كثيرة هي الطرائف التي تدور حول طقوس
دفع الفواتير في المطاعم، ومن الطريف أيضا مراقبة الفاتورة أحياناً وهي تخطف من يد
ليعاد خطفها أو " نتشها " من يد أخرى. وطريف أيضاً تناثر الأموال على
صندوق المحابسة من قِبل أكثر من شخص، مما يوقع المحاسب في حيرة تبلبل عينيه.
والكلمات التي يتفوّه بها الزبائن على الصندوق من قبيل: أنا أدفع. لا، أنا من
يدفع، مع ما يرافق ذلك من أيمان غليظة مثل: حلفت بالله، لا تمدّ يدك إلى جيبك.
وحسماً للجدل يتوّجه أحد الأشخاص بالكلام إلى النادل بصيغة آمرة ومتعالية أحياناً
: لا تأخذ منه، اعتبر الحساب واصلاً، أو يشير من بعيد وهو لصيق مطرحه، بطرف عينه وهزّة من حاجبيه أنْ لا يحاسب من
أسرع إلى الصندوق.
وهناك "شركة حلبية" كما هي
معروفة أو مرادفتها "الشركة الدانمركية" كما يقال في الغرب. ولكن الشركة الحلبية لا ترضي الإنسان الصينيّ، وهو
يرى فيها عملاً غير إنساني! لأنّها تعني:" أنت غير مدين لي بشيء، وأنا غير
مدين لك بشي"، وهذا يخالف سنّة الحياة الطبيعيّة فهم يرَوْن أن بين الأصحاب
والأصدقاء ديناً متبادلاً. وعليه، فالقاعدة الصينية هي التناوب في الدفع، وهو
تناوب يعزّز من أواصر الصداقة ويساهم في تمتين العلاقات والمودّات.
تروي كاتبة صينية تدعى " لي
شيه"، عاشت في أمريكا
وتزوجت من رجل أمريكي، وعاشت كما عاش زوجها صراع الحضارات، تحت سقف منزليّ واحد،
في تفاصيله الصغيرة. لم ترد أن تمرّ التجربة بلا ثمرة يتذوّقها هواة رصد الفروقات
الحضارية. فعمدت إلى تأليف كتاب " تعرّف إلى عادات الشعب الصيني"، لأنها
كانت ترى أن جزءاً من الخلافات التي تقع بين الشعوب وليد الجهل بثقافة الآخر.
فالإنسان يحكم على الأشياء من منطلق عدساته الثقافية وليس من منطلق عدسات غيره،
والعدسات الثقافيّة ليست حياديّة ولا يمكن لها أن تكون موضوعيّة، وهذا يؤدي إلى
سوء تفسير مع ما يعنيه ذلك من توتّر في العلاقات واحتقان بين الحضارات أو استهجان
غير مبرّر لعادات وتقاليد الآخر.
تروي الكاتبة بأسلوب بسيط حادثة وقعت
بين صديقها قبل الزواج ووالدها. فهي دعت صديقها إلى منزلها للتعرّف إلى والدَيها،
وهما يعيشان منذ عقدين في الولايات المتحدة، أي يفترض بهما أن يعرفا عادات
الأمريكيين، غير أن الوالد في ما يخصّ طقوس الزواج واختيار الزوج الصالح لابنته
كان صينيّاً محضاً. فالزواج ليس لعبة في نظره. وعليه لا بدّ من إخضاع طالب الزواج
لجملة من الاختبارات غير المعلنة، كان أحدها دعوة صهر المستقبل إلى سهرة عشاء في
مطعم لمعرفة كيف يتعامل مع الفاتورة. توقّع والدي، تقول لي شيه، أن يقوم صديقي
بالدفع، رغم أن والدي هو صاحب الدعوة إلى العشاء وليس صديقي. ولسوء الحظ لم تنتبه
الكاتبة إلى العادة الصينية، وإلاّ كانت لفتت نظر صديقها الأمريكي إلى العادة
الصينية وأنقذته من ردود فعل الأب. حين وصلت الفاتورة لم يمدّ برايان -وهو اسم
صديقها- يده لدفع الفاتورة وإنّما اكتفى بتوجيه كلمات الشكر إلى الوالد لدعوته
الكريمة. دفع الوالد الفاتورة إلا انه بقي رزينا وبعيداً عن الصهر طوال ما تبقى من
الزيارة.
حين غادر الصهر الموعود أخبرها والدها
بأنّ صديقها رجل غير مناسب على الإطلاق قائلاً: إنّ شخصاً لا يتقدّم لدفع فاتورة
العشاء لن يكفل معيشة محترمة لزوجته، وكاد
الأب أن لا يوافق على اختيار ابنته. حين أخبرت الكاتبة صديقها برأي والدها صعق.
ظنّ أنه كان مهذبّاً جداً لأنّ إقدام الصهر على دفع الفاتورة، في الثقافة الأمريكية،
إهانة لوالد البنت لأنّ تفسير ذلك هو أن والدها لا يستطيع أن يدفع تكاليف أخذ
عائلته للعشاء خارج البيت، وكانت دهشته كبيرة حين علم أنّ الدلالة المضادّة هي
الصحيحة في العادات الصينية.
بعد عدة سنوات خرجت الكاتبة برفقة زوجها
ووالديها إلى المطعم. كان زوجها قد تعلّم درس الفاتورة جيّدا، وأراد هذه المرّة أن
ينتهز الفرصة لإصلاح ما كان قد ارتكبه من سوء تصرّف، بحسب العادة الصينية، مع والد
زوجته. حين وصلت الفاتورة أسرع الزوج إلى أخذ الفاتورة وهمّ بالدفع، ولكن والد
الكاتبة نظر باستنكار إلى سوء تصرّف صهره وقال له إنّه من غير المسموح له أن يدفع،
لأنّه أصبح، بعد الزواج، بمثابة فرد من أفراد العائلة. وبما أن والدي كان أكبر
الذكور في الأسرة، كما تقول المؤلفة، فإنه هو من يدفع. ولو أصرّ الزوج على دفع
الفاتورة بدلاً من الأب فهذا يعني، في الثقافة الصينية، تحدّياً غير مقبول للأب، ومسّاً أو شكّاً بمركزه في العائلة.
الحادثة صغيرة وقد يعتبرها بعض القراء من الأمور
التي لا تستحقّ الذكر، إلاّ أن جبل الخلافات الشاهق والصفيق بين الشعوب ليس أكثر
من تراكم لأحداث طفيفة تشبه ما ترويه الكاتبة الصينية عن تسديد الفاتورة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق