(1)
«ألتزم بالحجاب، وأنوي التنقب حتى أكون أكثر التزاماً بتعاليم الإسلام».
هكذا تجهر- أو تُسر - فتيات وسيدات على اختلاف انتماءاتهن الطبقية، ودرجة ثقافاتهن أو حظهن من التعليم.
«الحمد لله الذي هداني إلى ارتداء الزي الإسلامي، ليكتمل إيماني».
هكذا - أيضاً - يجهر شباب ورجال، بل وصبية، ارتدوا ما يتصورونه زياً إسلامياً، بينما هو في الحقيقة وافد من أوطان بعيدة، يعكس طبيعة البيئة فيها، ويترجم بعض المظاهر الشكلية لثقافتها، وإن ارتبط بالتعبير التنظيمي لجماعة تعلن أنه ليس انتماؤها للإسلام، وإنما تُصر على أنها الترجمة الأصلية والوكيل الحصري لصحيح الدين، وعلى الجميع الاقتداء بهم، واعتناق المفهوم الذي يتبنونه، والتفسيرات التي تقدمها كتبهم للشريعة.
لم تحاول، أو يحاول، أحدهم أن يتوقف لحظة متسائلاً: هل هناك - من الأساس - ما يمكن أن يوصف أو يطلق عليه مسمى: زي إسلامي؟
وبالنسبة للرجال والشباب لم يشغل واحد منهم نفسه بسؤال من قبيل: ماذا كان يرتدي النبي (ص) بعد بعثته؟ وهل اختلف مع ما كان يرتديه قبل نزول الوحي عليه؟
لم يحاول أحدهم أن يجهد عقله، ويتوغل أبعد من ذلك، وليضيف مزيداً من التساؤلات: ماذا كان يرتدي رسول الله (ص) لو كان موطنه مكاناً آخر غير الجزيرة العربية بمناخها الصحراوي القاسي؟ كيف كان حال ملبسه لو كان من أهل منطقة قارسة البرد طوال العام؟ ما علاقة الزي الأفغاني، أو ما يرتديه أبناء قبائل البشتون بفجر الدعوة أو بما يسمى الصحوة الإسلامية وما بين الزمنين من عهود وعصور؟
يقيناً، لم يشغل أحدهم باله، ناهيك عن أن يجهد ذهنه بأمور يراها محسومة لأن أميره، أو أحد من يصفهم الإعلام بالدعاة نصحه أو أمره بارتداء ما يراه زياً إسلامياً!
(2)
«إن مراعاة زي الزمان من المرءوة، ما لم يكن إثماً ومخالفة الزي درباً من الشهرة» هذا ما ذهب إليه الإمام الطبري، متفقاً في ذلك مع الكثير من الأنثربولوجيين في تعريفهم للفعل الثقافي بمعانيه العامة والواسعة، التي يدخل الملبس في إطارها، وباعتبار الثقافة نتاجاً عاماً لكل أفراد المجتمع، ثم اعتبار كل ما ينتجه البشر في الحياة ثقافة - وفقاً لجرامشي - فسواء أكان ذلك إنتاجاً مادياً أم غير مادي، أو كان تراكم خبرات، أم ممارسات فكرية، وصولاً إلى صناعة الأدوات، وحتى التقاليد والأعراف، وباختصار فإن هذا المعنى تضمن كل ما يبتدعه الإنسان ليكسب إنسانيته معناها الخاص، وينظم بها حياته الاجتماعية والفكرية والروحية والجمالية.
من ثم، فإن الأزياء في أي مجتمع نتاج العوامل المؤثرة والمتفاعلة في بناء علاقة الإنسان/المواطن ببيئته وزمانه وملامح عصره، وفي هذا السياق جاء سلوك النبي (ص) متماشياً مع تلك الفطرة السليمة، فحاكى في مظهره الأعراف السائدة، ولم تشر كتب السيرة إلى ثمة اختلاف فيما كان يرتديه أو يتزي به قبل البعثة عن بعدها، بل كانت الإشارة ذات الدلالة تتمثل في أنه كان يفرق شعره على عادة أهل مكة حين كان فيها، واستمر على ذلك بعد نزول الوحي، وعندما هاجر للمدينة أسدل شعره مثلما كان عليه حال أهل المدينة.
كتب السنة أشارت - أيضاً - إلى أن النبي (ص) ارتدى العمامة في الصلاة، وخارجها، وثبت كذلك أنه صلى عاري الرأس لبيان أن في الأمر نوعاً من المرونة والسعة، حتى لا يحرج التابعين في حياته وبعد انتقاله للرفيق الأعلى، إذ إنه لو التزم بالعمامة على الدوام، لكان على المسلمين الالتزام بذلك، وربما ظنوا أن من لا يلتزم باعتمارها خارج على السنة، وعمامة النبي (ص) كانت أقرب ما تكون إلى قطعة من القماش يلفها على رأسه ثم يجمع أطرافها ولم تكن على النحو المهندم السائد الآن.
وفيما عدا ذلك، فإن كتب السنة لم تشر إلى ثمة تحول لعادات النبي (ص) في الملبس، لأنه يرتبط بطبيعة بيئته وزمانه، ولم يطرأ تغيراً عليهما بظهور الإسلام، ولعل قوله (ص): «أنتم أعلم بأمر دنياكم» ينطبق في إحدى تجلياته على اللباس والمظهر، ما لم يكن هناك نص قطعي بالنهي عنه.
(3)
القياس وارد، وصحيح، فيما يتعلق بالاجابة عن سؤال: هل هناك زي إسلامي للمرأة؟
ليس للمرأة المسلمة زي مخصوص، وإنما ثمة ضوابط عامة تتفق مع المحددات الشرعية، مثل ألا تحدد العورات، أو تكشف عنها، أو تتشبه فيها بالرجال، أو أن يكون فيه ما يدعو للريبة، أو يعكس إسرافاً ومغالاة و... و...
ثم هناك التوجيه النبوي للمرأة بأنها إذا بلغت المحيض لا يصح لها أن تكشف إلا الوجه والكفين.
من ثم فإنه يمكن الذهاب إلى أن الزي الشرعي للمرأة المسلمة - بعد الالتزام بتلك المحددات - يتمثل في السائد في مجتمعها وعصرها، من ثم يذهب العديد من علماء الدين للافتاء بأن النقاب ليس فريضة، بل منهم من لا يرى أن الحجاب - أيضاً - فريضة.
لا يعني ذلك التوصية بعدم ارتدائه أو خلعه، وإنما التعامل مع الحجاب على أنه سنة، والنقاب فضيلة، دون إجبار أو تأثيم لمن لا تلتزم بهما.
وفي زمان بعثة النبي كانت بعض النساء يتنقبن، وبعضهن لا يلتزمن بالنقاب، ولم يقل (ص) في ذلك شيئاً، بل منع النقاب في الصلاة والحج، فإحرام المرأة في وجهها وكفيها، ومن ثم لا قول بفريضة النقاب.
والمتأمل في الآيات السبع التي وردت في القرآن الكريم يجد أن كلمة الحجاب لم تشر قط إلى غطاء الرأس، وبخلاف الحض على العفة والاحتشام، فإنه لا إشارة في القرآن الكريم إلى زي معين باعتباره شعيرة من شعائر الإسلام، من ثم فإنه من مسائل العادات والتقاليد السائدة، وليس من العبادات أو الفروض الملزمة.
(4)
إجمالاً: هل هناك زي إسلامي للمرأة أو الرجل؟
من العرض السابق يتضح أن إلحاح البعض على وصف زي معين بـ «الإسلامي»، ونفي الصفة عن أزياء أخرى، يحمل نوعاً من تجاوز الثوابت، ويضفي قداسة زائفة على ما لا يمت للمقدس بصلة حقيقية.
ومرة أخرى، فإن تأمل الحديث الشريف: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» يعني أن على المرء أن يواكب ويتعايش مع المستجدات والتطورات من جانب، وعلى الجانب الآخر فإن الإنسان ابن بيئته، من هنا فإن أمن الإنسان وصيانة جسده تقدمت في حكمة مشروعية الملبس على ما عداها، فكان لبس ما يقي الإنسان من الضرر في الحر والبرد مقدماً عند الفقهاء في أحكام اللباس، ثم جاء بعدها ستر العورة، وعدم تشبه النساء بالرجال أو العكس، ثم خصوصية المسألة بالنسبة لكل من المرأة والرجل.
(5)
في نهاية ستينيات القرن الماضي، ثم في العقود التالية، وحتى انتهى القرن العشرون، وصولاً للحظة الراهنة من العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين، أي ما يقترب من نحو نصف القرن، زحفت ظاهرة الزي الإسلامي، بدأت خافتة متسللة على استحياء، ثم ما لبثت أن اتخذت شكل الهجمات القوية المتتالية، متسربلة مرة بما سُمي «الصحوة الإسلامية»، وتارة أخرى تتجلى كإحدى صور التعبير الحركي لانتشار «الجماعة الإسلامية» التي تخلت - في الغالب - عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى العنف في فرض رؤيتها.
مع انكسار المشروع القومي، عقب هزيمة يونيو 1967، وقع تطوران، كأنهما منفصلان في البداية، لكن ما لبثت التطورات اللاحقة أن جعلت منهما «ضفيرة واحدة».
نظر البعض إلى الهزيمة باعتبارها عقاباً ربانياً، لأن المسلمين انصرفوا عن دينهم، فظهر الحجاب في موجته الأولى، ومع الطفرة النفطية التي أعقبت نصر أكتوبر 1973، بدأت الهجرة الثانية إلى الخليج، ومع امتداد فترات العمل، واستقدام الأسر المصرية للإقامة مع الزوج، عادت النساء وقد تحجبن أو تنقبن، ومن لم تلحق بزوجها عاد هو ليفرض تلك الأزياء على زوجته المصرية.
بالتوازي مع ذلك، شهدت مصر إرهاصات مولد الجماعات الإسلامية التي ساهمت في وقوع أحداث تعبر عن حالة من الاحتقان الطائفي، ودعوة البعض التي لاقت استجابة متدرجة لارتداء الحجاب، باعتباره تمييزاً للمرأة المسلمة، ولم يكن ذلك إلا البداية!
وخلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات سافر العديد من الشباب المصريين، ومن جنسيات عربية وإسلامية أخرى، للحاق بقطار الجهاد تحت راية بن لادن مؤسس القاعدة، وهناك تماهى هؤلاء في البيئة الأفغانية، وتزيوا بالزي السائد بين البشتون وحينما عادوا لمصر، وغيرها من الأقطار، «حمل العائدون من أفغانستان» تجربتهم تحت راية الجهاد، من استخدام السلاح، وحتى المظهر، وبينهما حمولة من المعتقدات التي قرروا فرضها بالقوة على مجتمعاتهم الأصلية!
(6)
كان للفجوة الزمنية الواسعة التي فصلت بين الجهاديين المصريين، وغيرهم، بصمات حاسمة انطبعت فوق تضاريس مجتمعاتهم حين عادوا.
في مصر، كما في غيرها من الأقطار العربية، تجمعت العديد من العوامل التي حولت الزي إلى سلاح سياسي، وتعبير حركي، في معركة عنوانها العريض: تحويل الصحوة الإسلامية إلى مشروعات لبناء تجارب، مصر وتونس جاءت في الطليعة وربما تكون سورية على الطريق، وقبلهما كانت تجربة البشير في السودان، التي شهدت جلد صحافية وحبسها لمجرد أنها ترتدي بنطالاً فضفاضاً ولا تلتزم بالزي الإسلامي!
ومع إصرار الغلاة المحسوبين على تيار الإسلام السياسي على فرض فهم قاصر لتطبيق الشريعة، يبرز النقاب والزي الأفغاني للرجال باعتبارهما ضمن الفرائض المطلوب الالتزام بها وإلا..!
بل إن هناك من طرح ما هو أكثر من ذلك، ولم ينظر للدين باعتبار مداره الرئيسي ليس ضمن أدوات الدولة، وإنما يعود للإقناع الشخصي، ومن ثم نادى هؤلاء بفرض الحجاب على غير المسلمات بالقوة!
وتحت راية جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يتزي أعضاؤها بملابس الأفغان باعتبارها زياً إسلامياً، وقعت العديد من التجاوزات ليس فقط مع السافرات أو المتبرجات مسلمات ومسيحيات، ولكن أيضاً مع من لم تحسن حجابها أو من لم تلتزم بالنقاب، عبر تبني منهج تغيير ما يتصورونه منكراً باليد، وبعيداً عن سلطة الدولة!
(7)
ثمة مفارقة لافتة، خلال نحو نصف عقد لم يسأل الذين تصدوا لطرح سؤال الزي الإسلامي للتفكير، فيما كان عليه الحال قبل ذلك، وإذا ما كانت تلك القرون نوعاً من الخروج عن النص الديني بشروطه ومحدداته، وصولاً للجاهلية في نسختها المعاصرة!
ثم إن من رفعوا لافتة «الزي الإسلامي» للرجال أو النساء - على السواء - لم يفكروا للحظة في أن ما يدعون إليه بدعة مستوردة من مجتمعات أخرى، رغم أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فالنقاب عرفته المرأة اليهودية، والمسيحية، والشادور ايراني وأفغاني وباكستاني! بل إن تاريخه يعود إلى نصوص قانونية آشورية ظهرت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد!
وعندما نظر البعض إلى الزي الأزهري باعتباره زي رجل الدين، تناسوا أنه وصل مصر مع الفتح أو الاحتلال التركي، تماماً كما دخل كل الأمصار التي دخلها الأتراك.
من ثم، فإن المسألة يمكن تثمينها في أخطر جوانبها بأنها مظهر لحروب الهيمنة، سواء من قوى استعمرت أقطار المنطقة في فترات سابقة أو قيادات محلية ذات امتدادات فكرية وتنظيمية خارجية عابرة للقومية، هدفها بسط السيطرة والسلطة، وتستخدم الدين باعتباره مجرد آلية لتحقيق غايتها.
(8)
الزي في المحصلة الأخيرة، رغم التسليم بوجود تراثات دينية ضاربة بجذورها، يبقى مسألة مجتمعية ترتبط بالثقافة السائدة، ودرجة الاحتكاك بثقافات أخرى، فضلاً عن الارتباط بالبيئة لاسيما المناخ السائد، ولا يمكن أن تطلب من المسلم الذي يعيش في سيبيريا أو آلاسكا ما يرتديه المسلم في بيئة حارة أو شديدة الحرارة، وإلا فإنه يكون خارجاً عن الملة!
وأخيراً تبقى مفارقة مثيرة، فبينما تشهد العاصمة الأفغانية كابل اختفاء البرقع، الأشبه بالنقاب، ليحل مكانه الحجاب على رؤوس الأفغانيات سافرات الوجوه، وبينما تختفي العمامة السوداء التي فرضتها حركة طالبان على الرجال هناك، يحل مكانها «الباكول» قريب الشبه بالطاقية أو البيريه، ليعود الأفغان كما كانوا قبل سيطرة طالبان، فإن في مصر، وغيرها من الأقطار العربية، من ما يزال على إصراره بفرض الزي الوحيد الذي يرى أنه جدير بوصف «الزي الإسلامي»!
أفغانستان أصبحت أكثر انفتاحاً على العالم، وتحلل معظم مواطنيها في المدن من البرقع والعمامة السوداء، في الوقت الذي يرى فيه الأفغان العرب العائدون لأوطانهم الأصلية، بعد أن ذاب كثير منهم في الأحزاب ذات الصبغة الدينية الصريحة، أنه لا بديل عن سن تشريعات تحدد طبيعة الأزياء التي تصبح ملزمة للجميع، حتى غير المسلمين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق