كتبهابلال عبد الهادي ، في 1 أيار 2011 الساعة: 20:40 م
مقدمة في أحوال العلوم
زواهر نطق يلوح أنوار ألطافه من مطالع الكتب والصحائف وبواهر كلام يفوح أزهار أعطافه على صفحات العلوم والمعارف حمد الله الذي جعل زلال الكمال قوت القلوب والأرواح وخص مزايا العرفان بفرحة خلا عنها أفراح الراح وفضل الذوق الروحاني على الجسماني تفضيلاً لا يعرفه إلا من تضلع أو ذاق وأودع في كنه الفضل لطفاً لا يدركه إلا من تفضل وفاق والصلاة والسلام على الذي كمل علوم الأولين والآخرين بكتاب ناطق آياته بينات وحجج قرآناً عربياً غير ذي عوج صلى الله تعالى عليه وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار ما طلع شموس المعاني من وراء حجاب السطور والدفاتر وأنار أنوار المزايا من أشعة رشحات الأقلام والمحابر وبعد فلما كان كشف دقائق العلوم وتبيين حقائقها من أجل المواهب وأعز المطالب قيض الله سبحانه وتعالى في كل عصر علماء قاموا بأعباء ذلك الأمر العظيم وكشفوا عن ساق الجد والاهتمام في التعليم والتفهيم سيما الأئمة الأعلام من علماء الإسلام الذين قال فيهم النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فإنهم سباق غايات وأساطين روايات ودرايات فمنهم من استنبط المسائل من الدلائل فأصل وفرع ومنهم من جمع وصنف فأبدع ومنهم من هذب وحرر فأجاد وحقق المباحث فوق ما يراد رحم الله أسلافهم وأيد أخلافهم غير أن أسماء تدويناتهم لم تدون بعد على فصل وباب ولم يرو فيه خبر كتاب ولا شك أن تكحيل العيون بغيار أخبار آثارهم على وجه الاستقصا لعمري إنه أجدى من تفاريق العضا إذ العلوم والكتب كثيرة والأعمار عزيزة قصيرة والوقوف على تفاصيلها متعسر بل متعذر وإنما المطلوب ضبط معاقدها.في أحوال العلوم
والشعور على مقاصدها وقد ألهمني الله تعالى جمع أشتاتها وفتح علي أبواب أسبابها فكتبت ما رأيت في خلال تتبع المؤلفات وتصفح كتب التواريخ والطبقات ولما تم تسويده في عنفوان الشباب بتيسير الفياض الوهاب أسقطته عن حيز الاعتداد وأسبلت عليه رداء الإبعاد غير أني كلما وجدت شيئاً ألحقته إلى أن جاء أجله المقدر في تبييضه وكان أمر الله قدراً مقدوراً فشرعت فيه بسبب من الأسباب وكان ذلك في الكتاب مسطوراً ورتبته على الحروف المعجمة كالمغرب والأساس حذراً عن التكرار والالتباس وراعيت في حروف الأسماء إلى الثالث والرابع ترتيباً فكل ما له اسم ذكرته في محله مع مصنفه وتاريخه ومتعلقاته ووصفه تفصيلاً وتبويباً وربما أشرت إلى ما روى عن الفحول من الرد والقبول وأوردت أيضاً أسماء الشروح والحواشي لدفع الشبهة ورفع الغواشي مع التصريح بأنه شرح كتاب فلاني وإنه سبق أو سيأتي في فصله بناء على أن المتن أصل والفرع أولى أن يذكر عقيب أصله وما لا اسم له ذكرته باعتبار الإضافة إلى الفن أو إلى مصنفه في باب التاء والدال والراء والكاف برعاية الترتيب في حروف المضاف إليه كتاريخ ابن الأثير وتفسير ابن جرير وديوان المتنبي ورسالة ابن زيدون وكتاب سيبويه وأوردت القصائد في القاف وشروح الأسماء الحسنى في الشين وما ذكرته من كتب الفروع قيدته بمذهب مصنفه على اليقين وما ليس بعربي قيدته بأنه تركي أو فارسي أو مترجم ليزول به الإبهام وأشرت إلى ما رأيته من الكتب بذكر شيء من أوله للإعلام وهو أعون على تعيين المجهولات ودفع الشبهة وقد كنت عينت بذلك كثيراً من الكتب المشتبهة وأما أسماء العلوم فذكرتها باعتبار المضاف إليه فعلم الفقه مثلاً في الفاء وما يليه كما نبهت عليه مع سرد أسماء كتبه على الترتيب المعلوم وتلخيص ما في كتب موضوعات العلوم كمفتاح السعادة ورسالة المولى لطفي الشهيد والفوائد الخاقانية وكتاب شيخ الإسلام الحفيد وربما ألحقت عليها علوماً وفوائد من أمثال تلك الكتب بالعزو إليها وأوردت مباحث الفضلاء وتحريراتهم بذكر ما لها وما عليها وسميته بعد أن أتممته بعون الله وتوفيقه "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" ورتبته على مقدمة وأبواب وخاتمة وأهديته إلى معشر أكابر العلماء وزمرة الفحول والفضلاء وما قصدت بذلك سوى نفع الخلف وإبقاء ذكر آثار السلف وقد ورد في الأثر عن سيد البشر من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه والله هو الميسر لكل عسير نعم الميسر ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.المقدمة في أحوال العلوم وفيها أبواب وفصول
الباب الأول
في تعريف العلم وتقسيمه
وفيه فصول
الفصل الأول
في ماهيته
واعلم أنه اختلف في أن تصور ماهية العلم المطلق هل هو ضروري أو نظري يعسر تعريفه أو نظري غير عسير التعريف والأول مذهب الإمام الرازي والثاني رأي إمام الحرمين والغزالي والثالث هو الراجح وله تعريفات التعريف الأول اعتقاد الشيء على ما هو به وهو مدخول لدخول التقليد المطابق للواقع فيه فزيد قيد عن ضرورة أو دليل لكن لا يمنع الاعتقاد الراجح المطابق وهو الظن الحاصل عن ضرورة أو دليل الثاني معرفة المعلوم على ما هو به وهو مدخول أيضاً لخروج علم الله تعالى إذ لا يسمى معرفة ولذكر المعلوم وهو مشتق من العلم فيكون دوراً ولأن معنى على ما هو به هو معنى المعرفة فيكون زائداً الثالث هو الذي يوجب كون من قام به عالماً وهو مدخول أيضاً لذكر العالم في تعريف العلم وهو دور الرابع هو إدراك المعلوم على ما هو به وهو مدخول أيضاً لما فيه من الدور والحشو كما مر ولأن الإدراك مجاز عن العلم الخامس هو ما يصح ممن قام به إتقان الفعل وفيه أنه يدخل القدرة ويخرج علماً إذ لا مدخل له في صحة الإتقان فإن أفعالنا ليست بإيجادنا السادس تبيين المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة المذكورة والدور مع أن التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء فيخرج عنه علم الله تعالى السابع إثبات المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور وأيضاً الإثبات قد يطلق على العلم تجوزاً فيلزم تعريف الشيء بنفسه الثامن الثقة بان المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور مع أنه لزم كون الباري واثقاً بما هو عالم به وذلك مما يمتنع إطلاقه عليه شرعاً التاسع اعتقاد جازم مطابق لموجب أما ضرورة أو دليل وفيه أنه يخرج عنه التصور لعدم اندراجه في الاعتقاد مع أنه علم ويخرج علم الله تعالى لأن الاعتقاد لا يطلق عليه ولأنه ليس بضرورة أو دليل وهذا التعريف للفخر الرازي عرفه به بعد تنزله عن كونه ضرورياً العاشر حصول صورة الشيء في العقل وفيه أنه يتناول الظن والجهل المركب والتقليد والشك والوهم قال ابن صدر الدين هو أصح الحدود عند المحققين من الحكماء وبعض المتكلمين الحادي عشر تمثل ماهية المدرك في نفس المدرك وفيه ما في العاشر وهذان التعريفان للحكماء مبنيان على الوجود الذهني والعلم عندهم عبارة عنه فالأول يتناول إدراك الكليات والجزئيات والثاني ظاهره يفيد الاختصاص بالكليات الثاني عشر هو صفة توجب لمحلها تمييزاً بين المعاني لا يحتمل النقيض وهو الحد المختار عند المتكلمين إلا انه يخرج عنه العلوم العادية كعلمنا مثلاً بأن الجبل الذي رأيناه فيما مضى لم ينقلب الآن ذهباً فإنها تحتمل النقيض لجواز خرق العادة وأجيب عنه في محله وقد يزاد قيد بين المعاني الكلية وهذا مع الغنى عنه يخرج العلم بالجزئيات وهذا هو المختار عند من يقول العلم صفة ذات تعلق بالمعلوم الثالث عشر هو تمييز معنى عند النفس تمييزاً لا يحتمل النقيض وهو الحد المختار عند من يقول من المتكلمين أن العلم نفس التعلق المخصوص بين العالم والمعلوم الرابع عشر هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به قال العلامة الشريف وهو أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم ومعناه أنه صفة يكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافاً تاماً لا اشتباه فيه الخامس عشر حصول معنى في النفس حصولاً لا يتطرق عليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل فيه وهو للآمدي قال ونعني بحصول المعنى في النفس تميزه في النفس عما سواه ويدخل فيه العلم بالإثبات والنفي والمفرد والمركب ويخرج عنه الاعتقادات إذ لا يبعد في النفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الذي حصل فيه انتهى.الفصل الثاني
فيما يتصل بماهية العلم من الاختلاف والأقوال
واعلم أنه اختلف في أن العلم بالشيء هل يستلزم وجوده في الذهن كما هو مذهب الفلاسفة وبعض المتكلمين أو هو تعلق بين العالم والمعلوم في الذهن كما ذهب إليه جمهور المتكلمين ثم إنه على الأول لا نزاع في أنا إذا علمنا شيئاً فقد تحقق أمور ثلاثة صورة حاصلة في الذهن وارتسام تلك الصورة فيه وانفعال النفس عنها بالقبول فاختلف في أن العلم أي هذه الثلاثة فذهب إلى كل منها طائفة ولذلك اختلف في أن العلم هل هو من مقولة الكيف أو الانفعال أو الإضافة والأصح أنه من مقولة الكيف على ما بين في محله.ثم اعلم أن القائلين بالوجود الذهني منهم من قال أن الحاصل في الذهن إنما هو شبح للمعلوم وظل له مخالف إياه بالماهية غايته أنه مبدأ لانكشافه لكن دليل المبحث لو تم لدل على أن للمعلوم نحواً آخر من الوجود لا كشبحه المخالف له بالحقيقة ومنهم من قال الحاصل في الذهن هو نفس ماهية المعلوم لكنها موجودة بوجود ظلي غير أصلي وهي باعتبار هذا الوجود تسمى صورة ولا يترتب عليها الآثار كما أنها باعتبار الوجود الأصلي تسمى عيناً ويترتب عليها الآثار فهذه الصورة إذا وجدت في الخارج كانت عين العين كما أن العين إذا وجدت في الذهن كانت عين الصورة أي شبح قائم بنفس العالم به ينكشف المعلوم وهي العلم وذو صورة أي ماهية موجودة في الذهن غير قائم به وهي المعلوم وهما متغايران بالذات فعلى رأي القائلين بالشبح يكون العلم من مقولة الكيف بلا أشكال مع كون المعلوم من مقولة الجوهر أو مقولة أخرى لاختلافهما بالماهية وإما على رأي القائلين بحصول الماهيات بأنفسها في الذهن ففي كونه منها أشكال مع أشكال اتحاد الجوهر والعرض بالماهية وهما متنافيان وأجاب عنه بعض المحققين بأن العلم من كل مقولة من المقولات وإن عدهم العلم مطلقاً من مقولة الكيف إنما هو على سبيل التشبيه ويرد عليه أنه يصدق على هذا تعريف الكيف على العلم فيكون كيفاً وبعض المدققين جوز تبدل الماهية بأن يكون الشيء في الخارج جوهراً فإذا وجد في الذهن انقلب كيفاً كالمملحة التي ينقلب الحيوان الواقع فيها ملحاً وهو مبحث مشهور وستقف على ما فيه من الرسائل إن شاء الله تعالى.
الفصل الثالث
في العلم المدون وموضوعه ومباديه ومسائله وغايته
واعلم أن لفظ العلم كما يطلق على ما ذكر يطلق على ما يرادفه وهو أسماء العلوم المدونة كالنحو والفقه فيطلق كأسماء العلوم تارة على المسائل المخصوصة كما يقال فلان يعلم النحو وتارة على التصديقات بتلك المسائل عن دليلها وتارة على الملكة الحاصلة من تكرر تلك التصديقات أي ملكة استحضارها وقد يطلق الملكة على التهيؤ التام وهو أن يكون عنده ما يكفيه لاستعلام ما يراد والتحقيق أن المعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك ولهذا المعنى متعلق هو المعلوم وله تابع في الحصول يكون وسيلة إليه في البقاء هو الملكة فأطلق لفظ العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجازاً مشهوراً وقد يطلق على مجموع المسائل والمبادي التصورية والمبادي التصديقية والموضوعات ومن ذلك يقولون أجزاء العلوم ثلاثة وقد يطلق أسماء العلوم على مفهوم كلي إجمالي يفصل في تعريفه فإن فصل نفسه كان حداً اسمياً وإن بين لازمه كان رسماً اسمياً وأما حده الحقيقي فإنما هو بتصور مسائله أو بتصور التصديقات المتعلقة بها فإن حقيقة كل علم مسائل ذلك العلم أو التصديقات بها وأما المبادي وآنية الموضوعات فإنما عدت جزأ منها لشدة احتياجها إليها وفي تحقيق ما ذكرنا بيانات ثلاثة.البيان الأول في بحث الموضوع
واعلم أن السعادة الإنسانية لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء وأحوالها بقدر الطاقة البشرية وكانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة تصدى الأوائل لضبطها وتسهيل تعليمها فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد أو بأشياء متناسبة ودونوها على حدة وعدوها علماً واحداً وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعاً لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه فموضوع العلم ما ينحل إليه موضوعات مسائله وهو المراد بقولهم في تعريفه بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع علماً منفرداً ممتازاً بنفسه عن طائفة متشاركة في موضوع آخر فثابرت العلوم في أنفسها بموضوعاتها وهو تمايز اعتبروه مع جواز الامتياز بشيء آخر كالغاية والمحمول وسلكت الأواخر أيضاً هذه الطريقة الثانية في علومهم وذلك أمر استحسنوه في التعليم والتعلم وإلا فلا مانع عقلاً من أن يعد كل مسألة علماً برأسه ويفرد بالتعليم والتدوين ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علماً واحداً يفرد بالتدوين وإن تشاركت من وجه آخر ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى فعلم أن حقيقة كل علم مدون المسائل المتشاركة في موضوع واحد وأن لكل علم موضوعاً وغاية كل منهما جهة وحدة تضبط تلك المسائل المتكثرة وتعد باعتبارها علماً واحداً إلا أن الأولى جهة وحدة ذاتية والثانية جهة وحدة عرضية ولذلك يعرف العلوم تارة باعتبار الموضوع فيقال في تعريف المنطق مثلاً علم يبحث فيه عن أحوال المعلومات وتارة باعتبار الغاية فيقال في تعريفه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر ثم إن الأحوال المتعلقة بشيء واحد أو بأشياء متناسبة تناسباً معتداً أما به في أمر ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي المتشاركة في مطلق المقدار الذي هو ذاتي لها علم الهندسة أو في أمر عرضي كالكتاب والسنة والإجماع والقياس المتشاركة في كونها موصلة إلى الأحكام الشرعية لعلم أصول الفقه فتكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية التي تلحق الماهية من حيث هي لا بواسطة أمر أجنبي وأما التي جميع مباحث العلم راجعة إليها فهي إما راجعة إلى نفس الأمر الذي هو الواسطة كما يقال في الحساب العدد إما زوج أو فرد أو إلى جزئي تحته كقولنا الثلاثة فرد وكقولنا في الطبيعي الصورة تفسد وتخلف بدلاً عنه أو إلى عرض ذاتي له كقولنا المفرد لعله الفرد إما أول أو مركب وإما العرض الغريب هو ما يلحق الماهية بواسطة أمر عجيب إما خارج عنها أعم منها أو أخص فالعلوم لا تبحث عنه فلا ينظر المهندس في إن الخط المستدير أحسن أو المستقيم ولا في أن الدائرة نظير الخط المستقيم أو ضده لأن الحسن والتضاد غريب عن موضوع علمه وهو المقدار فإنهما يلحقان المقدار لا لأنه مقدار بل لوصف أعم منه كوجوده أو كعدم وجوده وكذا الطبيب لا ينظر في أن الجرح مستدير أم غير مستدير لأن الاستدارة لا تلحق الجسم من حيث هو جريح بل لأمر أعم منه كما مر وإذا قال الطبيب هذه الجراحة مستديرة والدوائر أوسع الأشكال فيكون بطئ البرء لم يكن ما ذكره من علمه ثم اعلم أن موضوع علم يجوز أن يكون موضوع علم آخر وأن يكون أخص منه أو أعم وأن يكون مبايناً عنه لكن يندرجان تحت أمر ثالث وأن يكون مبايناً له غير له مندرجين تحت ثالث لكن يشتركان بوجه دون وجه ويجوز أن يكونا متباينين مطلقاً فهذه ستة أقسام.الأول أن يكون موضوع علم عين موضوع آخر فيشترط أن يكون كل منهما مقيداً بقيد غير قيد الآخر وذلك كأجرام العالم فإنها من حيث الشكل موضوع الهيئة ومن حيث الطبيعة موضوع لعلم السماء والعالم الطبيعي فافترقا بالحيثيتين ثم إن اتفق أبحاث بعض المسائل فيها بالموضوع والمحمول فلا بأس به إذ يختلف بالبراهين كقولهم بأن الأرض مستديرة وهي وسط السماء في الصور والمعاني لكن البرهان عليهما من حيث الهيئة غير البرهان من جهة الطبيعي.
الثاني والثالث أن يكون موضوع علم أخص من علم آخر أو أعم منه فالعموم والخصوص بينهما إما على وجه التحقيق بأن يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي له مثل كون العام جنساً للخاص أو أمر عرضي فالأول كالمقدار والجسم التعليمي فإن الجسم التعليمي أخص والمقدار جنس له وهو موضوع الهندسة والجسم التعليمي موضوع المجسمات وكموضوع الطب وهو بدن الإنسان فإنه نوع من موضوع العلم الطبيعي وهو الجسم المطلق والثاني كالموجود والمقدار فإن الموجود موضوع العلم الإلهي والمقدار موضوع الهندسة وهو أخص من الموجود لا لأنه جنسه بل لكونه عرضاً عاماً له.
الرابع أن يكون الموضوعان متباينين لكن يندرجان تحت أمر ثالث كموضوع الهندسة والحساب فإنهما داخلان تحت الكم فيسميان متساويين.
الخامس أن يكونا مشتركين بوجه دون وجه مثل موضوعي الطب والأخلاق فإن لموضوعيهما اشتراكاً في القوى الإنسانية.
السادس أن يكون بينهما تباين كموضوع الحساب والطب فليس بين العدد وبدن الإنسان اشتراك ولا مساواة تنبيه اعلم أن الموضوع في علم لا يطلب بالبرهان لأن المطلوب في كل علم هي الأعراض الذاتية لموضوعه والشيء لا يكون عرضاً ذاتياً لنفسه بل يكون إما بيناً أو مبرهناً عليه في علم آخر فوقه بحيث يكون موضوع هذا العلم عرضاً ذاتياً لموضوعه إلى أن ينتهي إلى العلم الأعلى الذي موضوعه موجود لكن يجب تصور الموضوع في ذلك العلم والتصديق بأهليته بوجه ما فكون علم فوق علم أو تحته مرجعه إلى ما ذكرنا فافهم.
البيان الثاني في المبادي
وهي المعلومات المستعملة في العلوم لبناء مطالبها المكتسبة عليها وهي إما تصويرية كحدود موضوعه وحدود أجزائه وجزئياته ومحمولاته إذ لا بد من تصور هذه الأمور بالحد المشهور وإما تصديقية وهي القضايا المتألفة عنها قياساتها وهي على قسمين الأول أن تكون بينة بنفسها وتسمى المتعارفة وهي إما مباد لكل علم كقولنا النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان أو لبعض العلوم كقول إقليدس إذا أخذ من المتساويين قدران متساويان بقي الباقيان متساويين الثاني أن تكون غير بينة بنفسها لكن يجب تسليمها ومن شأنها أن تبين في علم آخر وهي مسائل بالنسبة إلى ذلك العلم الآخر والتسليم إن كان على سبيل حسن الظن بالعلم تسمى أصولاً موضوعة كقول الفقيه هذا حرام بالإجماع فكون الإجماع حجة من الأمور المسلمة في الفقه لأنها من مسائل الأصول وإن كان على استنكار تسمى مصادرات كقوله هذا الحكم ثبت بالاستحسان فتسليم كونه حجة عند القوم من المصادرات ويجوز أن تكون المقدمة الواحدة عند شخص من المصادرات وعند آخر من الأصول الموضوعة وقد تسمى الحدود والمقدمات المسلمة أوضاعاً وكل واحد منها يكون مسائل في علم آخر فوقه إلى الأعلى لكن يجوز أن يكون بعض مسائل العلم السافل موضوعاً وأصولاً للعلم العالي بشرط أن لا تكون مبينة في العلم الساقل بالأصول التي بنيت على تلك المسائل بل بمقدمات بينة بنفسها أو بغيرها من الأصول ولا يلزم الدور وأيضاً لا يجوز أن يثبت شيء من المقدمات الغير البينة من الأصول الموضوعة والمصادرات بالدليل أن توقف عليها جميع مقاصد العلوم للدور فإن توقف عليها بعض مقاصدها فيمكن بيانها في ذلك العلم والأول يسمى المبادي العامة ككون النظر مفيداً للعين والثاني المبادي الخاصة كإبطال الحسن والقبح العقليين.البيان الثالث في مسائل العلوم
وهي القضايا التي تطلب في كل علم نسبة محمولاتها بالدليل إلى موضوعاتها وكل علم مدون المسائل المتشاركة في موضوع واحد كما مر فيكون المسائل موضوع العلم أعني أهليته البسيطة وهي آنيتها وموضوع المسألة قد يكون بنفسه موضوعاً لذلك العلم كقول النحوي كل كلام مركب من اسمين أو اسم وفعل فإن الكلام هو موضوع النحو أيضاً وقد يكون موضوع المسألة موضوع ذلك العلم مع عرض ذاتي له كقولنا في الهندسة المقدار المباين لشيء مباين لكل مقدار يشاركه فالموضوع في المسألة المقدار المباين والمباين عرض ذاتي له وقد يكون موضوع المسألة نوع موضوع العلم كقولنا في الصرف الاسم إما ثلاثي وإما زائد على الثلاثي فإن موضوع العلم الكلمة والاسم نوعها وقد يكون موضوع المسألة نوع موضوع مع عرض ذاتي له كقولنا في الهندسة كل خط مستقيم وقع على مستقيم فالزاويتان الحادثتان إما قائمتان أو معادلتان لهما فالخط نوع للمقدار والمستقيم عرض ذاتي له وقد يكون موضوع المسألة عرضاً ذاتياً لموضوع العلم كقولنا في الهندسة كل مثلث زواياه مساوية لقائمتين فالمثلث من الأعراض الذاتية للمقدار.خاتمة الفصل في غاية العلوم
واعلم انه إذا ترتب على فعل أثر فذلك الأثر من حيث أنه نتيجة لذلك الفعل وثمرته يسمى فائدة ومن حيث أنه على طرف الفعل ونهايته يسمى غاية ففائدة الفعل وغايته متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار ثم ذلك الأثر المسمى بهذين الأمرين إن كان سبباً لإقدام الفاعل على ذلك الفعل يسمى بالقياس إلى الفاعل غرضاً ومقصوداً ويسمى بالقياس إلى فعله علة غائية والغرض والعلة الغائية متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار وإن لم يكن سبباً للإقدام كان فائدة وغاية فقط فالغاية أعم من العلة الغائية كذا أفاده العلامة الشريف فظهر أن غاية العلم ما يطلب ذلك العلم لأجله ثم إن غاية العلوم الغير الآلية حصولها أنفسها لأنها في حد ذاتها مقصودة بذواتها وإن أمكن أن يترتب عليها منافع أخر والتغاير الاعتباري كاف فيه فاللازم من كون الشيء غاية لنفسه أن يكون وجوده الذهني علة لوجوده الخارجي ولا محذور فيه وأما غاية العلوم الآلية فهو حصول غيرها لأنها متعلقة بكيفية العمل فالمقصود منها حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصوداً بالذات أو لأمر آخر يكون غاية أخيرة لتلك العلوم.الفصل الرابع
في تقسيم العلوم بتقسيمات معتبرة وبيان أقسامها إجمالاً
اعلم أن العلم وإن كان معنى واحداً وحقيقة واحدة إلا أنه ينقسم إلى أقسام كثيرة من جهات مختلفة فينقسم من جهة إلى قديم ومحدث ومن جهة متعلقة إلى تصور وتصديق ومن جهة طرقه إلى ثلاثة أقسام قسم يثبت في النفس وقسم يدرك بالحس وقسم يعلم بالقياس وينقسم من جهة اختلاف موضوعاته إلى أقسام كثيرة يسمى بعضها علوماً وبعضها صنائع وقد أوردنا ما ذكره أصحاب الموضوعات في حصر أقسامها.التقسيم الأول للعلامة الحفيد وهو أن العلوم المدونة على نوعين الأول ما دونه المتشرعة لبيان ألفاظ القرآن أو السنة النبوية لفظاً وإسناداً أو لإظهار ما قصد القرآن من التفسير والتأويل أو لإثبات ما يستفاد منهما أعني الأحكام الأصلية الاعتقادية أو الأحكام الفرعية العملية أو تعيين ما يتوصل به من الأصول في استنباط تلك الفروع أو ما دون لمدخليته في استخراج تلك المعاني من الكتاب والسنة أعني الفنون الأدبية النوع الثاني ما دونه الفلاسفة لتحقيق الأشياء كما هي وكيفية العمل على وفق عقولهم انتهى وذكر في علوم المتشرعة علم القراءة وعلم الحديث وعلم أصوله وعلم التفسير وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصوله وعلم الأدب وقال هذا هو المشهور عند الجمهور ولكن للخواص من الصوفية علم يسمى بعلم التصوف بقي علم المناظرة وعلم الخلاف والجدل لم يظهر إدراجها في علوم المتشرعة ولا في علوم الفلاسفة لا يقال الظاهر أن الخلاف والجدل باب من أبواب المناظرة تسمى باسم كالفرائض بالنسبة إلى الفقه لأنا نقول الغرض في المناظرة إظهار الصواب والغرض من الجدل والخلاف الإلزام ثم إن المتشرعة صنفوا في الخلاف وبنوا عليه مسائل الفقه ولم يعلم تدوين الحكماء فيه فالمناسب عده من الشرعيات والحكماء بنوا مباحثهم على المناظرة لكن لم يدونوا انتهى.
التقسيم الثاني ما ذكره في الفوائد الخاقانية اعلم أن ههنا تقسيمين مشهورين أحدهما أن العلوم إما نظرية أي غير متعلقة بكيفية عمل وإما عملية أي متعلقة بها وثانيهما أن العلوم إما أن لا تكون في نفسها آله لتحصيل شيء آخر بل كانت مقصودة بذواتها وتسمى غير آلية وإما أن تكون آلة له غير مقصودة في نفسها وتسمى آلية ومؤداهما واحد فأما ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره فقد رجع معنى الآلي إلى معنى العملي وكذا ما لا يكون آلة له كذلك لم يكن متعلقاً بكيفية عمل وما لم يتعلق بكيفية عمل لم يكن في نفسه آلة لغيره فقد رجع معنى النظري وغير الآلي إلى شيء واحد ثم إن النظري والعملي يستعملان في معان ثلاثة أحدها في تقسيم مطلق العلوم كما ذكرنا فالمنطق والحكمة العملية والطب العملي وعلم الخياطة كلها داخلة في العملي المذكور لأنها بأسرها متعلقة بكيفية عمل إما ذهني كالمنطق أو خارجي كالطب مثلاً وثانيها في تقسيم الحكمة فإنهم بعدما عرفوا الحكمة بأنه علم أحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية قالوا تلك الأعيان أما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا أولاً فالعلم بأحوال الأول من حيث يؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد يسمى حكمة عملية والعلم بأحوال الثاني يسمى حكمة نظرية وثالثها ما ذكر في تقسيم الصناعة أي العلم المتعلق بكيفية العمل من أنها إما عملية أي يتوقف حصولها على ممارسة العمل أنها نظرية لا يتوقف حصولها عليها فالفقه والنحو والمنطق والحكمة العملية والطب العملي خارجة عن العملية بهذا المعنى إذ لا حاجة في حصولها إلى مزاولة الأعمال بخلاف علم الخياطة والحياكة والحجامة لتوقفها على الممارسة والمزاولة.
التقسيم الثالث وهو مذكور فيه أيضاً اعلم أن العلم ينقسم إلى حكمي وغير حكمي والأخير ينقسم إلى ديني وغير ديني والديني إلى محمود ومذموم ومباح ووجه الضبط أنه إما أن لا يتغير بتغير الأمكنة والأزمان ولا يتبدل بتبديل الدول والأديان كالعلم بهيئات الأفلاك أو لا فالأول العلوم الحكمية ويقال له العلوم الحقيقية أيضاً أي الثابتة على مر الدهور والأعوام والثاني إما أن يكون منتمياً إلى الوحي ومستفاداً من الأنبياء عليهم السلام من غير أن يتوقف إلى تجربة وسماع وغيرهما أو لا فالأول العلوم الدينية ويقال لها الشرعية أيضاً والثاني العلوم الغير الدينية كالطب لكونه ضرورياً في بقاء الأبدان والحساب لكونه ضرورياً في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها فمحمودة وإلا فإن لم يكن له عاقبة حميدة فمذموم كعلم السحر والطلسمات والشعبذة والتلبيسات وإلا فمباح كعلم الأشعار التي لا سخف فيها وكتواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما تجري مجراها وهذا التفاوت بالنسبة إلى الغايات وإلا فالعلم من حيث أنه علم فضيلة لا تنكر ولا تذم فالعلم بكل شيء أولى من جهله فإياك أن تكون من الجاهلين.
التقسيم الرابع ما ذكره صاحب شفاء المتألم وهو أن كل علم إما أن يكون مقصوداً لذاته أو لا والأول العلوم الحكمية وهي إما أن تكون مما يعلم لتعتقد فالحكمة النظرية أو مما يعلم ليعمل بها فالحكمة العملية والأول يتقسم إلى أعلى وهو العلم الإلهي وأدنى وهو الطبيعي وأوسط وهو الرياضي لأن النظر إما في أمور مجردة عن المادة أو في أمور مادية في الذهن والخارج فهو الطبيعي أو في أمور يصح تجردها عن المواد في الذهن فقط فهو الرياضي وهو أربعة أقسام لأن نظر الرياضي إما أن يكون فيما يمكن أن يفرض فيه أجزاء تتلاقى على حد مشترك بينها أو لا وكل منهما إما قار الذات أو لا والأول الهندسة والثاني الهيئة والثالث العدد والرابع الموسيقا والحكمة العملية قسمان علم السياسة وعلم الأخلاق لأن النظر إما مختص بحال الإنسان أو لا الثاني هو الأول وأيضاً النظر فيه إما في إصلاح كافة الخلق في أمور المعاش والمعاد فذلك يرجع إلى علم الشريعة وعلومها معلومة وإما من حيث اجتماع الكلمة الإجماعية وقيام أمر الخلق فهو الأحكام السلطانية أي السياسة فإن اختص بجماعة معينة فهو تدبير المنزل والثاني وهو ما لا يكون مقصوداً لذاته بل آلة يطلب بها العصمة من الخطأ في غيرها فهو إما ما تطلب عن الخطأ فيه من المعاني أو ما يتوصل به إلى إدراكها من لفظ أو كتابة والأول علم المنطق والثاني علم الأدب وهو ما يبحث فيه عن الدلالات اللسانية أو الدلالات البنانية فالثاني علم الخط والأول يختص بالدلالات الإفرادية أو التركيبية أو يكون مشتركاً بينهما والأول إن كان البحث فيه عن المفردات فهو علم اللغة وإن كان البحث فيه عنها من صيغها فعلم الصرف والثاني إما أن يختص بالموزون أو لا والأول إن اختص بمقاطع الأبيات فعلم القافية وإلا فالعروض والثاني إن كانت العصمة به عن الخطأ في تأدية أصل المعنى فهو النحو وإلا فهو علم البلاغة والثالث علم الفصاحة ثم علم البلاغة إن كان ما يطلب به العصمة عن الخطأ في تطبيق الكلام لمقتضى الحال فعلم المعاني وإن كان في أنواع الدلالة ومعرفة كونها خفية وجلية فعلم البيان وأما علم الفصاحة فإن اختص بالعصمة عن الخطأ في تركيب المفردات من حيث التحسين فعلم البديع.
التقسيم الخامس ما ذكره صاحب مفتاح السعادة وهو أحسن من الجميع حيث قال اعلم أن للأشياء وجوداً في أربع مراتب في الكتابة والعبارة والأذهان والأعيان وكل سابق منها وسيلة إلى اللاحق لأن الخط دال على الألفاظ وهذه على ما في الأذهان وهذا على ما في الأعيان والوجود العيني هو الوجود الحقيقي الأصيل وفي الوجود الذهني خلاف في أنه حقيقي أو مجازي وأما الأولان فمجازيان قطعاً ثم العلم المتعلق بالثلاث فإما عملي لا يقصد به حصول نفسه بل غيره أو نظري يقصد به حصول نفسه ثم أن كلاً منهما إما أن يبحث فيه من حيث أنه مأخوذ من الشرع فهو العلم الشرعي أو من حيث أنه مقتضى العقل فقد فهو العلم الحكمي فهذه هي الأصول السبعة ولكل منها أنواع ولأنواعها فروع يبلغ الكل على ما اجتهدنا في الفحص والتنقير عنه بحسب موضوعاته وأساميه وتتبع ما فيه من المصنفات إلى مائة وخمسين نوعاً ولعلي سأزيد بعد هذا انتهى.
فرتب كتابه على سبع دوحات لكل أصل دوحة وجعل لكل دوحة شعباً لبيان الفروع فما أورده في الأول من العلوم الخطية علم أدوات الخط علم قوانين الكتابة علم تحسين الحروف علم كيفية تولد الخطوط عن أصولها علم ترتيب حروف التهجي علم تركيب أشكال بسائط الحروف علم إملاء الخط العربي علم خط المصحف علم خط العروض وذكر في الثانية العلوم المتعلقة بالألفاظ وهي علم مخارج الحروف علم اللغة علم الوضع علم الاشتقاق علم التصريف علم النحو علم المعاني علم البيان علم البديع علم العروض علم القوافي علم قرض الشعر علم مبادي الشعر علم الإنشاء علم مبادي الإنشاء وأدواته علم المحاضرة علم الدواوين علم التواريخ وجعل من فروع العلوم العربية علم الأمثال وعلم وقايع الأمم ورسومهم علم استعمالات الألفاظ علم الترسل علم الشروط والسجلات علم الأحاجي والأغلوطات علم الألغاز علم المعمى علم التصحيف علم المقلوب علم الجناس علم مسامرة الملوك علم حكايات الصالحين علم أخبار الأنبياء عليهم السلام علم المغازي والسير علم تاريخ الخلفاء علم طبقات القراء علم طبقات المفسرين علم طبقات المحدثين علم سير الصحابة علم طبقات الشافعية علم طبقات الحنفية علم طبقات المالكية علم طبقات الحنابلة علم طبقات النحاة علم طبقات الأطباء.
وذكر في الثالثة العلوم الباحثة عما في الأذهان من المعقولات الثانية وهي علم المنطق علم آداب الدرس علم النظر علم الجدل علم الخلاف وذكر في الرابعة العلوم المتعلقة بالأعيان وهي العلم الإلهي والعلم الطبيعي والعلوم الرياضية وهي أربعة علم العدد علم الهندسة علم الهيئة علم الموسيقى وجعل من فروع العلم الإلهي علم معرفة النفس الإنسانية علم معرفة النفس الملكية علم معرفة المعاد علم أمارات النبوة علم مقالات الفرق وجعل من فروع العلم الطبيعي علم الطب علم البيطرة علم البيزرة علم النبات علم الحيوان علم الفلاحة علم المعادن علم الجواهر علم الكون والفساد علم قوس قزح علم الفراسة علم تعبير الرؤيا علم أحكام النجوم علم السحر علم الطلسمات علم السيميا علم الكيميا وجعل من فروع علم الطب علم التشريح علم الكحالة علم الأطعمة علم الصيدلة علم طبخ الأشربة والمعاجين علم قلع الآثار من الثياب علم تركيب أنواع المداد علم الجراحة علم الفصد علم الحجامة علم المقادير والأوزان علم الباه وجعل من فروع الفراسة علم الشامات والخيلان علم الأسارير علم الأكتاف علم عيافة الأثر علم قيافة البشر علم الاهتداء بالبراري والأقفار علم الريافة علم الاستنباط علم نزول الغيث علم العرافة علم الاختلاج وجعل من فروع علم أحكام النجوم علم الاختيارات علم الرمل علم الفال علم القرعة علم الطيرة وجعل من فروع السحر علم الكهانة علم النيرنجات علم الخواص علم الرقى علم العزائم علم الاستحضار علم دعوة الكواكب علم الفلقطيرات علم الخفاء علم الحيل الساسانية علم كشف الدك علم الشعبذة علم تعلق القلب علم الإستعانة بخواص الأدوية وجعل من فروع الهندسة علم عقود الأبنية علم المناظر علم المرايا المحرقة علم مراكز الأثقال علم جر الأثقال علم المساحة علم استنباط المياه علم الآلات الحربية علم الرمي علم التعديل علم البنكامات علم الملاحة علم السباحة علم الأوزان والموازين علم الآلات المبنية على ضرورة عدم الخلاء وجعل من فروع الهيئة علم الزيجات والتقويم علم حساب النجوم علم كتاب التقاويم علم كيفية الأرصاد علم الآلات الرصدية علم المواقيت علم الآلات الظلية علم الأكر علم الأكر المتحركة علم تسطيح الكرة علم صور الكواكب علم مقادير العلويات علم منازل القمر علم الجغرافيا علم مسالك البلدان علم البرد ومسافاتها علم خواص الأقاليم علم الأدوار والأكوار علم القرانات علم الملاحم علم المواسم علم مواقيت الصلاة علم وضع الإسطرلاب علم عمل الإسطرلاب علم وضع الربع المجيب والمقنطرات علم عمل ربع الدائرة علم آلات الساعة وجعل من فروع علم العدد علم حساب التخت والميل علم الجبر والمقابلة علم حساب الخطائين علم حساب الدور والوصايا علم حساب الدراهم والدنانير علم حساب الفرائض علم حساب الهواء علم حساب العقود بالأصابع علم إعداد الوفق علم خواص الأعداد علم التعابي العددية وجعل من فروع الموسيقى علم الآلات العجيبة علم الرقص علم الغنج وذكر في الخامسة العلوم الحكمية العملية وهي علم الأخلاق علم تدبير المنزل علم السياسة وجعل من فروع الحكمة العملية علم آداب الملوك علم آداب الوزارة علم الاحتساب علم قود العساكر والجيوش وذكر في السادسة العلوم الشرعية وهي علم القراءة علم تفسير القرآن علم رواية الحديث علم دراية الحديث علم أصول الدين المسمى بالكلام علم أصول الفقه علم الفقه وجعل من فروع القراءة علم الشواذ علم مخارج الحروف علم مخارج الألفاظ علم الوقوف علم علل القراءات علم رسم كتابة القرآن علم آداب كتابة المصحف وجعل من فروع الحديث علم شرح الحديث علم أسباب ورود الحديث وأزمنته علم ناسخ الحديث ومنسوخه علم تأويل أقوال النبي عليه الصلاة والسلام علم رموز الحديث وإشاراته علم غرائب لغات الحديث علم دفع الطعن عن الحديث علم تلفيق الأحاديث علم أحوال رواة الأحاديث علم طب النبي عليه الصلاة والسلام وجعل من فروع التفسير علم المكي والمدني علم الحضري والسفري علم النهاري والليل علم الصيفي والشتائي علم الفراشي والنومي علم الأرضي والسمائي علم أول ما نزل وآخر ما نزل علم سبب النزول علم ما نزل على لسان بعض الصحابة رضي الله عنهم علم ما تكرر نزوله علم ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه علم ما نزل مفرقاً وما نزل جمعاً علم ما نزل مشيعاً وما نزل مفرداً علم ما أنزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل علم كيفية إنزال القرآن علم أسماء القرآن وأسماء سوره علم جمعه وترتيبه علم عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه علم حفاظه ورواته علم العالي والنازل من أسانيده علم المتواتر والمشهور عليم البيان الموصول لفظاً والمفصول معنى علم الإمالة والفتح علم الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب علم المد والقصر علم تخفيف الهمزة علم كيفية تحمل القرآن علم آداب تلاوته وتاليه علم جواز الاقتباس علم غريب القرآن علم ما وقع فيه بغير لغة الحجاز علم ما وقع فيه من غير لغة العرب علم الوجوه والنظائر علم معاني الأدوات التي يحتاج إليها المفسر علم المحكم والمتشابه علم مقدم القرآن ومؤخره علم عام القرآن وخاصه علم ناسخ القرآن ومنسوخه علم مشكل القرآن علم مطلق القرآن ومقيده علم منطوق القرآن ومفهومه علم وجوه مخاطباته علم حقيقة ألفاظ القرآن ومجازها علم تشبيه القرآن واستعاراته علم كنايات القرآن وتعريضاته علم الحصر والاختصاص علم الإيجاز والإطناب علم الخبر والإنشاء علم بدائع القرآن علم فواصل الآي علم خواتم السورة علم مناسبة الآيات والسور علم الآيات المتشابهات علم إعجاز القرآن علم العلوم المستنبطة من القرآن علم أقسام القرآن علم جدل القرآن علم ما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب علم مبهمات القرآن علم فضائل القرآن علم أفضل القرآن وفاضله علم مفردات القرآن علم خواص القرآن علم مرسوم الخط وآداب كتابته علم تفسيره وتأويله وبيان شرفه علم شروط المفسر وآدابه علم غرائب التفسير علم طبقات المفسرين علم خواص الحروف علم الخواص الروحانية من الأوفاق علم التصريف بالحروف والأسماء علم الحروف النورانية والظلمانية علم التصريف بالاسم الأعظم علم الكسر والبسط علم الزايرجه علم الجفر والجامعة علم دفع مطاعن القرآن.
وجعل من فروع الحديث علم المواعظ علم الأدعية علم الآثار علم الزهد والورع علم صلاة الحاجات علم المغازي. وجعل من فروع أصول الفقه علم النظر علم المناظرة علم الجدل.
وجعل من فروع الفقه علم الفرائض علم الشروط والسجلات علم القضاء علم حكم الشرايع علم الفتاوى فيكون جميع ما ذكره من العلوم المتعلقة بطريق النظر ثلاثمائة وخمسة علوم.
ثم إنه جعل الطرف الثاني من كتابه في بيان العلوم المتعلقة بالتصفية التي هي ثمرة العمل بالعلم فلخص فيه كتاب الأحياء للإمام الغزالي ولم يذكر علم التصوف فلله دره في الغوص على بحار العلوم وإبراز دررها.
فإن قيل إنه قصد تكثير أنواع العلوم فأورد في فروعها ما أورد كذكره في فروع علم التفسير ما ذكره السيوطي في الإتقان من الأنواع وهلا يرد عليه إن أراد بالفروع المقاصد للعلم فعلم الطب مثلاً يصل إلى ألوف من العلوم وإنه إن أراد ما أفرد بالتدوين فلم يستوعب الأقسام في كثير من المباحث التي أفردت بالتدوين وقد أخل بذكرها على أنه أدخل في فروع علم ما ليس منه.
قلت نعم يرد لكن الجواد قد يكبو والفتى قد يصبو ولا يعد إلا هفوات العارف ويدخل الزيوف على أعلى الصوارف الصيارف ولا يخفى عليك أن التعقب على الكتب سيما الطويلة سهل بالنسبة إلى تأليفها ووضعها وترصيفها كما يشاهد في الأبنية العظيمة والهياكل القديمة حيث يعترض على بانيها من عرى في فنه عن القوى والقدر بحيث لا يقدر على وضع حجر على حجر.
هذا جوابي عما يرد على كتابي أيضاً وقد كتب أستاذ البلغاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البياني إلى العماد الأصفهاني معتذراً عن كلام استدركه عليه أنه قد وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا وها أنا أخبرك به وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن ولو زيد لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر انتهى.
هذا اعتذار قليل المقدار على جميع الإيرادات والأنظار إجمالاً وأما التفصيل فسيأتي في موضع كل علم مع توجيهه بإنصاف وحلم وربما زيد على ما ذكره من العلوم على طريق الاستدراك بتمكين مانح القريحة والذهن الدراك.
الفصل الخامس
في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به
وفيه إعلامات الإعلام الأول: في شرفه وفضله واكتفيت مما ورد فيه من الآيات والأخبار بالقليل لشهرته وقوة الدليل قال الله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" وقال: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الإخلاء يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام هو إمام والعمل تابعه ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء" أورده ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده وقال: هو حديث حسن جداً وفي إسناده ضعف وروي أيضاً من طرق شتى موقوفاً على معاذ وقد يقال الموقوف في مثل هذا كالمرفوع لأن مثله لا يقال بالرأي وقال الشافعي من شرف العلم أن كل ما نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن وقال الأحنف كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره ثم إن العلوم مع اشتراكها في الشرف تتفاوت وفيه فمنها ما هو بحسب الموضوع كالطب فإن موضوعه بدن الإنسان والتفسير فإن موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى ولا خفاء في شرفهما ومنها ما هو بحسب الغاية كعلم الأخلاق فإن غايته معرفة الفضائل الإنسانية ومنها ما هو بحسب الحاجة إليه كالفقه فإن الحاجة إليه ماسة ومنها ما هو بحسب وثاقة الحجة كالعلوم الرياضية فإنها برهانية ومن العلوم ما يقوى شرفه باجتماع هذه الاعتبارات فيه أو أكثرها كالعلم الإلهي فإن موضوعه شريف وغايته فاضلة والحاجة إليه ماسة وقد يكون أحد العلمين أشرف من الآخر باعتبار ثمرته أو وثاقة دلائله أو غايته ثم إن شرف الثمرة أولى من شرف قوة الدلالة فأشرف العلوم ثمرة العلم بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما يعين عليه فإن ثمرته السعادة الأبدية.الإعلام الثاني: في كون العلم ألذ الأشياء وأنفعها وفيه تعليمان.
الأول: في لذته اعلم أن شرف الشيء إما لذاته أو لغيره والعلم حائز للشرفين جميعاً لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته ولذيذ لغيره فيطلب لأجله أما الأول فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها لأنها لذة روحانية وهي اللذة المحضة وأما اللذة الجسمانية فهي دفع الألم في الحقيقة كما أن لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء بخلاف اللذة الروحانية فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية ولهذا كان الإمام الثاني محمد بن الحسن الشيباني يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم: أين أبناء الملوك من هذه اللذة سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت وأسرار اللاهوت ومن لذة التابعة لعزته أنه لا يقبل العزل والنصب ومع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء ومع هذا لا نرى أحداً من الولاة الجهال إلا يتمنون تمنى أن يكون عزهم عزه كعز أهل العلم إلا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله.
وأما اللذائذ الحاصلة لغيره إما في الأخرى فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية والسعادة الأبدية وإما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها لشعورها بتميز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها حتى أنها تنزجر بزجره وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان.
التعلم الثاني: في نفعه واعلم أن السعادة منحصرة في قسمين جلب المنافع ودفع المضار وكل منهما دنيوي وديني فالأقسام أربعة.
الأول وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية وهو حقي وخلقي أشار إلى نفعه الأول قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "فإن تعلمه لله خشية" الخ وإلى نفعه الثاني قوله عليه الصلاة والسلام: "وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة".
الثاني وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية وهو وجداني وذوقي وجاهي رتبي والوجداني إما راحة واستيلاء والراحة إما من مشقة ووجود ظاهر للنفس أو من فقد سار لها بالأنس وكل منهما إما خارجي وإما ذاتي فالراحة أربعة أقسام وقوله عليه الصلاة والسلام: وهو الأنيس في الوحشة إشارة إلى الأول لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب وقوله عليه الصلاة والسلام: "والصاحب في الغربة" إشارة إلى الثاني لأنه يقر من الغريب عينه ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها لفقد سرور الأهل والوطن وقوله عليه الصلاة والسلام: "والمحدث في الخلوة" إشارة إلى الثالث لأن العلم يريح المنفرد عن الناس بتحديثه من انقباض الفهم وخموده وهو ألم ذاتي لأهل الكمال وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة وقوله عليه الصلاة والسلام: والدليل على السراء والضراء أي في الماضي والآتي إشارة إلى الرابع الذي هو فقد سار ذاتي أي أن العلوم تقوم مقام ذي الرأي السديد إذا استشير إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها وعلى الضراء وموجباتها فالحيرة وجهل عواقب الأمور مؤلم للنفس ومضيق للصدر لفقد نور البصيرة فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان.
والاستيلاء قسمان أحدهما استيلاء يمحق الشر ويدفع الضر وإليه أشار قوله عليه الصلاة والسلام: "والسلاح على الأعداء" فبالعلم يزهق الباطل وتندفع الشبهة والجهالة قيل لبعض المناظرين فيم لذتك فقال في حجة تتبختر إيضاحاً وشبهة تتضائل افتضاحاً وثانيهما استيلاء يجلب الخير ويذهب الضير وإليه أشار قوله عليه الصلاة والسلام: "والزين عند الأخلاء" أي أن العلم جمال وحسن وكمال يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل:
العلم زين وكنز لا نفـاذ لـه | نعم القرين إذا ما عاقلاً صحبا |
والثاني أشار إليه قوله عليه الصلاة والسلام: "يرغب الملائكة في خلتهم" أي لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم ما استولى على غيوب بواطنهم فرغبوا في محبتهم وأنسوا بملازمتهم وما استولى على ظواهرهم فيتبركون بمسحهم.
والثالث أشار إليه قوله عليه الصلاة والسلام: "يستغفر لهم كل رطب ويابس" فشمل الناطق والنافس قيل سبب استغفار هؤلاء رجوع أحكامهم إليهم في صيدهم وقتلهم وحلهم وحرمتهم.
القسم الثالث ما يندفع بالعلم من المضار الدينية وهو نوعان فعل النواهي وترك الأوامر.
فالأول اتباع الشهوات المضرة وأشار إليه قوله عليه الصلاة والسلام: "التفكر فيه يعدل الصيام" أي في كسره الشهوتين والثاني الغفلة والميل إلى الكسل وأشار إليه قوله عليه الصلاة والسلام: "ومدارسته تعدل القيام" أي في نفي ما عرض في ذلك لحصول التنبيه والنشاط والتذكرة والانبساط.
القسم الرابع هو ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية وهو أيضاً نوعان الأول دفع المصالح والمقاصد وجلب المعايب والمفاسد أشار قوله عليه الصلاة والسلام: "به توصل الأرحام" أي بالعلم توصل الأرحام بين الأنام وتدفع مضرة القطيعة وحقدهم وحسدهم ومحاربتهم والثاني مضرة اجتلاب المفاسد برفض القانون الشرعي العاصم من كل ضلال وإليه أشار إليه قوله عليه الصلاة والسلام: "وبه يعرف الحلال والحرام" أي بالعلم تبين أحدهما من الآخر وهو أساس جميع الخيرات فتأمل في بيان منافع العلم وكيفية جوامع الكلم وأكثر الصلاة على صاحبه عليه الصلاة والسلام.
الإعلام الثالث: في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم وسبب كونه مذموماً اعلم انه لا شيء من العلوم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الإنساني وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار وغير نافع لعدم اعتبار الشروط التي يجب مراعاتها في العلم والعلماء فإن لكل علم حداً لا يتجاوزه فمن الوجوه المغلطة أن يظن بالعلم فوق غايته كما يظن بالطب أنه يبرئ من جميع الأمراض وليس كذلك فإن منها ما لا يبرأ بالمعالجة ومنها أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف كما يظن بالفقه أنه أشرف العلوم على الإطلاق وليس كذلك فإن علم التوحيد أشرف منه قطعاً ومنها أن يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علماً للمال أو الجاه فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علماً للاحتراف لم يأت عالماً إنما جاء شبيهاً بالعلماء ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر ونطقوا لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سبباً لارتفاعه ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها ومنها أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله كما أتى في علم الطب فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة فصار مهاناً لما تعاطاه اليهود فلم يشرفوا به بل رذل العلم بهم وما أحسن قول أفلاطون أن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في البدن السقيم إلى الفساد ومن هذا القبيل الحال في علم أحكام النجوم فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به للملوك ونحوهم فرذل حتى صار لا يتعاطاه غالباً إلا جاهل يروج أكاذيبه ومنها أن يكون العلم عزيز المنال رفيع المرقى قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله لينال بتمويهه غرضاً كما اتفق في علوم الكيميا والسيميا والسحر والطلسمات والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علماً من هذه العلوم فالفطرة قاضية بأن من يطلع على ذنابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده ومنها ذم جاهل متعالم لجهله إياه فإن من جهل شيئاً أنكره وعاداه كما قيل: المرء عدو لما جهله أو ذم عالم متجاهل لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب فإنك تسمعهم يقولون بتحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وليس فيها ما ينافي الشرع المبين والدين المتين غير المسائل اليسيرة التي أوردها أصحاب التهافت كما سيأتي وليس في كتب الحنفية القول بتحريم المنطق غير الأشياه فإن كان صاحبه رآه كان المناسب أن ينقل وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن قبيل سد الذرائع وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه تخليص أصحاب العقول القاصرة من تضييع العمر وتعذيبهم بلا فائدة فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة وإلا فالعلم إن كان مذموماً في نفسه على زعمهم لا يخلو تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين بها.
الإعلام الرابع: في مراتب العلوم في التعليم ولا يخفى أنه يقدم الأهم فالأهم فيه والوسيلة مقدمة على المقصد كما أن المباحث اللفظية مقدمة على المباحث المعنوية لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني ويقدم الأدب على المنطق ثم هما على أصول الفقه ثم هو على الخلاف والتحقيق إن تقدم العلم على العلم لثلاثة أمور إما لكونه أهم منه كتقديم فرض العين على فرض الكفاية وهو على المندوب إليه وهو على المباح وإما لكونه وسيلة إليه كما سبق فيقدم النحو على المنطق وإما لكون موضوعه جزأ من موضوع العلم الآخر والجزء مقدم على الكل فيقدم التصريف على النحو وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها بل لغرض التمرين على إدراك المعقولات كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم علم الحساب وكثيراً ما يقدم الأهون فالأهون ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو على التصريف ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمس ثم أنه تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه بحسب خلو الأعصار والأمصار من العلماء قرب مصر لا يوجد فيهم من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان ويوجد فيه عشرون فقيهاً فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه.
واعلم أن الواجب علمه هو فرض عين وهو كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه وأما ما أوجبه على المجموع ليعملوا به لو قام به واحد لسقط عن الباقين ويسمى فرض كفاية والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه وإزالة الشبهة ومعرفة الآفات والفرائض والأحكام الفرعية وحفظ الأبدان والأخلاق والسياسة وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كاللغة والتصريف والنحو والطب والمعاني والبيان وكالمنطق وتسيير الكواكب ومعرفة الأنساب والحساب إلى غير ذلك من العلوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها.
الباب الثاني
في منشأ العلوم والكتب
وفيه فصول أيضاً
الفصل الأول
في سببها
وفيه إفهامات
الإفهام الأول: في أن العلم طبيعي للبشر وأنه محتاج إليه اعلم أن الإنسان قد شاركه جميع الحيوان في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء وغير ذلك من اللوازم وإنما يمتاز عنه بالفكر وإدراك الكليات الذي يهتدى به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه وقبول ما جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالى والعمل واتباع صلاح أخراه فهو مفكر في ذلك دائماً لا يفتر عنه وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع ثم لأجله ولما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع يكون الفكر راغباً في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى ما استفاد عنه إما من الافواه أو من الدوال عليه فهذا ميل طبيعي من البشر إلى الأخذ والاستفادة فمنهم من ساعده فهمه ومنهم من لم يساعده مع ميله إليه وأما عدم الميل فلأمر عارضي كفساد المزاج وبعد المكان عن الاعتدال فلا اعتداد به.الإفهام الثاني: في أن العلم والكتابة من لوازم التمدن واعلم أن نوع الإنسان لما كان مدنياً بالطبع وكان محتاجاً إلى إعلام ما في ضميره إلى غيره وفهم ما في ضمير الغير اقتضت الحكمة الإلهية إحداث دوال يخف عليه إيرادها ولا يحتاج إلى غير الآلات الطبيعية فقاده الإلهام الإلهي إلى استعمال الصوت وتقطيع النفس الضروري بالآلة الذاتية إلى حروف يمتاز بعضها عن بعض باعتبار مخارجها وصفاتها حتى يحصل منها بالتركيب كلمات دالة على المعاني الحاصلة في الضمير فيتيسر لهم فائدة التخاطب والمحاورات والمقاصد التي لا بد منها في حياتهم ثم إن تركيبات تلك الحروف لما أمكنت على وجوه مختلفة وأنحاء متنوعة حصل لهم ألسنة مختلفة ولغات متباينة وعلوم متنوعة ثم إن أرباب الهمم من بين الأمم لما لم يكتفوا بالمحاورة في إشاعة هذه النعم لاختصاصها الحاضرين سمت همتهم السامية إلى إطلاع الغائبين ومن بعدهم على ما استنبطوه من المعارف والعلوم وأتعبوا نفوسهم في تحصيلها لينتفع بها أهل الأقطار ولتزداد العلوم بتلاحق الأفكار وضعوا قواعد الكتابة الثابتة نقوشها على وجه كل زمان وبحثوا عن أحوالها من الحركات والسكنات والضوابط والنقاط وعن تركيبها وتسطيرها لينتقل منها الناظرون إلى الألفاظ والحروف ومنها إلى المعاني فنشأ من ذلك الوضع جملة العلوم والكتب.
الإفهام الثالث: في أوائل ما ظهر من العلم والكتاب واعلم أنه يقال أن آدم عليه السلام كان عالماً بجميع اللغات لقوله سبحانه وتعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها" قال الإمام الرازي المراد أسماء كل ما خلق الله تعالى من أجناس المخلوقات بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده اليوم وعلم أيضاً معانيها وأنزل عليه كتاباً وهو كما ورد في حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه قال: "يا رسول الله أي كتاب أنزل على آدم عليه السلام قال: كتاب المعجم قلت: أي كتاب المعجم? قال: أ ب ت ث ج قلت: يا رسول الله كم حرفاً? قال: تسعة وعشرون حرفاً" وذكروا أنه عشر صحف فيها سورة مقطعة الحروف وفيها الفرائض والوعد والوعيد وأخبار الدنيا والآخرة وقد بين أهل كل زمان وصورهم وسيرهم مع أنبيائهم وملوكهم وما يحدث في الأرض من الفتن والملاحم ولا يخفى أنه مستبعد عند أصحاب العقول القاصرة وأما من أمعن النظر في الجفر ولاحظ شموله على غرائب الأمور فعنده ليس ببعيد سيما في الكتب المنزلة وروي أن آدم عليه السلام وضع كتاباً بأنواع الألسن والأقلام قبل موته بثلاثمائة سنة كتبها في طين ثم طبخه فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتاباً فكتبوه من خطه فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي وكان ذلك من معجزات آدم عليه السلام ذكره السيوطي في المزهر وفي رواية: أن آدم عليه السلام كان يرسم الخطوط بالبنان وكان أولاده تتلقاها بوصية منه وبعضهم بالقوة القدسية القابلية القلبية وكان أقرب عهد إليه إدريس عليه السلام فكتب بالقلم واشتهر عنه من العلوم ما لم يشتهر عن غيره ولقب بهرمس الهرامسة والمثلث بالنعمة لأنه كان نبياً ملكاً حكيماً وجميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان إنما صدرت عنه في قول كثير من العلماء وهو هرمس الأول أعني إدريس بن برد بن مهلايل بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام المتمكن بصعيد مصر الأعلى وقالوا أنه أول من تكلم في الأجرام العلوية والحركات النجومية وأول من بنى الهياكل وعبد الله تعالى فيها وأول من نظر في الطب وألف لأهل زمانه قصائد في البسائط والمركبات وأنذر بالطوفان ورأى أن آفة سماوية تلحق الأرض فخاف ذهاب العلم فبنى الأهرام التي في صعيد مصر الأعلى وصور فيها جميع الصناعات والآلات ورسم صفات العلوم والكمالات حرصاً على تخليدها ثم كان الطوفان وانقرض الناس ولم يبق علم ولا أثر سوى من في السفينة من البشر وذلك مذهب جميع الناس إلا المجوس فانهم لا يقولون بعموم الطوفان ثم أخذ يتدرج الاستئناف والإعادة فعاد ما اندرس من العلم إلى ما كان عليه من الفضل والزيادة فأصبح مؤسس البنيان مشيد الأركان لا زال مؤيداً بالملة الإسلامية إلى يوم الحشر والميزان.
الفصل الثاني
في منشأ إنزال الكتب واختلاف الناس وانقسامهم
وفيه إفصاحات
الإفصاح الأول: في حكمة إنزال الكتب واعلم أن الإنسان لما كان محتاجاً إلى اجتماع مع آخر من بني نوعه في إقامة معاشه والاستعداد لمعاده وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون حتى يحفظ بالتمانع ما هو له ويحصل بالتعاون ما ليس له من الأمور الدنيوية والأخروية وكان في كثير منها ما لا طريق للعقل إليه وإن كان فيه فبأنظار دقيقة لا يتيسر إلا لواحد بعد واحد اقتضت الحكمة الإلهية إرسال الرسل وإنزال الكتب للتبشير والإنذار وإرشاد الناس إلى ما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي الملة والطريق الخاص الذي يصل إلى هذه الهيئة هو المنهاج والشرعة فالشريعة ابتدأت من نوح عليه السلام والحدود والأحكام ابتدأت من آدم عليه السلام وشيث وإدريس عليهما السلام وختمت بأتمها وأكملها فمن الناس من آمن بهم واهتدى ومنهم من اختار الضلالة على الهدى فظهر اختلاف الآراء والمذاهب من الكفار والفرق الإسلامية وكل حزب بما لديهم فرحون.الإفصاح الثاني: في أقسام الناس بحسب المذاهب والديانات اعلم أن التقسيم الضابط أن يقال من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول وهم السوفسطائية فإنهم أنكروا حقائق الأشياء ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول وهم الطبيعية وكل منهم معطل لا يرد عليه فكره براد ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد ولا يرشده ذهنه إلى معاد قد ألف المحسوس وركن إليه وظن أنه لا عالم وراء العلم المحسوس ويقال لهم الدهريون أيضاً لأنهم لا يثبتون معقولاً ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود والأحكام وهم الفلاسفة فكل منهم قد ترقى عن المحسوس وأثبت المعقول ولكنه لا يقول بحدود وأحكام وشريعة وإسلام ويظن أنه إذا حصل له المعقول وأثبت العالم مبدأ ومعاداً وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه فيكون سعادته على قدر إحاطته وعلمه وشقاوته بقدر جهله وسفاهته وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة وهؤلاء الذين كانوا في الزمن الأول دهرية وطبيعية وإلهية لا الذين اتخذوا علومهم عن مشكاة النبوة ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام وهم الصابئة فهم قوم يقرب من الفلاسفة ويقولون بحدود وأحكام عقلية ربما أخذوا أصولها وقوانينها من مؤيد بالوحي إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم وما تعدوا إلى الآخر وهؤلاء هم الصابئة الأولى الذين قالوا بغاذيمون وهرمس وهما شيث وإدريس عليهما السلام ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء ومنهم من يقول بهذه كلها وشريعة وإسلام ولا يقول بشريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهم المجوس واليهود والنصارى ومنهم من يقول بهذه كلها وهم المسلمون وكانوا عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة واحدة إلا من كان يبطن النفاق ثم نشأ الخلاف فيما بينهم أولاً في أمور اجتهادية وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين كاختلافهم في التخلف عن جيش أسامة وفي موته صلى الله عليه وسلم وفي موضع دفنه وفي الإمامة وفي ثبوت الإرث عنه صلى الله عليه وسلم وفي قتال مانعي الزكاة وفي خلافة علي ومعاوية وكاختلافهم في بعض الأحكام الفرعية ثم يتدرج ويترقى إلى آخر أيام الصحابة رضي الله عنهم فظهر قوم خالفوا في القدر ولم يزل الخلاف يتشعب حتى تفرق أهل الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقاً فرقة كما أشار إليه الرسول عليه الصلاة والسلام وكان من معجزاته ولكن كبار الفرق الإسلامية ثمانية وهم المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والنجارية والجبرية والمشبهة والناجية ويقال لهم أهل السنة والجماعة هذا ما ذكروه في كتب الفرق. الإفصاح الثالث: في أقسام الناس بحسب العلوم اعلم أنهم باعتبار العلم والصناعة قسمان قسم اعتنى بالعلم فظهرت منهم ضروب المعارف فهم صفوة الله تعالى من خلقه وفرقة لم تعتن بالعلم عناية تستحق بها اسمه فالأولى أمم منهم أهل مصر والروم والهند والفرس والكلدانيون واليونانيون والعرب والعبرانيون والثانية بقية الأمم لكن الأنبه منهم الصين والترك وفي الملل والنحل أن كبار الأمم أربعة العرب والعجم والروم والهند ثم إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية والعجم والروم يتقاربان على مذهب واحد وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية انتهى.
وفي بيان هذه الأمم تلويحات: التلويح الأول: في أهل الهند اعلم أن لون الهندي وإن كان في أول مراتب السودان فصار بذلك من جبلتهم ومن جملتهم إلا أنه سبحانه وتعالى جبنهم سوء أخلاق السودان ودناءة شيمهم وسفاهة أحلامهم وفضلهم على كثير من السمر والبيض وعلل ذلك بعض أهل التخييم بأن زحل وعطارد يتوليان بالقسمة لطبيعة الهند فلولاية زحل اسودت ألوانهم ولولاية عطارد خلصت عقولهم ولطفت أذهانهم فهم أهل الآراء الفاضلة والأحلام الراجحة لهم التحقق بعلم العدد والهندسة والطب والنجوم والعلم الطبيعي والإلهي فمنهم براهمة وهي فرقة قليلة العدد ومذهبهم إبطال النبوات وتحريم ذبح الحيوان ومنهم صابئة وهم جمهور الهند ولهم في تعظيم الكواكب وأدوارها آراء ومذاهب والمشهور في كتبهم مذهب السند هند أي دهر الداهر ومذهب الأزجهير ومذهب الأركند ولهم في الحساب والأخلاق والموسيقى تأليفات.
التلويح الثاني: في الفرس وهم أعدل الأمم وأوسطهم داراً وكانوا في أول أمرهم موحدين على دين نوح عليه السلام إلى أن تمذهب طهمورث بمذهب الصابئين وقسر الفرس على التشرع به فاعتقدوه نحو ألف سنة إلى أن تمجسوا جميعاً بسبب زرادشت ولم يزالوا على دينه قريباً من ألف سنة إلى أن انقرضوا ولخواصهم عناية بالطب وأحكام النجوم ولهم أرصاد ومذاهب في حركاتها واتفقوا على أن أصح المذاهب في الأدوار مذهب الفرس ويسمى سني أهل فارس وذلك في أن مدة العلم عندهم جزء من اثني عشر من مدة السند هند وهي أن السيارات وأوجاتها وجوزهراتها تجتمع كلها في رأس الحمل في كل ستة وثلاثين مرة مائة ألف سنة شمسية ولهم في ذلك كتب جليلة. وفي كتاب الفهرس يقال أن أول من تكلم بالفارسية كيومرث وتسمية الفرس كل شاه أي ملك الطين وهو عندهم آدم أبو البشر عليه الصلاة السلام وأول من كتب بالفارسية بيوراسب المعروف بالضحاك وقيل فريدون قال ابن عبدوس في كتاب الوزراء كانت الكتب والرسائل قبل ملك كشتاسب قليلة ولم يكن لهم اقتدار على بسط الكلام وإخراج المعاني من النفوس ولما ملك ظهر زرادشت صاحب شريعة المجوس وأظهر كتاب القحيب العجيب بجميع اللغات وأخذ الناس يتعلم الخط والكتاب فزادوا ومهروا وقال ابن المقفع لغات الفارسية الفهلوية والدرية والفارسية والخوزية والسريانية أما الفهلوية فمنسوبة إلى فهله اسم يقع على خمسة بلدان وهي أصبهان والري وهمذان وماء نهاوند وأذربيجان وأما الدرية فلعله المداين وبها كان يتكلم من باب الملك وهي منسوبة إلى الباب والغالب عليها من لغة أهل خراسان والمشرق لغة أهل بلخ فأما الفارسية فيتكلم بها الموابذة والعلماء وهي لغة أهل فارس وأما الخوزية فبها كان يتكلم الملوك والأشراف في الخلوة مع حاشيتهم وأما السريانية فكان يتكلم بها أهل السواد والمكاتبة في نوع من اللغة بالسرياني فارسي وللفرس ستة أنواع من الخطوط وحروفهم مركبة من أبجد هوزى كلمن سف رش نخذغ فالتاء المثناة والحاء المهملة والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والقاف سواقط.
التلويح الثالث: في الكلدانيين وهم أمة قديمة مسكنهم أرض العراق وجزيرة العرب ومنهم النماردة ملوك الأرض بعد الطوفان وبختنصر منهم ولسانهم سرياني ولم يبرحوا إلى أن ظهر عليهم الفرس وغلبوا مملكتهم وكان منهم علماء وحكماء متوسعون في الفنون ولهم عناية بأرصاد الكواكب وإثبات الأحكام والخواص ولهم هياكل وطرائق لاستجلاب قوى الكواكب وإظهار طبايعها بأنواع القرابين فظهرت منهم الأفاعيل الغربية من إنشاء الطلسمات وغيرها ولهم مذاهب نقل منها بطلميوس في المجسطي ومن أشهر علمائهم ابرخس واصطفن وفي الفهرس أن النبطي أفصح من السرياني وبه كان يتكلم أهل بابل وأما النبطي الذي يتكلم به أهل القرى فهو سرياني غير فصيح وقيل اللسان الذي يستعمل في الكتب الفصيحة بلسان لسان أهل سوريا وحران. وللسريانيين ثلاثة أقلام أقدم الأقلام ولا فرق بينه وبين العربي في الهجاء إلا أن الثاء المثلثة والخاء والذال والضاد والظاء والغين كلها معجمات سواقط وكذا لام ألف وتركب حروفها من اليمين إلى اليسار.
التلويح الرابع: في أهل اليونان هم أمة عظيمة القدر بلادهم بلاد روم ايلي وآناطولي وقرامان وكانت عامتهم صابئة عبدة الأصنام وكان الإسكندر من ملوكهم وهو الذي أجمع ملوك الأرض على الطاعة لسلطانه وبعده البطالسة إلى أن غلب عليهم الروم وكان علماؤهم يسمون فلاسفة الهيون الهيين أعظمهم خمسة بندقليس كان في عصر داود عليه السلام ثم فيثاغورس ثم سقراط ثم أفلاطون ثم أرسطاليس ولهم تصانيف في أنواع الفنون وهم من أرفع الناس طبقة وأجل أهل العلم منزلة لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة من العلوم الرياضية والمنطقية والمعارف الطبيعية والإلهية والسياسات المنزلية والمدنية وجميع العلوم العقلية مأخوذة عنهم ولغة قدمائهم تسمى الإغريقية وهي من أوسع اللغات ولغة المتأخرين تسمى اللطيني لأنهم فرقتان الإغريقيون واللطينيون.
التلويح الخامس: في الروم وهم أيضاً صابئة إلى أن قام قسطنطين بدين المسيح وقسرهم على التشرع به فأطاعوه ولم يزل دين النصرانية يقوى إلى أن دخل فيه أكثر الأمم المجاورة للروم وجميع أهل مصر وكان لهم حكماء وعلماء بأنواع الفلسفة وكثير من الناس يقول أن الفلاسفة المشهورين روميون والصحيح أنهم يونانيون ولتجاور الأمتين دخل بعضهم في بعض واختلط خبرهم وكلا وكلتا الأمتين مشهور العناية بالفلسفة إلا أن لليونان من المزية والتفضيل ما لا ينكر وقاعدة ومملكتهم رومية الكبرى ولغتهم مخالفة للغة اليونان وقيل لغة اليونان الإغريقية ولغة الروم اللطينية وقلم اليونان والروم من اليسار إلى اليمين مرتب على ترتيب أبجد وحروفهم أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخ ظغ فالدال والهاء والحاء والذال والضاد ولام ألف سواقط. ولهم قلم يعرف بالساميا ولا نظير له عندنا فإن الحرف الواحد منه يحيط بالمعاني الكثيرة ويجمع عدة كلمات قال جالينوس في بعض كتبه كنت في مجلس عام فتكلمت في التشريح كلاماً عاماً فلما كان بعد أيام لقيني صديق لي فقال إن فلاناً يحفظ عليك في مجلسك أنك كلمت بكلمة كذا وأعاد علي ألفاظي فقلت من أين لك هذا فقال إني لقيت بكتاب ماهر بالساميا فكان يسبقك بالكتابة في كلامك وهذا العلم يتعلمه الملوك وجلة الكتاب ويمنع منه سائر الناس لجلالته كذا قال ابن النديم في الفهرس وذكر أيضاً أن رجلاً متطبباً جاء إليه من بعلبك سنة ثمان وأربعين وزعم أنه يكتب بالساميا قال فجربنا عليه فأصبناه إذا تكلمنا بعشر كلمات أصغى إليها ثم كتب كلمة فاستعدناها فأعادها بألفاظنا انتهى.
تبصرة ذكر في السبب الذي من أجله يكتب الروم من اليسار إلى اليمين بلا تركيب أنهم يعتقدون أن سبيل الجالس أن يستقبل المشرق في كل حالاته فإنه إذا توجه إلى المشرق يكون الشمال على يساره فإن كان كذلك فاليسار يعطى اليمين فسبيل الكاتب أن يبتدئ من الشمال إلى الجنوب وعلل بعضهم يكون الاستمداد عن حركة الكبد على القلب.
التلويح السادس: في أهل مصر وهم أخلاط من الأمم إلا أن جمهرتهم قبط وإنما اختلطوا لكثرة من تداول ملك مصر من الأمم كالعمالقة واليونانيون والروم فخفي أنسابهم فانتسبوا إلى موضعهم وكانوا في السلف صابئة ثم تنصروا إلى الفتح الإسلامي وكان لقدمائهم عناية بأنواع العلوم ومنهم هرمس الهرامسة قبل الطوفان وكان بعده علماء بضروب الفلسفة خاصة بعلم الطلسمات والنيرنجات والمرايا المحرقة والكيميا وكانت دار العلم بها مدينة منف فلما بنى الإسكندر مدينة رغب الناس في عمارتها فكانت دار العلم والحكمة إلى الفتح الإسلامي فمنهم الإسكندرانيون الذين اختصروا كتب جالينوس وقيل أن القبط اكتسب العلم الرياضي من الكلدانيين.
التلويح السابع: في العبرانيين وهم بنو إسرائيل وكانت عنايتهم بعلوم الشرائع وسير الأنبياء فكان أخبارهم أعلم الناس بأخبار الأنبياء وبدء الخليقة وعنهم أخذ ذلك علماء الإسلام لكنهم لم يشتهروا بعلم الفلسفة ولغتهم تنسب إلى عابر بن شالخ والقلم العبراني من اليمين إلى اليسار وهو من أبجد إلى آخر قرشت وما بعده سواقط وهو مشتق من السرياني.
التلويح الثامن: في العرب وهم فرقتان بائدة وباقية والبائدة كانت أمماً كعاد وثمود انقرضوا وانقطع عنا أخبارهم والباقية متفرعة من قحطان وعدنان ولهم حال الجاهلية وحال الإسلام فالأولى منهم التبابعة والجبابرة ولهم مذهب في أحكام النجوم لكن لم يكن لهم عناية بأرصاد الكواكب ولا بحث عن شيء من الفلسفة وأما سائر العرب بعد الملوك فكانوا أهل مدر ووبر فلم يكن فيهم عالم مذكور ولا حكيم معروف وكانت أديانهم مختلفة وعلمهم الذي كانوا يفتخرون فيه به علم لسانهم ونظم الأشعار وتأليف الخطب وعلم الأخبار ومعرفة السير والأعصار قال الهمداني ليس يوصل إلى حد خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب وذلك أن من سكن بمكة أحاطوا بعلم العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم علم أخبارهم وأيام حمير ومسيرها في البلاد وكذلك من سكن الشام خبر بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونان ومن وقع في البحرين وعمان فعنه أتت أخبار السند والهند وفارس ومن سكن اليمن علم أخبار الأمم جميعاً لأنه كان في ظل الملوك السيارة والعرب أصحاب حفظ ورواية ولهم معرفة بأوقات المطالع والمغارب وأنواء الكواكب وأمطارها لاحتياجهم إليه في المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق والتدرب في العلوم وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله سبحانه وتعالى شيئاً منه ولا هيأ طباعهم للعناية به إلا نادراً.
الفصل الرابع
في أهل الإسلام وعلومهم
وفيه إشارات
الإشارة الأولى: في صدر الإسلام واعلم أن العرب في آخر عصر الجاهلية حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم قد تفرق ملكها وتشتت أمرها فضم الله سبحانه وتعالى به شاردها وجمع عليه جماعة من قحطان وعدنان فآمنوا به ورفضوا جميع ما كانوا عليه والتزموا شريعة الإسلام من الاعتقاد والعمل ثم لم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً حتى توفي وخلفه أصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين فغلبوا الملوك وبلغت مملكة الإسلام في أيام عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه من الجلالة والسعة إلى حيث نبه عليه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها" فأباد الله سبحانه وتعالى بدولة الإسلام دولة الفرس بالعراق وخراسان ودولة الروم بالشام ودولة القبط بمصر فكانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها وبصناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم لحاجة الناس طرا إليها وذلك منهم صوناً لقواعد الإسلام وعقائد أهله من تطرق الخلل من علوم الأوائل قبل الرسوخ والأحكام حتى يرى انهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب في فتوحات البلاد وقد ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل لاتحاد الكلمة واجتماعها على الأخذ والعمل بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستمر ذلك إلى آخر عصر التابعين ثم حدث اختلاف الآراء وانتشار المذاهب فآل الأمر إلى التدوين والتحصين.الإشارة الثانية: في الاحتياج إلى التدوين وعلم أن الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين لخلوص عقيدتهم ببركة صحبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقرب العهد إليه ولقلة الاختلاف والوقعات وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات كانوا مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام حتى أن بعضهم كره كتابة العلم واستدل بما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه استأذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كتابة العلم فلم يأذن له وروي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة وقال إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: إني كتبت كتاباً أريد أن أعرض عليك فلما عرض عليه أخذ منه ومحا بالماء وقيل له لماذا فعلت قال لأنهم إذا كتبوا اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ فيعرض الكتاب عارض فيفوت علمهم واستدل أيضاً بأن الكتاب ما يزيد فيه وينقص ويغير والذي حفظ لا يمكن تغييره لأن الحافظ يتكلم بالعلم والذي يخبر عن الكتابة يخبر بالظن والنظر ولما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرقت الصحابة في الأقطار وحدثت الفتن واختلاف الآراء وكثرت الفتاوي والرجوع إلى الكبراء أخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن واشتغلوا بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول وترتيب الأبواب والفصول وتكثير المسائل بأدلتها وإيراد الشبهة بأجوبتها وتعيين الأوضاع والاصطلاحات وتبيين المذاهب والاختلافات وكان ذلك مصلحة عظيمة وفكرة في الصواب مستقيمة فرأوا ذلك مستحباً بل واجباً لقضية الإيجاب المذكور مع قوله عليه الصلاة والسلام: "العلم صيد والكتابة قيد قيدوا رحمكم الله تعالى علومكم بالكتابة".
الإشارة الثالثة: في أول من صنف في الإسلام واعلم أنه اختلف في أول من صنف فقيل الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة وقيل أبو النضر سعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة ست وخمسين ومائة ذكرهما الخطيب البغدادي وقيل ربيع بن صبيح المتوفى سنة ستين ومائة قاله أبو محمد الرامهرمزي ثم صنف سفيان بن عيينة ومالك بن أنس بالمدينة وعبد الله بن وهب بمصر ومعمر وعبد الرزاق باليمن وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة وحماد بن سلمة وروح بن عبادة بالبصرة وهشيم بواسط وعبد الله بن المبارك بخراسان وكان مطمح نظرهم في التدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما.
الإشارة الرابعة: في اختلاط علوم الأوائل والإسلام واعلم أن علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية ولما ظهر آل عباس كان أول من عني منهم بالعلوم الخلقية الثاني أبو جعفر المنصور وكان رحمه الله تعالى مع براعته في الفقه مقدماً في علم الفلسفة وخاصة في النجوم محباً لأهلها ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع عبد الله المأمون بن الرشيد تمم ما بدأ به جده فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه بقوة نفسه الشريفة وعلو همته المنيفة فداخل ملوك الروم وسألهم وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس واقليدس وبطلميوس وغيرهم وأحضر لها مهرة المترجمين له على غاية ما أمكن ثم كلف الناس قراءتها ورغبهم في تعلمها إذا المقصود من المنع هو إحكام قواعد الإسلام ورسوخ عقائد الأنام وقد حصل وانقضى على أن أكثرها مما لا تعلق له بالديانات فنفقت له سوق العلم وقامت دولة الحكمة في عصره وكذلك سائر الفنون فأتقن جماعة من ذوي الفهم في أيامه كثيراً من الفلسفة ومهدوا أصول الأدب وبينوا منهاج الطلب ثم أخذ الناس يزهدون في العلم ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن تارة وبجمع الشمل أخرى إلى أن كاد يرتفع جملة وكذا شأن سائر الصنائع والدول فإنه يبتدئ قليلاً قليلاً ولا يزال يزيد حتى يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود إلى النقصان فيؤول أمره إلى الغيبة في مهاوي النسيان والحق أن أعظم الأسباب في رواج العلم وكساده هو رغبة الملوك في كل عصر وعدم رغبتهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الباب الثالث
في المؤلفين والمؤلفات
وفيه ترشيحات
الترشيح الأول: في أقسام التدوين وأصناف المدونات واعلم أن كتب العلوم كثيرة لاختلاف أغراض المصنفين في الوضع والتأليف ولكن تنحصر من جهة المعنى في قسمين.الأول إما أخبار مرسلة وهي كتب التواريخ وإما أوصاف وأمثال ونحوها قيدها النظم وهي دواوين الشعر.
والثاني قواعد علوم وهي تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف الأول مختصرات تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة.
والثاني مبسوطات تقابل المختصر وهذه ينتفع بها للمطالعة والثالث متوسطات وهذه نفعها عام.
ثم أن التأليف على سبعة أقسام لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها وهي إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه أو شيء ناقص يتممه أو شيء مغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد استنباط شيء كان معضلاً أو جمعه إن كان مفرقاً أو شرحه إن كان غامضاً أو حسن نظم وتأليف وإسقاط حشو وتطويل وشرط في التأليف إتمام الغرض الذي وضع الكتاب لأجله من غير زيادة ولا نقص وهجر اللفظ الغريب وأنواع المجاز اللهم إلا في الرمز والاحتراز عن إدخال علم في آخر وعن الاحتجاج بما يتوقف بيانه على المحتج به عليه لئلا يلزم الدور وزاد المتأخرون اشتراط حسن الترتيب ووجازة اللفظ ووضوح الدلالة وينبغي أن يكون مسوقاً على حسب إدراك أهل الزمان وبمقتضى ما تدعوهم إليه الحاجة فمتى كانت الخواطر ثاقبة والأفهام للمراد من الكتب متناولة قام الاختصار لها مقام الإكثار وأغنت بالتلويح عن التصريح وإلا فلا بد من كشف وبيان وإيضاح وبرهان ينبه الذاهل ويوقظ الغافل وقد جرت عادة المصنفين بأن يذكروا في صدر كل كتاب تراجم تعرب عنه سموها الرؤوس وهي ثمانية الغرض وهو الغاية السابقة في الوهم المتأخرة في الفعل والمنفعة ليتشوق الطبع والعنوان الدال بالإجمال على ما يأتي تفصيله وهو قد يكون بالتسمية وقد يكون بألفاظ وعبارات تسمى ببراعة الاستهلال والواضع ليعلم قدره ونوع العلم وهو الموضوع ليعلم مرتبته وقد يكون جزأ من أجزائه وقد يكون مدخلاً كما سبق في بحث الموضوع ومرتبة ذلك الكتاب أي متى يجب أن يقرأ وترتيبه ونحو التعليم المستعمل فيه وهو بيان الطريق المسلوك في تحصيل الغاية.
وأنحاء التعليم خمسة.
الأول التقسيم والقسمة المستعملة في العلوم قسمة العام إلى الخاص وقسمة الكل إلى الجزء أو الكلي إلى الجزئيات وقسمة الجنس إلى الأنواع وقسمة النوع إلى الأشخاص وهذه قسمة ذاتي إلى ذاتي وقد يقسم الكلي إلى الذاتي والعرضي والذاتي إلى العرضي والعرضي إلى الذاتي والعرضي إلى العرضي والتقسيم الحاصر هو المردد بين النفي والإثبات.
والثاني التركيب وهو جعل القضايا مقدمات تؤدي إلى المعلوم.
والثالث التحليل وهو إعادة تلك المقدمات.
والرابع التحديث وهو ذكر الأشياء بحدودها الدالة على حقائقها دلالة تفصيلية.
والخامس البرهان وهو قياس صحيح عن مقدمات صادقة وإنما يمكن استعماله في العلوم الحقيقية وأما ما عداها فيكتفي بالإقناع.
الترشيح الثاني: في الشرح وبيان الحاجة إليه والأدب فيه واعلم أن كل من وضع كتاباً إنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة: الأمر الأول كمال مهارة المصنف فإنه لجودة ذهنه وحسن عبارته يتكلم على معان دقيقة بكلام وجيز كافياً في الدلالة على المطلوب وغيره ليس في مرتبته فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر تلك المعاني الخفية ومن ههنا شرح بعض العلماء تصنيفه.
الأمر الثاني حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتماداً على وضوحها أو لأنها من علم آخر أو أهمل ترتيب بعض الأقيسة فأغفل علل بعض القضايا فيحتاج الشارح إلى أن يذكر المقدمات المهملة ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم ويرشد إلى أماكن فيما لا يليق بذلك الموضع من المقدمات ويرتب القياسات ويعطى علل ما لم يعط المصنف.
الأمر الثالث احتمال اللفظ لمعان تأويلية أو لطافة المعنى عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه أو للألفاظ المجازية واستعمال الدلالة الإلتزامية فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر عنه من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة إلى غير ذلك فيحتاج أن ينبه عليه.
ثم إن أساليب الشرح على ثلاثة أقسام.
الأول الشرح يقال أقول كشرح المقاصد وشرح الطوالع للأصفهاني وشرح العضد وأما المتن فقد يكتب في بعض النسخ بتمامه وقد لا يكتب لكونه مندرجاً في الشرح بلا امتياز والثاني الشرح بقوله كشرح البخاري لابن حجر والكرماني ونحوهما وفي أمثاله لا يلتزم المتن وإنما المقصود ذكر المواضع المشروحة ومع ذلك قد يكتب بعض النساخ متنه تماماً إما في الهامش وإما في المسطر فلا ينكر نفعه.
والثالث الشرح مزجاً ويقال له شرح ممزوج يمزج فيه عبارة المتن والشرح ثم يمتاز إما بالميم والشين وإما بخط يخط فوق المتن وهو طريقة أكثر الشراح المتأخرين من المحققين وغيرهم لكنه ليس بمأمون عن الخلط والغلط.
ثم إن من آداب الشارح وشرط أن يبذل النصرة فيما قد التزم شرحه بقدر الاستطاعة ويذب عما قد تكفل إيضاحه بما يذب به صاحب تلك الصناعة ليكون شارحاً غير ناقض وجارح ومفسراً غير معترض اللهم إلا إذا عثر على شيء لا يمكن حمله على وجه صحيح فحينئذ ينبغي أن ينبه عليه بتعريض أو تصريح متمسكاً بذيل العدل والإنصاف متجنباً عن الغي والاعتساف لأن الإنسان محل النسيان والقلم ليس بمعصوم من الطغيان فكيف بمن جمع المطالب من محالها المتفرقة وليس كل كتاب ينقل المصنف عنه سالماً من العيب محفوظاً له عن ظهر الغيب حتى يلام في خطأه فينبغي أن يتأدب عن تصريح الطعن للسلف مطلقاً ويكنى بمثل قيل وظن ووهم واعترض وأجيب وبعض الشراح والمحشى أو بعض الشروح والحواشي ونحو ذلك من غير تعيين كما هو دأب الفضلاء من المتأخرين فانهم تأنفوا في أسلوب التحرير وتأدبوا في الرد والاعتراض على المتقدمين بأمثال ما ذكر تنزيهاً لهم عما يفسد اعتقاد المبتدئين فيهم وتعظيماً لحقهم وربما حملوا هفواتهم على الغلط من الناسخين لا من الراسخين وإن لم يمكن ذلك قالوا لأنهم لفرط اهتمامهم بالمباحثة والإفادة لم يفرغوا لتكرير النظر والإعادة وأجابوا عن لمز بعضهم بأن ألفاظ كذا وكذا ألفاظ فلان بعبارته بقولهم إنا لا نعرف كتاباً ليس فيه ذلك فإن تصانيف المتأخرين بل المتقدمين لا تخلو عن مثل ذلك لا لعدم الاقتدار على التغيير بل حذراً عن تضييع الزمان فيه وعن مثالبهم بأنهم عزوا إلى أنفسهم ما ليس لهم بأنه إن اتفق فهو من توارد الخواطر كما في تعاقب الحوافر على الحوافر.
الترشيح الثالث في أقسام المصنفين وأحوالهم اعلم أن المؤلفين المعتبرة تصانيفهم فريقان: الأول من له في العلم ملكة تامة ودربة كافية وتجارب وثيقة وحدس صائب وفهم ثاقب فتصانيفهم عن قوة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رأي كالنصير والعضد والسيد والسعد والجلال وأمثالهم فإن كلاً منهم يجمع إلى تحرير المعاني وتهذيب الألفاظ وهؤلاء أحسنوا إلى الناس كما أحسن الله سبحانه وتعالى إليهم وهذه لا يستغني عنها أحد.
والثاني من له ذهن ثاقب وعبارة طلقة طالع الكتب فاستخرج دررها وأحسن نظمها وهذه ينتفع بها المبتدؤن والمتوسطون ومنهم من جمع وصنف للاستفادة لا للإفادة فلا حجر عليه بل يرغب إليه إذا تأهل فإن العلماء قالوا ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخريج والتصنيف فيما فهمه منه إذا احتاج الناس إليه بتوضيح عبارته غير نائل عن المصطلح مبيناً مشكله مظهراً ملتبسه كي يكتسبه جميل الذكر وتخليده إلى آخر الدهر فينبغي أن يفرغ قلبه لأجله إذا شرع ويصرف إليه كل شغله قبل أن يمنعه مانع عن نيل ذلك الشرف ثم إذا تم لا يخرج ما صنفه إلى الناس ولا يدعه عن يده إلا بعد تهذيبه وتنقيحه وتحريره وإعادة مطالعته فإنه قد قيل الإنسان في فسحة من عقله وفي سلامة من أفواه جنسه ما لم يضع كتاباً أو لم يقل شعراً وقد قيل من صنف كتاباً فقد استشرف للمدح والذم فإن أحسن فقد استهدف من الحسد والغيبة وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف. قالت الحكماء من أراد أن يصنف كتاباً أو يقول شعراً فلا يدعوه العجب به وبنفسه إلى أن ينتحله ولكن يعرضه على أهله في عرض رسائل أو أشعار فإن رأى الأسماع تصغي إليه ورأى من يطلبه انتحله وادعاه فليأخذ في غير تلك الصناعة تذنيب: ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقاً ولا وجه لإنكاره من أهله وإنما يحله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار ولله در القائل في نظمه:
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا | ويرى للأوائل التـقـديمـا | |
إن ذاك القديم كـان حـديثـاً | وسيبقى هذا الحديث قديمـا |
الباب الرابع
في فوائد منثورة من أبواب العلم
وفيه مناظر وفتوحات
المنظر الأول: في العلوم الإسلامية واعلم أن العلوم المتداولة في الأعصار على صنفين صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره وهي العلوم الحكمية وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه وهي العلوم النقلية الوضعية وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الوضع الشرعي ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الخبريات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقلي فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة وبه نزل القرآن وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة لأن المكلف يجب عليه أن يعلم أحكام الله سبحانه وتعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولاً وهذا هو علم التفسير ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي جاء به من عند الله سبحانه وتعالى واختلاف روايات القراء في قراءته وهو علم القراءات ثم بإسناد السنة إلى صاحبها والكلام في الرواة الناقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم وهذه هي علوم الحديث ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيدنا العلم بكيفية هذا الاستنباط وهذا هو أصول الفقه وبعد هذا يحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله سبحانه وتعالى في أفعال المكلفين وهو الفقه ثم إن التكاليف منها بدني ومنها قلبي وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد وهذه هي العقائد بالذات والصفات والنبوات والأخرويات والقدر والاحتجاج عن هذه الأدلة العقلية هو علم الكلام ثم النظر في القرآن والحديث والنحو والبيان ونحو ذلك وهذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية وإن كانت كل ملة لا بد فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها من حيث أنها علوم الشريعة وأما على الخصوص فمباينة لجميع الملل ناسخة لها وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنظر فيها محظورة وإن كان في الكتب المنزلة غير القرآن كما ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل ثم إن هذه العلوم الشرعية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى التي لا فوقها وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التعليم واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها.المنظر الثاني في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم وذلك من الغريب الواقع لأن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية أكثرهم العجم إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال البداوة وإنما أحكام الشريعة كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مآخذها من الكتاب والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتدوين ولا دعتهم إليه حاجة إلى آخر عصر التابعين كما سبق وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله القراء فهم قراء لكتاب الله سبحانه وتعالى والسنة المأثورة التي هي في غالب موارده تفسير له وشرح فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الرواة ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والتنظير والقياس واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها كقوانين العربية وقوانين الاستنباط والقياس والذب عن العقائد بالأدلة فصارت هذه الأمور كلها علوماً محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع والعرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية والحضر هم العجم أو من في معناهم لأن أهل الحواضر تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصناع والحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي والزجاج كلهم عجم في أنسابهم اكتسبوا اللسان العربي بمخالطة العرب وصيروه قوانين لمن بعدهم وكذلك حملة الحديث وحفاظه أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً وكذا جملة أهل الكلام وأكثر المفسرين ولم يقيم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وخرجوا إليها عن البداوة فشغلهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالعلم مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم لكونه من جملة الصنائع والرؤساء يستنكفون عن الصنائع وأما العلوم العقلية فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركها العرب فلم يحلها إلا المعربون من العجم.
المنظر الثالث في أن العلم من جملة الصنائع لكنه أشرفها واعلم أن الحذاقة والتفنن في العلم والاستيلاء عليه إنما هو بحصول الملكة في الإحاطة بمباديه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله وهذه الملكة هي غير الفهم والملكات كلها جسمانية والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم فيكون صناعياً ولذلك كان السند فيه معتبراً وجميع ما يسمونه علماً أو صناعة فهو عبارة عن ملكة نفسانية يقتدر بها صاحبها على النظر في الأحوال العارضة لموضوع ما من جهة ما بحيث يؤدي إلى الغرض فالعلم إذا ما اختص في الجنان واللسان والصناعة إذا ما احتاجت إلى عمل بالبنان كالخياطة وقد قيل أن المعلومات الحاصلة لصاحب هذه الملكة لا تخلو إما أن تحصل على الاستقراء والتتبع كالنحو وصنائع الفصاحة والبديع أو تحصل عن النظر والاستدلال كعلم الكلام فالأول يسمى الصناعة والثاني العلم لكن الزمخشري قد عكس في أول تفسيره فسمى المعاني والبيان علماً وسمى الكلام صناعة فقال الطيبي والحق أن كل علم مارسه الرجل حتى صار له حرفة سمي ذلك عندهم صنعة واستشهد عليه بما قاله الزمخشري في قوله سبحانه وتعالى: "لبئس ما كانوا يصنعون" والأولى أن يقال إن أريد العرف الخاص فلا ينضبط وإن أريد العرف العام المتبادر إلى الأذهان عند الإطلاق فالحق ما قيل أولاً إذا لا يطلق على الأساكفة أنهم علماء ولا على صنائعهم أنها علوم وإن كانت أفعالهم لا تصدر إلا عن علم العلماء وحكمة الحكماء فالصنائع الحكم التي تفتقر إلى تصور الجنان وتمرين البنان فإن أطلقت الصناعة على ما لا وجود له في الأعيان فبالمجاز على طريق التشبيه وأطلقوا على العالم صانعاً للتنبيه عن أنه أحكم علمه وتفرس فيه واعلم أن تعليم العلم من جملة الصنائع إذ هو صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه فلكل إمام اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع ألا ترى إلى علم الكلام كيف يخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين والمتأخرين فدل على أنها صناعات في التعلم والعلم واحد ولما كان التعليم من جملة الصنائع كان العلوم تكثر حيث يكثر العمران ويكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة بحسب الأمصار على نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة لأنه أمر زائد على المعاش فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع ومن تشوق بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى فلا يجد فيها التعليم لا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار.
المنظر الرابع: في أن الرحلة في الطلب مفيدة وسبب ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه من المذاهب تارة علماً وتعليماً وإلقاء وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة إلا أن حصول الملكات على المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكة ورسوخها والاصطلاحات أيضاً في تعليم العلوم مغلطة على المتعلم حتى ظن كثير منهم أنها جزء من العلم ولا يدفع عنه ذلك إلا بمباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات فالرحلة لا بد منها في طالب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال.
المنظر الخامس: في موانع العلوم وعوائقها وفيه فتوحات.
فتح: واعلم أنه على كل خير مانع وعلى العلم موانع منها الوثوق بالمستقبل والوثوق بالذكاء والانتقال من علم إلى علم قبل أن يحصل منه قدر يعتد به أو من كتاب إلى كتاب قبل ختمه ومنها طلب المال أو الجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية ومنها ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال ومنها إقبال الدنيا وتقليد الأعمال ومنها كثرة التآليف في العلوم وكثرة الاختصارات فإنها مخلة عائقة.
فتح: أما الوثوق بالمستقبل فلا ينبغي للعاقل لأن كل يوم آت بمشاغله فلا يؤخر شغل يومه إلى غد.
فتح: وأما الوثوق بالذكاء فهو من الحماقة وكثير من الأذكياء فاته العلم بهذا السبب.
فتح: وأما الانتقال من علم إلى علم قبل أن يستحكم الأول فهو سبب الحرمان عن الكل فلا يجوز وكذا الانتقال من كتاب إلى كتاب كذلك.
فتح: وأما طلب المال أو الجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية فالعلم أعز أن ينال مع غيره أو على سبيل التبعية ولذلك ترى كثيراً من الناس لا ينالون من العلم قدراً صالحاً يعتد به لاشتغالهم عنه بطلب المنصب والمدرسة وهم يطلبونه دائماً ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً ولا يفترون وكان ذكرهم وفكرهم تحصيل المال والجاه مع انهماكهم في اللذات الفانية وعدم ركونهم إلى السعادة الباقية ومناصبهم في الحقيقة مناصب أجنبية لأنها شاغلة عن الشغل والتحصيل على القانون المعتبر في طريقه.
فتح: وأما ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال فمن أعظم الموانع وأشدها لأن صاحبه مهموم مشغول القلب أبداً.
فتح: وأما إقبال الدنيا وتقلد الأعمال فلا شك أنه يمنع صاحبه عن التعليم والتعلم.
فتح: وأما كثرة المصنفات في العلوم واختلاف الاصطلاحات في التعليم فهي عائقة عن التحصيل لأنه لا يفي عمر الطالب بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها لأن ما صنفوه في الفقه مثلاً من المتون والشروح لو التزمه طالب لا يتيسر له مع أنه يحتاج إلى تمييز طرق المتقدمين والمتأخرين وهي كلها متكررة والمعنى واحد والمتعلم مطالب والعمر ينقضي في واحد منها ولو اقتصروا على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك ولكنه داء لا يرتفع ومثله علم العربية أيضاً في مثل كتاب سيبويه وما كتب عليه وطرق البصريين والكوفيين والأندلسيين وطرق المتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلم وينقضي عمره دونه ولا يطمع أحد في الغاية منه فالظاهر أن المتعلم لو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية الذي هو آلة من الآلات ووسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة ولكن الله يهدي من يشاء.
فتح: وأما كثرة الاختصارات في العلوم فإنها مخلة بالتعليم وقد ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق في العلوم ويدونون منها مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم وربما عمدوا إلى الكتب المطولة فاختصروها تقريباً للحفظ كما فعله ابن الحاجب في أصوله وابن مالك في العربية وفيه إخلال بالتحصيل لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وليس له استعدد لقبولها ثم فيه شغل كثير يتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم لتزاحم المعاني عليها ثم إن الملكة الحاصلة من المختصرات إذا تم تمت على سداده فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة لكثرة ما فيها من التكرار والإطالة المفيدين لحصول الملكة التامة ولما قصدوا إلى تسهيل الحفظ أركبوهم صعباً بقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة.
المنظر السادس: في أن الحفظ غير الملكة العلمية اعلم أن من كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة لا يحصل على طائل من ملكة التصرف في العلم ولذلك ترى من حصل الحفظ لا يحسن شيئاً من الفن وتجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر ومن ظن أنه المقصود من الملكة العلمية فقد أخطأ وإنما المقصود هو ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوال إلى المدلولات ومن اللازم إلى الملزوم وبالعكس فإن انضم إليها ملكة الاستحضار فنعم المطلوب وهذا لا يتم بمجرد الحفظ بل الحفظ من أسباب الاستحضار وهو راجع إلى جودة القوة الحافظة وضعفها وذلك من أحوال الأمزجة الخلقية وإن كان مما يقبل العلاج.
المنظر السابع: في شرائط تحصيل العلم وأسبابه وفيه فتوحات أيضاً.
فتح: واعلم أن شرائط التحصيل كثيرة لكنها مجتمعة فيما نقل عن سقراط وهو قوله: ينبغي للطالب أن يكون شاباً فارغ القلب غير ملتفت إلى الدنيا صحيح المزاج محباً للعلم بحيث لا يختار على العلم شيئاً من الأشياء صدوقاً منصفاً بالطبع متديناً أميناً عالماً بالوظائف الشرعية والأعمال الدينية غير مخل بواجب فيها ويحرم على نفسه ما يحرم في ملة نبيه ويوافق الجمهور في الرسوم والعادات ولا يكون فظاً سيئ الخلق ويرحم من دونه في المرتبة ولا يكون أكولاً ولا متهتكاً ولا خاشعاً من الموت ولا جامعاً للمال إلا بقدر الحاجة فإن الاشتغال بطلب أسباب المعيشة مانع عن التعلم انتهى.
فتح: ومن الشروط تزكية الطالب عن الأخلاق الردية وهي متقدمة على غيرها كتقدم الطهارة فكما أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب كذلك لا تدخل القلب إذا وجد فيه كلاب باطنية وكانت الأوائل يختبرون المتعلم أولاً فإن وجدوا فيه خلقاً ردياً منعوه لئلا يصير آلة الفساد وإن وجدوه مهذباً علموه ولا يطلقونه قبل الاستكمال خوفاً على فساد دينه ودين غيره.
فتح: ومنها الإخلاص في مقاساة هذا المسلك وقطع الطمع عن قبول أحد فيجب أن ينوي في تعلمه أن يعمل بعلمه لله تعالى وأن يعلم الجاهل ويوقظ الغافل ويرشد الغوي فإنه قال عليه السلام من تعلم العلم لأربع دخل النار ليباهي به العلماء وليماري به السفهاء ويقبل به وجوه الناس إليه وليأخذ به الأموال.
فتح: ومن الشروط تقليل العوائق حتى الأهل والأولاد والوطن فإنها صارفة وشاغلة ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق وقد قيل العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت على خطر من الوصول إلى بعضه.
فتح: ومنها ترك الكسل وإيثار السهر في الليالي ومن جملة أسباب الكسل فيه ذكر الموت والخوف منه لكنه ينبغي أن يكون من جملة أسباب التحصيل إذ لا عمل يحصل به الاستعداد للموت أفضل من العلم والعمل به والخوف منه لا ينبغي أن يتسلط على الطالب بحيث يشغله عن الاستعداد وقوله عليه الصلاة والسلام أكثروا ذكر هادم اللذات يدل على أنه ينبغي أن يكون ذكره سبباً للانقطاع عن اللذات الفانية دون الباقية.
فتح: ومن الشروط العزم والثبات على التعلم إلى آخر العمر كما قيل الطلب من المهد إلى اللحد وقال سبحانه وتعالى لحبيبه وقل رب زدني علماً وقال وفوق كل ذي علم عليم والحيلة في صرف الأوقات إلى التحصيل أنه إذا مل من علم اشتغل بآخر كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا مل من الكلام مع المتعلمين هاتوا دواوين الشعراء.
فتح: ومنها اختيار معلم ناصح نقي الحسب كبير السن لا يلابس الدنيا بحيث تشغله عن دينه ويسافر في طلب الأستاذ إلى أقصى البلاد ويقال أول ما يذكر من المرء أستاذه فإن كان جليلاً جل قدره وإذا وجد يلقى إليه زمام أمره ويذعن لنصحه إذعان المريض للطبيب ولا يستبد لنفسه اتكالاً على ذهنه ولا يتكبر عليه وعلى العلم ولا يستنكف لأنه قد ورد في الحديث من لم يتحمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً ومن الآداب احترام المعلم وإجلاله فمن تأذى من أستاذه يحرم بركة العلم ولا ينتفع به إلا قليلاً وينبغي أن يقدم حق معلمه على حق أبويه وسائر المسلمين ومن توقيره توقير أولاده ومتعلقاته ومن تعظيم العلم تعظيم الكتب والشركاء.
فتح: ومن الشروط أن يأتي على ما قرأه مستوعباً لمسائله من مباديه إلى نهايته بتفهيم بتفهم واستثبات بالحجج وأن يقصد فيه الكتب الجيدة وأن لا يعتقد في علم أنه حصل منه على مقدار لا يمكن الزيادة عليه وذك طيش يوجب الحرمان.
فتح: ومنها أن لا يدع فناً من فنون العلم إلا وينظر فيه نظراً يطلع به على غايته ومقصده وطريقته وبعد المطالعة في الجميع أو الأكثر إجمالاً إن مال طبعه إلى فن عليه أن يقصده ولا يتكلف غيره فليس كل الناس يصلحون للتعلم ولا كل من يصلح لتعلم علم يصلح لسائر العلوم بل كل ميسر لما خلق له وإن كان ميله إلى الفنون على السواء مع موافقة الأسباب ومساعدة الأيام طلب التبحر فيها فإن العلوم كلها متعاونة مرتبطة بعضها ببعض لكن عليه أن لا يرغب في الآخر قبل أن يستحكم الأول لئلا يصير مذبذباً فيحرم من الكل ولا يكن ممن يميل إلى البعض ويعادي الباقي لأن ذلك جهل عظيم وإياه أن يستهين بشيء من العلوم تقليداً لما سمعه من الجهلة بل يجب أن يأخذ من كل حظاً ويشكر من هداه إلى فهمه ولا يكن ممن يذم العلم ويعدوه لجهله مثل ذمهم المنطق الذي هو أصل كل علم وتقويم كل ذهن ومثل ذمهم العلوم الحكمية على الإطلاق من غير معرفة القدر المذموم والممدوح منها ومثل ذم علم النجوم مع أن بعضاً منه فرض كفاية والبعض مباح ومثل ذم مقالات الصوفية لاشتباهها عندهم والعلم إن كان مذموماً في نفسه كما زعموا فلا يخلوا تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين بها.
تنبيه اعلم أن النظر والمطالعة في علوم الفلسفة يحل بشرطين أحدهما أن لا يكون خالي الذهن عن العقائد الإسلامية بل يكون قوياً في دينه راسخاً على الشريعة الشريفة والثاني أن لا يتجاوز ومسائلهم المخالفة للشريعة وإن تجاوز فإنما يطالعها للرد لا غير هذا إن ساعده الذهن والسن والوقت وسامحه الدهر عما يفضيه إلى الحرمان وإلا فعليه أن يقتصر على الأهم وهو قدر ما يحتاج إليه فيما يتقرب به إلى الله تعالى وما لا بد منه في المبدأ والمعاد والمعاملات والعبادات والأخلاق والعادات.
فتح: ومن الشروط المعتبرة في التحصيل المذاكرة مع الأقران ومناظرتهم لما قيل العلم غرس وماؤه درس لكن طلباً للثواب وإظهاراً للصواب وقيل مطارحة ساعة خير من تكرار شهر ولكن مع منصف سليم الطبع وينبغي للطالب أن يكون متأملاً في دقائق العلم ويعتاد ذلك فإنما تدرك به خصوصاً قبل الكلام فإنه كالسهم فلا بد من تقويمه بالتأمل أولاً.
فتح: ومنها الجد والهمة فإن الإنسان يطير بهما إلى شواهق الكمالات وأن لا يؤخر شغل يوم إلى غد فإن لكل يوم مشاغل ولا بد أن يكون معه محبرة في كل وقت حتى يكتب ما يسمع من الفوائد ويستنبطه من الزوائد فإن العلم صيد والكتابة قيد.
وينبغي أن يحفظ ما كتبه إذ العلم ما ثبت في الخواطر لا ما أودع في الدفاتر بل الغرض منه المراجعة إليها عند النسيان لا الاعتماد عليها.
فتح: ومن الشروط مراعاة مراتب العلوم في القرب والبعد من المقصد فلكل منها رتبة ترتيباً ضرورياً يجب الرعاية في التحصيل إذا البعض طريق إلى البعض ولكل علم حد لا يتعداه فعليه أن يعرفه فلا يتجاوز ذلك الحد مثلاً لا يقصد إقامة البراهين في النحو ولا يطلب وأيضاً لا يقصر عن حده كان يقنع بالجدل في الهيئة وأن يعرف أيضاً أن ملاك الأمر في المعاني هو الذوق وإقامة البرهان عليه خارج عن الطوق ومن طلب البرهان عليه أتعب نفسه قال السكاكي: قبل أن نمنح هذه الفنون حقها في الذكر فلننبهك ننبهك على أصل ليكون على ذكر منك وهو أن ليس من الواجب في صناعة وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق عنها منها فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية واعتبارات ألفية فلا بأس على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبها في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق انتهى.
فتح: ومنها أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار وذلك لأن العلوم المتداولة على صنفين علوم مقصودة بالذات كالشرعيات والحكميات وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم كالعربية والمنطق وأما المقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وأما العلوم الآلية فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة للغير ولا يوسع فيها الكلام لأن ذلك يخرج بها عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يعني وهذا كما فعله المتأخرون في النحو والمنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلاً واستدلالاً وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجوا من كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها فيكون لأجل ذلك لغواً ومضراً بالمتعامين لاهتمامهم بالمقصود أكثر من هذه الآلات لاهتمامهم بهذه الآلات أكثر من المقصود فإذا أفنى العمر فمتى يظفر بالمقاصد فيجب عليه أن لا يستبحر فيها ولا يستكثر من مسائلها.
المنظر الثامن: في شروط الإفادة ونشر العلم وفيه فتوحات أيضاً.
فتح: اعلم أن الإفادة من أفضل العبادة فلا بد له من النية ليكون ابتغاء لمرضاة الله تعالى وإرشاد عباده وإرشاداً لعباده ولا يريد بذلك زيادة جاه وحرمة ولا يطلب على إفاضته أجراً اقتداء بصاحب الشرع عليه السلام ثم ينبغي له مراعاة أمور منها أن يكون مشفقاً ناصحاً على أصحابه على المتعلم وأن ينبه على غاية العلوم ويزجره عن الأخلاق الردية ويمنعه أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه وأن يتصدى للاشتغال فوق طاقته وأن لا يزجر إذا تعلم للرياسة والمباهاة إذ ربما يتنبه بالآخرة لحقائق الأمور بل ينبغي أن يرغب في نوع من العلم يستفاد به الرياسة بالأطماع فيها حتى يستدرجه إلى الحق.
اعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل الرياسة حسن الذكر حفظاً للشرع والعلم مثل والعلم مثل الحب الملقى حول الشبكة وكالشهوة الداعية إلى التناسل ولهذا قيل لولا الرياسة لبطل العلم وأن يزجر عما يجب الزجر عنه بالتعريض لا بالتصريح.
فتح: ومنها أن يبدأ بما يهم للمتعلم في الحال إما في معاشه أو في معاده ويعين له ما يليق بطبعه من العلوم ويراعي الترتيب الأحسن حسبما يقتضيه رتبتها على قدر الاستعداد فمن بلغ رشده في العلم ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم وإلا فحفظ العلم وإمساكه عمن لا يكون إهلاله أولى به.
فمن منح الجهال علماً أضاعه | ومن منع المستوجبين فقد ظلم |
تنبيه: اعلم أنه يجب على الطالب أن لا ينكر ما لا يفهم من مقالاتهم الخفية وأحوالهم الغريبة إذ كل ميسر لما خلق له قال الشيخ في الإشارات: كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان انتهى وإنما الغرض من تدوين تلك المقالات التذكرة لمن يعرف الأسرار والتنبيه على من لا يعرفها بان لنا علماً يجل عن الأذهان فهمه حتى يرغب في تحصيله كما في الحديث إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفها إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل الغرة وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال حفظت من رسول الله صلى الله تعالى عليه سلم وعائين أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم وغرضهم عدم إمكان التعبير عنه وخوف مقايسة السامعين الأحوال الإلهية بأحوال الممكنات فيضلوا أو يسوء الظن في قائلها فيقابلوه بالإنكار.
فتح: ومنها أنه ينبغي أن لا يخالف قوله فعله إذ لو كذب مقاله بحاله ينفر الناس عنه وعن الاسترشاد به وأكثر المقلدين ينظرون إلى حال القائل والمحقق الذي لا ينظر إلى القائل فهو نادر فليكن عنايته بتزكية أعماله أكثر منه بتحسين علمه إذ لا بد للعالم من الورع ليكون علمه أنفع وفوائده أكثر وأن يكظم غيظه عند التعليم ولا يخلطه بهزل فيقسو قلبه ولا يضحك فيه ولا يلعب ولا يبالي إذا لم يقبل قوله ولا بأس بأن يمتحن فهم المتعلم وأن لا يجادل في العلم ولا يماري في الحق فإنه يفتح باب الضلال وأن لا يدخل علماً في علم لا في تعليم ولا في مناظرة فإن ذلك مشوش وكثيراً ما غلط جالينوس بهذا السبب وأن يحث الصغار على التعلم سيما الحفظ وأن يذكر لهم ما يحتمله فهمهم وإن كان الطلاب مبتدئين لا يلقى عليهم المشكلات وإن كانوا منتهين لا يتكلم في الواضحات ولا يجيب متعنتاً تعنتاً في سؤاله ولا ما لا يلقى عله عليهم من الأغلوطات وأن ينظر في حال الطالب إن كان له زيادة فهم بحيث يقدر على حل المشكلات وكشف المعضلات يهتم لتعليمه أشد الاهتمام وإلا فيعلمه قدر ما يعرف الفرائض والسنن ثم يأمره بالاشتغال بالاكتساب ونوافل الطاعات لكن يصبر في امتحان ذهنه مقدار ثلاث سنين وإن سئل عما يشك فيه يقول لا أدري فإن لا أدري نصف العلم.
المنظر التاسع: فيما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم: قال الفقيه أبو الليث رحمه الله تعالى يراد من العلماء عشرة أشياء: الخشية والنصيحة والشفقة والاحتمال والصبر والحلم والتواضع والعفة عن أموال الناس والدوام على النظر في الكتب وقلة الحجاب وأن لا ينازع أحداً ولا يخاصمه وعليه أن يشتغل بمصالح نفسه لا بقهر عدوه قيل أن من أراد أن يرغم أنف عدوه فليحصل العلم وأن لا يترفه في المطعم والملبس ولا يتجمل بالأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصاد في جميع الأمور ويتشبه بالسلف الصالح وكلما ازداد إلى جانب القلة ميله ازداد قربه من الله سبحانه وتعالى لأن التزين بالمباح وإن لم يكن حراماً لكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه فالحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة مع أنها مزرعة الآخرة ففيها الخير النافع والسم الناقع ففي تمييز الأول من الثاني أحوال منها معرفة رتبة المال فنعم الصالح منه للصالح إذا جعله خادماً لا مخدوماً وهو مطلوب لتقوية البدن بالمطاعم والملابس والتقوية لكسب العلم والمعارف الذي هو القصد الأقصى ومنها مراعاة جهة الدخل فمن قدر على كسب الحلال الطيب فليترك المشتبه وإن لم يقدر يأخذ منه قدر الحاجة وإن قدر عليه لكن بالتعب واستغراق الوقت فعلى العامل العامي أن يختار التعب وإن كان من الأهل فإن كان ما فاته من العلم والحال أكثر من الثواب الحاصل في طلب الحلال فله أن يختار الحلال الغير طيب كمن غص بلقمة يسيغها بالخمر لكن يخفيه من الجاهل مهما أمكن كيلا يحرك سلسلة الضلال ومنها المقدار المأخوذ منه وهو قدر الحاجة في المسكن والمطعم والملبس والمنكح إن جاوز من الأدنى لا يجوز التجاوز عن الوسط ومنها الخروج والإنفاق فالمحمود منه الصدقة المفروضة والإنفاق على العيال وقد اختلف في الأخذ والإنفاق على الوجه المشروع أولى أم تركه رأساً مع الإنفاق على أن الإقبال على الدنيا بالكلية مذموم فالمقبلون على الآخرة والصارفون للدنيا في محله فهم الأفضلون من التارك بالكلية ومنهم عامة الأنبياء عليهم السلام ومنها أن تكون نيته صالحة في الأخذ والإنفاق فينوي بالأخذ أن يستعين به على العبادة ويأكل ليتقوى به على العبادة.
المنظر العاشر في التعلم وفيه فتوحات أيضاً.
فتح: اعلم أن تكميل النفوس البشرية في قواها النظرية والعملية إنما يتم في بالعلم بحقائق الأشياء ما هو إليه كالوسيلة وبه يكون القصد إلى الفضائل والاجتناب عن الرذائل إذا كان هو الوسيلة إلى السعادة الأبدية ولا شيء أشنع وأقبح من الإنسان مع ما فضله الله سبحانه وتعالى من النطق وقبول تعلم الآداب والعلوم أن يهمل نفسه ويعريها من الفضائل وقد حث الشارع عليه الصلاة والسلام على اكتسابه حيث قال: "طلب العلم فريضة" وقال: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" "اطلبوا العلم ولو بالصين".
فتح: واعلم أن الإنسان مطبوع على التعلم لأن فكره هو سبب امتيازه عن سائر الحيوانات ولما كان فكره راغباً بالطبع في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات لزمه الرجوع إلى من سبقه بعلم فيلقن ما عنده ثم أن فكره يتوجه إلى واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحد بعد واحد ويتمرن عليه حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له فيكون علمه حينئذ بما يعرض لتلك الحقيقة علماً مخصوصاً ويتشوق نفوس أهل القرن الثاني إلى تحصيله فيفزعون إلى أهله. فتح: وكل تعليم وتعلم ذهني إنما يكون بعلم سابق في معلوم ما من عالم لمن ليس بعالم وقد يكون بالطبع مستفاداً من وقائع الزمان بتردد الأذهان ويسمى علماً تجريبياً وقد يكون بالبحث وإعمال الفكر ويسمى علماً قياسياً والعلم محصور في التصور والتصديق والتصور يطلب بالأقوال الشارحة والتصديق يكون عن مقدمات في صور القياسات للنتائج فقد يحصل به اليقين وقد لا يحصل إلا إقناع وقدموا في التعليم ما هو أقرب تناولاً ليكون سلماً لغيره وجرت سنة القدماء في التعليم مشافهة دون كتاب لئلا يصل علم إلى غير مستحقه ولكثرة المشتغلين بها فلما ضعفت الهمم أخذوا في تدوين العلوم وضنوا ببعضها فاستعملوا الرمز واختصروا من الدلالات على الالتزام فمن عرف مقاصدهم حصل على أغراضهم.
فتح: واعلم أن جميع المعلومات إنما تعرف بالدلالة عليها بأحد الأمور الثلاثة الإشارة واللفظ والخط والإشارة تتوقف على المشاهدة واللفظ يتوقف على حضور المخاطب وسماعه وأما الخط فلا يتوقف على شيء فهو أعمها نفعاً وأشرفها وهو خاصة النوع الإنساني فعلى المتعلم أن يجوده ولو بنوع منه ولا شك أنه بالخط والقراءة ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل وامتاز عن سائر الحيوان وضبطت الأموال وحفظت العلوم والكمال وانتقلت الأخبار من زمان إلى زمان فجبلت غرائز القوابل على قبول الكتابة والقراءة لكن السعي لتحصيل الملكة وهو موقوف على الأخذ والتعلم والتمرن والتدرب.
فتح: واعلم أن العلم والنظر وجودهما بالقوة في الإنسان فيفيد صاحبها عقلاً لأن النفس الناطقة وخروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات من المحسوسات أولاً ثم ما بما يكتسب بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكاً بالفعل وعقلاً محضاً فيكون ذاتاً روحانياً ويستكمل حينئذ وجودها فثبت أن كل نوع من العلوم والنظر يفيدها عقلاً مزيداً وكذا الملكات الصناعية تفيد عقلاً والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك لأنها تشتمل على علوم وأنظار إذ فيها انتقال من صور الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية ومنها إلى المعاني فهو ينتقل من دليل إلى دليل ويتعود النفس ذلك دائماً فتحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلول وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب به العلوم المجهولة فيحصل بذلك زيادة عقل ومزيد فطنة وهذا هو ثمرة التعلم في الدنيا.
فتح: ثم إن المقصود من العلم والتعليم والتعلم معرفة الله سبحانه وتعالى وهي غاية الغايات ورأس أنواع السعادات ويعبر عنها بعلم اليقين الذي يخصه الصوفية أولوا الكرامات وهو الكمال المطلوب من العلم الثابت بالأدلة وإياك أيها المتعلم أن يكون شغلك من العلم أن تجعله صنعة غلبت على قلبك حتى قضيت بحبك بتكراره عند النزع كما يحكى أن أبا طاهر الزيادي كان يكرر مسألة ضمان الدرك حالة نزعة بل ينبغي لك أن تتخذه سبيلاً إلى النجاة.
ذكر إحراق الكتب وإعدامها: ومن أجل ذلك نقل عن بعض المشايخ أنهم أحرقوا كتبهم منهم العارف بالله سبحانه وتعالى أحمد بن أبي الحواري فإنه كما ذكره أبو نعيم في الحلية أنه لما فرغ من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه يوماً خاطر من قبل الحق فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة ثم قال نعم الدليل كنت لي على ربي ولكن لما ظفرت بالمدلول الاشتغال بالدليل محال فغسل كتبه وذكر ابن الملقن في ترجمته من طبقات الأولياء ما نصه وقد روى نحو هذا عن سفيان الثوري أنه أوصى بدفن كتبه وكان ندم على أشياء كتبها عن الضعفاء وقال ابن عساكر في الكنى من التاريخ أن أبا عمرو بن العلا كان أعلم الناس بالقرآن والعربية وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك وأحرقها.
فائدة: ذكرها البقاعي في حاشيته على شرح الألفية للزين العراقي وهي أنه قال سألت شيخنا يعني ابن حجر العسقلاني عما فعل داود الطائي وأمثاله من إعدام كتبهم ما سببه فقال لم يكونوا يرون أنه يجوز لأحد روايتها لا بالإجازة ولا بالوجادة بل يرون أنه إذا رواها أحد بالوجادة يضعف فرأوا أن مفسدة إتلافها أخف من مفسدة تضعيف بسببهم انتهى.
أقول: وجوابه بالنظر إلى فن الحديث وهو لا يقع جواباً عن إعدام ابن أبي الحواري وأمثاله لأن الأول بسبب ضعف الإسناد والثاني بسبب الزهد والتبتل إلى الله سبحانه وتعالى ولعل الجواب عن إعدامهم أنه أخرجه عن ملكه بالهبة والبيع ونحوه لا نحسم مادة العلاقة القلبية بالكلية ولا يأمن من أن يخطر بباله الرجوع إليه ويختلج في صدره النظر والمطالعة في وقت ما وذلك مشغلة بما سوى الله سبحانه وتعالى.
تذنيب: في طريق النظر والتصفية واعلم أن السعادة الأبدية لا تتم إلا بالعلم والعمل ولا يعتد بواحد منهما بدون الآخر وإن كلا منهما ثمرة الآخر مثلاً إذا تمهر الرجل في العلم لا مندوحة له عن العمل بموجبه إذ لو قصر فيه لم يكن في علمه كمال وإذا باشر الرجل العمل وجاهد فيه وارتاض حسبما بينوه من الشرائط تنصب على قلبه العلوم النظرية بكمالها فهاتان طريقتان:
الأولى منهما طريقة الاستدلال والثانية طريقة المشاهدة وقد ينتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى فيكون صاحبه مجمعاً للبحرين فسالك طريق الحق نوعان.
أحدهما يبتدئ من طريق العلم إلى العرفان وهو يشبه أن يكون طريقة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث ابتدأ من الاستدلال.
والثاني يبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة وهو طريق الحبيب حيث ابتدأ بشرح الصدور وكشف له سبحات وجهه.
مناظرة أهل الطريقين: اعلم أن السالكين اختلفوا في تفضيل الطريقين قال أرباب النظر الأفضل طريق النظر لأن طريق التصفية صعب والواصل قليل على أنه قد يفسد المزاج ويختلط العقل في أثناء المجاهدة وقال أهل التصفية العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفوا عن شوب الوهم ومخالطة الخيال غالباً ولهذا كثيراً ما يقيسون الغائب على الشاهد فيضلون وأيضاً يتخلصون في المناظرة عن اتباع الهوى بخلاف التصوف فإنه تصفية للروح وتطهير للقلب عن الوهم والخيال فلا يبقى إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية وأما صعوبة المسلك وبعده فلا يقدح في صحة العلم مع أنه يسير على من يسره الله سبحانه وتعالى وأما اختلال المزاج فإن وقع فيقبل العلاج ومثلوا بطائفتين تنازعتا في المباهاة والافتخار بصنعة النقش والتصوير حتى أدى الافتخار إلى الاختبار فعين لكل منهما جدار بينهما حجاب فتكلف احديهما في صنعتهم واشتغل الأخرى بالتصقيل فلما ارتفع الحجاب ظهر تلألؤ الجدار مع جميع نقوش المقابل وقالوا هذه أمثال العلوم النظرية والكشفية فالأول يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء والثاني يحصل من اللوح المحفوظ والملأ الأعلى.
واعترض عليهم بأنا لا نسلم مطلق الحصول لأن كل علم مسائل كثيرة وحصولها عبارة عن الملكة الراسخة فيه وهي لا تتم إلا بالتعلم والتدرب كما سبق ولعل المكاشف لا يدعي حصول العلوم النظرية بطريق الكشف لأنه لا يصدق إلا أن يقول بحصول الغاية والغرض منها.
المحاكمة بين الفريقين: وقد يقال أنه قد سبق أن العلوم مع كثرتها منحصرة فيما يتعلق بالأعيان وهو العلوم الحقيقية وتسمى حكمية إن جرى الباحث على مقتضى عقله وشرعية إن بحث على قانون الإسلام وفيما يتعلق بالأذهان والعبارة وهي العلوم الآلية المعنوية كالمنطق ونحوه وفيما يتعلق بالعبارة والكتابة وهي العلوم الآلية اللفظية أو الخطية وتسمى بالعربية ثم إن ما عدا الأول من الأقسام الأربعة لا سبيل إلى تحصيلها إلا الكسب بالنظر أما الأول فقد يحصل بالتصفية أيضاً ثم إن الناس منهم الشيوخ البالغون إلى عشر الستين فاللائق بشأنهم طريق التصفية والانتظار لما منحه الله سبحانه وتعالى من المعارف إذ الوقت لا يساعد في حقهم تقديم طريق النظر ومنهم الشبان الأغبياء فحكمهم حكم الشيوخ ومنهم الشبان الأذكياء المستعدون لفهم الحقائق فلا يخلو إما أن لا يرشدهم ماهر في العلوم النظرية فعليهم ما على الشيوخ وإما أن يساعدهم التقدير في وجود عالم ماهر مع أنه أعز من الكبريت الأحمر فعليه تقديم طريقة النظر ثم الإقبال بشراشره إلى قرع باب الملكوت ليكون فائزاً بنعمته باقية لا تفنى أبداً.
الباب الخامس
في لواحق المقدمة من الفوائد
وفيه مطالب مطلب لزوم العلوم العربية:
واعلم أن مباحث العلوم إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية من بين العلوم الشرعية التي أكثرها مباحث الألفاظ وموادها وبين العلوم العقلية وهي في الذهن واللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني ولا بد في اقتناصها من ألفاظها بمعرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها وإذا كانت الملكة في الدلالة راسخة بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن من الألفاظ زال الحجاب بين المعاني والفهم ولم يبقى إلا معاناة ما في المعاني من المباحث هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة.ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها صيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلاً فحدثت فيها الملكات وتشوقوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسياً منسياً وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها وذهاب العناية بها وقد ثبت أن اللغة ملكة في اللسان والخط صناعة ملكتها في اليد فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة صار مقصراً في اللغة العربية لأن الملكة إذا تقدمت في صناعة قل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى إلا أن يكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم كما في أصاغر أبناء العجم وكذا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي ولذلك ترى بعض علماء الأعاجم في دروسهم يعدلون عن نقل المعنى من الكتب إلى قراءتها ظاهراً يخففون بذلك عن أنفسهم مؤنة بعض الحجب وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك.
مطلب علوم اللسان العربي: اعلم أن أركانها أربعة وهي اللغة والنحو والبيان والأدب ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة لما سبق من أن مأخذ الأحكام الشرعية عربي فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة به ويتفاوت في التأكد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام والظاهر أن الأهم هو النحو إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة ولولاه لجهل أصل الإفادة وكان من حق علم اللغة التقديم لولا أن "لأن" أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم يتغير بخلاف الإعراب فإنه يتغير بالجملة ولم يبق له أثر فلذلك كان علم النحو أهم إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة وليس اللغة كذلك.
مطلب الأدبيات: واعلم أن المقصود من علم الأدب عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب فيجمعون لذلك من حفظ كلام العرب ما عساه يحصل به الملكة من الشعر والسجع ومسائل من اللغة والنحو مع ذكر بعض من أيام العرب والمهم من الأنساب والأخبار العامة والمقصود بذلك أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه ثم إنهم إذا حدوا هذا الفن قالوا هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان والعلوم الشرعية إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلامهم إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة الموارد بالاصطلاحات العلمية فاحتاج حينئذ إلى معرفتها.
مطلب أنه لا تتفق الإجادة في فني النظم والنثر إلا للأقل: والسبب فيه أنه ملكة في اللسان فإذا سبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت عن تمام تلك الملكة اللاحقة لأن قبول الملكات وحصولها على الفطرة الأولى أسهل وإذا تقدمتها ملكات أخرى كانت منازعة لها فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق.
مطلب تعيين العلم الذي هو فرض عين على كل مكلف: أعني الذي يتضمنه قوله عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة واعلم أن للعلماء اختلافاً عظيماً في تعيين ذلك العلم قال المفسرون: والمحدثون هو علم الكتاب والسنة وقال الفقهاء هو العلم بالحلال والحرام وقال المتكلمون هو العلم الذي يدرك به التوحيد الذي هو أساس الشريعة وقال الصوفية هو علم القلب ومعرفة الخواطر لأن النية التي هي شرط للأعمال لا تصح إلا بها وقال أهل الحق هو علم المكاشفة والأقرب إلى التحقيق أنه العلم الذي يشتمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام "بني الإسلام على خمس" لأنه الفرض على عامة المسلمين وهو اختيار الشيخ أبي طالب المكي وزاد عليه بعضهم أن وجوب المباني الخمسة إنما هو بقدر الحاجة مثلاً من بلغ ضحوة النهار يجب عليه أن يعرف الله سبحانه وتعالى بصفاته استدلالاً وأن يتعلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما وإن عاش إلى وقت الظهر يجب أن يتعلم أحكام الطهارة والصلاة وإن عاش إلى رمضان يجب أن يتعلم أحكام الصوم وإن ملك مالاً يجب أن يتعلم كيفية الزكاة وإن حصل له استطاعة الحج يجب أن يتعلم أحكام الحج ومناسكه هذه هي المذاهب المشهورة في هذا الباب ذكرها في التاتار خانبة.
مطلب أسماء العلوم: اعلم أن المشهور عند الجمهور أن حقيقة أسماء العلوم المدونة المسائل المخصوصة أو التصديق بها أو الملكة الحاصلة من إدراكها مرة بعد أخرى التي تقتدر بها على استحضارها متى شاء أو استحصالها مجهولة وقال السيد الشريف في حاشية شرح "في شرح" المواقف أن اسم كل علم موضوع بازاء مفهوم إجمالي شامل له انتهى ثم إنه قد يطلق أسماء العلوم على المسائل والمبادي جميعاً لكنه قد يشعر كلام بعضهم إلى أن ذلك الإطلاق حقيقة والراجح أنه على سبيل التجوز والتغليب وإلا لربما يلزم الاختلاط بين العلمين إذ بعض المبادي لعلم يجوز أن يكون مسألة من علم آخر فلا يتمايزان ومما يجب التنبيه عليه أنهم اختلفوا في أن أسماء العلوم من أي قبيل من الأسماء اختار السيد الشريف رحمه الله تعالى أنها أعلام الأجناس فإن اسم كل علم كلي يتناول أفراداً متعددة إذ القائم منه بزيد غير القائم منه بعمرو شخصاً وقال ركن الدين الخوافي أنها أعلام شخصية نظراً إلى أن اختلاف الأعراض باختلاف المحال في حكم العدم وقال العلامة الحفيد المنقول عن المركب الإضافي لا يتعارف كونه اسم جنس وكثير من أسماء العلوم مركبات إضافية وقد خطر ببالي أنه يجوز أن يجعل وضع أسماء العلوم من قبيل وضع المضمرات باعتبار خصوص الموضوع وعموم الوضع ولا غبار على هذا التوجيه إلا أنه لم يتعارف استعمالها في الخصوصيات.
مطلب عدم تعيين الموضوع في بعض العلوم: ينبغي أن يعلم أن لزوم الموضوع والمبادي والمسائل على الوجه المقرر سابقاً إنما هو في الصناعات النظرية البرهانية وأما في غيرها فقد يظهر كما في الفقه وأصوله وقد لا يظهر إلا بتكلف كما في بعض الأدبيات إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وتنبيهات متعلقة بأمر واحد بغير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع واحد بأدلة مبنية على مقدمات.
هذه فائدة جليلة ذكرها العلامة التفتازاني في شرح المقاصد ينتفع بها في مواضع منها جوازان يحال تصوير المبادي التصورية في علمه في علم على علم آخر ومنها جعل اللغة والتفسير والحديث وأمثالها علوماً إلى غير ذلك.
الخاتمة: واعلم أن الغرض من وضع هذا الكتاب أن الإنسان لما كان محتاجاً إلى تكميل نفسه البشرية والتكميل لا يتم إلا بالعلم بحقائق الأشياء وبالعلم بكتاب الله وسنة رسوله وجب تعلم تلك العلوم وما هو كالوسيلة إليها ولزمه أولاً العلم بأنواع العلوم ليتبين منها هذا الغرض ثم إن العلم بأصناف الكتب في نفسها ومرتبتها ليكون على بصيرة من أمره ويقايس بين العلوم والكتب فيعلم أفضلها وأوثقها ويعلم حال العالم به وحال من يدعي علماً من العلوم ويكشف دعواه بأنه هل يخبر خبراً تفصيلياً عن موضع ذلك العلم وغايته ومرتبته فيحسن الظن به فيما ادعاه ويعلم حال المصنفات أيضاً ومراتبها وجلالة قدرها والتفاوت فيما بينها وكثرتها وفيه إرشاد إلى تحصيلها وتعريف له بما يعتمده منها وتحذيره مما يخاف من الاغترار به ويعلم حال المؤلفين ووفياتهم وأعصارهم ولو إجمالاً فلا يقصر بالعالي في الجلالة عن درجته ولا يرفع غيره عن مرتبته ويستفاد منه تشويق النفوس الزكية إلى الكمالات الإنسانية وتحريكها إلى حسن الاقتداء والاقتفاء بإمرار النظر إلى آثار الأولين والآخرين والفكر في أخبارهم ولا يخفى أن الطباع جبلت على مشاهدة الآثار وتلقي الأخبار سيما الجديدة منها فلا يمل حينئذ عين من نظر وأذن من خبر نسأل الله العفو والعافية تالياً لنعمة الإسلام والعافية وهو حسبي ونعم الوكيل والهادي إلى سواء السبيل إنه مجيب قريب عليه توكلت وإليه أنيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق