يولد الإنسان ومعه دافع طبيعي إلى التساؤل، وما إن يتفتح وعي الطفل حتى يأخذ بطرح عدد من الأسئلة حول أصل العالم، ووجود الخالق، وصلة البشر بخالقهم، والغاية من الحياة ومصير الإنسان، وطبيعة الآخرة والحياة الثانية. وفي الواقع فإن هذه الأسئلة الطفولية الأولى هي الأسئلة الكبرى للبشرية، وهي التي تصدت حكمة الإنسان وفلسفاته وأديانه للإجابة عليها.
هذا الدافع إلى التساؤل يخفت لدى معظم الناس تحت ضغط الشروط المادية للحياة اليومية، ويلجأون إلى دين آبائهم ومجتمعهم ليجدوا فيه عقيدة ناجزة وأجوبة جاهزة تعفيهم من حيرة السؤال وتضعهم في طمأنينة زائفة هي طمأنينة الإيدلوجيا. ولكن قلة من الناس تبقى أمينة للتساؤل ولأرق الحيرة، وما تبعثه هذه الحيرة من إحساس بالحرية وبحرارة الحياة. وأنا من هذه القلة التي لم تقنع بالجاهز والموروث وراحت تبحث في داخل النفس وفي آفاق الثقافة العالمية عن أجوبة على تلك التساؤلات الأولى، وبقيتْ أمينة لتساؤلاتها حتى بعد أن تبين لها أن العالم ليس جاهزاً بعد لتقديم الجواب.
في سنوات الفتوة الأولى رحت أبحث عن المتسائلين من أمثالي لعلي أجد عندهم عوناً في الطريق الذي سلكوه، وهذا ما قادني إلى دراسة الفلسفة بعد أن رأيت أن هَمَّ المتفلسفين هو بناء منظومة متكاملة من الأفكار بمقدورها الإجابة على كل سؤال. ولكن دراسة الفلسفة تركتني في حيرة لا تقل عن حيرتي قبل دراستها. فلقد ضقت ذرعاً باختلاف الفلسفات وتعارضها، وتبيَّن لي أن تاريخ الفلسفة قد ترك لنا من الفلسفات بقدر ما كان هنالك من فلاسفة، وكل فلسفة تدَّعي لنفسها امتلاك الحقيقة وتهدم ما بنته الفلسفات السابقة، وكل فيلسوف يعمل على تفنيد من سبقوه ليقع هو بعد ذلك ضحية للتفنيد ممن أتوا بعده. وهكذا تلاشى حلمي في فلسفة إنسانية متكاملة تعمل عقول البشر على بنائها، بحيث يُكمل كل جيل من الفلاسفة عمل الجيل السابق، في سعي إنساني حثيث نحو معرفة الحقيقة.
خيبة الأمل هذه دفعتني لدراسة تاريخ الدين، وعلى وجه الخصوص أديان الثقافة الشرق أوسطية التي أنتمي إليها. فالدين والفلسفة صنوان من حيث ادعائهما تقديم الأجوبة على أسئلة الإنسان الأساسية. ولكن ما يميز بينهما هو أن الفلسفة تصدر عن حكمة شخص بعينه، أما الدين فهو حكمة شعب وثقافة بكاملها، تعاونتْ على صياغتها مغامرات فكرية وتجارب روحية لأجيال عديدة من الحكماء.
هذا التوجه نحو الدين جاء في انسجام مع تكويني النفسي والفكري. فأنا من حيث الأساس شخص مؤمن، ولكن إيماني لم يتخذ منذ البداية طابع الإيمان الديني التقليدي، الذي يرى وراء الكون إلهاً مشخصاً مفارقاً يتحكم به عن بُعد، ويفرض على البشر شرائع وقوانين تحكم علاقاتهم وتنظم أخلاقهم، إلهاً يشبه البشر في كل شيء ولكنه أكثر منهم قدرة ومعرفة. بل لقد آمنت بوجود بُعد ما ورائي ميتافيزيكي للعالم، مفارق له ومتصل به كل الاتصال في الوقت نفسه. ومنذ البداية رحت أسأل نفسي: هل أنا وحيد في إيماني هذا؟ ولقد قادني هذا التساؤل في رحلة طويلة استغرقت مني معظم العمر، بحثت خلالها في أديان منطقة الشرق الأوسط منذ بداياتها في فجر الحضارة وابتكار الكتابة مع مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، وفي تطورها وتداخلاتها وصولاً إلى ما ندعوه في ثقافتي بأديان الوحي أو الأديان السماوية وهي اليهودية والمسيحية والإسلام. خلال هذه المرحلة كتبت عدداً من المؤلفات قُرئت على نطاق واسع في العالم العربي، ولكن الأسئلة الأولى بقيت بلا جواب، وبقيت وحيداً في يقينياتي المتعلقة بعالم الألوهة وصلته مع عالم الإنسان. في أثناء ذلك أعطيت جزءاً من وقتي لدراسة النظرية النسبية، والفيزياء الكونية، والنظرية الكوانتية، لأجد أن حيرة العلماء أمام الأسئلة الكبرى لا تقل عن حيرتي وحيرة كل متسائل آخر. وقد عبر أحد أقطاب الفيزياء الحديثة عن هذه الحيرة بقوله: إننا كلما طرحنا على الطبيعة سؤالاً أجابتنا بسؤال آخر.
خلال دراستي للفيزياء قرأت كتاباً للفيزيائي الأمريكي فريتجوف كابرا عنوانه "تاو الفيزياء"، يقارن فيه المؤلف بين معطيات الفيزياء الكونية والكوانتية وأفكار حكماء ثقافة الشرق الأقصى. وقد قادتني قراءة هذا الكتاب في رحلة جديدة نحو الشرق، فدرست الهندوسية والبوذية، وأوصلتني دراسة البوذية الصينية إلى بوذية تشان التي نتجت عن لقاء الفكر التاوي بالفكر البوذي، وبوذية تشان قدمتني إلى كتاب "تاو ته تشينغ" الذي غيَّر حياتي مرة واحدة وإلى الأبد، وكان بمثابة المحطة التي انتهت عندها مغامرتي الفكرية والروحية.
أما لماذا كان لكتاب التاو هذا الأثر في نفسي، فسؤال أجيب عليه من خلال المقارنة التالية بين أفكار المعلم لاو تسي التي جاءت في اتفاق تام مع إيماني الخاص، وبين الفكر الديني الشرق أوسطي.
1- في طبيعة المبدأ الكلي
المبدأ الكلي في الفكر الديني هو كائن عُلوي يتمتع بشخصية كما لأفراد البشر، وله اسم يعرف به، مستقل عن العالم ويفعل فيه فعلاً إرادياً ذا هدف وغاية. أما المبدأ الكلي عند لاو- تسو فقدرة غير مشخصة لا اسم لها ولا شخصية ولا إرادة فاعلة. وهو إذ يدعوها التاو، أي الطريق، فإنه لا يسميها وإنما يصرف ذهن السامع عن الاسم إلى الطريقة التي يفعل بها هذا المبدأ في الكون. ولذلك يقول في الفصل الأول: التاو الذي يمكن التحدث عنه، ليس التاو السرمدي. والاسم الذي يمكن إطلاقه، ليس الاسم السرمدي. اللا مسمى هو بداية السماء والأرض.
ويقول أيضاً: لا أعرف اسمه فأدعوه التاو، لا أستطيع وصفة فأقول العظيم. عظمته امتداد في المكان. الامتداد في المكان يعني امتداداً بلا نهاية، والامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المبتدى.
2- في معرفة المبدأ الأول
يعلن الله عن نفسه في الفكر الديني من خلال اتصاله بمختارين من البشر هم الأنبياء الذين يُعرّفون الناس به ويوصلون لهم مشيئته من خلال كتب تحتوي كلام الله نفسه أو كلام مدون بإلهامه. فالحكمة التي تعين البشر على معرفة المبدأ الكلي هي، والحالة هذه، حكمة إلهية هبطت من السماء. أما حكمة لاو- تسو فحكمة استنبطها الإنسان، ومعرفة المبدأ الأول لا تأتي من قراءة الكتب المقدسة، وإنما تأتي عن طريق تجربة داخلية تجعلنا في تواصل مع هذا المبدأ دون كلمات. ولذلك يقول المعلم لاو- تسي في الفصل الخامس: الكلام الكثير يقود أخيراً إلى الصمت. ثَبِّت قلبك على جوهر الفراغ.ويقول في الفصل الثالث والعشرين: في قلة الكلام تناغم مع الطبيعة، فاالطبيعة لا تُعبر عن نفسها بالكلمات. ويقول في الفصل السادس والخمسين: الذي يعرف لا يتكلم، والذي يتكلم لا يعرف. ويقول في الفصل السادس عشر: أتأمل الفراغ المطلق. البث في سكون.الآلاف المؤلفة تنشأ في تواقت معاً، وأنا أرقب دورانها المستمر.
في حالة التواصل الداخلي هذه، لا يطمح الحكيم إلى معرفة التاو بالوسائل العقلية وإنما بالوسائل الحدسية، بالاستسلام له والتلاؤم مع فعله التلقائي في الكون. يقول المعلم في الفصل الثامن والأربعين: في طلب العلم تعرف في كل يوم أكثر.في طلب التاو تبذل في كل يوم أقل. تبذل أقل فأقل حتى تصل إلى حالة اللا فعل. ويقول في الفصل السابع والأربعين: من غير أن تسافر بعيداً، تستطيع أن تعرف العالم. من غير أن تنظر من النافذة، تستطيع أن ترى طريق السماء. كلما ابتعدْتَ أكثر كلما قَلَّتْ معرفتك.
3- في الخلق والتكوين
في الفكر الديني يظهر العالم إلى الوجود من خلال فعل إرادي للإله الخالق، وخطة محكمة مسبقة ذات مقاصد محددة في عقله المستقل المفارق لعالم المادة والفاعل فيها.
أما عند لاو- تسي فإن وجود العالم هو فيض دائم من التاو يشبه فيض النور عن الشمس، وهذا الفيض ليس فعلاً إرادياً بقدر ما هو فعل تلقائي. والفعل التلقائي المختلف عن الفعل القصدي هو نوع من اللا فعل، إنه أشبه بتفتُّح زهرة تدفعها فعالية خلاقة من داخلها لا من خارجها. من خلال هذه الفعالية التلقائية يتحوَّل التاو إلى ما لا يحصى من المظاهر الحية والجامدة عن طريق تناوب قوتين رئيسيتين تتخللان العالم هما قوة يانع (الموجبة) وقوة ين (السالبة). يقول المعلم في الفصل السابع والثلاثين: التاو ليس من شيمته الفعل، ومع ذلك لا يترك شيئاً بحاجة إلى إتمام.ويقول في الفصل الأربعين: بتكامل الأضداد يتحرك التاو. باللين ينجز عمله. الآلاف المؤلفة في العالم نجمت عن وجود، والوجود نجم عن عدم. ويقول في الفصل الثاني والأربعين: التاو أنجب الواحد، الواحد أنجب الاثنين، الاثنين أنجبا الآلاف المؤلفة. الآلاف المؤلفة تحمل "ين" على كتفها، وتعانق يانغ" بالذراعين. الآلاف المؤلفة ناتج تناغم هاتين القوتين. ويقول في الفصل الرابع: التاو فارغ، ولكن النضح منه لا يُنضبه. لا يُسبر غوره، منشأ الآلاف المؤلفة.
إن فراغ التاو هنا قريب من مفهوم الصفر الرياضي. فالصفر هو عدم، ومع ذلك فبدون الصفر لا ينشأ الواحد وبدون الواحد لا تنشأ بقية الأعداد. وما دام التاو ليس خالقاً للعالم فإنه لا يلعب تجاهه دور السيد المتحكم فيه المُسيِّر له وفق إرادته، بقدر ما يلعب دور القوانين الطبيعية في المفاهيم العلمية الحديثة. فالأشياء في المفهوم التاوي تنشأ تلقائياً وبشكل متزامن في معزل عن مبدأ السببية، فلا حاكم ولا محكوم والكل يحدث من تلقاء ذاته وفي ارتباط وثيق مع حدوث الآخر. عن هذا النشوء التلقائي المتزامن يقول تشوانغ تزو (تشوتغ تسي) تلميذ المعلم: "قد يبدو أن للعالم سيداً، ولكن لا توجد مؤشرات تدل على وجوده. لننظر إلى الجسد الإنساني بعظامه المئة وفتحاته التسعة وأجهزته الداخلية الستة، جميعها متكاملة وقائمة في أماكنها الصحيحة. هل أستطيع وضع أسبقية لواحد منها على الآخر؟ هل أضعها كلها على قدم المساواة؟ هل كلها خدم لا تستطيع ضبط بعضها بعضاً؟ هل تتبادل دور السيد والخادم على التوالي؟ ألا ترى أن هنالك شيئاً جوهرياً موجوداً في صميم تكاملها؟ "
4- العلاقة بين المبدأ الكلي والبشر
العلاقة بين البشر والله في الفكر الديني هي علاقة طقسية شعائرية. فلقد خلق الله البشر وسخر لهم الطبيعة وحيوانات الأرض من أجل معاشهم، وعليهم بالمقابل شكره الدائم على نِعَمه وتقديم فروض الطاعة والعبادة له، فهو السيد وهم عبيده. أما عند لاو- تسو فإن نِعم المبدأ الكلي تفيض من خلال تلقائية كونية لا سيد فيها ولا مسود، والكل يعيش حالة وجود تَشَارُكي لا فضل فيه لأحد عناصره على الآخر. يقول المعلم في الفصل الثاني: الآلاف المؤلفة تظهر وتختفي بلا توقف. ما يعطيها الحياة لا يدعي امتلاكا؛ يُكمّل عمله ولا يدعي فضلاً. العمل يُنجز ثم يُنسى، لذا فإن أثره لا يفنى. وفي الفصل العشر يقول: إنه يعطي الحياة ويغذي. يعطي الحياة ولا يدعي امتلاكاً. يغذي ولا يقتضي عرفاناً. يُدَبّر ولا يبسط سلطاناً.
5- في الأخلاق
في الفكر الديني، تهبط الشرائع الأخلاقية من السماء، والله هو الذي يبين للبشر طريق الخير وطريق الشر. وينجم عن ذلك أن الإنسان لا يتمتع بوازع خلقي أصلي، ولا يسلك في طريق الخير إلا امتثالاً للأمر الإلهي. أما عند لاو- تسي فإن الفضيلة كامنة في صلب النظام الطبيعي للكون، وما على الإنسان إلا أن يضع نفسه في حالة تناغم تام مع هذا النظام لكي يتلمس الفضيلة في داخله دونما حاجة إلى تلقين، أو إلى اتباع لوائح أخلاقية مفروضة عليه من قوة عُلوية. وبهذه الطريقة فإن عمل الخير يأتي دون قصد وتصميم على إتيانه، وهو شكل من أشكال التلقائية أو "اللا فعل" بمصطلح لاو- تسو . يقول المعلم في الفصل الثامن والثلاثين: رجل الفضيلة الكاملة لا يشعر بفضيلته، ولذا فإنه رجل فاضل. البعيد عن الفضيلة مشغول بها على الدوام، لذا فإنه رجل غير فاضل. رجل الفضيلة لا يفعل، ومع ذلك لا يترك شيئاً بحاجة إلى إتمام.
ويقول في الفصل الحادي والثمانين: إذا اتبعْتَ طريق السماء، تبذل الحسنة لا السيئة. إذا اتبعْتَ طريق السماء، تبذل العمل ولا تقتضي عرفاناً.
وينقل لنا تشوانغ تسي حوارا بين لاو- تسي وكونفوشيوس حول مفهوم الإحسان وواجب الفرد تجاه الآخرين، أقتطف منها فيما يلي خاتمة جواب لاو- تسو على كونفوشيوس: "لننظر إلى الكون وصيرورته التي لا تنقطع ولا تتوقف، إلى الشمس والقمر وضيائهما المُرسل أبداً، إلى النجوم في تجمعاتها، إلى الطير والوحش تحتشد أفواجاً أفواجاً، إلى الشجر والقصب ينمو دوماً نحو الأعلى. كن كهؤلاء، اتبع التاو فتغدو كاملاً. لماذا كل هذا العناء العقيم في البحث عن الإحسان والواجب؟ إنه يشبه قرع الطبل بحثاً عن الآبق الفار. وا آسفاه يا سيدي، لقد جلبْتَ الكثير من التشوش إلى عقول الآخرين.
6- في الثواب والعقاب
في الفكر الديني يتصل مفهوم الخير والشر، والخيار بينهما، بمفهوم الثواب والعقاب، فالله يعاقب فاعل الإثم ويثيب فاعل الخير. وبذلك تتحول الأخلاق إلى موضوع مقايضة تجارية بين الله وخلقه. أما عند لاو- تسو فإن ثواب الخير يكمن في فعل الخير نفسه لا في مكافأة تترتب عليه، لأن هذا الفعل يجعل صاحبه في انسجام مع التلقائية الكونية الخيَّرة. إن التاوي يقوم بواجبه دون النظر إلى مردود، وهذا ما يأخذ بيده إلى النجاح دون أن يطلبه. يقول المعلم في الفصل الثالث والسبعين: عندما تتَّبع طريق السماء، فإنك تربح دون نضال، وتحصل على ما تريد دون سؤال، وتحقق النجاح من غير أن تتطلبه. ويقول في الفصل التاسع والسبعين: طريق السماء حيادي، ولكنه يبقى إلى جانب الشخص الطيب. والمعلم لا يقصد هنا إلى القول بأن التاو يقف بشكل قصدي إلى جانب الإنسان الطيب، بل إلى أن الشخص الطيب الذي يتماثل مع التلقائية الكونية يجدها دوماً إلى جانبه.
7- في الآخرة والحياة الثانية
يتخذ مفهوم الآخرة والحياة الثانية مركز البؤرة من الفكر الديني، فالموت ليس إلا معبراً لحياة ثانية يقضيها المرء إما في نعيم دائم أو في عذاب مُقيم. أما لاو- تسو، وعلى غرار الفكر الصيني العملي، فإنه لم يعط اهتماماً للمسائل الميتافيزيكية، وفي تركيزه على سبل الحياة الصحيحة في هذا العالم، لم يرسم صورة للعالم الآخر ولم يتحدث لا عن فناء الروح ولا عن خلودها. وما على الإنسان سوى أن يحيا حياة طبيعية خلال الفترة المُقدَّرة له في هذه الدنيا دون خوف من الموت أو تعلُّق بالحياة، ويترك ما عدا ذلك للتلقائية الكونية لكي تتكفل به. يقول في الفصل الخمسين: بين الموت والحياة، ثلاثة من عشرة يعيشون عمراً مديداً، وثلاثة من عشرة يعيشون عمر قصيراً، وثلاثة من عشرة يتعلقون بالحياة ولكنهم يفقدونها. لماذا؟ لأنهم يسعون إليها سعياً حثيثاً.
وفي تفسير موقف معلمه من مسألة الحياة والموت وعالم الآخرة يقول تشوانغ تسي: "الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا حب الحياة ولا كره الموت. الولوج إلى الحياة لم يكن بهجة لهم، والخروج منها لم يكن يثير فيهم جزعاً ومقاومة. بهدوء كانوا يأتون وبلا ضجيج كان يمضون. لا ينسون ما كانت عليه بداياتهم، ولا يتساءلون عما ستؤول إليه نهاياتهم. لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها، ثم نسوا وآلوا إلى حالة ما قبل الحياة. وبهذا لم يكن لديهم رغبة أو نية لمقاومة التاو، ولم يبذلوا جهداً لمعارضة طريق السماء."
هذه المفاهيم الرئيسية التي تقوم عليها الديانات الشرق أوسطية تنتظم في إيديولوجيات ثابتة تؤطِّر الحقيقة وتقدمها جاهزة للإنسان الذي يتوجب عليه الإيمان بها والاعتقاد بصحتها المطلقة والعمل بمقتضاها، وكل إيديولوجيا تدعي أنها وضعت يدها على المعارف العليا وأجابت على كل الأسئلة المتعلقة بها. أما في تاوية لاو- تسو فإن الحقائق الكلية لا يمكن مقاربتها بالمناهج العقلية، ولذلك ما من أسئلة يمكن أن تُطرح بخصوصها وما من أجوبة. فالتاوي لا يهدف إلى إقامة علاقة معرفية مع العالم بل إلى علاقة اختبارية مباشرة بعيداً عن المفاهيم العقلية. وهذا ما يقصد إليه لاو- تسو عندما يتحدث عن "التعليم بدون كلمات". وبهذا الخصوص يقول تشوانغ تسي، تلميذ المعلم وشارحه: "من يتصدى للإجابة على سؤال حول التاو لا يعرف التاو، لأنه ما من تساؤل ممكن حول التاو وما من أجوبة. التاو يُعرف بدون مفاهيم وبدون تفكُّر عقلي. يمكن مقاربته بالمكوث في الفراغ، باتباع لا شيء، بطلب لا شيء. الحكيم يُعلِّم مبدءاً لا يجد تعبيراً عنه بالكلمات."
لم يجب لاو- تسو على أي من أسئلتي التي تابعتها طيلة رحلتي المعرفية، ولكنه وهبني الغبطة وطمأنينة العقل والروح. لست الآن خائفاً من شيء ولا راغباً في شيء. وعلى حد قول المعلم، فإن صاحب هذا الطريق لا يرغب في الامتلاء. ولأنه يبقى غير ملآن، يبلى ليتجدد على الدوام.
ولقد أردت أن أنقل هذه الطمأنينة إلى أوسع شريحة من الناس، فقدمت كتاب التاو إلى قراء العربية. وجاءني رد الفعل منهم سريعاً بعد نشر الكتاب عندما كنت أسمع منهم قولهم: "بعد قراءة التاو لن تكون الشخص نفسه" أو: "لن تكون الحياة بعد التاو مثلما كانت قبله."
في هذه الإطلالة السريعة على كتاب التاو، سلطتُ الضوء على جوانب محددة من أفكار لاو- تسو . وإني لعلى اعتقاد جازم بأن الحضارة الحديثة اليوم في مواجهة مشاكلها سوف تتعلم الكثير من مُجمل أفكار ذلك الحكيم، على الرغم من أنه قد بثَّ شكواه في الفصل السبعين قائلاً: "كلماتي سهلة الفهم والتطبيق، ومع ذلك فلا أحد يفهمها أو يعمل بها. كلماتي تأتي من نبع الكلمات، والأفعال تتطلب من يقوم بها. ولأن الناس لا يعرفون هذا، فإنهم لا يفهمونني. كلما قلّت معرفة الناس بي زادت قيمتي.من هنا فإن الحكيم يلبس الثوب الخشن ويخفي تحته حجراً كريماً.
*فراس السواح، باحث في تاريخ الأديان من سورية. ترمز المقالة أراء الباحث فقط، ولا ترمز إلى موقف المجلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق