الأربعاء، 13 فبراير 2013

الجزء الثالث من كتاب ابي هلال العسكري كتاب الصناعتين


ومن أمثلة هذا الباب قول أعرابي لرجل: إني لم أضر وجهي عن الطلب إليك قصر نفسك عن ردئ، فضعني من كرمك، بحيث وضعتُ نفسي من رجائك.
وقول أبي الدرداء: أخوف ما أخاف أن يقال لي: عملت فما عملت؟ وقول طاهر ابن الحسين للمأمون: يا أمير المؤمنين، يحفظ على من قلبك، ما لا أستعين على حفظه إلاّ بك. وقال بعض الأوائل: لولا أنّ قولي لا أعلم تثبيت لأني أعلم لقلت: لا أعلم. وقال آخر: لولا العمل لم يطلب العلم، ولولا العلم لم يكن عمل، ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إليّ أن أدعه زهداً فيه.
وأنشد عبد الله قول الفرزدق:
لكل امرئ نفسان: نفسٌ كريمةٌ ... وأخرى يعاصيها الهوى فيطيُعها
ونفسك في نفسيك تشفع للندى ... إذا قلّ من أحرارهن شفيعها
وأنشد لإبراهيم بن المهدي يعتذر للمأمون:
البرّ بي منك وطأ العذر عندك لي ... فما فعلتُ تعذل ولم تلمِ
وقام علمُك بي فاحتج عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهمِ
وأنشد:
إنّ هذا يرى ولا رأى لل ... أحمقِ إني أعده إنسانا
ذاك بالظنّ عنده وهو عندي ... كالذي لم يكن وإن كان كانا
ومثله:
أما يحسنُ من يحسنُ ... أن يغضبَ أن يرضى
أما يرضى بأن صرتُ ... على الأرض له أرضا

الفصل التاسع والعشرون

في التشطير

وهو أن يتوازن المصراعان والجزآن، وتتعادل أقسامهما مع قيام كل واحد منهما بنفسه، واستغنائه عن صاحبه.
فمثاله من النثر قول بعضهم: من عتب على الزمان طالت معتبتُه، ومن رضى عن الزمان طابت معيشته. وقال الآخر: الجود خير من البخل، والمنع خير من المطل. وقول الآخر: رأس المداراة ترك المماراة، فالجزآن من هذه الفصول متوازنا الألفاظ والأبنية.
وقد أوردت من هذا النوع في باب الازدواج ما فيه كفاية.
وأما مثاله من المنظوم، فكقول أوس بن حجر:
فتحدركم عبسٌ إلينا وعامرٌ ... وترفعنا بكرٌ إليكم وتغلبٌ
وقول ذي الرمة:
أستحدثَ الركب عن أشياعهم خبراً ... أم راجع القلبَ من أطرابه طربُ
وقول الآخر:
فأما الذي يحصيهم فمكثّر ... وأما الذي يطربهم فمقلّلُ
وقول الآخر:
فكأنها فيه نهار ساطعٌ ... وكأنه ليل عليها مظلمُ
ومن شعر المحدثين قول البحتري:
شوقي إليك تفيض منه الأدمعُ ... وجوى إليك تضيق عنه الأضلعُ
وقول أبي تمام:
بمصعدٍ من حسنه ومصوّبٍ ... ومجمّعٍ من نعته ومفرَّقِ
وقوله:
تصدِّع شمل القلب من كلِّ وجهةٍ ... وتشعبه بالبثّ من كل مشعبِ
بمختبلٍ ساجٍ من الطّرفِ أكحَل ... ومقتبلٍ صافٍ من الثغر أشنبِ
وقوله:
أحاولتِ إرشادي فعقليَ مرشِدي ... أو استمتِ تأديبي فدهري مؤدبي
وقول البحتري:
فقف مسعداً فيهن إن كنت عاذراً ... وسِر مبعداً عنهن إن كنت عاذلا
وقال:
ومذهب حبٍّ لم أجد عنه مذهبا ... وشاغل بثٍّ لم أجد عنه شاغلا
وقال:
طليعتهم إن وجّه الجيش غازياً ... وساقتهم إن وجّه الجيش قافلا
وقال:
إذا اسودّ فيه الشكّ كان كواكبَا ... وإن سار فيه الخطبُ كان حبائلا
لأذكرته بالرّمح ما كان ناسيا ... وعلّمتُه بالسّيف ما كان جاهلا
فمنْ كان منهم ساكتا كنت ناطقاً ... ومن كان منهم قائلاً كنتُ فاعلا
وقال:
فلأجرينّ الدمع إن لم تجرِه ... ولأعرفنَّ الوجد إن لم تعرفِ
وقال في جيش:
يسودُّ منه الأفق إن لم ينسدد ... وتموتُ منه الشمس إن لم تكسفِ
وقلت:
وعلى الرُّبى حللٌ وشاهنّ الحيا ... فمسهَّم ومعصّب ومفوّف
والبرق يلمع مثل سيفُ ينتضى ... والسيل يجري مثل أفعى تزحفُ
والقطر يهمِي وهو أبيض ناصعٌ ... ويصير سيلا وهو أغبر أكلفُ

الفصل الثلاثون

في المجاورة

المجاورة: تردد لظفتين في البيت، ووقوع كل واحدة منهما بجنب الأخرى أو قريباً منها، من غير أن تكون إحداهما لغواً لا يحتاج إليها، وذلك كقول علقمة:
ومطعم الغنمِ يوم الغنم مطعمُه ... أنَّى توجَّه والمحروم محرومُ
فقوله: الغنم يوم الغنم مجاورة، والمحروم محروم مثله.
وقول الآخر:
وتندق منها في الصدور صدورها

وقول أوس بن جحر:
كأنها ذو وشومٍ بين مأفقهٍ ... والقطقطانة والبرعومُ مذعورُ
وقول أبي تمام:
إنا أتيناكم نصورُ مآرباً ... يستصغر الحدثَ العظيم عظيمها
وقوله:
ردعوا الزمان وهم كهولٌ جلّة ... وسطوا على أحداثه أحداثا
وقول الآخر:
أنضاء شوق على أنضاءِ أسفار
وقول الآخر:
إنما يغفر العظيم العظيم
وقول أبي تمام:
وما ضيق أقطار البلاد أضافني ... إليك ولكن مذهبي فيك مذهبي
وقول أبي الشيص:
فاتوك أنقاضا على أنقاض
وقول أبي النجم:
تدنِي من الجدول مثل الجدول
وقول رؤبة:
ترمي الجلاميد بجلمودِ مدقّ
وقول الآخر:
قم فاسقني من كروم الرند ورد ضحا ... ماء العناقيد في ظل العناقيد
وقول آخر، وقد بعث إلى جارية يقال لها راحج براح:
قل لمن تملك القلوبَ ... وإن كان قد ملكْ
قد شربناك فاشربي ... وبعثنا إليك بكْ
ومن هذا النوع قول الشاعر:
فلوني والمدام ولون ثوبي ... قريبٌ من قريبٍ من قريب
وقلت:
كأن الكأس في يده وفيه ... عقيقٌ في عقيقٍ في عقيقٍ
وقلت أيضاً:
دعونا ضرَّةَ البدرِ المنير ... فوافتنا على خضرٍ نضير
مطرّزة الشوارب بالغوالي ... مضمّخة السوالف بالعبير
ترى ما شئت من قدٍّ رشيق ... وما أحببتَ من ردفٍ وتير
ألامسُها وقد لبستْ حريراً ... فأحسِبها حريراً في حرير
فأنسٌ ثم لهو ثم زهْر ... سرور في سرورٍ في سرور
وقلت أيضاً:
ودار الكاس في يد ذي دلال ... رشيق القدِّ يعرف بالرشيق
ومنه أيضاً قول أبي تمام:
دأب عيني البكاءُ والحزن دأبي ... فاتركيني وقيتِ ما بي لما بي
وقوله أيضاً:
كأن العهد عن عفر لدينا ... وإن كان التلاقي عن تلاقي
وقوله:
طلبتْ أنفسَ الكُماة فشقتْ ... من وراء الجيوب منها الجيوبا
وقوله:
أيام للأيام فيك غضارة ... والدهر فيّ وفيك غير ملوم
وقال ابن الرومي:
مشترك الحظ لا محصّله ... محصّل المجد غير مشتركه
منّهك المال لا ممنّعه ... ممنّع العرض غير منّهكه
وقول مسلم:
أتتك المطايا تهتهدي بمطيّة ... عليها فتىً كالنّصل يؤنسه النصل

الفصل الحادي والثلاثون

في الاستشهاد والاحتجاج

وهذا الجنس كثير في كلام القدماء والمحدثين، وهو أحسن ما يتعاطى من أجناس صنعة الشعر، ومجراه مجرى التذييل لتوليد المعنى، وهو أن تأتي بمعنى ثم تؤكده بمعنى آخر يجري مجرى الاستشهاد على الأول، والحجة على صحته.
فمثاله من النثر ما كنت به كافي الكفاة في فصل له: فلا تقس آخرأمرك بأوّله، ولا تجمع من صدره وعجزه، ولا تحمل خوافي صنعك على قوادمه، فالإناء يملؤه القطر فيفعم، والصغر يقترن بالصغير فيعظم، والداء يلمّ ثم يصطلم، والجرح يتباين ثم ينفتق، والسيف يمس ثم يقطع، والسهم يرد ثم ينفذ.
ومن الاستشهاد قول الآخر:
إنما يعشقُ المنايا من الأق ... وام من كان عاشقاً للمعالي
وكذاك الرّماح أول ما يك ... سر منهنّ في الحروب العوالي
وقال أبو تمام:
هم مزّقوا عنه سبائب حلمه ... وإذا أبو الأشبال أحرِج عاثَا
وقال أيضاً:
عتقت وسيلتُه وأية قيمةٍ ... للمشرفيّ العضبِ ما لم يعتقُ
وقال أيضاً:
يأخذ الزائرين قسراً ولو ك ... فّ دعاهم ربعٌ خصيب
غير إن الرامي المسدد يحتا ... ط مع العلم أنه سيصيبُ
وقال أيضاً:
فاضممْ قواصيهم إليك فإنه ... لا يزخَر الوادي بغير شعابِ
والسهم بالريش اللُّؤامِ ولن ترى ... بيتاً بلا عمدٍ ولا أطنابِ
وقال ابن الرومي:
وطائف باستِه على طبق ... يبغى لها حربة يشقّ لها
معاملا كلَّ سفلة سفلتْ ... ولا يرى عليةً يعاملها
قلت له لم هواك في سفلِ الن ... ناس وشرّ الأمورِ سافُلها
أفرقة وافقتك طاعتُها ... أم عصبة فضلّت غراملُها
قال وجدت الكعوبِ من قصب الس ... كر مختارُها أسافلها
واست الفتى سفلة فغايتُها ... ووكرها سفلة يشاكلُها
وقول بشار:

فلا تجعلِ الشّورَى عليكَ غضاضةً ... فإن الخوافِي قوةٌ للقوادم
وقول الفرزدق:
تصرِّمَ مني ودُّ بكرِ بن وائلٍ ... وما كادَ لولا ظلمهم يتصرَّمُ
قوارصُ تأتيني ويحتقرُونها ... وقد يملأ القطرُ الإناءَ فيفعمُ
وقال أبو تمام:
غدا الشيبُ مختطّاً بفوديّ خطةً ... طريقَ الرّدَى منها إلى النفس مهيعُ
هو الزورُ يجفى والمعاشر يجتوى ... وذو الإلف يقلَى والجديد يرقَّعُ
له منظرٌ في العين أبيضُ ناصعُ ... ولكنَّه في القلب أسودُ أسفعُ
ونحن نرجّيه على السخط والرضا ... وأنف الفتى من وجهه وهو أجدعُ
وقال:
لي حرمة والتْ علىَّ سجالكمْ ... والماء رزقُ جمامِه للأول
وقال آخر:
أعلقْ بآخرِ منْ كلفتَ بحبه ... لا خير في حب الحبيب الأولِ
أتشكّ في أن النبيَّ محمداً ... خيرُ البرية وهو آخرُ مرسلِ
وقال أبو تمام، في خلاف ذلك:
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبُّ إلا للحبيب الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى ... وحنينُه أبداً لأوّلِ منزلِ
وقال ديك الجن في المعنى الأول:
اشربْ على وجه الحبيب المقبلِ ... وعلى الفمِ المتبسِّم المتقبّل
شرباً يذكر كل حبّ آخر ... غضٍّ وينسى كل حبٍّ أول
نقِل فؤادك حيث شئت فلن ترى ... كهوى جديد أو كوصل مقبل
ما إن أحنّ إلى خرابٍ مقفرٍ ... درستْ معالمه كأنْ لم يؤْهلِ
مقتِي لمنزلي الَّذس استحدثته ... أما الَّذي ولى فليسَ بمنزلي
وقال العلوي الأصبهاني:
دعْ حبّ أول من كلفتَ بحبّه ... ما الحبّ إلا للحبيبِ الآخرِ
ما قدْ تولى لا ارتجاعَ لطيبه ... هل غائب اللذات مثل الحاضرِ
إنَّ المشيبَ وقدْ وفي بمقامه ... أوفَى لديّ من الشَّباب الغادرِ
دنياك يومُك دون أمسِك فاعتبر ... ما السالفُ المفقودُ مثل الغابر
وقال آخر، في خلاف القولين:
قلبي رهينٌ بالهوى المقتبلِ ... فالويلُ لي في الحبِّ إن لم أعدِل
أنا مبتلى ببليَّتين من الهوى ... شوقٌ إلى الثاني وذكرُ الأول
فهما حياتي كالطّعام المشتهى ... لا بدَّ منه وكالشّراب السلسلِ
قسم الفؤاد لحرمةٍ وللذَّةٍ ... في الحبِّ من ماض ومن مستقبلِ
إني لأحفظُ عهد أول منزل ... أبداً وآلفُ طيبَ آخر منزل
وقال آخر في خلاف الجميع:
الحبّ للمحبوب ساعة حبِّه ... ما الحبُّ فيه لآخر ولأوّلِ
وقلت:
كان لي ركنٌ شديد ... وقعت فيه الزلازلْ
زعزعتهُ نوبُ الدّه ... ر وكرّاتُ النوازلْ
ما بقاء الحجر الصل ... دِ على وقعِ المعاولْ
وتدخل أكثرُ هذه الأمثلة في التشبيه أيضاً.

الفصل الثاني والثلاثون

في التعطف

والتعطف أن تذكر اللّفظ ثم تكرره، والمعنى مختلف، قالوا: وأول من ابتدأه امرؤ القيس، في قوله:
إلا إنّني بالٍ على جملٍ بال ... يسوق بنا يالٍ ويتبعنا بالِ
وليس هذا من التعطف على الأثل الذي أصّلُوه، ولك أن الألفاظ المكررة في هذا البيت على معنى واحد يجمعها البلى فلا اختلاف بينها، وإنما صار كل واحد منها صفة لشيء، فاختلفت لهذه الجهة لا من جهة اختلافها في معانيها، وكذلك قول الآخر:
عود على عود على عودٍ خلق
وإنما التعطف على أصلهم، كقول الشماخ:
كادتْ تساقطُني والرّحلَ إذ نطقتْ ... حمامةٌ فدعتْ ساقاً على ساق
أي دعت حمامة، وهو ذكر القماري ويسمى الساق عندهم على ساق شجرة، وقول الأفوه:
وأقطع الهوجلَ مستأنساً ... بهوجلٍ عيرانَة عنتريس
فالهوجل الأول: الأرض البعيدة الأطراف، والهوجل الثاني: الناقة العظيمة الخلق.
ومما يدخل في التعطف ما أنشدنا أبو أحمد، قال: أنشدنا أبو عبد الله المفجع، قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب:
أتعرف أطلالاً شجونك بالخالِ ... وعيشَ ليالٍ كان في الزَّمن الخالي
الخال: موضع. والخالي، من الخلوة.
لياليَ ريعانُ الشَّبابِ مسلَّطٌ ... عليّ بعصيان الإمارة والخالِ

يعني أنه يعصى أمر من يلي أمره وأمر من ينصحه ليصلح حاله، وهو من قولهم: فلان خال مال، إذا كان يقومُ به ويصلحه.
وإذ أنا خدنٌ للغويِّ أخي الصِّبا ... وللمرحِ الذّيال واللهو والخال
الخال ها هنا: من الخيلاء وهو الكبر.
إذا سكنتْ ربعا رئمتُ رباعها ... كما رئم الميثاء ذو الرثية لخالي
الخالي: الذي لا أهل له.
ويقتادُني ظبي رخيمٌ دلاله ... كما اقتاد مهراً حين يألفه الخالي
الخالي: الذي يقطع الخلا وهو النبات الرطب.
ليالي سلمى تستبيك بدلِّها ... وبالمنظر الفتان والجيد والخالِ
الخالي: الذي يرشم على الخد شبيه الشامة.
وقد علمت أني وإن ملت للصِّبا ... إذا القوم كعُّوا لستُ بالرَّعشِ الخالي
الخالي الذي لا أصحاب معه يعاونونه.
ولا أرتدي إلا المروءة حلّة ... إذا ضن بعضُ القوم بالعصب والخالِ
الخال: ضرب من البرود.
وإن أنا أبصرت المحول ببلدةٍ ... تنكبتها واشتمتُ خالاً إلى خالِ
الخال: السحابة المخيلة للمطر.
فحالف بخلقي كلّ حرٍّ مهذب ... وإلا فصارمه وخال إذاص خال
المخالاة: قطع الحلف، يقال: أخلّ من فلان، وتخلّ منه، أي فارقه، وقال النابغة:
قالت بنو عامر خالوا بني أسد
فإني حليف للسماحة والنّدى ... إذا احتلفت عبس وذبيان بالخالِ
الخال: موضع.
ومثله:
يا طيب نعمةِ أيام لنا سلفتْ ... وحسن لذة أيام الصبا عودِي
أيام أسحبُ ذيلي في بطالتها ... إذا ترنّمَ صوت الناي والعود
وقهوةٍ من سلاف الخمر صافية ... كالمسك والعنبر الهندي والعود
تسلّ عقلك في لين وفي لطف ... إذا جرت منك مجرى الماء في العود
ومن هذا انوع، قول أبي تمام:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
ولم أجد منه شيئاً في القرآن إلا قوله تعالى: " ويوم تقومُ السّاعة يقسمُ المجرمون ما لبثواَ غير ساعة " . والله أعلم.

الفصل الثالث والثلاثون

في المضاعفة

وهو أن يتضمَّن الكلام معنيين: معنىً مصرّح به، ومعنى كالمشار إليه، وذلك المضاعفة مثل قول الله تعالى: " ومنهم من يستمعون إليكَ أفأنت تسمعُ الصّمّ ولو كانوا لا يعقلون، ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون " فالمعنى المصرّح به في هذا الكلام أنه لا يقدر أن يهدي من عمي عن الآيات، وصمّ عن الكلم البينات، بمعنى أنه صرف قلبه عنها فلم ينتفع بسماعها ورؤيتها، والمعنى المشار إليه أنه فضّل السمع على البصر، لأنه جعل مع الصمم فقدان العقل، ومع العمى فقدان النظر فقط.
ومن نثر الكتاب ما كتب به الحسن بن وهب: كتابي إليك، وشطر قلبي عندك، والشطر الآخر غير خلو من تذكّرك، والثناء على عهدك، فأعطاك الله بركة وجهك، وزادَ في علوّ قدرك، والنعمة عندك وعندنا فيك.
فقوله: بركة وجهك فيه معنيان: أحدهما أنه دعا له بالبركة، والآخر أنه جعل وجهه ذا بركة عظيمة، ولعظمها عدل إليها في الدعاء عن غيرها من بركات المطر وغير، ومثله قول أبي العيناء: سألتك حاجة فرددت بأقبح من وجهك، فتضمن هذا اللّفظ قبح وجهه وقبح رده.
ومن المنظوم قول الأخطل:
قومٌ إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولى على النَّار
فأخبر عن إطفاء النار، فدل به على بخلهم، وأشار إلى مهانتهم، ومهانة أمهم عندهم.
وقول أبي تمام:
يخرج من جسمك السّقام كما ... أخرجَ ذمُّ الفعال من عنقكْ
يسحُّ سحّاً عليك حتى يرى ... خلقك فيها أصحَّ من خلقكْ
فدعا له بالصحة وأخبر بصحة خلقه، فهما معنيان في كلام واحد.
وقال جحظة:
دعوتَ فأقبلتُ ركضاً إليك ... وخالفتُ من كنتُ في دعوتَه
وأسرعتُ نحوك لما أمرتَ ... كأنِّي نوالُك في سرعتهْ
وقال ابن الرومي:
بنفس أبتْ إلاّ ثباتَ عقُودها ... لمن عاقدته وانحلال حقودها
ألا تلكم النفس التي تم فضلها ... فما نستزيد الله غير خلودها
فذكر تمام فضلها وأراد خلودها، ومن ذلك قول الآخر:
نهبتَ من الأعمارَ ما لو حويتَه ... لهنِّئت الدنيا بأنك خالدُ

وكتب بعضهم: فإن رأيت صلتي بكتابك العادل عندي رؤية كلّ حبيب سواك وتضمينه من حوائجك ما أسر بقضائه فعلت إن شاء الله. فقاله: سواك مضاعفة.
ومن هذا الباب نوع آخر، وهو أن تورد الاسم الواحد على وجهين وتضمنه معنيين كل واحد منهما معنى، كقول بعضهم:
أفدِي الّذي زارني والسيف يخفرُه ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي في العناقِ له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه
فجعل في السيف معنيين: أحدهما أن يخفره، والآخر أن لحظه أمضى من مضاربه.
وضرب منه آخر قول ابن الرومي:
بجهلٍ كجهل السّيفِ والسيف منتضىً ... وحلم كحلم السيفِ والسّيفِ مغمدُ
وضرب منه قول مسلم:
وخالٍ كخالِ البدر في وجهِ مثله ... لقينا المنى فيه فحاجزنا البذلُ

الفصل الرابع والثلاثون

في التطريز

وهو أن يقع في أبيات متوالية من القصيدة كلمات متساوية في الوزن، فيكون فيها كالطّراز في الثوب، وهذا النوع قليل في الشعر.
وأحسن ما جاء فيه قول أحمد بن أبي طاهر:
إذا أبو قاسمٍ جادتْ لنا يدُه ... لم يحمَد الأجودان: البحرُ والمطر
وإن أضاءتْ لنا أنوارُ غرّته ... تضاءل الأنوران: الشمس والقمرُ
وإن مضى رأيه أو حدّ عزمته ... تأخر الماضيان: السيفُ والقدر
من لم يكن حذراً من حدِّ صولته ... لم يدرِ ما المزعجان: الخوفُ والحذَر
فالتطريز في قوله: الأجودان، والأنوران، والماضيان، والمزعجان.
ونحوه قول أبي تمام:
أعوام وصلٍ كاد ينسى طولُها ... ذكرَ النوى فكأنها أيامُ
ثم انبرتْ أيام هجر أردفت ... نجوى أسىً فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنهم وكأنها أحلام
وقلت في مرثية:
أصبحتْ أوجهُ القبور وضاء ... وغدتْ ظلمة القبورِ ضياءُ
يوم أضحى طريدةً للمنايا ... ففقدنا به الغنى والغناءُ
يوم ظلّ الثرى يضم الثريّا ... فعدمنا منه السّنا والسناءُ
يوم فاتتْ به بوادرُ شؤمٍ ... فرزينا به الثَّرى والثراء
يوم ألقى الرّدى عليه جراناً ... فحرمنا منه الجدَا والجداء
يوم ألوتْ به هنات الليالي ... فلبسْنا به البلى والبلاء
ومن ذلك قول زياد الأعجم:
ومتى يؤامِرْ نفسه مستلحياً ... في أن يجود لذي الرجاء يقلْ جُد
أو أن يعود له بنفحة نائلٍ ... يعد الكرامة والحياء يقل عدِ
أو في الزيادة بعد جزل عطية ... للمستزيد من العفاة يقل زدِ

الفصل الخامس والثلاثون

في التلطف

وهو أن تتلطف للمعنى الحسن حتى تهجّنه، والمعنى الهجين حتى تحسنه، وقد ذكرت طرفاً منه في أوّل الكتاب، إلا أني لم أسمّه هناك بها الاسم فيشهر به ويكون بابا برأسه، كإخوانه من أبواب الصنعة.
فمن ذلك أن يحيى بن خالد البرمكي قال لعبد الملك بن صالح: أنت حقود، فقال: إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشر فإنهما عندي لباقيان. فقال يحيى: ما رأيت أحداً احتجّ للحقد حتى حسّنه غيرك. وقد مر هذا الفصل في أول الكتاب.
ورأى الحسن على رجل طيلسان صوف، فقال له: أيعجبك طيلسانُك هذا؟ قال: نعم، قال: إنه كان على شاة قبلك، فهجّنه من وجه قريب.
وأخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا الصولي، قال: حدثنا محمد بن القاسم أبو العيناء، قال: لما دخلتُ على المتوكل دعوتُ له، وكلمته فاستحسن كلامي، وقال لي: يا محمد، بلغني أنّ فيك شراً، قلت: يا أمير المؤمنين، إن يكن الشَّرُّ ذكر المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته، فقد زكّى الله عز وجل وذم؟ فقال في التزكية: " نعم العبدُ إنَّه أوابٌ " ، وقال في الذم: " همّازٍ مشّاءٍ بنميمٍ منّاعٍ للخير معتدٍ أثيمٍ، عتلٍّ بعد ذلك زنيمٍ " ، فذمه الله تعالى حتى قذفه، وقد قال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن دائماً ... ولم أشتم الجبس اللّئيم المذمَّما
ففيمَ عرفتُ الخير والشرّ باسمه ... وشقَّ لي اللهُ المسامعَ والفما
وفي الخبر بعض طول.

وكان عبد الله بن أمية وسم دوابّه عدّة، فلما جاز بها الحجاج جعل إلى جانبه للفرار. وقيل لعبادة: إن السّودان أسخن، فقال: نعم، للعيون. وقال رجل لرجل كان يراه فيبغضه: ما اسمك؟ فقال: سعد، قال: على الأعداء. وسمعت والدي رحمه الله يقول: لعن الله الصبر فإن مضرته عاجلة، ومنفعته آجلة، يتعجّل به ألم القلب، بأمثال المنفعة في العاقبة، ولعلها تفوتك لعارض يعرض، فكنت قد تعجلت الغم من غير أن يصل إليك نفع، وما سمعت هذا المعنى من غيره، فنظمته بعد ذلك، فقلت:
الصَّبرْ عمن تحبّه صبرُ ... ونفع من لامَ في الهوى ضررُ
منْ كان دون المرام مصطبراً ... فلستُ دونَ المرام أصطبرُ
منفعة الصّبر غيرُ عاجلةٍ ... وربما حال دونها الغيرُ
فقمْ بنا نلتمس مآربنا ... أقام أو لم يقم بنا القدر
إنّ لنا أنفساً تسودنا ... أعانهنّ الزمان أو بذرُ
وابغِ من العيش ما تسرّ به ... إن عذل الناس فيه أو عذروا
ومن المنظوم قول الحطيئة في قوم كانوا يلقبون بأنف الناقة فيأنفون، فقال فيهم:
قومٌ هم الأنف والأذنابُ غيرُهم ... ومنْ يسوّى بأنفِ الناقة الذنبا
فكانوا بعد ذلك يتبجحون بهذا البيت.
ومدح ابن الرومي البخل وعذر البخيل، فقال:
لا تلمِ المرءَ على بخلِه ... ولمهُ يا صاحِ على بذلِهِ
لا عجب بالبخل من ذي حجىً ... يكرم ما يكرم من أجلِه
وعذر أبو العتاهية البخيل في منعه منه، بقوله:
جزى البخيلُ عليَّ صالحةً ... عنِّى بخفتِه على ظهرِي
أعلَى فأكرَم عن نداه يدِي ... فعلتْ ونزَّه قدرُه قدرِي
ورزقتُ من جدواهُ عارفة ... ألاّ يضيقَ بشكرِه صدري
وظفرتُ منه بخيرِ مكرمة ... من بخلِه من حيثُ لا يدرِي
ما فاتني خيرُ امرئ وضعت ... عنِّي يداه مؤومة الشكرِ
وقال ابن الرومي، يعذر إنسانا في المنع:
أجممت حسرى أياديك التي ثقلت ... على الكواهل حتى أدّها ذاكا
وما مللتَ العطايا فاسترحت إلى ... إغبابهم بل هم ملوا عطاياكا
وما نهتهمْ عن المرعى وخامتُه ... لكنه أسبق الرّاعين مرعاكا
تدبّر الناسُ ما دبّرته فإذا ... عليهم لا على الأموال بقياكا
أمسكت سيبَك إضراء لرغبتهم ... وما بخلت ولا أمسكت إمساكا
وكان شمُّ الورد يضرُّه، فكان يذمّه ويمدح النرجس، واحتال في تشبيهه، حتى هجّن فيه أمره وطمس حسنه وهو قوله:
وقائل لم هجوتَ الورد معتمداً ... فقلت من بغضه عندي ومن عبطه
كأنه سرمُ بغل حين يخرجه ... عندَ الرياث وباقي الروث في وسطِه
ومثله قول يزيد المهلبي:
ألا مبلغٌ عني الأميرَ محمداً ... مقالاً له فضل على القول بارعُ
لنا حاجةٌ إن أمكنتك قضيتَها ... وإن هي لم تمكن فعذرُك واسعُ
وقال ابن الرومي أيضاً:
وإني لذو حلف كاذب ... وإذا ما اضطررت وفي الأمر ضيقُ
وما في اليمين على مدفعٍ ... يدافع بالله ما لا يطيق
وقد فرغنا من شرح أبواب البديع، وتبيين وجوهها وإيضاح طرقها، والزيادة التي زدنا فيها سّتة فصول، وأبرزناها في قوالبها من الألفاظ من غير إخلال ولا إهذار. وإذا أردت أن تعرف فضلها على ما عمل في معناها قبلها، فمثل بينها وبينه فإنك تقضِي لها عليه، ولا تنصرف بالاستحسان عنها إليه، إن شاء الله.
وقد عرض لي بعد نظم هذه الأنواع، نوع آخر لم يذكره أحد وسميته المشتق، وهو على وجهين، فوجه منهما أن يشتق اللفظ من اللفظ، والآخر أن يشتق المعنى من اللفظ، فاشتقاق اللفظ من اللفظ، هو مثل قول الشاعر في رجل يقال له بنخاب:
وكيف ينجح من نصف اسمه خابا
وقلت، في البانياس:
في البانياس إذا أوطئت ساحتها ... خوف وحيفٌ وإقلال وإفلاس
وكيف يطمع في أمن وفي دعة ... من حل في بلد نصف اسمه ياس
واشتقاق المعنى من اللفظ، مثل قول أبي العتاهية:
حلقتُ لحية موسى باسمه ... وبهارون إذا ما قلبا
وقال ابن دريد:
أو أوحى النحو إلى نفطويه ... ما كان هذا النحو يقرا عليه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصبر الباقي صراخاً عليه

الباب العاشر

ذكر مبادئ الكلام ومقاطعه

والقول في حسن الخروج والفصل والوصل وما يجري مجرى ذلك

الفصل الأول

في ذكر المبادئ

قال بعض الكتّاب: أحسنوا معاشر الكّتاب الابتداءات فإنهن دلائل البيان. وقالوا: ينبغي للشاعر أن يحترز في أشعاره، ومفتتح أقواله، مما يتطيّر منه، ويستجفى من الكلام والمخاطبة والبكاء ووصف إقفار الديار وتشتيت الألاّف ونعى الشباب وذمّ الزمان، لا سيّما في القصائد التي تتضمن المدائح والتهاني. ويستعمل ذلك في المراثي، ووصف الخطوب الحادثة، فإن الكلام إذا كان مؤسسا على هذا المثال تطيّر منه سامعه، وإن كان يعلم أن الشاعر إنما يخاطب نفسه دون الممدوح، مثل ابتداء ذي الرّمة:
ما بال عينك منها الماء ينسكبُ ... كأنه من كلىً مفريّةٍ سرب
وقد أنكر الفضل بن يحيى البرمكي على أبي نواس ابتداءه:
أربع البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادِي
قال فلما انتهى إلى قوله:
سلامٌ على الدّنيا إذا ما فقدتُم ... بنى برمكٍ من رائحين وغاد
وسمعه استحكم تطيّره، وقيل: إنه لم يمض أسبوع حتى نكبوا.
ومثله ما أخبرنا به أبو أحمد، قال: حدثنا الصولي، قال: حدثنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عمى عن أخيه أبي محمد، قال: لما فرغ من بناء قصره بالميدان الذي كان للعباسية، جلس فيه وجمع الناس من أهله وأصحابه، وأمر أن يلبس الناسُ كلّهم الديباج، وجعل سريره في الإيوان المنقوش بالفسافسا الذي كان في صدره صورة العنقاء، فجلس على سرير مرصّع بأنواع الجواهر، وجعل على رأسه التاج الذي فيه الدرّة اليتيمة، وفي الإيوان أسرّة آبنوس عن يمينه وعن يساره، من عند السرير الذي عليه المعتصم إلى باب الإيوان، فكلما دخل رجل رتّبه هو بنفسه في الموضع الذي يراه، فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم، فاستأذنه إسحاق بن إبراهيم في النّشيد فأذن له، فأنشده شعراً ما سمع الناس أحسن منه في صفته وصفة المجلس، إلاّ أن أوله تشبيب بالديار القديمة، وبقية آثارها فكان أول بيت منها:
يا دارُ غيّرك البلى فمحاكِ ... يا ليت شعري ما الّذي أبلاك
فتطيّر المعتصم منها، وتغامز الناس، وعجبوا كيف ذهب على إسحاق مع فهمه وعلمه وطول خدمته للملوك، قال: فأقمنا يومنا هذا، وانصرفنا، فما عاد منا اثنان إلى ذلك المجلس، وخرج المعتصم إلى سرّ من رأى، وخرب القصر.
وأنشد البحتري أبا سعيد قصيدة أولها:
لك الويلُ من ليلٍ تطاول آخرُه ... ووشك نوَى حيٍّ تزم أباعرُه
فقال أبو سعيد: بل الويل والحرب لك فغيّره وجعله له الويل وهو ردئ أيضاً.
وأنشد أبو حكيمة أبا دلف:
ألا ذهب الأير الذي كنت تعرف
فقال أبو دلف: أمّك تعرف ذلك.
وأنشد أبو مقاتل الداعي:
لا تقلْ بشرى ولكن بشريان ... غرّة الداعي ويوم المهرجان
فأوجعه الداعي ضرباً، ثم قال: هلا قلت: إن تقل بشرى فعندي بشريان. فإن أراد أن يذكر داراً فليذكرها كما ذكرها الخريمي:
ألا يا دارُ دام لك الحبورُ ... وساعدك الغضارةُ والسرور
وكما قال أشجع:
قصرٌ عليه تحيةٌ وسلام ... نشرت عليه جمالَها الأيام
وقالوا: أحسن ابتداءات الجاهلية قول النابغة:
كليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ ... وليلٍ أقاسيه بطئ الكواكب
وأحسن مرثية جاهلية ابتداء قول أوس بن حجر:
أيّتها النفس أجملِي جزعا ... إنَّ الذي تحذرين قد وقعا
قالوا: وأحسنُ مرثية إسلامية ابتداء قول أبي تمام:
أصمّ بك الناعي وإن كان أسمَعا ... وأصبحَ مغنى الجودِ بعدَك بلقعَا
وقول الآخر:
أنعى فتى الجود إلى الجودِ ... ما مثل منْ أنعَى بموجود
أنعّى فتىً مصَّ الثرى بعده ... بقية الماء من العود
وقد بكى امرؤُ القيس واستبكى، ووقف واستوقف، وذكر الحبيبَ والمنزل في نصف بيت، وهو قوله:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل
فهو من أجود الابتداءات.
ومن أحكم ابتداءات العرب قول السموءل:
إذا المرءُ لم يدنسْ من اللؤمِ عرضُه ... فكلُّ رداءٍ يرتديه جميل
وإنْ هوَ لم يحملْ على النفس ضيَمها ... فليس إلى حسنِ الثناء سبيل
وقال بعضهم: أحكم ابتداءاتهم قول لبيد:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل ... وكلُّ نعيم لا محالة زائل

وبعضهم يجعل ابتداء هذه القصيدة:
ألا تسألان المرء ماذا يحاولُ ... أنحبٌ فيقضي أم ضلال وباطلُ
ومن جياد ابتداءات أهل الجاهلية قول أوس بن حجر:
ولقد أبيتُ بليةٍ كليالي
ومنها قول النابغة:
دعاك الهوى واستهجلتكَ المنازلُ ... وكيفَ تصابي المرءِ والشيبُ شاملٌ
ونحوه قول أمية:
يا نفسُ مالك بعد الله من واقِ ... وما على حدثان الدهر من راقِ
وقالوا: وكان عبد الحميد الكاتب لا يبتدئ بلولا ولا إن رأيت. وقد جعل الناس قول أبي تمام:
يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا ... هي الصبابة طول الدهر والسهد
من جياد الابتداءات، وقوله:
سعدتْ غربةُ النَّوَى بسعادِ ... فهي طوعُ الإتهامِ والإنجادِ
وسئل بعضهم عن أحذق الشعراء، فقال: من يتفقد الابتداء والمقطع.
لما نظر أبو العميثل في قصيدة أبي تمام:
أهنَّ عوادي يوسف وصواحبهْ ... فعزماً فقدماً أردكَ الثأر طالبُهْ
استرذل ابتداءها وأسقط القصيدة كلها، حتى صار إليه أبو تمام، ووقفه على موضع الإحسان منها، فراجع عبد الله بن طاهر، فاجازه.
ولأبي تمام ابتداءات كثيرة تجرى هذا المجرى، منها قوله:
قدلّ أتَّثبْ أربيتَ في الغلواءِ ... كم تعذلون وأنتمُ سجرائي
وقوله:
صدقتْ لهيَّا قلبك المستهترِ ... فبقيت نهبَ صبابة وتذكُّرِ
ومن الابتداءات البديعة قول مسلم:
أجررتُ ذيلَ خليعٍ في الهوى غزلِ ... وشمَّرَتْ هممُ العذَّالِ في عذلِي
وقال أبو العتاهية:
ننافس في الدنيا ونحنُ نعيبها
والابتداء أول ما يقع في السمع من كلامك، والمقطع آخر ما يبقى في النفس من قولك، فينبغي أن يكونا جميعاً مونقين.
وقد استحسن لبعض المتأخرين ابتداؤه:
أريقك أم ماءُ الغمامة أم خمرُ ... بفيَّ برودٌ وهو في كبدي جمرُ
وله بعد ذلك ابتداءات المصائب، وفراق الحبائب، منها قوله:
كفى أراني ويكِ لومكِ ألوَما ... همٌّ أقامَ على فؤادي أنجما
وقوله:
أبا عبد الإله معاذُ إني ... خفيٌّ عنك في الهيجا مقامي
وقوله:
هذي برزتِ لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا
وقوله:
جللاً كما بي فليكُ التّبريحُ ... أغذاءُ ذا الرّشإ الأغن الشيبحُ
وقوله:
أحادٌ أم سداسٌ في أحاد ... لييلتنا المنوطةُ بالتّنادِي
وقوله:
لجنِّية أم غادةٍ رفعَ السَّجفُ ... لوحشيّةٍ لا ما لوحشية شنفُ
وقوله:
بقائي شاء ليس همُ ارتحالا ... وحسن الصبر زمّوا لا الجمالا
وقوله:
في الخدِّ إن عزمَ الخليطُ رحيلا ... مطرٌ يزيد به الخدود محولا
وقال إسمعيل بن عباد: لعمري إن المحول في الخدود من البديع المردود.
وقوله:
نهنِّي بصورٍ أم نهنِّئها بكا ... وقلْ للَّذي صورٌ وأنتَ له لكا
وقوله:
عذيري من عذارى في صدور ... سكنَّ جوانِحي بدلَ الصُّدورِ
وقوله:
سربٌ محاسُنه حرمتُ ذواتِها ... دانِي الصِّفاتِ بعيدُ موصوفاتِها
وقوله:
أيا لائمي إنْ كنت وقتَ اللّوائِم ... علمت بما بي بينَ تلكَ المعالمِ
وقوله:
ووقتٍ وفي بالدهرِ لي عند واحدٍ ... وفى لي بأهليه وزادَ كثيرا
وقوله:
شديد البعد من شرب الشَّمول ... ترنجُ الهندِ أو طلعُ النَّخيل
وقوله:
أراع كذا كلَّ الأنام همامُ ... وسحَّ له رسل الملوكِ غمام
وقوله:
أوهٍ بديلٌ من قولتي واهَا ... لمنْ نأتْ والبديلُ ذكرَاهَا
فهذه وما شاكلها ابتداءات لا خلاق لها.
وإذا كان الابتداء حسناً بديعاُ، ومليحاً رشيقاً، كان داعية إلى الاستماع لما يجئ بعده من الكلام، ولهذا المعنى يقول الله عز وجل: آلم. وحم. وطس. وطسم. وكهيعص، فيقرع أسماعهم بشيء بديع ليس لهم بمثله عهد، ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده والله أعلم بكتابه. ولهذا جعل أكثر الابتداءات بالحمد لله، لأن النفوس تتشوف للثناء على الله فهو داعية إلى الاستماع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل كلام لم يبدأ فيه بحمد الله تعالى فهو أبتر " .
فأما الابتداء البارد، فابتداء أبي العتاهية:

ألا ما لسيدتي مالَها ... أدلَّتْ فاحمل إدلالها

الفصل الثاني

في ذكر المقاطع والقول في الفصل والوصل

قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل. وقال المأمون لبعضهم: من أبلغ الناس؟ فقال: من قرَّب الأمرَ البعيد المتناول، والصّعب الدرك بالألفاظ اليسيرة، قال: ما عدل سهمك عن الغرض. ولكن البليغ من كان كلامه في مقدار حاجته، ولا يجيل الفكرة في اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ، ولا يكره المعاني على إنزالها في غير منازلها، ولا يتعمَّد الغريب الوحشيّ، ولا الساقط السوقيّ، فإن البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلئ بلا نظام.
وقال أبو العباس السفاح لكاتبه: قف عند مقاطع الكلام وحدوده، وإيّاك أن تخلط المرعىّ بالهمل. ومن حلية البلاغة المعرفة بمواضع الفصل والوصل.
وقال الأحنف بن قيس: ما رأيتُ رجلاً تكلّم فأحسن الوقوف عند مقاطع الكلام، ولا عرف حدوده إلا عمرو بن العاص رضى الله عنه، كان إا تكلم تفقد مقاطع الكلام، وأعطى حقّ المقام، وغاص في استخراج المعنى بألطف مخرج، حتى كان يقف عند المقطع وقوفاً يحول بينه وبين تبيعته من الألفاظ، وكان كثيراً ما ينشد:
إذا ما بدا فوق المنابر قائلا ... أصاب بما يومي إليه المقاتلا
ولا أعرف فصلا في كلام منثور أحسن مما أخبرنا به أبو أحمد، قال: حدثنا الصّولي، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثني العتبي عن أبيه، قال: كان شبيب ابن شبّة يوماً قاعداً بباب المهدي، فأقبل عبد الصمد بن الفضل الرّقاشيّ، فلما رآه قال: أتاكم والله كليمُ الناس. فلما جلس قال شبيب: تكلم يا أبا العباس، فقال: امعك يا أبا معمر وأنت خطيبنا وسيدنا؟ قال: نعم، فوالله ما رأيت قلباً أقرب من لسان، من قلبك من لسانك، قال: في أي شيء تحب أن أتكلم؟ قال: وإذا شيخ معه عصاً يتوكأ عليها، فقال: صف لنا هذه العصا، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، ثم ذكر السماء، فقال: رفعها الله بغير عمد، وجعل فيها نجوم رجمٍ ونجوم اقتداء، وأدار فيها سراجاً وقمراً منيراً، لتعلموا عدد السنين والحساب، وأنزل منها ماء مباركاً، أحيا به الزرع والضّرع وأدرّ به الأقوات، وحفظ به الأرواح، وأنبت به أنواعا مختلفة، يصرّفها من حالٍ إلى حال، تكون حبّة، ثم يجعلها عرقا، ثم يقيمها على ساق، فبينا تراها خضراء ترف إذ صارت يابسة تتقصّف، لينتفع بها العباد، ويعمر بها البلاد، وجعل من يبسها هذه العصا. ثم أقبل على الشيخ، فقال: وكان هذا نطفة في صلب أبيه، ثم صار علقة حين خرج منه، ثم مضغة ثم لحما وعظما، فصار جنينا أوجده الله بعد عدم، وأنشأه مريدا، ووفقه مكتهلا، ونقصه شيخاً، حتى صار إلى هذه الحال، من الكبر، فاحتاج في آخر حالاته إلى هذه العصا، فتبارك المدبّر للعباد ... قال شبيب: فما سمعت كلاماً على بديه أحسن منه.
وقال معاوية: يا أشدق، قم عند قروم العرب وجحاجحها، فسلَّ لسانك، وجل في ميادين البلاغة، وليكن التفقّد لمقاطع الكلام منك على بال، فإني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى على عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه كتابا، وكان يتفقّد مقاطع الكلام كتفقد المصرم صريمته.
ولما أقام أبو جعفر صالحا خطيا بحضرة شبيب بن شبة وأشراف قريش فتكلم، أقبل شبيب فقال: يا أمير المرمنين، ما رأيت كاليوم أبين بيانا، ولا أربط جنانا، ولا أفصح لسانا، ولا أبلَّ ريقاً، ولا أغمض عروقا، ولا أحسن طريقا، إلا أن الجواد عسير لم يرض، فحملته القوة على تعسّف الإكام وخبطها، وترك الطريق اللاحب، وايم الله لو عرف في خطبته مقاطع الكلام لكان أفصح من نطق بلسان.
وقال المأمون: ما أعجب بكلام أحد كإعجابي بكتاب القاسم بن عيسى، فإنه يوجز في غير عجز، ويصيب مفاصل الكلام ولا تدعوه المقدرة إلى الإطناب، ولا تميل به الغزارة إلى الإسهاب، يجلى عن مراده في كتبه، ويصيب المغزى في ألفاظه.
وكان يزيد بن معاوية يقول: إياكم أن تجعلوا الفصل وصلا، فإنه أشدُّ وأعيبُ من اللَّحن.

وكان أكثم بن صيفي إذا كاتب ملوك الجاهلية يقول لكتّابه افصلوا بين كل معنىً منقضٍ، وصلوا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض. وكان الحرث بن أبي شمر الغسّاني يقول لكاتبه المرقش: إذا نزع بك الكلام إلى الابتداء بمعنىً غير ما أنت فيه فافصل بينه وبين تبيعته من الألفاظ، فإنك إن مذقت ألفاظك بغير ما يحسن أن تمذق به نفّرت القلوب عن وعيها، وملّته الأسماع، واستثقلته الرواة. وكان بزرجمهر. يقول: إذا مدحت رجلاً، وهجوت آخر، فاجعل بين القولين فصلاً حتى تعرف المدح من الهجاء، كما تفعل في كتبك إذا استأنفت القول، وأكملت ما سلف من اللفظ.
وقال الحسن بن سهل لكاتبه الحرّاني: ما منزلة الكاتب في قوله وفعله؟ قال: أن يكون مطبوعا محتنكا بالتجربة، علاماً بحلال الكتاب والسنة وحرامها، وبالدهور في تداولها وتصرّفها، وبالملوك في سيرها وأيامها، مع براعة اللفظ وحسن التنسيق، وتأليف الأوصال بمشاكلة الاستعارة، وشرح المعنى، حتى ينصب ضورها، وبمقاطع الكلام، ومعرفة الفصل من الوصل، فغذا كان ذلك كذلك فهو كاتب مجيد. والقول إذا استكمل آلته، واستممّ معناه فالفصل عنده. وكان عبد الحميد الكاتب إذا استخبر الرجل في كتابه فكتب: خبرك، وحالك وسلامتك، فصل بين هذه الأحرف ويقول: قد استكمل كل حرف منها آلته، ووقع الفصل عليه. وكان صالح بن عبد الرحمن التميمي الكاتب يفصّل بين الآيات كلها وبين تبيعتها من الكتاب، كيف وقعت. وكان يقول: ما استؤنف إنّ إلا وقع الفصل، وكان جبل بن يزيد يفصّل بين الفاءات كلها، وقد كره بعض الكتبة ذلك وأحبه بعض، وفصل المأمون عند حتى كيف وقعت، وأمر كتابه بذلك، فغلط أحمد بن يوسف، ووصل حتى بما بعده من اللفظ، فلما عرض الكتاب على المأمون أمر بإحضاره، فقال: لعن الله هذه القلوب حين أكنّت العلوم بزعمكم، واجتنت ثمر لطائف الحكمة بدعواكم، قد شغلتموها باستظراف ما عزب عنكم علمه عن تفهّم ما رويتموه، وتفحّص ما جمعتموه، وتعرف ما استقدمتموه، أليس قد تقدمنا إليكم بالفصل عند حتى حيثما وقعت من الألفاظ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد ينبو السيف وهو صميم، ويكبو الجواد وهو كريم. وكان لا يعود في شيء من ذل، وكان يأمر كتابه بالفصل بين، بل وبلى، وليس.
وأمر عبد الملك كتابه بذلك إلا ليس. وقال المأمون ما أتفحّص من رجل شيئاً كتفحّصي عن الفصل والوصل في كتابه، والتخّلص من المحلول إلى المعقود، فإنّ لكل شيء جمالاً، وحلية الكتاب وجماله إيقاع الفصل موقعه، وشحذ الفكرة وإجالتها في لطف التخلص من المعقود إلى المحلول.
وقلنا: إن المعقود والمحلول ها هنا هو أنك إذا ابتدأت مخاطبة، ثم لم تنته إلى موضع التخّلص ممّا عقدت عليه كلامك سمى الكلام معقوداً، وإذا شرحت المستور وأبنت عن الغرض المنزوع إليه سمّى الكلام محلولا.
مثلا ذلك ما كتب بعضهم، وجرى لك من ذكر ما خصّك الله به، وأفرادك بفضيلته من شرف النفس والقدرة، وبعد الهمّة والذكر، وكمال الأداة والآلة والتمهد في السياسة والإيالة، وحياطة أهل الدين والأدب، وإنجاد عظيم الحق بضعيف السبب، ما لا يزال يجري مثله عند كلِّ ذكر يتخذ ذلك، وحديث يؤثر عنك. فالكلام من أول الفصل إلى آخر قوله بضعيف السبب معقود، فلما اتصل بما بعده صار محلولا.
وما كتب بعضهم: ربما كانت مودّة السبب أؤكد من مودة النّسب، لأن المودة التي تدعو إليها رغبة أو رهبة، أو شكر نعمة، أو شاكلة في صناعة، أو مناسبة بمشاكلة مودة معروفة وجوهها، موثوق بخلوصها فتوكدها بحسب السبب الداعي إليها، ودوامها بدوامه واتصالها باتصاله، ومودة القربى وإن أوجبتها اللّحمة، فهي مشوبة بحس ونفاسة، وبحسب ذلك يقع التقصير فيما يوجبه الحال، والإضاعة لما يلزم من الشكر، والله يعلم أني أودك مودّة خالصة لم تدع إليها رغبة فيزيلها استغناء عنها، ولا اضطرت إليها رهبة، فيقطعها أمن منها، وإن كنت مرجوا للموهبات بحمد الله، ومقصداً من مقاصد الرغبات، وكهفاً وحرزاُ من الموبقات. فهذا الكلام كله معقود إلى قوله: مشاكلة مودة فلما اتصل بما بعده صار محلولا.
وقال بعضهم: انظر سدّدك الله ألاّ تدعوك مقدرتك على الكلام إلى إطاله المعقود، فإن ذلك فساد ما أكننتَه في صدرك، وأردت تضمينه كتابك. واعلم أن إطالة المعقود يورث نسيان ما عقدت عليه كلامك، وأرهفت به فكرتك.

وكان شبيب بن شبة يقول: لم أر متكلما قطّ أذكر لما عقد عليه كلامه، و أحفظ لما سلف من نطقه من خالد بن صفوان، يشبع العقود بالمعاني التي يصعب الخروج منها إلى غيرها، ثم يأتي بالمحلول واضحاً، بينا مشروحا منوراً. وكان السامع لا يعرف مغزاه ومقصده، في أول كلامه حتى يصير إلى آخره.
وقال بعضهم: ليس يحمد من القائل أن يعمى معرفة مغزاه على السامع لكلامه في أول باتدائه، حتى ينتهي إلى آخر، بل الأحسن أن يكون في صدره كلامه دليلٌ على حاجته ومبيّنٌ لمغزاه ومقصده، كما أن خير أبيات الشعر ما إذا سمعت صدره عرفت قافيته. وكان شبيب بن شبة يقول: الناس موكّلون بتعظيم جودة الابتداء وبمدح صاحبه، وأنا موكّل بتعظيم جودة المقطع وبمدح صاحبه، وخير الكلام ما وقف عند مقاطعه، وبيّن موقع فصوله.
قلنا: ومما لم يبين موضع الفصل فيه فأشكلَ الكلام قولُ المخبَّل للزبرقان ابن بدر:
وأبوك بدرٌ كان ينتهس الحصى ... وأبي الجوادُ ربيعة بن قبال
فقال الزّبرقان: لا بأس، شيخان اشتركا في صنعة وقلّما رأينا بليغاً إلا وهو يقطع كلامه على معنى بديع، أو لفظٍ حسن رشيق.
قال لقيط في آخر قصيدة:
لقد محضتُ لكم ودّي بلا دخلٍ ... فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا
فقطعها على كلمة حكمة عظيمة الموقع.
ومثله قول امرئ القيس:
ألا إنَّ بعد العدمِ للمرءِ قنوةً ... وبعد الشباب طول عمرٍ وملبسا
فقطع القصيدة أيضاً على حكمة بالغة.
وقال أبو زبيد الطائي في آخر قصيدة:
كلُّ شيء تحتال فيه الرجالُ ... غير أن ليس للمنايا احتيالُ
وقال أبو كبير:
فإذا وذلك ليس إلا ذكرُه ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل
فينبغي أن يكون آخر بيت قصيدتك أجود بيت فيها، وأدخل في المعنى الذي قصدتَ له في نظمها، كما فعل ابن الزّبعري في آخر قصيدة يعتذر فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويستعطفه:
فخذ الفضيلة عن ذنوب قد خلت ... واقبل تضرّع مستضيفٍ تائب
فجعل نفسه مستضيفا، ومن حق المستضيف أن يضاف، وإذا أضيف فمن حقه أن يصان، وذكر تضرّعه وتوبته مما سلف، وجعل العفو عنه مع هذه الأحوال فضيلة، فجمع في هذا البيت جميع ما يحتاج إليه في طلب العفو.
وقول تأبط شراً في آخر قصيدته:
لتقرعنَّ عليَّ السِّنّ من ندمٍ ... إذا تذكرتَ يوماً بعض أخلاقي
هذا البيت أجود بيت فيها لصفاء لفظه، وحسن معناه.
ومثله قول الشّنفري في آخر قصيدة:
وإني لحلوٌ إن أريد حلاوَتي ... ومرٌّ إذا نفس العزوف أمرّت
أبيٌّ لما آبى قريبٌ مقادتي ... إلى كل نفس تنتحى في مسرتي
فهذان البيتان أجود ما فخر به من هذه القصيدة.
وقال بشر بن أبي خازم في آخر قصيدته:
ولا ينجِي من الغمراتِ إلا ... براكاء القتال أو الفرار
فقطعها على مثل سائر، والأمثال أحب إلى النفوس لحاجتها إليها عند المحاضرة والمجالسة. وقال الهذلي:
عصاك الأقاربُ في أمرهمْ ... فزايلْ بأمرك أو خالطِ
ولا تسقطنّ سقوط النوا ... ةِ من كف مرتضخٍ لا قطِ
فقطعها على تشبيه مليح ومثل حسن، وهكذا يفعل الكتاب الحذاق، والمترسلون المبرزون، ألا ترى ما كتب الصاحب في آخر رسالة له: فإن حنثتَ فيما حلفتَ، فلا خطوت لتحصيل مجد، ولا نهضت لاقتناء حمد، ولا سعيت إلى مقام فخر، ولا حرصتَ على علوِّ ذكر، وهذه اليمين التي لو سمعها عامر بن الظرب لقال هي الغموس، لا القسم باللاّت والعزى ومناة الثالثة الأخرى. فأتى بأيمان ظريفة ومعان غريبة.
وكتب أيضاً في آخر رسالة: وأنا متوقّع لكتابك، توقّع الظمآن للماء الزلال، والصوّام لهلال شوال.
وكتب آخر أخرى، وسأل أن أخلفه في تجشيم مولاي إلى هذا المجمع ليقرب علينا تناول البدر بمشاهدته، ولمس بغرته. فانظر كيف يقطّع كلماته على كل معنى بديع، ولفظ شريف.
ومن حسن المقطع جودة الفاصلة وحسن موقعها وتمكّنها في موضعها، وذلك على ثلاثة أضرب: فضرب منها أن يضّيق على الشاعر موضع القافية، فيأتي بلفظ قصير قليل الحروف فيتمم به البيت، كقول زهير:
وأعلمُ ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنّني عن علمِ ما في غدٍ عمِى
وقول النابغة:
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفّتْ أعالِيه وأسفله ندِى

وقال الأعشى:
وكأس شربتْ على لذَّة ... وأخرى تداويتُ منها بها
وقول امرئ القيس:
مكرّ مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطّه السّيلُ من عل
وقول طرفة:
إذا ابتدر القومُ السلاحَ وجدتُني ... منيعاً إذا بلّتْ بقائِمه يدِي
وقول النابغة:
زعمَ الهمامُ ولم أذقه أنه ... يشفى ببرد لثاتِها العطشُ الصَّدى
وقال آخر:
ألا يا غرابي بينها لا تصدّعا ... فطيرا جميعا بالنوى أوقعا معا
وقول متمم:
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطولِ اجتماع لم نبت ليلة معا
وقول الأعشى:
فظللتُ أرعاها وظل يحوطُها ... حتى دنوتُ إذا الظلامُ دنَا لها
وقول النابغة:
لا مرحبا بغدٍ ولا أهلا به ... إن كان تفريقُ الأحبة في غدِ
أفدَ الترحلُ غير أن ركابنا ... لما تزلْ برحالنا وكأن قد
وقول ابن أحمر: وقال عدي بن زيد:
فإن كانت النعماءُ عندك لامرئ ... فمثِّل بها واجز المطالب أو زِد
وقال ابن أبي حية:
فقلنَ لها سرّا فديناك لا يرحْ ... صحيحاً وإلا تقبليه فألمِمِي
فألقت قناعا دونه الشمس واتَّقت ... بأحسن موصلين كفٍّ ومعصمِ
وقالت فلما أفرغت في فؤاده ... وعينيه منها السحر قلنَ له قمِ
فودَّ بجدعِ الأنفِ لو أنّ صحبه ... تنادوْا وقالوا في المناخ له نَمِ
ومن شعر المحدثين قول ابن أبي عيينة:
دنيَا دعوتك مسمعاً فأجيبي ... وبما اصطفيتك للهوى فأثيبي
دومِي أدمْ لك بالوفاء على الصَّفا ... إني بعهدِك واثق فثقي بي
وقال آخر:
أتتني تؤنبني في البكا ... فأهلا بها وبتأنيبها
تقولُ وفي قولها حشمة ... تراني بعينٍ وتبكي بها
فقلتُ إذا استحسنتْ غيركم ... أمرتُ الدموع بتأديبها
فقوله: تراني بعين وتبكي بها حسن الوقع جداً.
وقلت:
سيقضي لي رضاك بردِّ مالي ... ويعمدُ حسن رأيك كشفَ ما بِي
وقلت:
وذقت مهوى النجم ريقاً خصِرا ... لو كان من ناجودِ خمر ما عدا
وقد تنعمت بنشر عطرٍ ... لو كان من فارة مسك كان دا
والضرب الآخر: وهو أن يضيق به المكان أيضاً، ويعجز عن إيراد كلمة سالمة تحتاج إلى إعراب ليتم بها البيت، فيأتي بكلمة معتلة لا تحتاج إلى الإعراب، فيتمه به، مثل قول امرئ القيس:
بعثنا ربيا قبل ذاك مخملا ... كذئب الغضا يمشي الضّراء ويتقي
وقول زهير:
صَحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمَى التّعانيق فالثقل
ثم قال:
وقد كنتُ من سلمى سنينا ثمانيا ... على صيرِ أمرٍ ما يمرّ وما يحلُو
وقال:
لذي الحلم من ذبيان عندي مودةٌ ... وحفظٌ ومن يلحمْ إلى الشّرّ أنسجِ
مخوفٍ كأنّ الطير في منزلاتِه ... على جيف الحسرَى مجالسُ تنتجى
وقوله:
وأراك تفري ما خلقت وبع ... ضُ القومِ بخلقُ ثم لا يفرِي
وقول أبي كبير:
ولقدْ ربأتُ إذا الصحاب تواكلوا ... جمر الظَّهيرة في البقاع الأطولِ
في رأس مشرفة القذال كأنما ... أطرُ السحاب بها رياض المجدَلِ
ومعابلا صلعَ الظبات كأنها ... جمر بمسهكةٍ تشبّ لمصطلي
فقوله: لمصطى متمكنة في موضعها.
وقول ذي الرّمة:
أراح فريقُ جيرتِك الجمالا ... كأنهم يريدون احتِمالا
فكدتُ أموت من حزنٍ عليهم ... ولم أر حاديَ الأظعان بالَي
فقوله: بالي، عجيبة الموقع، أخذه من قول زهير:
لقدْ باليتُ مظعن أمّ أوفى ... ولكنْ أم أو في لا تُبالي
وقال الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقال آخر:
وجوه لو أنّ المدلجين اعتشوا بها ... صدعنَ الدّجى حتى ترى الليل ينجلي

والضرب الثالث: أن تكون الفاصلة لائقة بما تقدّمها من ألفاظ الجزء من الرسالة أو البيت من الشعر، وتكون مستقرة في قرارها، ومتمكنة في موضعها، حتى لا يسدّ مسدها غيرها، وإن لم تكن قصيرة قليلة الحروف، كقول الله تعالى: " وأنّه هوَ أضحكَ وأبكى وأنَّهُ هو أماتَ وأحيا وأنَّهُ خلق الزَّوجين الذَّكر والأنثى " ، وقوله تعالى: " وللآخرةُ خيرٌ لك من الأولى ولسوف يعطيك ربُّك فترضى " ، فأبكى مع أضحك وأحيا مع أمات، والأنثى مع الذكر، والأولى مع الآخرة، والرضا مع العطية في نهاية الجودة، وغاية حسن الموقع.
ومن الشعر قول الحطيئة:
هممُ القومُ الّذين إذا ألمت ... من الأيام مظلمةٌ أضاءوا
وقول عدي بن الرقاع:
صلّى الإله على امرئ ودّعتُه ... وأتمَّ نعمته عليه وزادا
وقول زياد بن جميل:
هم البحورُ عطاءً حين تسألُهمْ ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهمُ
وهذا مستحسن جدّاً لما تضمن من التجنيس.
ومن ذلك قول البحتري:
ظللنا نرجم فيك الظنون ... أحاجبه أنت أم حاجمه
وقول أبي نواس:
إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشفتْ ... له عن عدوّ في ثياب صديقِ
الصديق ها هنا جيّد الموقع، لأنّ معنى البيت يقتضيه، وهو محتاج إليه.
وقول جميل:
ويقلنَ إنّك قدْ رضيتَ بباطلٍ ... منها فهل لك في اعتزال الباطل
الباطل، هاهنا جيد الموقع لمطابقته مع الباطل الأول، وقلت:
وقد زيَّنتْ أسواقُه بطرائفٍ ... إذا انصرفتْ عنها العيون تعودُ
تعود، هاهنا جيد متمكن الموقع.
ومما عيب من القوافي قول ابن قيس الرقيات، وقد أنشد عبد الملك:
إنّ الحوادثَ بالمدينة قدْ ... أوجعتني وقرعنَ مروتَيه
وجببلنني جبّ السَّنامِ فلمْ ... يتركنَ ريشاً في مناكبيه
فقال له عبد الملك: أحسنت إلاّ تخنَّثت في قوافيك، فقال: ما عدوت قول الله عز وجل: " ما أغنى عنِّي ماليهْ هلكَ عنِّي سلطانيه " ، وليس كما قال، لأنّ فاصلة الآية حسنة الموقع، وفي قوافي شعره لين.
ومن عيوب القوافي أن تكون القافية مستدعاة لا تفيد معنى، وإنما أوردت ليستوى الرويّ فقط، مثل قول أبي تمام:
كالظبية الأدماءِ صافت فأرتعت ... زهرَ العرار الغضِّ والجثجاثا
ليس في وصف الظبية أنها ترتعي الجثجاث فائدة، وسواء رعتِ الجثجاث أو القلاّم أو غير من النبت، وإذا قصد لنعت الظبية بزيادة حسن قيل إنها تعطو الشجر، لأنها حينئذ ترفع رأسها، فيطول جيدها وتظهر محاسنُها، كما قال الطّرمّاح:
مثل ما عاينتُ مخروفةً ... نصَّها ذاعرُ روع مؤامِ
يصف أنها مذعورة تفتح عينيها وتمدّ جيدها، فيبدو للعين محاسنها.
وقال زهير: وقريب منه قول الآخر:
وسابغة الأذيال زغفٍ مفاضةٍ ... تكنَّفها منِّى بجادٌ مخطَّطٌ
وليس لتخطيط البجاد معنى يرجع إلى الدرع، ولا إلى السيف.
ومثله قول الآخر:
أأنشر البر فيمن ليس يعرِفه ... وأنثر الدر بين العمى في الغلَس
ليس لذكر الغلس مع العمى معنى، لأن الأعمى يستوي عنده الغلس والهاجرة، ولو قال العمش لكان أقرب من العمى، على أن الجميع لا خير فيه.
ومن هذا النوع قول القرشي:
ووقيتَ الحتوف من وارث وا ... لِ وأبقاكَ صالحا ربُّ هود
ليس نسبة الله تعالى إلى أنه رب هود بأولى من نسبته إياه عزّ اسمه إلى أنه رب نوح أو غيره.
وقول ابن الرومي:
ألا ربما سؤت الغيور وساءني ... وبات كلانا من أخيه على وحرِ
وقبلت أفواها عذابا كأنها ... ينابيع خمرٍ حصّبتْ لؤلؤَ البحرِ
فقوله: لؤلؤ البحر أفسدت البيت وأطفأ نور المعنى، لأن اللؤلؤ لا يكون في غير البحر، فنسبته إلى البحر لا فائدة فيه إلا إقامة الروى على ما قدمناه.
ورأيت المعنى جيداً فقلت:
مرّ بنا يستميلُه السّكرُ ... وكيف يصحو وريقه خمرُ
قبلت فيه على مراقبة ... ينبوع خمر حصباؤه درّ
ومن القوافي الرديئة قول رؤبة:
يكسين من لين الشباب نيما

النيم: الغرو، وأيّ حسن للفرو فيشبه به شباب النساء وما قال أحد: عليه من الشباب أو من الحسن فرو، وإنما يقال: رداء الشباب، وبرد الشباب، وثوب الشباب، ولم يقولوا: قميص الشباب، وهو أقرب من الفرو. ولو قاله قائل لم يحسن لأنه لم يستعمل، وإنما احتاج إلى الميم فوقع في هذه الرذيلة.
وهذا باب لو أطلقتُ العنان فيه لطال فيشغل الأوراق الكثيرة، ويصرم فيه الزمان الطويل، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى.

الفصل الثالث

في الخروج من النسيب إلى المدح وغيره

كانت العرب في أكثر شعرها تبتدئ بذكر الديار والبكاء عليها، والوجد بفراق ساكنيها، ثم إذا أرادت الخروج إلى معنى آخر قالت: فدع ذا وسلّ الهم عنك بكذا، كما قال:
فدع ذا وسلّ الهم عنك بجسرةٍ ... ذمول إذا صام النهار وهجّرا
وكما قال النابغة:
فسليت ما عندي بروحة عرمسٍ ... تخبّ برحلي مرة وتناقلُ
وربما تركوا المعنى الأول، وقالوا وعيسٍ أو وهوجاء وما أشبه ذلك، كما قال علقمة:
إذا شاب رأسُ المر أو قلَّ مالُه ... فليس له في ودِّهنّ نصيب
وعنسٍ بريناها كأنّ عيونَها ... قوارير في أدهانهن نصوب
فإذا أرادوا ذكر الممدوح قالوا: إلى فلان، ثم أخذوا في مديحه، كما قال علقمه:
وناجية أفنى ركيبَ ضلوعِها ... وحاركِها تهجُّرٌ ودؤوبُ
وتصبحْ عن غبِّ السرى وكأنها ... مولّعة تخشى القنيص شبوبُ
فوصفها ثم قال:
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والصربين وجيب
وقال الحرث بن حلزة:
أنمى إلى حرفٍ مذكّرةٍ ... تهضُ الحصى بمناسم ملس
ثم قال:
أفلا نعدّيها إلى ملكٍ ... شهم المقادة حازمِ النَّفسِ
ثم أخذ في مديحه.
وربما تركوا المعنى الأول، وأخذوا في الثاني من غير أن يستعملوا ما ذكرناه، قال النابغة:
تقاعس حتى قلتُ ليس بمنقضٍ ... وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ
عليّ لعمرو نعمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالده ليست بذاتِ عقاربِ
وقال أيضاً:
على حينَ عاتبتُ الفؤادَ على الصِّبا ... وقلتُ ألمّا أصحُ والشيبُ وازعُ
وقد حال همٌّ دون ذلك داخلٌ ... ولوجَ الشِّغاف تبتغيه الأصابعُ
وعيدُ أبي قابوسَ في غير كنهِه ... أتاني ودوني راكس والضواجعُ
والبحتري يسلك هذه الطريقة في أكثر شعره.
فأما الخروج المتصل بما قبله فقليل في أشعارهم، فمن القليل قول دجانة ابن عبد قيس التميمي:
وقال الغواني قد تضمَّر جلدُه ... وكان قديماً ناعم المتبذّل
فلا تأسَ أني قد تلافيتُ شيبتي ... وهزّ الغواني من شميط مرجَّلِ
بمشرفةِ الهادي نبذّ عنانها ... يمينَ الغلام الملجم المتدلِّل
فوصل وصف الفرس بما تقدم من وصفه الشيب وصلا.
وقال تأبط شراً:
إنِّي إذا خلةٌ ضنّتْ بنائلها ... وأمسكتْ بضعيف الحبل أحذاقِ
نجوتُ منها نجائي من بجيلة إذ ... ألقيت ليلة خبتِ الرهط أوراقي
وقريب منه قول أوس بن حجر في وصف السحاب:
دانٍ مسفٌّ فويقَ الأرض هيدبهُ ... يكاد يدفعه من قام بالراحِ
ثم قال:
سقى دياريْ بني عوفٍ وساكِنها ... ودار علقمة الخير ابن صبّاحِ
وقال زهير:
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كنّ الجواد على علاّته هرمُ
وأما المحدثون، فقد أكثروا في هذا النوع، قال مسلم بن الوليد:
إذا شئتما أن تسقياني مدامة ... فلا تقتلاها كلّ ميتٍ محرَّمُ
خلطنَا دماً من كرمةٍ بدمائنا ... فأثَّر في الألوانِ منَّا الدَّمَ الدّمُ
ويقظى ثنيتُ النوم فيها بسكرةٍ ... لصهباءَ صرعاها من السُّكرِ نوَّمُ
فمن لا منى في اللّهو أو لام في النَّدى ... أبا حسنٍ زيدَ الندى فهو ألومُ
وقال منصور النّمري في الرشيد:
إذا امتنع المقالُ عليك فامدحْ ... أميرَ المؤمنين تجد مقالا
فتىً ما إن تزالُ به ركابٌ ... وضعنَ مدائحاً وحملنَ مالاً
وقال أبو الشِّيص:
أكلَ الوجيفُ لحومَها ولحومهم ... فأتوك أنقاضاً على أنقاضِ
ولقد أتتكَ على الزَّمانِ سواخطاً ... ورجعنَ عنكَ وهنَّ عنه رواضِ
وقال ابن وهيب:

مازالَ يلثُمني مراشفَه ... ويعلُّني الإبريقُ والقدحُ
حتى استردَّ الليلُ خلعته ... ونشا خلالَ سواده وضحُ
وبدا الصَّباحُ كأنّ غرتَه ... ودهُ الخليفة حينَ يمتدحُ
وقال:
طللان طال عليها الأمر ... دثرا فلا علم ولا نضدُ
لبسا البلَى فكأنَّما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجدُ
وقال الطائي:
صبَّ الفراق علينا صبّ من كثبٍ ... عليه إسحاق يوم الرَّوع منتقما
وقال:
إساءة الحادثات استبطنى نفقا ... فقد أظَّلك إحسانُ ابن حسَّانِ
وقال عبد الصمد بن المعذّل:
ولاح الصباحَ فشبّهتُهُ ... عليّ بنَ عيسى على المنبرِ
وقال البحتري:
كأنها حينَ لجَّتْ في تدفُّقها ... يدُ الخليفة لمّا سال واديها
وقال:
شقائق يحملن النَّدَى فكأنها ... دموعُ التّصابي في خدود الخرائد
كأن يدَ الفتح بن خاقان أقبلتْ ... تليها بتلك البارقات الرواعدُ
وقال مسلم:
أجدّك هل تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشرُ
لهوتُ بها حتى تجلتْ بغرّةٍ ... كغرة يحيى حين يذكر جعفرُ
وقال آخر:
وكلانا قد أحدث الراحُ فيه ... زهور يحيى بن خالد بن الوليد
وقال أبو البصير:
فقلتُ لها عبيد الله بيني ... وبين الحادثات فلا تُراعي
أأصبح منه معتصما بحبلٍ ... وتقصر نعمتي ويضيق باعي
كفرت إذاً صنائعه وظلتْ ... تعاتبه المروءة في اصطناعي
وقال البحتري في ياقوته:
إذا التهبتْ في اللّحظ ضاهى ضياؤُها ... جبينَك عند الجود إذ يتألّقُ
وقال:
وجرَّ عليّ الدَّجنُ هدَّاب مزنه ... أو أخره فيه وأوله عندي
تأخّرَ عن ميقاته فكأنه ... أبو صالحٍ قد بتُّ منه على وعدِ
وقال بكر بن النطاح:
ودوِّية خلقت للسراب ... فأمواجه بينها تزخرُ
ترى جنّها بين أضعافها ... حلولا كأنهمُ البربرُ
كأن حنيفة تحميهم ... فألينهم خشن أزور
وقال دعبل:
وميثاءَ خضراء موشيّةٍ ... بها النور يزهر من كل فنّْ
ضحوك إذ لاعبته الرياح ... تأوَّدَ كالشارِب المرجحنّ
فشبَّه صحبي نوّاره ... بديباج كسرى وعصب اليمن
فقلت بعدتم ولكنَّني ... أشبهه بجناب الحسنْ
فتى لا يرى المال إلا العطا ... ولا الكنز إلا اعتقاد المننْ
قالت وقد ذكّرتها عهد الصبا ... باليأس تقطع عادةُ المعتاد
إلاّ الإمام فإنّ عادةَ جوده موصولة بزيادة المزداد
وقال غيره:
وكأن الرسوم أخنى عليها ... بعض غاراتنا على الأعداء
وقال البحتري:
بين السقيفة فاللّوى فالأجرعِ ... دمنٌ حبسن على الرياح الأربَعِ
فكأنما ضمنت معالمها الذي ... ضمنته أحشاءُ المحبّ الموجع
وقال:
أقول لثجَّاج الغمام وقد سرى ... لمحتفل الشؤبوب صاب فعمَّما
أقل أو أكثر لست تبلع غاية ... تبين بها حتى تضارع هيثما
فتىً لبستْ منه الليالي محاسناً ... أضاء له الأفق الذي كان مظلِما
وقال:
قد قلت للغيث الرّكام ولج في ... إبراقه وألحّ في إرعاده
لا تعرضنّ لجعفر متشبِّها ... بندى يديه فلست من أندَاده
وقال:
لعمرك ما الدنيا بناقصة الجدَا ... إذا بقى الفتح بن خاقان والقطرُ
وقال:
أبرقٌ تجلّى أم بدا ابن مدبِّرٍ ... بغرة مسئول رأى البشر سائلُه
وقال:
أدارهم الأولى بدارة جلجلٍ ... سقاك الحيا روحاته وبواكرُهْ
حباؤك يحكِي يوسف بن محمد ... فروّتك ربّاه وجادك ماطرُه
وقال:
كأن سناها بالعشيّ لشربها ... تبلج عيسى حين يلفظ بالوعد
وقال:
آليت لا أجعل الإعدام حادثة ... تخشى وعيسى بن إبراهيم لي سندُ
وقال:
أيام غصن الشباب تهتز كال ... أسمر في راحة بن حمّاد
وقال:
لا والذي سنَّ للمدامة وال ... ماء نكاحا بغير تطليق
ما رمقت مقلتاي أمسح في ال ... عالم من راحة أحمد بن مسروق
وقال عليّ بن جبلة:
وغيث تأنقه نوؤه ... فألبسه عللاً أربدَا

تظلّ الرياح تُهادي به ... إذا ما تحيّزَ أو غرّدا
كأن تواليه بالعرا ... ء تهوى إلى جلمدٍ جلمدا
تداعِي تميم غداةَ الجفا ... ر تدعو زرارة أو معبدا
وقال علي بن الجهم:
وساريةٍ ترتادُ أرضاً تجودُها ... شغلتُ بها عيناً قليلاً هجودُها
أتتنا بها ريحُ الصَّبا فكأنها ... فتاةٌ تزجِّيها عجوز تقودها
فما برحتْ بغدادُ حتى تفجَّرتْ ... بأودية ما تستفيق مدُودها
فلما قضت حق العراق وأهله ... أتاها من الريح الشمال بريدُها
فمرّت تفوت الطرف سعياً كأنها ... جنودُ عبيد الله ولت بنُودها
وقال أيضاً:
دبرنَ وللصّباح معقّبات ... تقلِّصُ عنه أعجازَ الظلامِ
فلما أن تجلَّى قال صحبي ... أضوء الصُّبح أم وجهُ الإمام
وقال البحتري:
سقيتْ رباك بكل نوء جاعل ... من وبله حقّاً لها معلوما
فلو أنني أعطيت فيهنّ المنى ... لسقيتهن بكف إبراهيما
وقال:
قل لداعي الغمام لبيك واحلل ... عقلَ العيس كي يجيب الدعاء
وقال أبو تمام:
يا صاحبيَّ تقصَّياً نظريكُمَا ... ترَيا وجوه الأرضِ كيف تصوَّرُ
تريَا نهاراً مشرقاً قد شابهُ ... زهرُ الرُّبا فكأنما هو مقمرٌ
خلقٌ أطلّ من الربيع كأنهُ ... خلق الإمام وهديه المتنشّرُ
وقال:
فالأرض معروفُ السماءِ قرىً لها ... وبنُو الرجاء لهم بنو العبَّاسِ
وقال:
نجاهد الشوق طوراً ثم نتبعه ... مجاهدات القوافي في أبى دلَفا
وقال:
إذا العيسُ لاقتْ بي أبا دلف فقد ... تقّطع ما بيني وبين النوائبِ
وقال:
تداو من شوقك الأقصى بما فعلتْ ... خيلُ ابن يوسفَ والأبطالُ تطَّردُ
وقال:
لم يجتمع قط في مصر ولا طرف ... محمد بن أبي مروان والنَّوبُ
وقال:
ولقد بلونَ خلائقي فوجدنَني ... سمحَ اليدين بيذل ودّ مضمر
يعجبن مني إذ سمحتُ بمهجتي ... وكذاكَ أعجبَ من سماحة جعفر
ملك إذا الحاجاتُ لذنَ ببابه ... صافحنَ كفّ نوالِه المتيسر
وقال:
لا والذي هو عالم أنّ النوى ... صبرٌ وأن أبا الحسين كريم
وقال آخر:
سقيمات أرجاء العيون تركنني ... أكابد أسقاما ولست أعادُ
فيا عجباً إن الظباء بطرفها ... تصيد رجالاً والظباء تصادُ
وللبحر ما بين الفرات ودجلَةٍ ... أؤمل منه الرِّيّ وهو جمادُ
وقلت أذكر الشيبُ:
أراني منهاج الهدى فسلكتُه ... ولم تتشعَّبْ في الظلال مذاهبي
وخبّر أن الجهلَ ليس بآيب ... إليّ وأن الحلم ليس بعازب
فأفصح من بعد العجومة مادِحي ... وأعجمَ من بعد الفصاحة عائبي
وردّ إلى خير الأنام مدائحي ... فحلّت محل العقد من جيدِ كاعِب
وأنجم كربربٍ في سربِ ... يحكين غرا في جلال خطب
والحور ترنو من خلالِ الحجبِ ... وعزمكم ورأيكم في الخطبِ
وبيضكم وبيضكم في الحربِ
ومن لم يوسع للنوائب صدرَه ... أفادته ضيقا في مرام ومذهبِ
وإني إذا ألقيتُ بيني وبينَها ... أبا طاهر لم تدرِ كيفَ تضرُّ بي
نازعتُه غلس الظلام مدامة ... تتعلّم الإسكارَ من لحظاتِهِ
وكأنّها معصورةٌ من خدِّه ... مغصوبة بالدُّر من كلماته
تشكو الزَّمان وذاك من لذَّاتِه ... وبقاء إسمعيل من حسناته
هذا تعدٍّ في الشكاية ظاهرٌ ... ولربَّ شاك معتد بشكاته
كافي الكفاة برأيه وعزيمةٍ ... كزمانِه بخطوبِه وهِباته
عادةُ الأيام لا أنكرُها ... فرحٌ تقرنُه لي بترحْ
وإذا قام على النَّهج انثنَى ... وإذا سارَ على القصد جنحْ
ويربيك فلا تفرحْ به ... فهو كالجازر ربَّي فذبحْ
غير أنّ النُّهَى منه كلّما ... جمحَ الدهرُ بواديّ كبحْ
ومدّ علينا الليل ثوباً منمَّقاً ... وأشعلَ فيه الفجرُ فهو يحرقُ
وصبَّحنا صبحٌ كأن ضياءهُ ... تعلّم منّا كيفَ يبهى ويشرقُ
تولّتْ به الأيام وانجردتْ ... بحسنه ولعاتُ البين فانجردا
غدا لهُ المزنُ منهلاً بوادرُه ... كأن فيه ليحيى إصبعاً ويدَا

تصعَّدَ فيه وهو زرقٌ جمامه ... فتحسب أنا في السّماء نصعّدُ
أطفنا بمحمود السجية ماجدٌ ... رضاه لما نرجو من الخير موعدُ
بممتثل فعلَ السحاب إذا غدا ... يصفّق فيها رعدُها ويغرِّدُ
ومرَّ بأكنافِ اللّوى خاطرُ الصبا ... فحرض شوقاً لا يزالُ يحرِّضُ
بليلٌ كما ترنُو الغزالةُ أسودٌ ... على أنه من نور وجهك أبيضُ
يريدون أن أخشى وأخشع للأذى ... وجار ابن عيسى كيف يخشى ويخشعُ
وطهارةُ الأخلاق لم تظفر بها ... إلا بحيث طهارةُ الأعراق
كخلائق الأستاذ إن جاوزتها ... تجدُ الخلائق غيرَ ذات خلاق
مهريّة ألوى السفار بنحضها ... فتخالها تحت الرّحال رحالا
أمنت بساحة أحمد بن محمد ... من أن يذل عزيزها ويزالا
وقد دلّت الدنيا على عيبِ نفسِها ... إذ التفتت للؤم بعد التكرم
فما تولّتْ حتى استردت نوالَها ... وشنَّتْ علينا أبؤسا بعد أنعم
ولكن سيعديني عليها ابن أحمد ... نبيّ الهدى وابن الوصى المكرم
وإني متى أعلق بسالف وجه ... تبدلت من أمري سناما بمنسمِ
صرف العنانَ إلى التناصف في الهوى ... صرفى الرجاء إلى نوال أبي علي
وهذا ميدان لو جرينا فيه إلى أقصاه أتعبنا الناسخ، وأمللنا السامع والناظر وفيما ذكرناه كفاية.
وقد فرغتُ من شرح الأبواب والفصول التي تقدم بها الشرط في أول الكتاب، وجعلتها واضحة نيرة وملخصة بينة من غير إخلال يقصر بها أو إكثار يزري عليها، وقد نقحتها وأوضحتها وهذبتها وشذّبتها حسب الطاقة، وأنا بعد ذلك معتذر من الزلل يكون فيه، والسقط يوجد في ألفاظها أو معانيها، فإذا مر بك شيء فاغتفر الذلة فيه، فليس في الدنيا برئ من جميع العيوب، ولا مستقيم من كل الجهات، وقد قلت:
عزّ الكمال فما يحظى به بشر ... لكل خلق وإن لم يذر ذوعاب
وقلت أيضاً:
لا تعتمد نشرَ العيوب وبثّها ... يسلم لك الإخوان والأصحاب
واشدد يديك بما يقلّ معابه ... ما فيهم من ليس فيه معاب
على أن هذا الكتاب قد جمع من فنون ما يحتاج إليه صناع الكلام ما لم يجمعه كتاب أعلمه، وكل شيء استعرته من كتاب وضمنته إياه فإني لم أخله من زيادة تبيين واختصار ألفاظ وغير ذلك مما يزيد في قيمته ويرفع من قدره، وأنا أسأل الله تعالى النفع به والعون على حفظه، وإيزاع الشكر على النعمة في التمكين من جمعه، وهو جل ثناؤه وليّ ذلك بمّنه ولطفه.
وفرغت من تأليفه ورصفه وتصنيفه في شهر رمضان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة والحمد لله رب العالمين وصلواته على رسوله محمد النبي الأمي وآله أجمعين.
تم الكتاب

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق