في حياة كثير من الناس لحظات أو كلمات أو مشاهد تقلب
مسار حياتهم رأساً على عقب، وتعيد صياغة مصائرهم من جديد. وعلماء النفس الذين
يعملون على فتح ملفات الذكريات يكتشفون دور تلك اللحظات في حياة الناس، لحظات منها
المعتم ومنها المضيء. كنت في وقت مضى قد كتبت عن دور "البطيخة" في طفولة
المتنبي وأثرها على تكوين رغباته وتطلعاته. وقصة بطيخة المتنبي وردت في كتاب"
الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" ليوسف البديعيّ. وتلفت نظري تلك اللحظات
الخاطفة في حياة الناس التي قد تمر مر الكرام ولا ينتبه لها الإنسان، ولعلّ من
فضيلة الذكريات أنها عشوائية. الإنسان لا يقرر ماذا يتذكر وماذا ينسى إلا في حالات
خاصة، ولأنها بأغلبها عشوائية فهي عينة صالحة لاستنطاق المخبوء.
وقعت تحت نظري حكاية وردت في ذكريات الشاعر الصينيّ القديم
" لي باي 李白Li bai "
وهو اسم أعرف أنّه لا يعني للقارىء العربيّ العاديّ شيئاً، بل إنه لا يعني، فيما
أتصور، حتى لقارىء الشعر وعاشقه شيئاً، فهو كائن غير موجود في الذاكرة العربية،
وإن كان موجوداً في الذاكرة الغربية والصينية بالتأكيد. مؤلفاته الشعرية مترجمة منذ
عهد بعيد إلى الفرنسية والإنكليزية وغيرهما من لغات العالم الأوّل. يعادل
حضور" لي باي" في الصين حضور
فيكتور هيجو في فرنسا أو شكسبير في بريطانيا أو غوته في ألمانيا، أو
المتنبي الصاخب مالىء الدنيا وشاغل الناس، وعليه هذا اللاشيء في ثقافتنا أو
ذاكرتنا لا يقلّ حضوراً واعتباراً في الصين عن
كبار الشعراء في العالم.
كان " لي باي" في صغره لا يحبّ المدرسة كأغلب
الأطفال الذين لا يرون في أحيان كثيرة كبير فرق بين السجن والمدرسة، وكان ينتهز
الفرصة كلما سنحت للهروب ورمي هموم الدرس وراء ظهره وتحويل الشارع مع حفنة من الفارّين
أمثاله إلى مسرح للهو واللعب. شاهد، في إحدى المرات، امرأة مسنّة قاعدة على طرف
رصيف وفي يدها الأولى قضيب من الحديد وفي يدها الأخرى حجر تستعمله كمبرد أو مسنّ
لشحذ قضيب الحديد. استغرب " لي باي" سلوك هذه المرأة التي تتعامل مع
قضيب الحديد بهذه الطريقة، دفعه فضوله الطفوليّ للتقدم مع الأولاد من هذه العجوز
والاستفسار عن سلوكها الغريب. رمقت العجوز الأطفال بجدية وقالت: " أريد أن
أعمل إبرة أخيط بها ثيابي". تبادل الأولاد النظرات فيما بينهم وهم يسمعون هذا
الجواب الذي لم يخرق عقولهم اللينة وراحوا يضحكون بملء أفواههم من هذه العجوز التي
تبدو من سلوكها بواكير الخرف. ثمّ حاولوا نصحها بالكفّ عن هذا العمل الذي يقتل
الوقت ولن يثمر إلاّ الخيبة، قالوا لها:" انه من المستحيل تحويل هذا القضيب
إلى إبرة، إن عملك قبض ريح". رمقت العجوز الأولاد ثم أردفت:" ولم لا؟ أين
الصعوبة أو الاستحالة؟ كل يوم أحفّ منه قليلاً، وفي كل يوم ينحل القضيب ومع الوقت
لا بدّ من أن يصير إبرة، لا أرى مصيراً
آخر ينتظر هذا القضيب، ولكن الكسالى
أمثالكم لا يمكن أن يستوعبوا قولي أو يتقبلوه". صدمهم كلام المرأة العجوز
وفضح هروبهم من مقاعد الدرس. لم ينبسوا ببنت شفة تبادلوا النظرات الخرساء ثم
أسرعوا باتجاه المدرسة. كان " لي باي" واحداً من هؤلاء الأولاد. غيّرت
كلمات العجوز ومشهد قضيب الحديد في يدها مساره وجعلت منه الشاعر الأكثر حضوراً في
"مملكة الوسط"، كما أنتج هذا المشهد مثلاً سائراً وهو لا يزال يسير في
الكتب التعليمية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، ويقول المثل: " العمل الدؤوب
يجعل قضيب الحديد إبرة "، وهو مثل قادر على أن يغري المرء بمقاومة الإحباط
السليط الحضور والمتسلط على مقادير واقعنا العربي الكابي.
ويبدو أنّ الإبرة لها حكايات كثيرة ولا أقصد حكايات
التداوي عبر الوخز بالإبر الصينية ، فلقد قرأت لناقد أدبي صيني اسمه " لين يو
تانغ " عبارة يقول فيها:" إن
النقد يتطلب ما قامت به تلك العجوز لأنّ حدة القلم تزداد بالمراس والتجربة تماماً
كمخرز الإسكافي الذي يتحول بصورة متدرجة إلى إبرة للتطريز".
وللشاعر الصيني
" لي باي" قصيدة قصيرة بعنوان " تأملات ليلية" كتبها في غربته
أختم بها هذا المقال لعلّها تعبر عن طريقته في رؤية الأشياء:تأملات ليلية
ألقى القمر، أمام سريري، أشعته الفضية
لوهلة ظننت أنّ جليداً أبيض يلمع في الأرض
رفعت رأسي وتأملت القمر المشعّ
ثم خفضت رأسي ورحت أفكر في دياري.