الخميس، 9 مايو 2013

الفصل الثاني من الباب الخامس ذكر ألوان الطعام من ديوان المعاني




الفصل الثاني من الباب الخامس
ذكر ألوان الطعام

 

العرب تشبه البر بقراضة الذهب وبمناقير النغران، والنغران جمع نغرة وهي عصفورة. أخبرنا أبو أحمد، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن الأصمعي قال: قال شيخ من أهل البادية: ضفت فلانا فأتاني بخبزة من حنطة، كأنها مناقير النغران، قد انتفخت في الملة، حتى رأيت الجمر يتحدر منها، تحدر الحشو من البطان، وتراها حين غمرت بالسمن، يجول فيها المثراد، كما يجول الضبعان في الضفرة، ثم أتانا بتمر كأنه أعناق الورلان يدخل فيها الفرس. الحشو صغار الإبل، والضفرة الرمل المتعقد.
وأخبرنا أبو أحمد، عن الجلودي عن عبد الله، بن محمد القرشي، عن المثنى بن معاذ العنبري، عن بشر بن المفضل، عن عقبة الراسبي قال: دخلت على الحسن، وهو يأكل خبزا ولحما، فقال لي: هلم إلى طعام الأحرار، والعرب تدعو الخبز أم جابر.
وأخبرنا أبو أحمد حدثنا الجلودي، حدثني محمد بن زكريا، حدثني مهدي بن سابق، حدثنا شبيب قال: استأذن خالد بن صفوان على يزيد بن المهلب، فأذن له، فوجده يتغدى، فقال: يا بن صفوان أدن فكل، فقال: أصلح الله الأمير، لقد أكلت أكلة لست ناسيها، قال: وما أكلت؟ فوصف ما أكل، ثم قال: أتيت بخبز أرز كأنه قطع العقيق، وكأنما تجري عليه سبائك الذهب، ثم أتيت ببناني بيض البطون، زرق العيون، سود المتون، حدب الظهور، مقفعات الأذناب، صغار الرؤوس، غلاظ القصر، عراض السرر، مع بصل نظيف كأنه قطع الزند، وخل ثقيف مري حريف، قال أبو هلال ما سمعت في وصف السمك أحسن من هذا ولا أتم.
وقريب منه، ما أخبرنا به، أبو خليفة عن ابن سلام، عن محمد بن القاسم، قال: قال الأعمش لجليس له: أما تشتهي بناني زرق العيون، بيض البطون، سود الظهور، وأرغفة باردة لينة، وخلا حاذقا؟ قال: بلى قال: فانهض بنا، قال الرجل: فنهضت معه، فدخل منزله وقال خذ تلك السلة، فكشفها فإذا فيها رغيفان يابسان، وسكرجة كامخ، وشبت، قال: فجعل يأكل، وقال لي: تعال كل، قلت: فأين السمك؟ فقال: ما عندي سمك، وإنما قلت أتشتهيه وأنا والله أشتهيه.
أخبرنا أبو أحمد، عن الجلودي عن المغيرة بن محمد، عن أبي عثمان المازني، عن الأصمعي، قال: قال أبو صوارة، وكان بمكة مثل الأشعب بالمدينة، في شهوة الأكل: يا أبا سعيد، الأرز الأبيض، باللبن الحليب، بالسكر السليماني، بالسمن السلى، ليس من طعام أهل الدنيا.
ومن أحسن ما قيل في الرقاق، قول ابن الرومي:
ما أنس لا أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
وقلت:
وخبز بأيدي الخابزين كأنه ... تراس تعاطيها الجنود جنود
وأطعمة حلت بساحتها المنى ... إذا جاء من أرداحهن يريد
وضمت إلى الحلواء فيه فواكه ... عليهن أهواء النفوس وفود
وقال الصنوبري في رقاق ورؤوس:
غير ما راج من رقاق رقيق ... فوق هام على عداد الهام
ذاك كالماء ذي الحباب وهاتي ... ك عليه كطير ماء نيام
يا لأقيالهن وما يب ... دين من مضرم شديد الضرام
كأناس يوشحون منادي ... ل إذا خرجوا من الحمام
ورصف هذه الأبيات غير مختار عندي، ولكني أوردتها لجودة معانيها، وإصابة التشبيهات فيها، وقلوه غير ماراج فإن الرواج لفظ عامي، لا يستعمله الفصحاء.
وقال ابن الرومي:
هام وأرغفة وضاء فخمة ... قد أخرجت من جاحم فوار
كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا ... مقرونة بوجوه أهل النار
وقال غيره في جوذابة:
وقادم من جاحم فوار ... مخلل الشقشق والأنوار
ملبسا حلة جلنار ... يقشر جلدا منه كالنضار
عن بدن أبيض كالخمار
ومن النادر البديع في هذا المعنى.
ما أخبرنا عن محمد بن زكريا، عن الأصمعي، قال: قيل لأعرابي: كيف تأكل الرؤوس؟ قال: أفك لحييه، وأبخص عينيه، وأفعص أذنيه وخديه، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحوج مني إليه. فقيل له: إنك لأحمق من ربع قال: وما حمق ربع؟ إنه ليجتنب العدوى، ويتبع المرعى، ويراوح بين الأطباء، فما حمقه يا هؤلاء؟

 

وقيل لأحدهم: ما أحب الفاكهة إليك؟ قال: أما الرطب فاللحم وأما اليابس فالقديد.
وقلت في صفة لحم:
تركت سمين اللحم يبيض بعضه ... ويحمر بعض خلطك الدر بالتبر
وأعرضت عن حلواء شق فنونها ... فبيض إلى حمر وحمر إلى صفر
إلى ثردة رقطاء قطع فوقها ... مقفعة خضراء في ورق خضر
وحاجة الإنسان إلى الطعام، إنما هي من أجل ما يأخذ الهواء من جسده، فيحدث فيه خلل، فإذا اكل اللحم فقد رم الجسد، بما هو من جنسه، فكأنه رقع الديباج بالديباج، فإذا أكل غير اللحم، فكأنه رقع الديباج بالكرباس وفي الحديث " من ترك اللحم أربعين يوما ساء خلقه " .
وأحسن ما سمعت في جمل مشوي قول السري:
أنعته معصفر البردين ... أبيض صافي حمرة الجنبين
خلف شهرين على خلفين ... ثم رعى بعدهما شهرين
فجسمه شبران في شبرين ... يا حسنه وهو صريع الحين
بعرفة مرهفة الحدين ... بكف شاو عطر الكفين
كسارق حد من اليدين ... ذو طرف يستوقف العينين
يريك مرآة من اللجين ... مذهبة المقبض والوجهين
شق حشاه عن شقيقتين ... أختين في القد شبيهتين
كما قرنت بين كمأتين ... أختين في القد شبيهتين
إن شين ذورقين ناجمين ... فإنه زين بغير شين
ومن المشهور قول ابن الرومي في دجاجة مشوية:
وسميطة صفراء دينارية ... ثمنا ولونا زفها لك حزور
طفقت تجول بذربها جوذابة ... فأتى لباب اللوز فيها السكر
ظلنا نقشر جلدها عن لحمها ... فكأن تبرا عن لجين يقشر
يا حسنها فوق الخوان وبنتها ... قدامها بصهيرها تتغرغر
وتقدمتها قبل ذاك ثرائد ... مثل الرياض بمثلهن يصدر
ومدققات كلهن مزخرف ... بالبيض منها ملبس ومدنر
وأتت قطائف بعد ذاك لطائف ... ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر
ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها ... دمع العيون من الدهان تعصر
وقلت في سكباجة:
سكباجة طيبة نشرها ... كأنها عود على مجمر
يا حسنها في القدر إذ أقبلت ... وهي تحاكي سفط الجوهر
ويستنير الشحم في لحمها ... كغرة في فرس أشقر
يا حسن باذنجانها إذ بدا ... أسمر وسط المرق الأحمر
كأنه ماء خلوق جرى ... وجال فيه قطع العنبر
قال ابن الرومي في دجاجة:
عظيمة الزور بصدر نهد ... أجريت منها في مجال العقد
مرهفة ذات شبا وحد ... لغير ما دخل وغير حق
بل رغبة فيها شبيه الزهد
وقل تفي قدور على النار:
كتبت أستعجل الندامى ... والنار تستعجل القدورا
وقد أتاني الغلام يسعى ... بأرغف تشبه البدورا
وعندنا قهوة شمول ... لو قطعت صيرت شذورا
تكون قبل المزاج نارا ... فانقلبت بالمزاج نورا
فانهض إلى سرعة إلينا ... ننثر على نفسك السرورا
وقال الشعبي: ما رأيت فارسا أحسن من زبد على التمر، وأنشد لبعض الأعراب:
ألا ليت لي خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرني فرسانها زبد
ومن عجيب ما روي عن الأعراب، في شهوة الطعام، ما أخبرنا به أبو أحمد، عن أبي بكر، عن أبي حاتم، عن الأصمعي، عن جعفر بن سليمان، قال: لقيت اعرابيا فقلت: هل لك في ثردة؟ فتنفس الصعداء ثم قال:
واها على مجمومة ... وصحفة مكتومة
بالدسم موسومة ... واللحم مغمومة
قد كملت عراقا ... وألحفت رقاقا
منقوشة الحواشي ... بطيب التماشي

 

بفلفل وحمص ... فكل هنيئا وارقص
فأخذت بيده وذهبت إلى المنزل، فأمرتهم فصنعوا ثردة كما وصف، فلما قدمتها ارتعش طربا، ثم قال: أي بأبي والله هذه المرقصة، ثم وثب على رجليه فرقص ساعة، وجلس فأكل أربعة ارغفة في السقي وستة ثم قبل رأسي وقال: بأبي وأمي لك حاجة في بدونا؟ قلت: تمضي، ثم قال أي والثردة، والله ما دخلت الحضر إلا في طلبها، ثم أنشأ يقول:
عمرت بطنا لم يزل مصفرا ... لم يعرف الرغف ولا المزدرا
حتى لقد أوجعت والله ترى ... ما صنعت كفاي في جنب القرى
وقال ابن خلاد في خبز الأرز والملح:
إذا الطابق المنصوب ألقى ثيابه ... وقدت جيوب الخبز شبرين في شبر
رغيف بملح طيب النشر خلطة ... حوارجه تغنيك عن أرج العطر
عليه من الشونيز آثار كاتب ... وجلبات وراق ينقط بالحبر
ومن سمسم قد زعفروه كأنه ... قراضة تبر في لجينية غر
وقال في الباقلاء:
فلا تنس فضل الباقلاء فإنه ... من المن قد وافى به الفضل في الزبر
إذا جعلوا فيه سذابا ونعنعا ... وجزءا من الزيت المقدس في الذكر
فما صدف العاج المغشي ظواهرا ... بطاشي أفرند معقدة الخصر
بأحسن من مخضرة الغصن إذ بدت ... بواكر منها في المجاسد والأزر
ثم قال:
ويا لك باذنجانة سابرية ... جلاها نسيم الليل ناثرة الفجر
فجاءت بأثواب الحداد مدلها ... بأذنابها العم المعقفة الخضر
وأكرم بهانيا إذ بز ثوبها ... فأبدت لنا عن واضح الكشح والصدر
فنجعلها شطرين نلقم شطرها ... ونتبعه قبل الإساغة بالشطر
وقال ابن الرومي في الهريسة:
أيا هنتاه هل لك في هريس ... بلحمان الفراخ أو البطوط
أمل الليل صانعها بضرب ... فجاء بها تمدد كالخيوط
وبين يديك من مري عتيق ... توارثه النبيط عن النبيط
أرانا حول صحفتها بروكا ... كما برك البعير على الخبيط
فيالله من لقم هناكم ... تجاذب بالشجيج وبالغطيط
وقال مسكين الدرامي في قدور على النار:
كأن قدور قومي كل يوم ... قدور البرك ملبسة الجلال
كأن الموقدين لها جمال ... طلاها الزفت والقطران طالي
بأيديهم مغارف من حديد ... تشبهها مغيرة الدوالي
وقلت في هريسة:
هريسة بيضاء كافوريه ... في قصعة صفراء ديناريه
للمرء فيها حمة مسكيه ... وللسلاء لمعة تبريه
تدور في مبيضة فضيه ... مثل السوار في يد الروميه
ومن عجيب ما قيل في قلة الطعام على المائدة، ما أنشدناه أبو أحمد، قال: أنشدني نصر بن أحمد لنفسه:
من حديثي أن ابن بكر دعاني ... لشقائي فليته ما دعاني
غرني منه منظر ولباس ... وأثاث ومجلس وأوان
مجلس كالجنان حسنا ولكن ... قبح الجوع حسن تلك الجنان
فلعمري كان الخوان ولكن ... لم يكن ما يكون فوق الخوان
وجفان مثل الجوابي ولكن ... ليس فيهن ما يرى بالعيان
غضار الألوان جاءت ولكن ... ليس فيها روائح الألوان
فإذا ما أدرت فيها بناني ... لم أجد ما أمسه ببناني
إني ماضغ على غير شيء ... غير صك الأسنان بالأسنان
ترجع الكف وهي أفرغ منها ... عند مدي لها فد أبي وشاني
لو تراني والجوع يضحك مني ... عند غسلي يدي بالأشنان
زاد في السفر مسرفا مثلما أس ... رف عند الطعام بالنقصان

 

والغضارات فارغات أتتنا ... وسقانا بالمترع الملآن
سكرة فوق جوعة تركتني ... راحما عل جائع سكران
وقلت في قريب منه:
أتدعوني وتطعمني يسيرا ... وتسقيني الكثير على اليسير
فأصبح منك في يوم عسير ... فلا ينفك في يوم عسير
هما حران من جوع وسكر ... فيا لك من سعير في سعير
أقول وفي غضائره عظام ... أتغرف من قدور أم قبور
ومن جيد ما قيل أيضا في ذم الدعوة، قول أبي الحسن بن طباطبا، وقد دعاه الكراريسي، فقرب إليه مائدة عليها خيار، وفي وسطها جامات عليها قطر، ولم يصحبها بوارد، فسماها مسيحية، لأنها أشبهت موائد النصارى، وقدم سكباجة بعظام عارية، فسماها شطرنجية، ثم قدم مضيرة في غضارة بيضاء فسماها معقدة لأن البياض لبس المعتدة وهي لا تمس الدهن والطيب، ثم قدم زيرباجة بأطراف جدي صفراء، لقلة زعفرانها فسماها عابدة، لأن ألوان العباد صفر، ثم قدم لونا بقضبان محلولة، فسماها قنبية، ثم قدم لونا بزبيب أسود فسماها سلحية صفراء، ثم قرب فالوذجة قليلة الزعفران والحلاوة، فسماها صابونية، ثم اعتل على الجماعة، بأن ابنه عليل، فحولهم من منزله إلى بستان، قد طبق بالكراث، وأحضرهم جرة منثلمة، يمزجزن منها شرابهم، وإذا ضرب أحدهم الغائط نقلها معه، وربط الأكار بحذائهم عجلة تخور عليهم خوارا شبيها بغاء فاطمة وكان اسمها فاطمة فقال:
يا دعوة مغبرة قاتمة ... كأنها من سفر قادمه
قد قدموا فيها مسيحية ... أضحت على أسلافها نادمه
ثم بشطرنجية لم تزل ... أيد وأيد حولها حائمه
فلم نزل في لعبها ساعة ... ثم نفضناها على قائمه
وبعدها معتدة أختها ... عابدة قائمة صائمه
في حجرها أطراف مؤوودة ... قد قتلتها أمها ظالمه
والقنبيات فلا تنسها ... فحيرتي في وصفها دائمه
أقنب ما امتد في أصبعي ... أم حية في وسطها نائمه
والحسكيات فلا تنس في ... خندقها أوتادها قائمه
والموكبيات بسلطانها ... قد تركت آنافنا راغمه
والسلحة الصفراء فاعجب بها ... إذ سلحتها أنفس هائمه
وجام صابونية بعدها ... فافخر بها إذ كانت الخاتمه
ظل الكراريسي مستعبرا ... من عصبة في داره طاعمه
وقال إن ابني عليل ولي ... قيامة من أجله قائمه
وولولت داياته حوله ... فليس إلا عبرة ساجمه
وليس هذا لسوى كسرة ... تكسر ما زالت له سالمه
وقد أكلناها فكم هيجت ... من لاطم خدا ومن لاطمه
ثم هربنا نحو بستانه ... خوفا من المنية العازمه
ظلنا لدى الكراث نلهو به ... فيا له من زهرة قائمه
وغاية اللطف ففي جرة ... محطومة صارت لنا حاطمه
نبول فيها ثم نسقي بها ... يا لك من عارضة لائمه
وعجلة تشدو بألحانها ... وكانت الكيسة الحازمة
فكان فيما أنشدت إذ شدت ... من لي من بعدك يا فاطمة
نشتم من أسمعنا صوتها ... وهي لنا من بعده شاتمه
ظلت تبكي شجو ما أبصرت ... من أمرنا وهي به عالمه
فلو ترانا وترى زادنا ... حيا صادفت منا نعما سائمه
فلما سمعها الكراريسي، حلف لا يدخل أبا الحسن، ولا أحدا من أصحابه داره، واتخذ دعوة، ودعا قوما من الشطرنجيين، فقال أبو الحسن: إنما دعاهم لينظروا في الشطرنجية، التي كنا نفضناها على قائمة هل يمكن فيها من حيلة، وكتب إليه من وقته أبياتا منها:
طمعت يا أحمق في قمرها ... لو أمكن القمر قمرناها

 

فإن أقاموها فما ذنبنا ... كنا على ذاك نفضناها
ثم كتب إليه أبو الحسن:
يا من دعاني أطال الله عمرك لي ... ولا عدمتك من داع ومحتفل
ما أنس لا أنس حتى الحشر مائدة ... ظلنا لديك بها في أشغل الشغل
إذا أقبل الجدي مكشوفا ترائبه ... كأنه متمط دائم الكسل
قد مد كلتا يديه لي فذكرني ... بيتا تمثلته من أحسن المثل
كأنه عاشق قد مد بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل
وقد تردى بأطمار الرقاق لنا ... مثل الفقير إذ ما لاح في سمل
فليت شعري ماذا كان أنحله ... فصار إيمانه قولا بلا عمل
مددت كفي فلم ترجع بفائدة ... كأنما وقعت منه على طلل
وأخذ أبو الحسن قوله شطرنجية من قول جحظة أظنه:
قدم لي أعظم حولية ... قد طبخت بالماء في برمته
فلم أزل زلت به نعله ... ألعب بالشطرنج في قصعته
ومن جيد الوصف، قول أبي الفضل بن العميد في وسط: أنشدنا أبو أحمد أنشدنا أبو الفضل بن العميد لنفسه:
ودونك وسطا أجاد الصناع ... تلفيف شطريه بالهندمة
فمن صدر فائقة قد نوت ... ومن عجز ناهضة ملقمه
ودنر بالجوز أجوازه ... ودرهم باللوز ما درهمه
وقابل زيتونها والجبن ... صفائح من بيضة مدغمه
فمن أسطر فيه مشكولة ... بملح ومن أسطر معجمه
وطرز بالبقل أعطافه ... فوافى كحاشية معلمه
موشى تخال به مطرفا ... بديع التغاويف والنمنمه
وأنشد في الشواريز:
ما متعة العين من خد تورده ... يزهى عليك بخال فيه مركوز
مستغرق الحسن في توسيع وجنته ... بدائع بين تسهيم وتطريز
يوفي على القمر الموفي إذا اتصلت ... يسراه بالكأس أو يمناه بالكوز
انهى إليك من الشيراز إن وضحت ... في صحن وجنته خيلان شونيز
وقد جرى الزيت في مثنى أسرته ... فضارعت فضة تعلى بإبريز
وقال ابن خلاد:
وسوف يزورك شيرازها ... فتقسم بالله أن تكرمه
يميس بشونيزة كالعروس ... تخطر في الحلة المسهمه
وتغشى موائد قد عوليت ... أطايب كالبردة المعلمه
تباهى بجاماتها والغضار ... كواكب في الليلة المظلمه
وأول من ذلك الفالوذ أبو الصلت جاهلي يذكر عبد الله بن جدعان:
له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد
لباب البر يعني النشا.
وكان لعبد الله جفنة يأكل منها القائم، والقاعد، والراكب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت أستظل بجفنة عبد الله بن جدعان في الهواجر " .
ومن النوادر في هذا: ما أخبرنا به، أبو أحمد، عن رحاله، قال: سأل أعرابي عن رأيه في الفالوذ فقال: والله لو أن موسى أتى فرعون بفالوذ لآمن به ولكنه أتاه بعصاه.
ومن مصيب التشبيه فيه قول بعضهم:
ولاطفه بالشهد المخلق وجهه ... وإن كان بالالطاف غير خليق
كأن اصفرار اللوز في جنباته ... كواكب تبر في سماء عقيق
وقلت:
حمراء في بيضاء فضية ... وظرف كافور وحشو الخلوق
يطوف الدهن بأرجائه ... اطافة الدمع بجفن المشوق
كأنما اللوز بحافاته ... أنصاف در ركبت في عقيق
ومن المشهور قول ابن الرومي في اللوزينج:
كأنما قرت جلابيبه ... من أعين القطر إذا قببا
مستكثف الحشو على أنه ... أرق جسما من نسيم الصبا
يدور بالنفحة في جامه ... دورا ترى الدهن له لولبا

 

لو أنه ثغر لرومية ... لكان منه الواضح الأشنبا
وقلت في قطائف:
كثيفة الحشو ولكنها ... رقيقة الجلد هوانيه
رشت بماء الورد أعطافها ... منشورة الطي ومطويه
كأنها من طيب أنفاسها ... قد سرقت من نشر ماريه
جاءت من السكر فضية ... وهي من الأدهان تبريه
قد وهب الليل لها برده ... ووهب الخصب لها زيه
وقلت في ذم الباذنجان:
قرانا بقولا إذ أنخنا ببابه ... فأصبح فينا ظالما للبهائم
وقفنا عليه الركب نسأله القرى ... ونحن على أعناق أغبر قاتم
فصام وصوم الليل ليس بجائز ... وإن جاز في فقه اللئام الأشائم
أجاز صيام الليل حين استفزه ... تعاور ضيف في دجى الليل عائم
فبتنا أديم الليل نطوي على الطوى ... كأنا على غبراء من ظهر واشم
وأطعمنا لما مرقنا من الدجى ... دحاريج لا تنساق في حلق طاعم
مدورة سود المتون كأنها ... خصي الزنج لاحت تحت فيش قوائم
فأبشارها تحكي بطون عقارب ... وأرؤسها تحكي أنوف محاجم
وأخبرنا أبو أحمد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا نصر قال: قال الأصمعي: قيل للفاخري أي التمر أجود؟ قال الجرد الفطس الذي كأن نواه ألسن الطير، تضع الواحدة في فيك، فتجد حلاوتها في كعبك، يعنى الصيحاني تمر العلية.
وأخبرنا أبو أحمد، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبي، حدثني عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، قال: اجتمع أربعة رهط: سروي، ونجدي، وحجازي، وشامي، فقالوا: تعالوا نتناعت الطعام أية أطيب: قال الشامي: إن أطيب الطعام ثريدة موسعة زيتا، تأخذ أدناها فيضرط عليك أقصاها تسمع لها وقيبا في الحنجرة، كتقحم بنات المخاض في الخرف.
قال السروي: إن أطيب الطعام خبز بر، في يوم قر، على حمر عشر، موسع سمنا وعسلا.
فقال الحجازي: أطيب الطعام خنس فطس بإهالة حمس يغيب فيها الضرس.
فقال النجدي: أطيب الطعام بكر سنمة مغتبطة نفسها غير ضمنه، في غداة شبمة، بشفار خدمه، في قدور جذمه.
ثم قال الشامي: دعوني أنعت لكم الطعام، إذا أكلت فابرك على ركبتيك، وافتح فاك، وأجحظ عينيك، وامرح أصابعك، وعظم لقمتك، وأحتسب نفسك. قال عبد الله بن دينار: ما سمعت ابن عمر حدث هذا الحديث قط فبلغ قول الشامي واحتسب نفسك إلا ضحك.
وقلت في قصيدة:
وعدت عصيدة شقراء تحكي ... طرار الصبح في ثوب الظلام
تراها حين تبرز في ظلام ... كعرف الطرف في زمن قتام
كذي دل عليه معصفرات ... يدل على المشوق المستهام
فلما أن صبا قلبي إليها ... ومدت نحوها عين اهتمامي
تقاصر دونها كفاي حتى ... كأن الدبس علق بالغمام
فدون السمن أطراف العوالي ... ودون النار بادرة الحسام
أتلك عصيدة أم طيف سلمى ... فليس يزور إلا في المنام
وقلت في سمكة طرية:
يقيض للمكتوب ماجر حتفه ... فجاز بنا في الغيض شر مجاز
بعثنا إليه منسر الباز فانثنى ... إلينا بظهر مثل جؤجو باز
فأطفأ نيران الطهاة كأنها ... سحاب يسح الودق فوق عزاز
العزاز: الأرض الصلبة.
وقال كشاجم في السمك:
ومحجوبة في البحر عن كل ناظر ... ولكنها في حجبها تتخطف
أخذنا عليهن السبيل بأعين ... رواصد إلا أنها ليس تطرف
فجاء بها بيض المتون كأنها ... خناجر في إيماننا تتعطف

 

أخبرنا أبو أحمد، عن الصولي، عن محمد بن القاسم، عن الأصمعي، قال: دخلت على الرشيد، وهو يأكل الفالوذ فقال: يا أصمعي هل قالت العرب في هذا شيئا؟ فقال يا أمير المؤمنين، وأنى لها هذا ولكن قالت فيما دونه، قال وما قالت؟ قال: قال مزرد ابن ضرار أخو الشماخ:
ولما غدت أمي تزور بناتها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع
خلطت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقها يتربع
ودبلت أمثال الأثافي كأنها ... روؤس نقاد قطعت يوم تجمع
وقلت لبطني أبشري اليوم إنه ... حمى آمنا مما تفيد وتجمع
فإن تك مصفورا فهذا دواؤه ... وإنتك جوعانا فذا يوم تشبع
فضحك الرشيد، وقال: يا أصمعي ما لدنيا ليس فيها مثلك حسن، فدعوت له وفضلته على الملوك بالعلم، فقال يا أصمعي نحن كل يوم نشبع.
ومما يجري مع هذا القول في الرحا: فمن أجود ما قيل فيها ما أنشدناه أبو أحمد:
عجبت من سائرة لا تبرح ... ينهاك عن ركوبها من ينصح
دائبة تمسي بحيث تصبح
والحمد لله وحده.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق