر تائهاً، كالذي
يختبط في التية بلا أمارة، ويتعسف الأرض بلا علامة.ولعل قائلاً أن يقول: لو كان اسم المتكبر قبيحاً، ولو كان المتكبر
مذموماً، لما وصف الله تعالى بهما نفسه، ولما نوه بهما في التنزيل حين
قال: " الجبار المتكبر " ، ثم قال: " له الأسماء الحسنى " .قلنا لهم: إن الإنسان المخلوق المسخر، والضعيف الميسر،
لا يليق به إلا التذلل، ولا يجوز له إلا التواضع.وكيف يليق الكبر بمن إن جاع صرع، وإن شبع
طغى، وما يشبه الكبر بمن يأكل ويشرب، ويبول وينجو. وكيف يستحق الكبر ويستوجب العظمة من ينقصه
النصب، ويفسده الراحة؟.فإذا كان الكبر لا يليق بالمخلوق فإنما يليق
بالخالق؛ وإنما عاند الله تعالى بالكبر لتعديه طوره، ولجهله لقدره، وانتحاله ما لا
يجوز إلا لربه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " العظمة رداء الله، فمن نازعه رداءه قصمه
" .
فصل منه
والنبيل لا يتنبل، كما
أن الفصيح لا يتفصح؛ لأن النبيل يكفيه نبله عن التنبل، والفصيح تغنيه فصاحته عن
التفصح. ولم يتزيد أحد قط إلا لنقص يجده في نفسه،
ولا تطاول متطاول إلا لوهن قد أحس به في قوته.والكبر من جميع الناس قبيح، ومن كل العباد
مسخوط، إلا أنه عند الناس من عظماء الأعراب، وأشباه الأعراب أوجد، وهو لهم أسرع،
لجفائهم وبعدهم من الجماعة، ولقلة مخالطتهم لأهل العفة والرعة، والأدب
والصنعة.
فصل منه
ولم نر الكبر يسوغ عندهم
ويستحسن إلا في ثلاثة مواضع:
من ذلك أن يكون المتكبر صعباً
بدوياً، وذا عرضية وحشياً، ولا يكون حضرياً ولا مدرياً، فيحمل ذلك منه على جهة
الصعوبة ومذهب الجاهلية، وعلى العنجهية والأعرابية.أو يكون ذلك منه على جهة الانتقام
والمعارضة، والمكافأة والمقابلة.أو على أن لا يكون تكبره إلا على الملوك
والجبابرة، والفراعنة وأشباه الفراعنة.وصاحبك هذا خارج من هذه الخصال، مجانب لهذه
الخلال. إن أصاب صديقاً تعظم عليه، وإن أتاه ضيف
تغافل عنه، وإن أتاه ضعيف من عليه، وإن صادف حليماً اعتمر به.وينبغي أن يكون خضوعه لمن فوقه على حسب
تكبره على من دونه.ومن صفة اللئيم أن يظلم الضعيف، ويظلم نفسه
للقوي، ويقتل الصريع، ويجهز على الجريح، ويطلب الهارب، ويهرب من الطالب، ولا يطلب
من الطوائل إلا ما لا خطار فيه ولا يتكبر إلا حيث لا يرجع مضرته عليه، ولا يقفو
التقية ولا المروءة، ولا يعمل على حقيقته.ومن اختار أن يبغي تبدى، ومن أراد أن يسمع
قوله ساء خلقه، إذ كان لا يحفل ببغض الناس له ووحشة قلوبهم منه، واحتيالهم في
مباعدته، وقلة ملابسته.وليس يأمن اللئيم على إتيان جميع ما اشتمل
عليه اسم اللؤم إلا حاسد.فإذا رأيته يعق أباه، ويحسد أخاه، ويظلم
الضعيف، ويستخف بالأديب، فلا تبعده من الخيانة، إذ كانت الخيانة لؤماً؛ ولا من
الكذب، إذ كان الكذب لؤماً؛ ولا من النميمة، إذ كانت النميمة لؤماً. ولا تأمنه على الكفر فإنه ألأم اللؤم، وأقبح
الغدر.ومن رأيته منصرفاً عن بعض اللؤم، وتاركاً
لبعض القبيح، فإياك أن توجه ذلك منه على التجنب له، والرغبة عنه، والإيثار لخلافه،
ولكن على أنه لا يشتهيه أو لا يقدر عليه، أو يخاف من مرارة العاقبة أمراً يعفي على
حلاوة العاجل؛ لأن اللؤم كله أصل واحد وإن تفرقت فروعه، وجنس واحد وإن اختلفت صوره،
والفعل محمول على غلبته، تابع لسمته. والشكل ذاهب على شكله، منقطع إلى أصله، صائر
إليه وإن أبطأ عنه، ونازع إليه وإن حيل دونه. وكذلك تناسب الكرم وحنين بعضه
لبعض.
ولم تر العيون، ولا سمعت الآذان، ولا توهمت
العقول عملاً اجتباه ذو عقل، أو اختاره ذو علم، بأوبأ مغبة، ولا أنكد عاقبة، ولا
أوخم مرعىً، ولا أبعد مهوىً، ولا أضر على دين، ولا أفسد لعرض، ولا أوجب لسخط الله،
ولا أدعى إلى مقت الناس، ولا أبعد من الفلاح، ولا أظهر نفوراً عن التوبة، ولا أقل
دركاً عند الحقيقة، ولا أنقض للطبيعة، ولا أمنع من العلم، ولا أشد خلافاً على
الحلم، من التكبر في غير موضعه، والتنبل في غير كنهه.وما ظنك بشيء العجب شقيقه، والبذخ صديقه،
والنفج أليفه، والصلف عقيده.والبذاخ متزيد، والنفاج كذاب، والمتكبر
ظالم، والمعجب صغير النفس.
وإذا اجتمعت هذه الخصال،
وانتظمت هذه الخصال في قلب طال خرابه، واستغلق بابه.وشر العيوب ما كان مضمناً بعيوب، وشر الذنوب
ما كان علة للذنوب.والكبر أول ذنب كان في السماوات والأرض،
وأعظم جرم كان من الجن والإنس، وأشهر تعصب كان في الثقلين، وعنه لج إبليس في
الطغيان، وعتا على رب العالمين، وخطأ ربه في التدبير، وتلقى قوله بالرد. ومن أجله استوجب السخطة، وأخرج من الجنة،
وقيل له: " ما يكون لك أن تتكبر فيها " .ولإفراطه في التعظيم خرج إلى غاية القسوة،
ولشدة قسوته اعتزم على الإصرار، وتتايع في غاية الإفساد، ودعا إلى كل قبيح، وزين كل
شر، وعن معصيته أخرج آدم من الجنة، وشهر في كل أفق وأمة، ومن أجله نصب العداوة
لذريته، وتفرغ من كل شيء إلا من إهلاك نسله، فعادى من لا يرجوه ولا يخافه، ولا
يضاهيه في نسب، ولا يشاكله في صناعة، وعن ذلك قتل الناس بعضهم بعضاً، وظلم القوي
الضعيف، ومن أجله أهلك الله الأمم بالمسخ والرجف، وبالخسف وبالطوفان، والريح
العقيم، وأدخلهم النار، وأقنطهم من الخروج.والكبر هو الذي زين لإبليس ترك السجود،
ووهمه شرف الأنفة، وصور له عز الانتقاض، وحبب إليه المخالفة، وآنسه بالوحدة
والوحشة، وهون عليه سخط الرب، وسهل عليه عقاب الأبد، ووعده الظفر، ومناه السلامة،
ولقنه الاحتجاج بالباطل، وزين له قول الزور، وزهده في جوار الملائكة، وجمع له خلال
السوء، ونظم له خلال الشر؛ لأنه حسد والحسد ظلم، وكذب والكذب ذل، وخدع والخديعة
لؤم. وحلف على الزور، وذلك فجور. وخطأ ربه، وتخطئة الله جهل، وأخطأ في جلي
القياس وذلك غي، ولج واللجاج ضعف. وفرق بين التكبر والتبدي. وجمع بين الرغبة عن صنيع الملائكة وبين
الدخول في أعمال السفلة.واحتج بأن النار خير من الطين. ومنافع العالم نتائج أربعة
أركان: نار يابسة حارة، وماء بارد سيال، وأرض باردة
يابسة، وهواء حار رطب.
ليس منها شيء مع مزاوجته
لخلافه إلا وهو محي مبق.
على أن النار نقمة الله من بين
جميع الأصناف، وهي أسرعهن إتلافاً لما صار فيها. وأمحقهن لما دنا منها.هذا كله ثمرة الكبر، ونتاج
النية. والتكبر شر من القسوة، كما أن القسوة شر
المعاصي. والتواضع خير الرحمة، كما أن الرحمة خير
الطاعات.والكبر معنىً ينتظم به جماع الشر، والتواضع
معنىً ينتظم به جماع الخير، والتواضع عقيب الكبر، والرحمة عقيب القسوة. فإذا كان للطاعة قدر من الثواب فلتركها
وعقيبها، ولما يوازنها ويكايلها، مثل ذلك القدر من العقاب. وموضع الطاعة من طبقات الرضا، كموضع تركها
من طبقات السخط إذ كانت الطاعة واجبة، والترك معصية.والكبر من أسباب القسوة. ولو كان الكبر لا يعتري إلا الشريف والجميل،
أو الجواد، أو الوفي أو الصدوق، كان أهون لأمره، وأقل لشينه، وكان يعرض لأهل الخير،
وكان لا يغلط فيه إلا أهل الفضل، ولكنا نجده في السفلة، كما نجده في العلية، ونجده
في القبيح كما نجده في الحسن، وفي الدميم كما نجده في الجميل، وفي الدني الناقص،
كما نجده في الوفي الكامل، وفي الجبان كما نجده في الشجاع، وفي الكذوب كما نجده في
الصدوق، وفي العبد كما نجده في الحر، وفي الذمي ذي الجزية والصغار والذلة، كما نجده
في قابض جزيته والمسلط على إذلاله.ولو كان في الكبر خير لما كان في دهر
الجاهلية أظهر منه في دهر الإسلام، ولما كان في العبد أفشى منه في الحر، ولما كان
في دهره الجاهلية أظهر منه في دهره الإسلام، ولما كان في العبد أفشى منه في الحر،
ولما كان في السند أعم منه في الروم والفرس.
وليس الذي كان فيه آل ساسان وأنو شروان
وجميع ولد أزدشير بن بابك كان من الكبر في شيء. تلك سياسة للعوام، وتفخيم لأمر السلطان،
وتسديد للملك.ولم يكن في الخلفاء أشد نخوة من الوليد بن
عبد الملك، وكان أجهلهم وألحنهم. وما كان في ولاة العراق أعظم كبراً من يوسف
بن عمر، وما كان أشجعهم ولا أبصرهم، ولا أتمهم قواماً، ولا أحسنهم
كلاماً.ولم يدع الربوبية ملك قط إلا فرعون، ولم يك
مقدماً في مركبه، ولا في شرف حسبه، ولا في نبل منظره، وكمال خلقه، ولا في سعة
سلطانه وشرف رعيته وكرم ناحيته. ولا كان فوق الملوك الأعاظم والجلة الأكابر،
بل دون كثير منهم في الحسب وشرف الملك وكرم الرعية، ومنعة السلطان، والسطوة على
الملوك.ولو كان الكبر فضيلة وفي التيه مروءة، لما
رغب عنه بنو هاشم ولكان عبد المطلب أولى الناس منه بالغاية، وأحقهم بأقصى
النهاية.ولو كان محمود العاجل ومرجو الآجل، وكان من
أسباب السيادة أو من حقوق الرياسة، لبادر إليه سيد بني تميم، وهو الأحنف بن قيس؛
ولشح عليه سيد بكر بن وائل وهو ملك، ولاستولى عليه سيد الأزد وهو
المهلب.ولقد ذكر أبو عمرو بن العلاء جميع عيوب
السادة، وما كان فيهم من الخلال المذمومة، حيث قال: " ما رأينا شيئاً يمنع من السودد إلا وقد
وجدناه في سيد: وجدنا البخل يمنع من السودد، وكان أبو سفيان
بن حرب بخيلا. والعهار يمنع من السودد، وكان عامر بن
الطفيل سيداً، وكان عاهراً.
والظلم يمنع من السودد، وكان
حذيفة بن بدر ظلوماً، وكان سيد غطفان. والحمق يمنع من السودد، وكان عتيبة بن حصن
محمقاً، وكان سيداً.
والإملاق يمنع من السودد، وكان
عتبة بن ربيعة مملقاً.
وقلة العدد تمنع من السودد
وكان شبل بن معبد سيداً، ولم يكن من عشيرته بالبصرة رجلان. والحداثة تمنع من السودد، وساد أبو جهل وما
طر شاربه، ودخل دار الندوة وما استوت لحيته.فذكر الظلم، والحمق، والبخل، والفقر،
والعهار، وذكر العيوب ولم يذكر الكبر؛ لأن هذه الأخلاق وإن كانت داءً فإن في فضول
أحلامهم وفي سائر أمورهم ما يداوى به ذلك الداء، ويعالج به ذلك السقم؛ وليس الداء
الممكن كالداء المعضل، وليس الباب المغلق كالمستبهم؛ والأخلاق التي لا يمكن معها
السودد، مثل الكبر والكذب والسخف، ومثل الجهل بالسياسة.وخرجت خارجة بخراسان فقيل لقتيبة بن
مسلم: لو وجهت إليهم وكيع بن أبي سود لكفاهم
فقال: وكيع رجل عظيم الكبر، في أنفه خنزوانة، وفي
رأسه نعرة، وإنما أنفه في أسلوب؛ ومن عظم كبره اشتد عجبه، ومن أعجب برأيه لم يشاور
كفياً، ولم يؤامر نصيحاً، ومن تبجح بالانفراد وفخر بالاستبداد كان من الظفر بعيداً،
ومن الخذلان قريباً، والخطاء مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة. وإن كانت الجماعة لا تخطىء والفرقة لا
نصيب.ومن تكبر على عدوه حقره، وإذا حقره تهاون
بأمره. ومن تهاون بخصمه ووثق بفضل قوته قل احتراسه،
ومن قل احتراسه كثر عثاره.وما رأيت عظيم الكبر صاحب حرب إلا كان
منكوباً ومهزوماً ومخدوعاً.
ولا يشعر حتى يكون عدوه عنده،
وخصمه فيما يغلب عليه أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأحذر من عقعق،
وأشد إقداماً من الأسد، وأوثب من فهد، وأحقد من جمل، وأروغ من ثعلب، وأغدر من ذئب،
وأسخى من لافظة، وأشح من صبي، وأجمع من ذرة، وأحرص من كلب، وأصبر من ضب. فإن النفس إنما تسمح بالعناية على قدر
الحاجة، وتتحفظ على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر
السبب.
فصل منه
وأقول بعد هذا
كله: إن الناس قد ظلموا أهل الحلم والعزم، حين
زعموا أن الذي يسهل عليهم الاحتمال معرفة الناس بقدرتهم على الانتقام، فكيف
والمذكور بالحلم والمشهور بالاحتمال يقيض له من السفهاء، ويؤتى له من أهل البذاء ما
لا يقوم له صبر، ولا ينهض به عزم. بل على قدر حلمه يتعرض له، وعلى قدر عزمه
يمتحن صبره ولأن الذي سهل عليه الحلم، ومكنه من العزم، معرفة الناس بقدرته على
الانتقام، واقتداره على شفاء الغيظ؛ فإن منعه لنفسه، ومجاذبته لطبعه مع الغيظ
الشديد، والقدرة الظاهرة، أشد عليه في المزاولة وأبلغ في المشقة والمكابدة، من صبر
الشكل على أذى شكله، واحتمال المظلوم عن مثله، وإن خاف الطمس، وتوقع
العيب.
فصل منه
ومن بعد هذا، فمن شأن الأيام أن يظلم المرء
أكثر محاسنه ما كان تابعاً، فإذا عاد متبوعاً عادت عليه من محاسن غيره بأضعاف ما
منعته من محاسن نفسه، حتى يضاف إليه من شوارد الأفعال، ومن شواذ المكارم إن كان
سيداً، ومن غريب الأمثال إن كان منطيقاً، ومن خيار القصائد إن كان شاعراً، مما لا
أمارات لها، ولا سمات عليها.فكم من يد بيضاء وصنيعة غراء، ضلت فلم يقم
بها ناشد، وخفيت فلم يظهرها شاكر. والذي ضاع للتابع قبل أن يكون متبوعاً، أكثر
مما حفظ، والذي نسي أكثر مما ذكر، وما ظنك بشيء بقيته تهب السادة، ومشكوره يهب
الرياسة، على قلة الشكر، وكثرة الكفر.وقد يكون الرجل تام النفس ناقص الأداة، فلا
يستبان فضله، ولا يعظم قدره، كالمفرج الذي لا عشيرة له، والإتاوي الذي لا قوم
له. وقد يعظم المفرج الذي لا ولاء له ولا عقد
جوار، ولا عهد حلف، إذا برع في الفقه وبلغ في الزهد، بأكثر من تعظيم السيد، كجهة
تعظيم الديان. كما أن طاعة السلطان غير طاعة السادة،
والسلطان إنما يملك أبدان الناس،ولهم الخيار في عقولهم، وكذلك الموالي
والعبيد.وطاعة الناس للسيد، وطاعة الديان طاعة محبة
ودينونة، والقلوب أطوع لهما من الأبدان، إلا أن يكون السلطان مرضياً، فإن كان كذلك
فهو أعظم خطراً من السيد، وأوجه عند الله من ذلك الديان.وربما ساد الأتاوي لأنه عربي على
حال. والمفرج لا يسود أبداً لأنه عجمي لا حلف له،
ولا عقد جوار، ولا ولاء معروف، ولا نسب ثابت. وليس التسويد إلا في العرب، والعجم لا تطيع
إلا للملوك.والذي أحوج العرب في الجاهلية إلى تسويد
الرجال وطاعة الأكابر، بعد دورهم من الملوك والحكام والقضاة، وأصحاب الأرباع،
والمسالح والعمال.
فكان السيد، في منعهم من غيرهم
ومنع غيرهم منهم، ووثوب بعضهم عل بعض، في كثير من معاني السلطان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق