الخميس، 14 فبراير 2013

قطعة كرواسان / Histoire d’un croissant ودلالاتها الدينية


للمآكل حكايات لا تخلو من دلالات، منها حكاية "الكرواسّان" التي دخلت في تقاليد إفطارنا الصباحيّ، وزاحمت المنقوشة بالزعتر، لفترة طويلة، في عُقْر دارها. وهي حكاية طريفة، تظهر مدى علاقة مكوّنات الأكل بمكنونات التاريخ والأساطير والحقائق. فالانسان كائنٌ ناطقٌ وكائنٌ، أيضاً، رمزيّ. وكثير من التقاليد الاجتماعيّة يمكن أن تفصح عنها لقمة في الفم، إذ يقوم الطعام، أحياناً، مقام الوثائق التاريخيّة، والأرشيف الطريف لعلاقة الانسان مع فمه.
في هذاالمقال سأتناول بعض ملامح حكاية الكرواسان من خلال مجموعة أسئلة. وما ينطبق على الكرواسان ينطق على مآكل أخرى مع تعديل في الأسئلة. نكهة السؤال تتحكم بها مكوّنات هذه الاكلة أو تلك. هل ثمّة علاقة بين الإمبراطوريّة العثمانيّة والكرواسّان؟ وهل من صلة بين ولادة الكرواسّان والذعر الذي دبّ في مفاصل فيينّا عاصمة النمسا؟ وما علاقة الكرواسّان بالصراعات الدينيّة والخدع الحربيّة والانتصارات؟ وما دور الرموز في توليد مآكل تكون في عالم الغيب؟ أليس الرمز أشبة بيد "قابلة قانونيّة" تستقبل مواليدَ جددا من الأطباق؟
مِن الملاحَظِ، أوّلاً، أنّ اسم هذه الفطيرة وليد شكلها، لا أكثر ولا أقلّ، فالكرواسّان كلمة فرنسيّة تعني "الهلال"، وبعض الإضاءات على الأسئلة السابقة تكمن في التسمية. فالهلال ليس شكْلاً فقط، لا سيّما أنّ أشكالاً كثيرة تتعدّى مع الوقت ولأسباب متعدّدة دلالات أشكالها المحايدة، فيكتسي الشكل مضموناً غنيّاً، لا يمكن لمسه أو المسّ به، لأنّه ينتقل، بكلّ بساطة، من حيّز الشكل إلى حيّز الرمز، أليس الشكل هنا هو الذي عمّد الكرواسان ومنح هذه الفطيرة اسمها؟ الانسانُ كائنٌ لا يمكن له الاستغناء عن الرمز لأنّ في ذلك هدراً معلناً لأحد شروط إنسانيّته، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يحيط حياته بأسوار رمزيّة شاهقة وشفّافة كالهواء.والانسان بلا رموز كائن هشّ، الرمز حصن يلوذ به ليحمي تاريخه ويربطه بالآتي من الأزمنة.
أضْحى الهلال ، بعد مجيء الحضارة الإسلاميّة، رمزاً إسلاميّاً بامتياز. والسبب في ذلك، ربّما، هو أنّ الإسلام اعتمد في تأريخ حياته وممارسة طقوسه، من زكاة وصيام وحجّ، على منازل القمر أكثر من اعتماده على مشرق الشمس لأسباب، كما يرى البعض، جغرافيّة ذات صلة بالصحراء. فالأشهر الإسلاميّة قمريّة وليست شمسيّة، ثمّ أنّ الهلال يحمل من المضامين أكثر ممّا يحمله البدر في تمامه، إذْ لكلّ شيءٍ إذا ما تمّ نُقْصان، أمّا الهلال فهو، بخلاف البدْر، فتيّ ومنذورٌ للنموّ. وعبارة "ليل نهار" أو "ليلاً ونهارا" تضمر لمن يتأمّلها بعض علاقة العربي بالقمر. مثلا في الفرنسية نقول:"jour et nuit"، التقديم والتأخير ليس مجرّدا من الدلالة. الليل العربي غير الليل الفرنسي. حياة العربيّ معلقّة بالقمر، والقمرر كائن ليلي، من هنا كان تقديم الليل على النهار. ليس بين اسماء العلم في فرنسا، مثلا، "ليلى"! ماذا يصير بتراثنا العشقيّ والشعريّ إذا قرّرت "ليلى" مغادرة بيوتها الشعرية والأغنيات؟ وماذا يصير بالمجنون؟ المقارنة بين اللغات في ما يخص مواقع الكلمات يفصح عن علاقة معيّنة مع الموجودات.
تروي لنا كتب التاريخ أنّ العُثمانيّين حاصروا فيينّا، وكادت تسقط في أيديهم، ويغيّر وجه أوروبا كلّه لولا أنْ أنقذها فرّان بسيط ونشيط احتفظ التاريخ باسمه وهو "آدم سبايل". كان الفرّان يذهب كعادته، فجْراً، إلى فُرْنه القريب من أحد أسوار المدينة، وهو موقع خطر في ظلّ الحصار العثماني. كانت تؤْنس الفرّان، وهو يحضّر العجين، دندنة صراصير الليل. ولكنْ في فجر 14 أيلول من عام 1693 لاذت تلك الصراصير بالصمت.والصمت، أحياناً، ثرثار نمّام. استغرب الفرّان صمتها وانشغل باله على الصراصير، غير أنّه تابع عمله، وفجأة لاحت له أمور غريبة، فأشياء الفُرْن بدأت تهتزّ أمام عينَيْه، والأرض أخذت ترتجّ تحت قدمَيْه، وأصوات غامضة مهمهمة راحت تتسرّب إلى أذنَيْه. ارتاب ممّا تشعر به حواسّه، "نقزه قلبه" كما يقال، فترك عجنته وأسرع إلى قائد حرس الأسوار واسمه "ستارمبروغ" لإخباره بما يحصل. فما كان من قائد الحرس إلاّ أنْ جهّز جيْشه بالرُّفوش والمعاول، وأمر بحفر نفق لتبيان مبعث الأصوات المريبة فعثر الجُنْد على ثُلّة من العثمانيّين وهم يحفرون نفقاً للتسلّل إلى المدينة المحاصرة من تحت الأرض بعد أن اعجزتهم حصونها الظاهرة. وأدّى اكتشاف خطّة الأتراك السردابيّة إلى إفشال الحصار واندحار الجيش العُثمانيّ اندحارا كان بمثابة بداية النهاية للفتوحات العثمانية.
 كُرّم الفرّان تكريماً عظيماً يليق بدوره في تغيير مصير "فيينا"، فقُلّد سيفاً بمثابة وسام، وخُصّ بتحضير فطائر، من وحْي المناسبة، دُمغتْ باسم الكرواسّان تقديراً لدوره في فكّ الحصار عن فيينّا. واختيار الكرواسّان اسماً لها يعود إلى كون الهلال هو الرمز الإسلاميّ الذي كان مرسوماً على العلم العُثمانيّ. وفي كثير من الحضارات والمعتقدات القديمة حيث تتوحّد الوقائع بالأساطير، والحقائق بالخرافات، يعتبر التهام الرمز التهام المرموز إليه، أو إرهاصاً بانتصار على كلّ مكنونات الرمز الفعليّة. تفتيف الرمز، سيميائيّاً، تفتيت مجازيّ لما يرمز إليه هذا الرمز.
ولكن ما دخل فرنسا بقطعة الكرواسّان؟ ولماذا اشتهرت بنسبتها إلى فرنسا أكثر ممّا اشتهرت بنسبتها إلى مسقط رأسها؟ الرموز جوّالة ، أيضاً، كالكلمات في الحضارات. يعود سبب انتشارها الفرنسي إلى امرأة. فالملكة الفرنسيّة ماري أنطوانيت كانت من أهل فيينّا، وهي تحنّ، في اغترابها، إلى كرواسّان مدينتها، طعامنا يكسر حدّة الحنين إلى بلادنا. اندفعت الملكة جاهدة في إدخال هذه الفطيرة إلى فرنسا ولكنْ دون جدوى لعدم استذواق الملك لها، فبقيت أكلة ذاتيّة تنعش ذاكرتها وتشدّها إلى مرابع طفولتها. أمّا الفضل الفعليّ في ترويجها وتحويلها موضة فرنسيّة فيعود إلى يوجين دي مونتيجو، زوجة نابليون الثالث، التي كانت تصلها بفيينّا صلات روحيّة عميقة، ولم تكن فَرْنَسَةُ الكرواسّان إلاّ أحد تجلّياتها. الأكل يصبغ الحضارات، ألا يسمّي البعض الحضارة التي نعيشها اليوم "حضارة الفاست فوود"؟
وكما تفرّ المآكل من أساطير ولاداتها كذلك تفرّ من بلدانها وحدودها الجغرافيّة الضيّقة، كما لو أنّ الطعام يؤمن، من يوم ولادته، بالعولمة! ومن أطرف الدراسات الإنسانيّة تلك التي تدلف إلى الحضارات الانسانية عبر دراسة الموائد العامرة بأطايب القصص، وهذا ما فعله الأنتروبولوجيّ الفرنسيّ الفذّ كلود ليفي استروس عبر مجموعة كتب قيّمة تحمل عناوين غذائيّة دالّة منها كتاب "النيء والمطبوخ" وكتاب "من العسل إلى الرماد".
ولكن، ثمّة من يسخر في بلادنا من "كتب الطبخ" ويعتبرها لا تختلف عن كتب الأبراج.
نظرتي هي الإعجاب الكبير يصل حدود الفتنة بـ"سورة المائدة" وإعجازها المزدوج، لفظاً ومذاقاً، في القرآن الكريم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق