Pages

الأربعاء، 27 فبراير 2013

الشاعر الطبّاخ كشاجم

ليست هي اول من اكتشف كشاجم شاعر حلب وعاشقها فقد انجزت اطروحتي عنه قبلها بتسع سنوات!
كيف استطاعت الباحثة انجاز دراسة طويلة عن رجل كان يري نفسه نبي الشعر اذا كان مغمور الحال وليس معروفا؟
ردا علي ثريا ملحس حول اطروحتها عن شاعر وطباخ سيف الدولة الحمداني:


عبد اللطيف اطيمش

نشرت جريدة القدس العربي بتاريخ 28/9/2006 في صفحة كتب ومذكرات مقابلة مع الاديبة د. ثريا ملحس، علي حلقتين، تحدثت فيها عن بدايات دراستها الاكاديمية، وحصولها علي الدكتوراه من جامعة القديس يوسف اليسوعية ببيروت عام 1981. كان موضـــــوع اطــروحتها حول الشاعر كشاجم محمود بن الحسين، المعروف بأبي الفتح كشاجم البغدادي، في آثاره واثار الدارسين .
وقد أثار استغرابي، ان د. ملحس قد ذكرت في المقابلة ما نصه: ان هذا الشاعر والعالم كان مغمورا لدي الجميع، ولم يكتب عنه سوي سطرين او بضعة... من غير ان تشير من باب الأمانة العلمية، الي اطروحتي التي تعرف هي بأنني كتبتها في الموضوع نفسه، حول الشاعر كشاجم، حيث درست فيها شعره واثاره الأدبية ومكانته الشعرية بين شعراء بلاط سيف الدولة الحمداني في القرن الرابع الهجري. وقد انجزتُ هذه الاطروحة عام 1973، بجامعة لندن ـ قسم الدراسات الشرقية والافريقية (سواس).
كما ان السيدة ملحس قد تجاهلت، او ربما لم تطلع علي الدراسات العديدة التي كتبت عن هذا الشاعر وآثاره الادبية، سواء من قبل الدارسين العرب او من قبل المستشرقين الاجانب، وكلها تقريبا قد حققت ونشرت في اماكن عديدة من العالم.
ولكي اوضح معرفة السيدة ملحس باطروحتي، اراني هنا مضطرا الي سرد ذكريات قديمة، مضي عليها قرابة ثلاثة وثلاثين عاما.
ففي شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1970 من القرن الماضي، وصلتني رسالة مهذبة من السيدة الاديبة ثريا ملحس ـ دون معرفة شخصية سابقة ـ تذكر فيها انها تعد اطروحة دكتوراه عن الشاعر كشاجم، وانها علمت بأني اعد اطروحة دكتوراه في الموضوع ذاته، وانها ترغب بمعرفة المصادر العلمية والتاريخية التي اعتمدت عليها، والمخطوطات المتوفرة لآثار هذا الشاعر في مكتبات بريطانيا.
وقد جعلتني تلك الرسالة اكبر في السيدة ملحس اهتمامها وجديتها في البحث، وسعيها وراء المعلومة والحقيقة العلمية اينما كانت، فالحقيقة ضالة المؤمن في كل زمان ومكان. كما اذكر ايضا في حينها انني رددت عليها باسم عبد اللطيف حسن وهو اسمي آنذاك، اذ بسبب اعتبارات امنية وسياسية لم استطع استعمال لقب العائلة، أطيمش وهو الاسم الأدبي الذي كنت انشر فيه كتاباتي في الشعر والأدب. ذكرت لها ـ من باب تبادل المعرفة العلمية ـ المصادر والمراجع التاريخية والادبية التي بدأت اعتمادها لانجاز اطروحتي التي كانت تحت اشراف استاذي البروفيسور توم جونستون، رئيس قسم الدراسات العربية والاسلامية بكلية (ساواس) جامعة لندن آنذاك.
وقد اوضحت للسيدة ملحس كذلك، ان ما سهّل عليّ دراسة هذا الشاعر، هو عثوري علي معظم اعماله، او ربما كل اعماله الأدبية المعروفة التي ذكرتها معظم المصادر الرئيسية العربية مثل: ابن خلكان في الوفيات والمسعودي في مروج الذهب وابن النديم في الفهرست وابن العميد في شذرات الذهب ، وابن خلدون في المقدمة وحاجي خليفة في كشف الظنون وغيرها من المصادر التاريخية التي تحدثت عنه باسهاب، وكلما جاء ذكر سيف الدولة الحمداني، الذي رعاه واسبغ عليه نعمته.
هذا الي جانب عثوري ايضا علي مصادر ودراسات بالانكليزية والعربية، تناولت كلها دراسة اعماله وسيرته الأدبية، مما سهل مهمتي العلمية.
علي ان الاهم من هذا كله، وهو ما اوضحته لها في رسالتي، صدور ديوانه محققا لاول مرة علي يد الباحثة العراقية خيرية محفوظ، حيث طبع الديوان في بغداد عام 1970، مع تعريف جيد وواف بسيرة هذا الشاعر وعصره الأدبي، مما جعلني اعتمده بكل ثقة مصدري الاول والرئيسي في كتابة البحث، لانه في الواقع كان علي درجة عالية من دقة التحقيق العلمي وضبط النصوص الشعرية وشرحها، اضافة الي الاشارات التوضيحية ازاء اختلاف الروايات في المصادر المختلفة، مع مقارنة النصوص الشعرية بين تعدد نسخ المخطوطة الشعرية. تجدر الاشارة هنا الي ان حاجي خليفة يذكر في موسوعته كشف الظنون ان لكشاجم ديوان شعر طبع ببيروت عام 1924 مع تعريف بالشاعر، مع انه طبع بشكل سيء ومليء بالاخطاء. لم تقل السيدة ملحس في رسالتها كيف عرفت بأني اعد اطروحة دكتوراه عن كشاجم ايضا، لكنني خمنت في انها ربما اطلعت علي النشرة الجامعية التي تصدرها شهريا كلية (ساواس) للدراسات الشرقية، التي استعرضت تفاصيل المحاضرة التي القيتها بالانكليزية في تشرين الاول (اكتوبر) 1970، بجامعة لندن عن كشاجم وشعره ومكانته الادبية بين شعراء حلقة سيف الدولة الحمداني، امثال المتنبي والنامي والدمشقي وغيرهم، اضافة الي علاقته الخاصة بسيف الدولة، لا بصفته شاعرا فحسب، بل بصفته طباخه ومنجمه الخاص، حسب ما يذكر بعض المؤرخين، مما سنفصله بعد ذلك. وكانت تلك المحاضرة بطلب من استاذي البروفيسور جونستون، حيث كانت جزءا من اطروحتي التي كان يشرف هو عليها. وربما تكون الباحثة قد سمعت عن الاطروحة ايضا من خلال النشرة الدورية التي كان يصدرها معهد المخطوطات العربية التابع للجامعة العربية انذاك.

لم يكن شاعرا مغمورا

علي اية حال، اردت من خلال هذا الاستطراد ان اطلع القارئ علي بدايات هذه المسألة، وان اوضح كذلك للسيدة ملحس ان هناك كتابات ودراسات ادبية سبقتها عن كشاجم (يبدو انها لم تطلع عليها وسأوضحها لاحقا) وان اطروحة جامعية سبقتها، وانجزت عام 1973 كما اسلفت، في حين اكملت هي اطروحتها عام 1981 حسبما ذكرت في المقابلة. وكان يفترض في هذا المجال ان تأخذ ذلك بعين الاعتبار كما تقتضي الامانة العلمية، وان تشير الي اطروحتي التي سبقتها باحدي عشرة سنة، تأصيلا لقواعد البحث العلمي وتأكيدا للحقائق التاريخية والأدبية، التي يفترض ان يأخذ بها كل باحث مسؤول يتوخي الحقيقة ويسعي الي اثباتها وتدوينها.
اما الامر المهم الآخر، والذي يثير الاستغراب حقا، فهو قول الباحثة بأن كشاجم كان مغمورا لدي الجميع، وانه لم يكتب عنه احد سوي سطرين او بضعة ونحن نتساءل هنا: اذا كان الشاعر موضع الدراسة مغمورا ولم يكتب عنه احد، فكيف تسني للباحثة ان تكتب عنه اطروحة بألف وسبعمئة صفحة بخط اليد، كما تقول، دون الاعتماد علي معلومات وافية عنه، مشفوعة بمصادر ومراجع عديدة موثوقة تمكنها من الاحاطة الموضوعية بكل الحقائق العلمية التي يتطلبها بحث جامعي رصين؟ ان الاطروحات الجامعية لا تبني علي الاجتهادات في البحث او التخمينات والآراء الشخصية لملء الصفحات، وانما تبني علي الشواهد والحقائق الموضوعية والتاريخية الموثقة والمتعلقة بالشخصية المراد دراستها، كي يأتي البحث امينا ثريا واصيلا يركن اليه ويعتد بنتائجه. وهذه هي مسؤولية الباحث الجاد المخلص لعمله والحريص علي الامانة العلمية للبحث. كل الشواهد التاريخية تؤكد ان كشاجم لم يكن شاعرا مغمورا، بل علي العكس كان ذا شهرة طاغية في عصره. فليس هناك مصدر مهم من مصادر الادب العربي القديم الا وذكره وتحدث عنه وعن شعره ومؤلفاته.
ويكفي ان نشير الي ان الثعالبي في اليتيمة (ص 11 ـ 42) في حديثه عن أبي اسحق الصابي ورسائله، قال بأن كشاجم كان شاعرا وأديبا مشهورا الي درجة ان احد الشعراء قال (ضاربا به المثل):
يا بؤس من يُمني بدمع ساجم يهمي علي حجب الفؤاد الواجم
لولا تعلّله بكأس مدامة
ورسائل الصابي وشعر كشاجم
بل ان كشاجم كان يدرك مدي شهرته بين الناس، وكان شديد الاعتداد بنفسه وبشاعريته، الي درجة انه كان يعتبر نفسه نبي الشعر حين قال في ص 204 من ديوانه:
علي أني نبيّ الشعر
قد جئت علي فترة
فلو انصف حسادي
رأوني فوقهم قطرة
بغوا شأوي في الشعر
فما ان قطعوا شعره
يضاف الي هذا، ان كثيرا من مؤرخي الأدب امثال: ابن العديم في زبدة الحلب في تاريخ حلب وابن الأثير في الكامل وابن خلدون في العبر وديوان المبتدأ والخبر وابن سعد في المغرب في حلل المغرب وابن الشحنة في الدّر المنتخب من تاريخ حلب وابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية ، كل هؤلاء وغيرهم تحدثوا عن كشاجم وشهرته المتداولة في عصره ومعرفته بعلوم شتي غير الشعر والأدب، كالتنجيم والبيطرة وفنون الطبخ.
وفي كتاب شذرات الذهب لابن العميد، نجد حديثا وافيا عن كشاجم، حيث يذكر بأنه كان في شبابه في خدمة أبي الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة، وبعد وفاته التحق بخدمة ابنه سيف الدولة الحمداني وشكل واحدا في حلقته الأدبية المعروفة، وكان ايضا طباخا له ومنجمه كذلك.

شاعر ومنجم

ويذكر العماد الاصفهاني ان مهنة التنجيم كانت واحدة من الصناعات التي كان يجيدها كشاجم. ويذكر كذلك ان سيف الدولة ربما كان يستشيره ويستقرئه الطالع احيانا قبل قيامه بحملاته الحربية ضد الروم وعاش مشهورا مرفها في بلاط سيف الدولة حتي وفاته بحدود 360 هـ. وذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج6 ص53 ان كشاجم كان اذا ذهب للصيد، يذهب معه عدد كبير من خدمه وغلمانه، بدليل قوله:
طعام اذا ما شئت باكرت طبخه
علي كثرة من غلمتي وطهاتي
وهذا دليل علي ثرائه وكثرة ماله،
وقد عرف بذلك بين الناس
ومما هو طريف وجدير بالتنويه حول شهرة كشاجم وتعدد مواهبه والصناعات التي كان يجيدها ما ذكره ابن مسكويه في تجارب الامم (مجلد 6 ص 485) من ان كل حرف من اسم كشاجم كان يشير الي صناعة او حرفة معينة كان يمارسها او صفة كان يتميز بها، فالكاف، مثلا من كاتب والشين من شاعر والألف من أديب والجيم من جَواد) والميم من منجم ، فهو اذن بمصطلحنا المعاصر رجل متعدد المواهب فلا غرابة ان يحظي بتلك الشهرة العريضة التي جعلت العلماء والمؤرخين ينوهون به ويتدارسون آثاره الأدبية.
يذكر العديد من مصادر الادب العربي القديم ان كشاجم ألف كتبا عديدة في شتي مجالات المعرفة ربما ضاع كثير منها ولكنهم يتفقون علي انه ترك اضافة الي ديوان شعره الذي حقق لاحقا كما ذكرت سالفا ثلاثة كتب مهمة هي: المصايد والمطارد و أدب النديم ، و كتاب الطبيخ ولا ادري ان كانت السيدة ملحس قد اطلعت علي هذه الكتب او علي الدراسات الاجنبية التي تناولتها او ما ترجم منها الي الانكليزية مثل كتاب الطبيخ .
وسأحاول التحدث بايجاز عن هذه الكتب الثلاثة مستعينا باطروحتي السالفة الذكر (عن كشاجم ومكانته الأدبية في عصر سيف الدولة الحمداني) ومستعيدا للحقائق الأدبية والمعلومات التي جمعتها آنذاك من شتي المصادر التاريخية، عن هذا الشاعر، كي ابين للسيدة الباحثة ان هذه الشخصية الأدبية قد استأثرت باهتمام الدارسين عربا واجانب، فكتبوا عن صاحبها وعن مؤلفاته العديدة ودرسوا شعره وترجموا بعضا من آثاره، وهذا دليل علي ذيوع شهرته، وعلو مكانته العلمية.

وايضا له كتاب عن الطبيخ

فبالاضافة الي ديوان كشاجم المطبوع والمحقق من قبل السيدة خيرية محفوظ والذي اشرت اليه سابقا ان لكشاجم كتابا مهما ومعروفا هو كتاب المصايد والمطارد الذي حققه د. اسعد طلس ونشر ببغداد عام 1945 مع مقدمة وافية عن حياة الشاعر وعصره. وقد اشار الي هذا الكتاب معظم المؤرخين القدامي مثل ابن خلكان في وفيات الاعيان الجزء الاول ص 178، والمسعودي في مروج الذهب ج4 ص363 وابن النديم في الفهرست ص200. اما حاجي خليفة في موسوعته كشف الظنون فقد ذكره باسم كتاب الطرديات اضافة الي بقية مؤرخي الأدب القدامي. وهذا الكتاب من اوائل الكتب الأدبية والعلمية التي تحدثت عن الصيد والطرد، كمهنة ومتعة وفن، كان يمارسه الملوك والامراء والخلفاء مع توضيح لمهنة البازيار التي كانت تطلق علي مربي الصقور وجوارح الصيد وحيواناتها والمتصيد بها، اضافة الي ذكر دور الشعر في هذا المجال، في وصفه لمشاهد العبيد ووصف الطبيعة والحيوانات المختلفة والحياة الرعوية بصورة عامة. كما اهتم هذا الكتاب ايضا بوصف العلاج الطبي للحالات التي كان يصاب بها الطير او الحيوان عند اصابته بجروح او لدي مرضه، مما يعطي صورة متقدمة لتطور علم الطب البيطري عند العرب في ذلك الوقت من خلال صناعة الادوية المختلفة المستعملة لعلاج الطير والحيوان وتشخيص الامراض التي يتعرض لها. ولأهمية هذا الكتاب الفريد في بابه، فقد اهتم به المستشرقون وكتبوا عنه، امثال المستشرق الانكليزي جب H.R.Gibb الذي تحدث عنه وعن مؤلفه في كتابه:
Studies on the Civilization of Islam, London 1962 وكذلك البروفيسور نيكلسون في كتابه Literary History of the Arabs, Cambridge 1930.
وأما الكتاب الثاني الذي ألفه كشاجم وهو متميز ايضا في صناعته في ذلك العهد المبكر والذي يتصل بخبرته العملية في مجالسة الامراء وأعيان القوم في بلاط سيف الدولة، فهو كتاب أدب النديم الذي حققه د. اسعد طلس وطبع بالقاهرة عام 1911 مع مقدمة عن الشاعر وسيرته الادبية. ففي هذا الكتاب وصف لمجلس الشرب وازياء السقاة وآداب الشاربين وازيائهم وسلوكهم والقواعد والاصول المتبعة في هذا الميدان وكل ما اصطلح علي تسميته حاليا اتيكيت المجالس والصالونات ، حيث يعكس هذا الكتاب صورة المجتمع العربي، ومدي الثراء والرفاهية التي كانت تسود بلاط سيف الدولة الحمداني في تلك الحقبة من القرن الرابع الهجري.
وقد طبع هذا الكتاب، بعد ذلك مرتين تحت اسم أدب الندماء ولطائف الظرفاء . الاولي بالاسكندرية عام 1941 والثانية ببولاق عام 1956، مع تعريف بالشاعر وطبيعة عصره. وقد تحدث عن هذا الكتاب كثير في المستشرقين من خلال استعراضهم لتطور مظاهر الحضارة الجديدة في العصر العباسي، مثل المستشرق ادم ميتز في كتابه عن الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري الذي نقله الي العربية د. أبو ريدة، كما ذكرت هذا الكتاب بعض المصادر العربية القديمة مثل: نهر الذهب في تاريخ حلب لكامل بن الحسين الغزي، و اخبار العلماء للقفطي، و نهاية الأدب للنويري.
واما الكتاب الثالث للشاعر كشاجم فهو كتاب الطبيخ الذي اشارت اليه معظم المصادر العربية القديمة واعتبرته فريدا في بابه، حيث اشار اليه ابن مسكويه في تجارب الامم والمسعودي في مروج الذهب والقفطي في اخبار العلماء وقد تحدثوا جميعا عن هذا الكتاب مشيرين الي براعة كشاجم في وصف الاطعمة في اشعاره، وبيان مواصفاتها وطريقة طهيها، وكذلك تفننه في وصف الحلويات وانواع الشراب في قصائده، من خلال ممارسته وخبرته بصفته طباخا لسيف الدولة الحمداني والمشرف علي خدمته. وقد التفت الي هذا الكتاب النادر المستشرق البريطاني المعروف (آربري) A.Arbary وترجمه الي الانكليزية تحت عنوان:
A Baghdad Cookery Book, Haydarabad 1939
وكتب له مقدمة وافية استعرض فيها مكانة كشاجم الشعرية في ظل مملكة الحمدانيين بحلب، تحت رعاية خاصة من سيف الدولة الحمداني بصفته واحدا من شعراء حلقته الادبية المعـــروفة الي جانب كبار الشعراء والادباء واللغويين امثال المتنبي والنامي والسري الرفاء وأبي فراس الحمداني وابن خالويه النحوي وغيرهم من مشاهير ادباء القرن الرابع الهجري.
وقد اشاد المستشرق (آربري) بتفرد كشاجم في تطوير هذا اللون الشعري الفني، واستثمار الشعر في وصف الاطعمة والمأكولات وطريقة صناعتها، والمواصفات المطلوبة في كل اكلة، وبصورة تدعو للدهشة والاعجاب وتعكس المستوي الرفيع الذي بلغه المطبخ العربي آنذاك، والمستوي الحضاري الذي بلغه المجتمع في تلك الفترة من الحكم العباسي بصورة عامة والحياة الاجتماعية في البلاط الحمداني بصورة خاصة.
تجدر الاشارة الي ان كتاب الطبيخ هذا طبع لاول مرة عام 1928 في الموصل ـ العراق، وقد حرره بالعربية د. حمدي الجلبي قبل ان يترجمه المستشرق (آربري) الي الانكليزية كما ذكرنا سابقا.
فهذه الكتب الثلاثة، لم تكن موضع اهتمام الدارسين العرب فحسب، وانما كانت كذلك موضع اهتمام المستشرقين الاجانب الذين كتبوا عن مزاياها وترجموا بعضا منها مشيدين بمؤلفها متناولين حياته وعصره وشهرته الواسعة بين أدباء زمانه.
انني اتساءل هنا: اما كان مفيدا للدكتورة ملحس لو انها اطلعت علي هذه المصادر المهمة حول كشاجم لكي تثري بها اطروحتها وتستوفي بها مقومات بحثها أدبيا وتاريخيا قبل ان تتسرع في اصدار احكامها وتدعي انها اول من كتب عن هذا الشاعر الذي اعتقدت ـ خطأ ـ انه لم يكن مشهورا بما فيه الكفاية، ولم يكتب عنه احد قبلها..؟

عاشق مدينة حلب

وبهذا الصدد، اود ان اضيف هنا ميزة اخري عرف بها هذا الشاعر وساهمت في ذيوع شهرته، واعني بها حبه لمدينة حلب التي عاش فيها، حيث تغني بجمالها في قصائده ووصف رياضها وبساتينها وانهارها، بل انه صار يدعو في اشعاره الناس الي زيارتها والتمتع بجوها الساحر ومناظرها الطبيعية الاخاذة، اذ كانت يومها من اجمل مدن الشام بعد ان تعهدها سيف الدولة وجلب لها كما تذكر بعض المصادر المهندسين من بلاد الروم لينسقوا حدائقها وميادينها العامة، حتي صارت قبلة الانظار. يقول كشاجم في وصفها:
وما متعت جارها بلدة
كما متعت حلب جارها
هي الخلد تجمع ما تشتهي
فزرها فطوبي لمن زارها
ولله فيها شهور الربيع
حين تعطر اسحارها
فما تقع العين الا علي
رياض تصنف انوارها
وغالبا ما يرتبط وصف كشاجم لصنوف الأطعمة والولائم، بتصويره لمظاهر الحياة الاجتماعية والتقاليد والطقوس الشائعة في تلك المرحلة، مما يجعل شعره وثيقة تاريخية يعتد بها ازاء طبيعة البيئة والمجتمع العربي الاسلامي ابان تلك الفترة من العصر العباسي. فهو، مثلا، يصف لنا كيف كان الناس يحتفلون بأعياد ميلاد سيدنا المسيح، وليلة السنة الميلادية، حيث تقام الولائم وطبخ الأطعمة المتنوعة، وسط اجواء الموسيقي والرقص والغناء. يصف ذلك كله في قصيدة نقتطف منها هذه الابيات التي يشير فيها بشكل خاص الي تهيئة ليلته الخاصة واعداده الطعام والفاكهة مع اصدقائه بصحبة الراقصين والراقصات وسط انغام الموسيقي الشجية:ـ
وليلة ميلاد عيسي المسيح
قد طالبتني بميثاقها
فتلك قدوري علي نارها
وفاكهتي فوق أطباقها
وبنتُ الزمان فقد أبرزت
من الخدر، تجلي لعشاقها
وقد قامت السوقُ بالمُسمعات
وبالمُسمعين علي ساقها

اعياد كريسماس والعاب نارية

وفي البيت الأخير دلالة خاصة، اذ كما يبدو ان الاحتفالات كانت تمتد الي الاسواق، وأن الناس كانوا يستمعون الي الغناء والرقص، الذي ربما كانت تؤديه فرق موسيقية شعبية ويذكر الشابشي في كتابه المشهور الدّيارات أن الناس، مسلمين ومسيحيين، كانوا يحتفلون بمناسبة ميلاد المسيح (الكريسماس) وأن المسيحيين في ذلك العهد، كانوا يدعون اصدقاءهم المسلمين الي الأديرة، حيث تشعل النيران وتقام الألعاب النارية (Fire Work) كما هي الآن في هذه الايام، فيأكلون معا ويشربون ويرقصون، مما يعكس جوا من الألفة والمحبة والتسامح بين الأديان، حيث كان التآلف والانسجام يسود المجتمع الواحد، يعيش فيه الناس بالتآخي والتراحم والعيش الآمن. يصف كشاجم كل ذلك في هذه الابيات:
فتلاعبت بعقولنا نسوانه
وتوقدت بخدودنا نيرانه
حتي حسبت لنا البساط سفينة
والدير ترقصُ حولنا حيطانهُ
كما يخبرنا كشاجم ايضا، ان الناس في تلك الايام، كانوا يحتفلون جميعا، في فصل الربيع، بمناسبة شعبية اخري تسمي المهرجان وهو احتفال تقليدي سنوي كان يقام في شتي المدن والقري، حيث تقام الولائم والاحتفالات، وتعد الاطعمة والحلويات بأنواعها المختلفة، ويستقبله الناس من كل الأديان والطوائف بالشراب والغناء والرقص حتي صباح اليوم التالي. يقول الشاعر واصفا هذه المناسبة:
للمهرجان عليك حق سنه
آباؤك المتقدمون، فأدهِ
باكره بالراح الشمول تحثها
صرنا علي زهر الربيع وورده
كأسا تري فيها مثالك من يدي
ساق يريك مثالها من خده
ثم ينقل لنا، في قصيدة اخري، صورة صادقة للبيئة الحلبية ايام حكم الحمدانيين، وطبيعة المجتمع المختلط المنفتح علي الثقافات والعادات الاخري، فيتحدث عن عادات الناس في الذهاب الي الحمامات الحلبية المنتشرة في أرجاء المدينة، والتي يذكر المقريزي في كتابه خطط الشام (ج 11 ص 85) أن في حلب وحدها كان ما يزيد علي خمسة آلاف حمام وانه كان مألوفا في مجالس اللهو والطرب ظهور غلمان يرتدون ملابس النساء، وجوارٍ يرتدين ملابس الغلمان وشعورهن مقصوصة علي طريقة الرجال، حيث كان يطلق عليهن اسم الغلامّيات ، ولم يكن يثير ذلك أي حرج للناس.
يقول كشاجم في ابيات من تلك القصيدة:
قد عزمنا علي مباكرة الشرب،
ولكن ما عندنا من طعامِ
ولدينا ما تشتهي بعد هذا
من غناءٍ يُنسي غناءَ الحمامِ
ثم من نرجسٍ بصيرٍ وأعمي
ونبيذٍ مُحّللٍ وحرامِ
وغلامٍ في زيّهِ كفتاةٍ
وفتاةٍ في زيّها كغلام
كأناسٍ يوشّحون المناديل
إذا أخرجوا من الحمّامِ
وكانت ظاهرة الغلاميات هذه موجودة ببغداد منذ العصر العباسي الاول، وكان أبو نواس، قد أشار اليها في قصائده التي كان يصف فيها مجالس الطرب والشرب في ملاهي بغداد حين قال في وصف واحدة منهن:
مقصوصةُ الشعر غلاميّةٌ
تصلُحُ للوطي والزاني
كان كشاجم متأثراً بصديق الشاعر ابي القاسم الصنوبري الذي اشتهر بوصف الطبيعة والحدائق وانواع الزهور في مدينة حلب حيث كان متفرداً بهذا اللون الشعري من بين جميع شعراء حلقة سيف الدولة ويكفي ان نعرف ان لقبه الصنوبري يدل علي ذلك. وكان هو الآخر محباً لحلب مثل كشاجم، حيث كانا يطلقان عليها اسم مدينتنا دلالة علي الحميمية والألفة والتعلق بهذه المدينة الجميلة التي كانا ينعمان بمباهجها وخيراتها في ظل حماية ملك عزيز، حماها ودافع عنها ضد غزوات الروم، وتعهدها بالرعاية والتنسيق والتجميل، حتي صارت من أجمل الحواضر في عصره. وحين كتب الصنوبري يصف الربيع في حلب ويذكر الورد والثلج وأجواء الشرب والمرح في أبيات من قصيدة يقول فيه:
ذهّبْ كؤوسَك يا غلامُ
فإنهُ يومٌ مفضّضْ
والجوّ يُجلي في الفيافي
وفي حلّي الدّر يُعرضْ
أظننتَ ذا قلجاً
وذا وردٌ من الأغصان يُنفضْ
وردُ الربيع ملوّنٌ
والوردُ في كانون أبيضْ
نجد كشاجم يرّد عليه بقصيدة متحدثاً عن أجواء الربيع الطلق ذاتها في حلب حين يختلط احياناً هطول الثلج والمطر مع ظهور الشمس، فتبدو الأرض بساطاً رائعاً ابيض اخضر ملوناً بشتي ألوان الزهر، وتظهر المدينة في أبهي حللها، ويحلو، كما يقول الشاعر، جو الشرب فيها، حيث يقول:
ثلجٌ وصوبُ غاديةٍ
فالأرض في كل جانبٍ غرّةً
باتت وقيعانُها زبر جدةٌ
فأصبحتْ قد تحولتْ درّةْ
كأن في الجوّ أيدياً نثرتْ
ورداً علينا، فأسرعتْ نثرةْ
فاشرب علي الثلج من مُشعشعةٍ
كأنها في إنائها جَمرةْ
قد جُليتْ في البياض بلدتُنا
فأجلُ علينا الكؤوس في الحمرةْ
وهكذا، نجد ذكر مدينة حلب والتغني بجمالها في قصائده، كثيراً في ديوانه، مما يؤكد شدة حبه لها وتعلقه بخصوصية اجوائها الجميلة فعلاً يستحق أن يلقب بـ شاعر حلب .

نماذج من قصائد الاطعمة

ان ديوان كشاجم حافل بالقصائد التي تصف انواع الاطعمة والمأكولات المطبوخة والفاكهة والخضروات المنوعة، مما يكشف عن ثراء المطبخ العربي في تلك العهود، وتفنن الطهاة في ابتكار صنوف جديدة من المأكولات، مستفيدين في ذلك من ثقافات وفنون الطبخ لدي الأمم الاخري التي اختلطت بالمجتمع العربي يومذاك. ولكننا سنكتفي بهذه الامثلة القليلة من قصائد هذا الشاعر، قال يصف أكلة منوعة تسمي طفشيل او خبيصة، وهي خليط من الجزر والبيض والزيت مع البارات، اذ يقول:
فهاتها في حليها تُجتلي
كالروض إذ صُوّر تصويرا
زخارفُ الوشي وألوانُه
تبرٌ من الجوهر منثورا
والجَزَرا الغضّ بأرجائها
يحكي لنا فيه الدنانيرا
وأصفرٌ يضحك في أخضرٍ
كأنما واجه مهجورا
والبيض فيها نرجسٌ
تبرهُ في قضيةٍ قُدّر تقديرا
والزيت قد ضيّق أنفاسها
ريّاً، وقد عمّ الابازيرا
خبيصة صفراءُ... لكنها
تحوي من النبت عقاقيرا
ثم يصف في قصيدة اخري دجاجة ضخمة مشوية، فيقول:
عظيمةُ الزور بصدرٍ نَهدِ
أجريتَ منها في مجال العقد
مرهفةٌ ذاتُ شب وجدّ
لغيرِ ما ذحلٍ وغير حقد
بل رغبةٌ فيها شبيهُ الزهد
ولم تزل بالماء كف العبد
حتي اذا أنضجها بالوقدِ
صَبّ عليها اللوزَ مثل الزبد
وغُليّتْ، بعدُ، بماءِ وردِ
كأنها قد بُخرتْ بالسند
ثم يتحدث عن اللحم المشوي والأمراق فيقول في قصيدة:
وخيرُ اللحم ما اقلقهُ
الجارحُ إقلاقا
فكلْ منه شفاكَ الله
مشوّياً وأمراقا
فهذا الحفظُ للصحة
لا تدبيرُ اسحاقا
ويصف في قصيدة اخري مائدة متنوعة الالوان، مختلفة اللحوم والخضروات، يذكرها باسمائها المختلفة، كاشفا طريقة صنعها وانواع البهارات الملائمة لها. ثم يذكر بعدها انواع الحلوي التي تؤكل بعد هذه الاكلة الدسمة مع طريقة تركيبها والمواد الخاصة بصنعها، حتي تبدو في أحسن صورة، حيث يقول:
فجاءت، وهي من أطيب ما يؤكلُ مشحونهْ
فمن جديٍ شويناه، وعصبنّا مصارينه
ونضّدنا عليها نعنعَ البقلِ وطرخونه
وفرخٍ وافر الزور أجدنا لك تطجينه
وسنبوسجةٍ مقلّوةٍ في اثر طردينه
وحمراءً من البيض الي جانب زيتونه
واوساطِ شطيراتٍ بزيت الماء مدهونه
يولّدن لذي الشهوة جوعاً ويشهينه
وطلع كنظام الدّر في الأسفاط مكنونة
وحرّيفٍ من الجبن به الاوساط مقرونه
وخلّ ترعفُ الآنافُ منه وهي مختونه
وباذنجانً يوراني به نفسُك منقونه
وهليونٍ... وعهدي بك تستغربُ هليونه
ولوز ينجةٍ في الدهن والسّكر مدفونه
وعندي لك دستيجةُ مطبوخٍ وقنّينه
وقمريٌ يغنيّك لحوناً غير ملحونه

ولم يقتصر اهتمام كشاجم علي وصف الاكلات المطبوخة او الحلويات، وطريقة اعدادها، بل تعداه ايضا الي وصف انواع الفاكهة والخضروات المألوفة، والتي تشكل هي ايضا تكملة للمائدة النموذجية حين تقام الموائد العامرة في المناسبات المختلفة او اثناء الدعوات العائلية والاخوانية. مثال ذلك هذه الابيات التي يصف فيها التين الاسود والاصفر:
أهلاً بتينٍ جاءنا
مبتسماً علي طبقْ
يحكي الصباحُ بعضُه
وبعضُه يحكي الغَسقْ
كسفرةٍ مضمومةٍ
مجموعةٍ بلا حَلقْ
ثم ينتقل الي وصف الباقلاء، فيركّز الصورة الشعرية ويكشفها بأسلوبه الوصفي الخاص الذي برع فيه، والذي تكشف عن دقة الملاحظة والقدرة علي ابتكار التشبيهات، فيقول:
وكأن وردَ الباقلاء دراهمٌ
قد ضُمّختْ أوساطُها بالعنبرِ
وكأنه من فوق متنِ غصونهِ
يرنو بمقلةِ أقبلٍ أو أحورِ
ثم يعود الي وصف التين ـ الذي يبدو انه مولع به ـ بصورة اخري، وتشبيهات مختلفة تكشف عن قدرة بصرية حادة، تلتقط صورة الاشياء وتبتكرها معانيها الخاصة وتشبيهاتها الطريفة المبدعة. فيقول في ذلك:
نُلممْ بتينٍ لذّ طعماً واكتسي
حسناً، وقارب منظراً من مَخبرِ
كالثلج برداً، في صفاء التبرِ في
ريحِ العبير، وفوق طعم السُكّر
لَطفُتْ معانيه لطافةَ عاشقٍ
في لونِ مشتاقٍ حليف تفكرِ
يحكي اذا ما صُفّ في أطباقه
خيماً ضُربن من الحرير الأصفر

وفي الختام، آمل ان تكون هذه المقالة قد القت ضوءا علي بعض الحقائق التاريخية والادبية التي غابت عن ذهن الباحثة لكيلا يختلط الزائف بالاصيل وتضيع الحقائق الأدبية في تراثنا العربي وسط اللامبالاة وعدم التقيد بأصول البحث العلمي.

ہ شاعر واكاديمي عراقي يقيم في لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق