الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

هذا ما يقوله فقيه الاندلس ابن حزم عن اللغة العربيّة في كتابه الاحكام في اصول الاحكام


في كيفية ظهور اللغات أعن التوقيف ؟ أم عن إصطلاح ؟

  • قال أبو محمد: أكثر الناس في هذا، والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري. فأما السمع فقول الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .

وأما الضروري بالبرهان : فهو أن الكلام لو كان اصطلاحاً لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم ، وتدربت عقولهم ، وتمت علومهم ، ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها ، واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جداً يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره .

إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته. ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه، فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس، ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ، ويعاني به الأمراض ، ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك.

وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتاً لم يكن موجوداً قبله، لأنه عمل المصطلحين، وكل عمل لا بد من أن يكون له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه، فهذا من الممتنع المحال ضرورة.

  • قال أبو محمد: وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني، ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى، ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام ، والكلام حروف مؤلفة، والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك ، وكل فعل فعله فله زمان ابتدىء فيه ، لأن الفعل حركة تعدها المدد ، فصح أن لهذا التأليف أولاً ، والإنسان لا يوجد دونه. وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة، فصح أن للمحدث محدثاً بخلافة، وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه.

ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى.

  • قال أبو محمد: وأيضاً فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها.

أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها. وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبّر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم.

لا بد من ذلك. فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام.

ولم يبق إلا أن يقول قائل: إن الكلام فعل الطبيعة.

  • قال أبو محمد: وهذا يبطل ببرهان ضروري. وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلاً واحداً لا أفعالاً مختلفة، وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى. وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط، وهو أن قال: إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها.
  • قال أبو محمد: وهذا محال ممتنع ، لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه. وهذا يرى بالعيان بطلانه لأن كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم.

فبطل ما قالوا: وأيضاً فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء.

ومن كابر في هذا، فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل، لا بد له من أحد هذين الوجهين. فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى.

إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولاً ، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها، وأبينها عبارة ، وأقلها إشكالاً، وأشدها اختصاراً وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلنا.

وقد قال قوم : هي السريانية وقال قوم: هي اليونانية: وقال قوم: هي العبرانية. وقال قوم : هي العربية. والله أعلم .

إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حِمْيَر ، لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي ، وإذا رام نغمة أهل القيروان ، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتها. ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة.

وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلاً لا يخفى على من تأمله.

ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق.

فنجدهم يقولون في العنب : العينب وفي السوط أسطوط . وفي ثلاثة دنانير ثلثدا .

وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة .

وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمداً إذا أراد أن يقول محمداً .

ومثل هذا كثير .

فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم .

وأنها لغة واحدة في الأصل . وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معاً ، والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده ، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده .

والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم.

فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم : إن اليونانية أبسط اللغات .

ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها. ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم ، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم .

وأما من تلفت دولتهم ، وغلب عليهم عدوهم ، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر ، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم ، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم ، هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة .

ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة .

فكيف تفلت أكثرها ، والله تعالى اعلم .

ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولاً ، ولا ندري لعل قائلاً يقول : لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها ، وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلاً ، وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن .

ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الأسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة ، إذ توزعها بنوه بعد ذلك ، وهذا هو الأظهر عندنا والأقرب ، إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها ، ولكن هذا هو الأغلب عندنا ، نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها ، وإنما ظننا هذا لأننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى ، وعظيم التعب في ذلك لغير معنى ، ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه ، فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيىء الاختيار، مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه ، وعما هو آكد عليه من أمور معاده ، ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة .

ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم ، ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعاً بل نقول : إنه ممكن بعيد جدًّا ، فإن قالوا : لعل ملكاً كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم ، قلنا لهم : هذا ضد وضع اللغات الكثيرة ، بل هو جمع اللغات على لغة واحدة ، ثم نقول : وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئاً ؟ وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخفّ وأمكن من إحداث لغة مستأنفة، وعلم ذلك عند الله عز وجل. وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات.

وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة ، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة؛ ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة ، وقد قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وقال تعالى : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .

فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه لا لغير ذلك ، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال : إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع .

  • قال أبو محمد: وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق.

وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى.

  • قال أبو محمد: وهذا لا معنى له ، لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه.

وقال تعالى : {إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه .

وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية ، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية ، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً .

وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع ، ولا نص ولا إجماع في ذلك ، إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها : إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات ، القائمة بيننا الآن ، وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات ، وإما أن تكون لهم لغات شتى : لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنهم يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم، أو بغيرها مما الله تعالى أعلم به.

وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم ، واحتج بقول الله عز وجل: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

فقلت له: فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } ولأنهم قالوا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } ولأنهم قالوا : {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فقال لي: نعم ، فقلت له : فاقض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية ، لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية ، فإن قلت هذا كذبت ربك ، وكذبك ربك في قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .

فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ، ليبين لنا عز وجل فقط ، وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ، ولا حسن في بعضها دون بعض ، وهي تلك بأعيانها في كل لغة ، فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة ، وبالله تعالى التوفيق .

وقد أدى هذا الوسواس العامي ، اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية ، وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها ، وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق