Pages

السبت، 18 يوليو 2015

سر النملة البيضاء


لا تغيب عن بالي حلقة من برنامج ثقافيّ فرنسيّ كان يعدّه ويقدّمه القارىء النهم برنار بيفو Bernard Pivot بعنوان أبوستروف /  Apostrophes . كانت الحلقة عبارة عن لقاء بأحد علماء الحيوان، وكان هذا العالم قد بلغ من العمر عتيّاً، وهو متخصّص في شؤون النمل. سلّطت الكاميرا عدستها على مجموعة الكتب الموضوعة على طاولة الحوار وهي التي ألّفها هذا العالم الجليل عن عالم النمل، وهي كتب ضخمة ومزدانة بالصور الملوّنة لأنواع النمل وأشكاله. كان السؤال الأوّل الذي طرحه برنار بيفو على العالم هو التالي: وماذا بعد النمل؟ كان جواب العالم غريباً وصادماً لعيني بيفو المدهوشتين: ليس بعد النمل بعد، فأنا لا أزال في مقدّمة دراستي عن النمل. لكأنّ جواب ذلك العالم كان مسحوباً من بين شفتي سليمان الحكيم! فلا تزال النمْلة تختزن الكثير من الحكمة. ولا أحد يجهل على ما أظنّ حكايات النمل البديعة مع سليمان الحكيم، أو مع الاسكندر المقدونيّ في لحظة انكساره.

هذا المدخل القصير عن النمل كان وليد خبر حيويّ نشرته مجلة  " كريستيان ساينس مونيتر    Christian Science Monitor  ومفاده إنّ النمل الأبيض قد يكون حلاّ ناجعاً للمجاعة التي تضرب في أرجاء القارّة السمراء، كما انه بإمكان هذا النمل الأبيض أن يقف سدّاً منيعاً أمام هجمة التصحّر التي لا ترحم أمعاء الفقراء الطاوية. ففي العالم اليوم حوالي مليار جائع، أي من كلّ ستّة اشخاص هناك بطن يتضوّر جوعاً، وهو حجم ضخم يظهر الجور الذي يمارسه الكبار بحقّ الصغار أو الضعاف في العالم. لا بدّ من تحسين الانتاج الزراعيّ، والانتاج الزراعيّ يحتاج الى تربة خصبة، والتربة الخصبة يلتهمها التصحّر الشره. فهل من دور للنمل في تحسين خصوبة الأرض ومعالجة التربة العاقر؟ الجوع أبو الاختراع على ما يبدو، أو أبو الاكتشاف. لا بدّ للعين الولوع بالملاحظة من أن تكتشف، وهذا ما حصل، فلقد ابتكر الأفارقة لأنفسهم وسائل جديدة لتحسين محاصيلهم الزراعيّة، أثبتت الدراسات أنّها طريقة فعّالة لمحصول وفير.

تواجه بلدان الصحراء الافريقيّة أزمة كبيرة في خصوبة التربة تساهم في نقص الموادّ الغذائية نتيجة لانخفاض إنتاج المحاصيل الزراعية. ويؤكّد المزارعون المحلّيون أنّهم لم يعد بإمكانهم الحفاظ على خصوبة التربة وأنّ إنتاج المحاصيل بدأ بالانخفاض بنسبة تتراوح بين 15 و25 في المئة سنوياً. ويتوقّع معظم المزارعين انه خلال السنوات الخمس المقبلة ستنخفض كمية محاصيلهم إلى النصف بالرغم من أنّ بعض القرى تعتمد على الإعانة الغذائية من المنظمات الدولية لتقيم أودها الهشّ.

وللتغلّب على هذه الأزمة الضارية، ابتكر هؤلاء المزارعون طرقاً جديدة في السنوات الأخيرة تعتمد على استخدام النمل العاديّ والنمل الأبيض لتحسين انتاج المحاصيل بشكل كبير. وأظهر بحث قام به مجموعة من العلماء في جامعة سيدني الاسترالية أنّ الارض التي تمت معالجتها بالنمل أظهرت تحسناً بنسبة 36% من كمية القمح المنتج. فالنمل الابيض في البلدان الجافة يقوم بحفر انفاق تسمح للنبات بالحصول على كمّيات وفيرة من المياه كما أنّه يزوّد النبات بمغذيات إضافيّة من خلال زيادة كمّية النيتروجين الموجود في الأرض. فمعدة النمل الأبيض تحتوي على بكتيريا غنيّة بالنيتروجين وهذه البكتيريا عالية الدسم تنتقل إلى التربة بواسطة لعابهم وبرازهم فتعيد إلى الأرض الصحّة والعافية والقدرة على الحمْل.

وتعتبر افريقيا موطناً أصلياً لأكثر من 660 نوعاً من النمل الابيض. بالرغم من ان معظم هذه الانواع تعمل على تدمير المحاصيل خصوصاً الذرة وقصب السكّر، إلاّ أنّ المزارعين الأفارقة قد ابتكروا أساليب جديدة لدمج النمْل الأبيض في نظامهم الزراعيّ والاستفادة من قدراته "النيتروجينية" التي تحسّن من طبيعة التربة.

والوسائل المبتكرة تعتمد على أساليب بدائيّة إلاّ أنّها فعّالة، ففي جنوب افريقيا، يعمد المزارعون إلى وضع الخشب في التربة لجذب النمل الابيض، أما في بوركينا فاسو فيغمر المزارعون السماد في حفر قريبة من المحاصيل المزروعة حديثاً حيث يقوم  السماد بدور إغرائيّ جاذب للنمل الابيض. في اجزاء اخرى من افريقيا، يعمد المزارعون الى ابتكار تقنيات مماثلة لاستخدام النمل كسماد طبيعيّ. أمّا في ملاوي، فيقوم المزارعون بزراعة الموز بالقرب من مجتمعات النمل الابيض. وكذلك الأمر في دول افريقية أخرى مثل أوغندا والنيجر وزيمبابوي، حيث يقوم المزارعون بزراعة أنواع مختلفة من الفاكهة والخضار على مقربة من أوكار النمل، بينما يقوم المزارعون في جنوب زامبيا باستخدام التراب الموجود في أوكار النمل الأبيض كقشرة ترابيّة في أراضيهم.

من خلال دمجهم النمل الأبيض والنمل العاديّ في نظامهم الزراعيّ، تمكن المزارعون الأفارقة الذين يعتمدون على الزراعة كدخل وغذاء، من تطوير أساليب مستدامة أقلّ كلفة من شأنها أنْ تقوّي إنتاج المحاصيل وزيادة الموارد إلى حدّها الاقصى.

لا يزال الإنسان في بدايات الاستفادة من قدرات الكائنات الحيّة في تحسين الكثير من شؤون حياته وتطلعاته. ولا ريب في أنّ جانباً كبيراً من التطوّر البشريّ في المستقبل يكمن في الكشف عن خبايا عالم الطبيعة الحكيم والمدهش بحيوانه ونباته وجماده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق