الأحد، 15 مارس 2015

الزواج في راجستان


راجستان ثاني اكبر ولاية في الهند بنت الثالوث المضيء: الشمس والقمر والنار. كانت تسمى قديما بلاد الملوك, فالمهاراجا تاريخها, تقع على حدود باكستان, ولاية فقيرة وحاضر مدقع لماض غني. ثلثاها صحراء، حاولت انديرا غاندي أن تمد اليها قناة لتسقي عطش صحراء لا يرتوي, لتسقي صحراء ذات مزاج متقلب, فالحرارة في صحراء الهند الكبرى كالزئبق, في الصيف تصل الى 47 درجة في النهار لتهبط الى خمس درجات في اليل. صحراء حارقة ومثلجة, وممتعة, لا سيما أيام الشتاء حين هبوب الريح الموسمية.. ريح تحول الأبنية الى ما يشبه هياكل الذهب حين تنعكس عليها أشعة شمس حيية.

مناخ راجستان مناخ خشن منح شعبها صلابة في الطبع. ولكنه طبع يحب المرح.. فكل شيئ مزركش, مخرم: الأبنية, المعابد, وأثواب الراجستانيين ألوان زاهية حمراء, صفراء, خضراء, بلون البهار المتعدد. وكأنهم حاكوا من قوس قزح ما يلبسون. الرجل يعتمر عمامة يصل طولها اذا ما مدت الى ستة عشر مترا.. والمرأة تنغمر بالساري الفضفاض فإذا به على جسدها, في هبوب ريح ما, كالأشرعة. فراجستان بلاد الفرح والمتع البريئة, حيث كل شيء فن فطري جميل. ولكنها تعيش في فقر مدقع, فقر مادي يكسر حدته غنى روحاني.. والأمية ما زالت تربض بكلكها الضخم.. فوق جسد قراها, والكهرباء لما تصل بعد عدد كبير منها.. وكأن ظلام الأمية وحده لا يكفي.

ومع ذلك فما زالت تحتفظ بعبق مادي من أشيائها القديمة, بقايا قصر متآكل, أو حفنة سور. والقرى عامرة في أي حال, بحياة ساحرة.. حتى البقرة هناك ليست كالبقر في أي مكان آخر.. فهي جزء من الحياة اليومية وجزء من ديكور الأزقة الضيقة. تمنح الانسان خمس أشياء: الروث يقوم مقام الحطب.. البول مطهر بسبب احتوائه لمحلول النشادر. ثم الحليب , والسمن, واللبن.

من هناك قدم الغجر

والحياة فرح نابت من شقوق حزن مألوف. ففي شهر الحصاد تمتلئ الشوارع بالرقص, والغناء, وابتهالات – الى"برفاتي" إلهة القمح- تخرج من أفواه نسوة يطلبن طول العمر لأزواجهن. والرجال بوساطة دمى يعيدون حكاية تاريخهم وأمجادهم الغابرة.. واذا ما تصفحت تاريخهم.. تبين لك ان الغجر جاؤوا الى اوروبا والأندلس من راجستان, فيتوكد في ذهنك مدى ولع الراجستانيات بالنغم الذي يحرك الجسد من أعماق روحه.

طفلة تحبو على ركبتيها, قد تكون.. أرملة

ولكن في راجستان أشياء تسمعها فلا تصدقها, تراها فتنكرها عيناك, وتقرأ أشياء لا تفقه لها معنى, تظنها كلمات صوفية تحتاج الى معونة ذهن حلاّجي لتمسك فحواها, أو معونة درويش هندي يلتف حول جسده كالحبل ليغرق في نرفانا لا تصل اليها, فالزوج في راجستان ليس لغزا ولكنه مدعاة تعجب, عادة تمارس بشكل غريب, ولكن لا شيئ يدعو الى الاستغراب. طفلة ما زالت تحبو على ركبتيها وكفيها قد تكون أرملة, وقد تكون متزوجة, تعيش ضيفة في بيت أهلها, بل غريبة او شبه غريبة, وقد ترى طفلا بالكاد يطلع من بين شفتيه مقطع لغوي ولكنه متزوج قبل ان يدرك.. يعيش رجولة لا يملكها, ينتظر رجولته ان تكتمل لا ليتزوج بل ليعيش حياة زوجية. ونادرا ما خلا يوم من فرح شبيه بهذا الفرح. فرح لا يعيشه العريسان. فرح يعيشه أهل العريس وأهل العروس في حين ان العريسين يلتهيان بأشياء أخرى, قطعة حلوى, أو حبة علكة.

ولقد أصدرت الحكومة الهندية قرارا بوقف العبث بحياة الأطفال.. ومنعت الزواج قبل سن الثامنة عشر من العمر للفتاة وقبل واحد وعشرين سنة للفتى. ولكن العادة تلغى بقرار. فما زال, في كل عام, يتم حوالي خمسين ألف زواج في راجستان لأطفال لم يبلغوا سن البلوغ بل وأحيانا لأطفال لم يبلغوا عام الفطام. علما ان القانون يفرض عقوبة بالسجن لمدة ثلاثة أشهر أو دفع خمسة آلاف روبية أو العقوبة بالاثنين معا. ولكن هذا العرس الطفولي, أو هذا البؤس الطفولي, هو محاولة من قبل الأهل للخروج من حالة فقر مضن, فالمهر يقدم من قبل أهل البنت او أهل الصبي تبعا للجمال. والمهر المقدم يزيد أحيانا حالة الفقير فقرا. والتزويج باكرا أفضل في أي حال من عادة أخرى كانت سائدة هي عادة قتل الأبناء وخصوصا البنات. اذ يروى انه كان يذهب ضحية هذا القتل ما يقرب من عشرين الف طفلة في العام الواحد في القرن الثامن عشر الى ان ألغى تماما هذا القتل بموجب قانون صدر عام 1870.

إكراه الأرامل على الموت

والزواج لا يتم كيفما اتفق, لا بد من طقس مهيب, ومن رأى المنجم الذي يقرأ الطالع ليحدد اليوم. كل يوم تقريبا عرس وكل يوم بؤس آخر ينضاف الى الحياة صغيرة. والمرأة تعيش على حدة, كأنها لا تعيش, فهي مؤهلة للموت خاصة اذا ما شاء القدر ان يموت زوجها قبلها, كأن موت الرجل عار للمرأة لا تغسله إلا بالنار. تنام الى جانب جثمانه. ويذهبا معا الى عالم الرماد.

ففي قرية" جهادلي" على بعد (80) كلم من جيبور عاصمة راجستان, تحولت امرأة, في السادسة عشر من عمرها, الى مثال للقرية فهي أرملة تصعد ببطء حثيث الى محرقة زوجها الميت, تضع رأسها على صدره وتأمر بإشعال النار, تحترق دون صرخة, وكان احتراقها ثوب عرس تلبسه لآخر مرة أمام أنظار أهل القرية المعجبين من رجال ونساء وأطفال. وسرعان ما عم الخبر أنحاء المنطقة, وبعد أقل من أسبوعين امتلأ المكان بالحجاج الوافدين لزيارة رمادها الذي خلط بالحليب وجوز الهند تقدمة شعائرية للآلهة, حتى رجال السياسة احتفلوا بموتها البهيج وأقاموا مذبحا بجوار رمادها. وما كل امرأة تجرؤ على ممارسة "الساتي" أي الانتحار الطوعي, و"الساتي" معناها" المرأة الوفية" لزوجها, وليس لها خيار آخر غير الانزواء في لباسها الحزين في بيت أهل زوجها.. لأن الزواج مرة ثانية يسقطها من طبقتها ويحيلها فردا من أفراد المنبوذين في راجستان. بعض الدارسين يرد هذه العادة الى أسباب الحفاظ على الذات في أيام الحروب, فالخوف من الغزاة لا يبيح لها خيارا آخر الا الوقوع في الأسر أو الاغتصاب. فتنقذ نفسها بالنار. الطفلة تتزوج ولكن لا يلحقها هذا الطفل باكرا وتتحول في نظر أهل زوجها  نذير شؤم. أرملة في الخامسة أو السادسة من عمرها. زواجها أبيض ولكن حدوث الترمل هو فعلي, ترمل أسود تجز شعرها وتعيش في بيت أهل الزوج, نكبة لا تطاق. تلبس الأبيض رمز الحزن. وتنتظر أجلا مريحا قد يطول.

أيام الأعياد يتزوجون بالآلاف

يوم الاحتفال بموسم القطاف هو يوم الزفاف, يسمى هذا اليوم "أغاتيج". يروي رجل يدعى "راجو لودها" ذكرياته عن حفل زواجه, ذكريات باهتة, يقول, كان في السابعة من عمره امتطى حصانا أبيض باتجاه بيت "العروس" وهي في الخامسة من عمرها. لم ير وجهها, قامة نحيلة ووجه مغطى بوشاح زهري.. كل ما يذكره هو طوافه سبع مرات حول النار المقدسة توكيدا على اتمام الزواج بمباركة اللهب. هل هو عرس أم أنه محض خطبة؟

انه عرس, زواج مع وقف التنفيذ.. ولكن الفتاة تتحول الى محض ضيفة بانتظار الذهاب الى بيت زوجها. والحماة قادرة, في أي وقت تشاء, على الاتيان بكنتها لتساعدها في شغل البيت. والفتاة تتربى هكذا, تزرع أفكار في رأسها بأنها في بيتها عابرة لا أكثر ولا أقل. والمسؤلية الكبرى في البيت هي الجدة.. ودائما تذكر حفيدتها بأنها في بيتها ليست في بيتها. تقول الجدة لحفيدتها: "عائلتك الحقيقية هي عائلة زوجك".

الصفقة

تزويج الأطفال خاصة البنات أشبه ما يكون بصفقة تجارية. فالبنات في قرى راجستان عبء, للأهل في قلب الأسرة. تزويجها باكرا راحة نفسية للأهل. ففتاة تصل الى الخامسة عشر دون ان تتزوج وفق التقليد هي عانس, فتاة عجوز, ولقد وضعت الدولة الهندية قانونا لوقف هذه العادة.. دون كبير نجاح. والزواج غير معترف به من قبل الدولة, لا تسجل الا في ذاكرة الأهل. بل هو أمتن من زواج مكتوب على الورق. لا ينفصم وإلا فان غضب إله النار ينزل على كل فاسخ لزواج تم بمباركة النار. وقد تم الزواج لأجنة في الأرحام. فكتب الحبلى على نفسها تزويج ما في بطنها لجنين آخر. زواج قائم على الظن, زواج في علم الغيب قد يتم اذا كان المولودان ذكرا وانتثى وقد يتلاشى بولادة طفلين من جنس واحد. وقد يتم تزويج طفل وطفلة وهما بعد في الأقماط الصفراء. ولكن اللقاء يتم قبل البلوغ. والبلوغ امر اعتباطي. فبدء نبت الشارب للفتى هو بلوغ, أما الفتاة حسب مثل راجستاني فهي لا تبلغ ولا تذهب الى بيت زوجها قبل ان تقدر على طحن خمسة كيلوغراما من الحبوب وحمل جرتي ماء.

والفقر احيانا يزيد, أو يمنح هذا التقليد, وجها جماعيا. فالزواج مكلف. فيختارون التزويج لكل أطفال الأسرة في يوم واحد.. لتخفيف العبء المادي اذ يخف الضيوف لأنهم مشغولون, هم ايضا, بتزويج أطفالهم ويتقاسمون من ناحية اخرى كلفة الحفل. وينعمون في الأخير براحة بال.

وقد تستغل هذه التقاليد من قبل رجال السياسة.. حتى تزداد شعبيتهم في راجستان فيزوجون بناتهم وفق التقليد كما حصل مع الوزير "ناندلال" الذي زوج ابنته الأولى وهي في الحادية عشر من عمرها وأختها وهي في السابعة من العمر فأقالته الدولة من منصبه دون ان يخسر شعبيته في الطبقات الفقيرة.

وعدد كبير من فتيات راجستان يحاولن ايقاف هذه التقاليد, فتيات عشن وتزوجن وترملن وهن صغار قبل أن ينمو وعيهن, او يشعرن بمأساة الترمل. يكافحن لاسقاط عادة حذفت - قانونيا – من فوق أرض راجستان بيد أنها ما زالت مزدهرة تحت الأرض أو بالأحرى ما زالت تعيش على ضفاف قانون أوهى من أن يلغيها من أذهان الآباء والأمهات.

ترى البهجة من البعيد, فرحة جماعية تستر حزن أطفال لا يعرفون الحزن. يفرحون بالحلوى, وزركشة الأثواب, فرحا آنيا ولكنه قد يرتسم "بيندي" حزينا على جبهات الفتيات, هذه النقطة الحمراء التي تميز المتزوجات من غير المتزوجات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق