Pages

الأربعاء، 23 يناير 2013

السياق او حارس مملكة المعنى


النقطة التي أتناولها هنا هي مقطع من بحث كنت قد كتبته عن أثر السياق اللغوي في توليد الدلالات وتشكيل مسارها. ولا ريب في ان تجريد المعنى من سياقاته الكثيرة مجلبة لالتباسات قد تكون أحياناً مدمرة. كلنا نتعامل يومياً مع المعنى من خلال السياق بطريقة تلقائية، والسياق هو الذي يسمح للإنسان بالاختصار، بحذف عبارة او جملة تعتبر بحكم «السياق» من قبيل لزوم ما لا يلزم، كأن يسألك أحد ما مثلاً عن الساعة، فتقول إنها الثانية او الثالثة من غير تحديد ما اذا كانت الثالثة قبل الظهر او بعد الظهر لأن حضور الشمس او غيابها كفيل بإضاءة معنى الجواب.
كلّ الأمم التي أنجبت حضارات تعدّت حدودها الجغرافية اهتمت، بشكل من الأشكال، بدور السياق، او فرضت عليها ظروفها الفكرية او الجغرافية الطارئة الاهتمام بالسياق، لأنه أشبه بحارس أمين لمملكة المعنى. والعالم العربي لم يكن فريداً في هذا الأمر. ويمكن الالتفات هنا الى القرآن نفسه، وعلوم القرآن انتبهت الى أثر السياق في تحديد المعنى لأنه ليس بمقدور المعجم وحده ان يلبي دائماً طلبات المعنى، او القارئ ليس بمستطاعه الإجابة عن كل الأسئلة التي يطرحها النص القرآني. الإلتباس وهو أشبه بطاقية الإخفاء يمنعنا أحياناً من رؤية ما يتحرك أمامنا. ومن هنا اذا نظرنا الى علوم القرآن لوجدنا دلالات كثيرة مؤشرة على الوعي بأثر السياق في فهم النص. والاهتمام كان منصباً كثيراً على السياقات الخارجية، مع الاهتمام بالسياقات الداخلية أيضاً. ومقولة «تفسير القرآن بالقرآن» بحسب عبارة ابن كثير واضحة الاشارة على أثر السياق الداخلي اي اللغوي في بلورة الدلالات. ويمكن النظر الى تفسير «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» لبرهان الدين البقاعي، حيث يعتبر مناسبة النص كـ«لحمة النسب»، والبقاعيّ قام بتفسير السور تفسيراً قائماً على المحيط اللغوي والسياقي لكل آية وسورة، أي ان معنى كل آية مرهون بظروفها، وهي ظروف عيش مغايرة عن الظروف التي عاشتها آية أخرى حتى ولو كانت تتضمن الكلمات نفسها. الأمر موجود في الحياة نفسها، ضمن عائلة واحدة، ليس للولد البكر ما للولد الثاني من حظوظ، البكر عاش مع شخصين (الأم والأب) كحد أدنى، أما الثاني، فعاش مع ثلاثة أشخاص كحد أدنى (الأم والأب والأخ البكر) أي ان «مستوى دخل الخبرة»، اذا صح القول، ليس واحداً لدى الشقيقين لأن خبرة كل من الأم والأب لم تعد هي نفسها كما ان الأم والأب لم يجمدا عمراً وفكراً.
الوعي السياقي في الحضارة العربية كان يقظاً. وأشير الى بعض المصطلحات الاسلامية والعربية التي تترجم بشكل صريح هذا الوعي السياقي، فثمة تعبيران يفصحان سريعاً عن السياق. إن نظرة على الكتب التي تناولت «علوم القرآن» - ومن المهم لفت النظر الى ورود علم، هنا، بصيغة الجمع - تظهر ان القرآن ينقسم الى سور وآيات، ولكن مع الإشارة باستمرار الى الطبيعة الجغرافية او المكانية لهذه الآية او تلك، فيقال هذه آية مكيّة وتلك آية مدنية. إن التحديد هنا يحيل الى عامل جغرافي وزمني في آن. مكّة ليست المدينة. وعلماء القرآن التفتوا الى الآثار الأسلوبية في الآيات القرآنية التي أوجبتها تضاريس السياق الجغرافي، السياق الجغرافي والزمني هنا مرئي في عدد ألفاظ الآية، على سبيل المثال، وفي حجم السور أيضاً، وفي طبيعة الفاصلة، وفي المرتجى الدلالي. ألا يمكن ان تغيّب قراءة الآيات المكيّة على أساس أنها آيات مدنية المقاصد والغايات؟ وثمة أيضاً «أسباب النزول» التي تعتبر كأصل من أصول تفسير القرآن، والتعليق كثير على أسباب النزول الذي يرتبط بالزمان والمكان والأشخاص وأحوالهم وأوضاعهم، فالأشخاص متحوّلون من زمن الى آخر، يغيّرون مواقفهم وأنظارهم، وعدم معرفة الأمر قد يعرض التأويل او التفسير لأخطاء كثيرة.
الأشخاص سياقات من لحم ودم للأقوال. ولعل واحداً من أسباب الاهتمام بتراجم الأعلام في الحضارة العربية والإسلامية هو تحديداً ضبط السياقات التي تمنع من سوء التأويل. إن ترجمة أي شخص لا تكتفي بالإحالة الى علمه وإنما الى شيوخه ومصادره، والى المناطق الجغرافية التي أقام فيها. ويمكن الاسترشاد هنا بكتاب «الطبقات الكبرى» لابن سعد او «الإصابة في أخبار الصحابة» لابن حجر العسقلاني لنرى كيف أنه لا يمكن الهروب من سلطان الجغرافيا.
ثمة تساؤل خطر ببالي وأنا أقوم بكتابة هذه النقطة من البحث، وهي الأحاديث النبوية الشريفة، إذ لا أدري إنْ كان أحد قد اشتغل عليها أيضاً اشتغالاً سياقياً أي ترتيب الأحاديث ليس بحسب المواضيع كما في الصحيحين وإنما بحسب السياقات الزمنية والجغرافية التي قيلت فيها، وأعتقد أنها سوف تثمر إضاءات جديدة على الغايات والمقاصد الدلالية لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق