Pages

الأربعاء، 22 أبريل 2015

حكاية جبل في عيني عجوز صيني



تذكرت المثل القائل: "طولة البال بتهدّ الجبال" وأنا أقرأ حكاية صينية وردت في كتاب أحد الفلاسفة الصينيين القدامى التي يعود تاريخ تأليفها إلى القرن الخامس قبل الميلاد. تقول الحكاية إنّ عجوزا بلغ من العمر أرذله يعيش في بيت قدّامه جبلان شاهقان وكان أفراد عائلة هذا العجوز يجدون صعوبة في الدخول والخروج من البيت بسبب هذين الجبلين اللذين يحبسان أنفاس البيت.

جمع العجوز ذات يوم كلّ أفراد أسرته لاستشارتهم في قرار ينوي اتخاذه. قال لهم: "الجبلان يحجبان بوابة بيتنا، ما رأيكم أن نحولهما إلى مكان آخر؟" إنّ السؤال يضمر في كلماته أكثر من علامة استفهام، وقد يربك السامع الذي يرى أنه من الأنسب أن يحمل السؤال على محمل الهزل أو أن ينسبه إلى تخاريف الشيخوخة، إذ لا يعقل أن يخطر هكذا سؤال ببال عاقل. ولكن الحكاية تقول إنّ الأولاد والأحفاد وافقوا من غير امتعاض على الفكرة. فلم لا؟ أليس زوال الجبلين يمنح البيت إطلالة على المدى الأوسع؟ قالوا والحماسة تطفر من ألسنتهم: "أنتَ على حقّ، لنبدأ بالعمل من الغد!". لكن زوجة العجوز كانت واقعية جدّا، وهي تعرف طاقات زوجها المحدودة وخصوصاً بعد أن دبّ وهن الأيام في جسده المتغضّن. رأت أن تحويل الجبلين صعب للغاية يفوق طاقة الأولاد والأحفاد فعارضت هذا الاقتراح قائلة:"عشنا هنا عدة سنوات، فلماذا لا نستمرّ في العيش كما كان الحال في الماضي؟" وحملت همّ الردم أيضاً فأضافت:" ثمّ أين نضع الصخور والأتربة المتخلفة من الجبلين الضخمين؟".

 أثار كلام الزوجة نقاشاً واسعاً بين العائلة، ولكنّ أفراد العائلة مالوا في الأخير إلى قرار الشيخ العجوز ووافقوا على وضع أياديهم بيد العجوز لينقلوا الجبلين من مكانيهما، وفي اليوم التالي بدأت العائلة بتفتيت الجبلين ذرّةً ذرّةً ونقل أشلائهما الصخريّة إلى البحر. مضى شهر بالتمام والكمال ولم يظهر على الجبلين أي أثر من أثار الزوال، وكأنّهما مطمئنان إلى مقولة "راسخ كالجبال" أو "يا جبل ما يهزّك ريح".

كان للعجوز جار معروف بالحكمة وحين لمح العمل الذي يقوم به العجوز ذهب إليه ليسدي إليه النصيحة ويثنيه عن عمله الذي لن يثمر إلا فاكهة الخيبة لأن عمله لا يختلف عن من يريد حبس الماء في غربال. أقبل إلى جاره قائلاً له:"أنت كبير السنّ وأيامك معدودات وصحتك ليست على ما يرام، فكيف يمكنك نقل مكان الجبلين؟ ما لك وهذه الرغبة المجنونة؟ غضب العجوز لأن جاره الحكيم اعتبر عمله ضرباً من العبث يشبه القبض على الريح، ولكنه أصرّ على متابعة عمله أيا كان الأمر، وقال لجاره الحكيم: إنني كبير السنّ، ولكني لست وحدي. لديّ أولاد وأحفاد سيواصلون عملي، وسينتصرون على هذين الجبلين وقد لا ترى ذلك بأمّ عينيك، وأعرف أنني لن أرى ثمرة عملي بأمّ عينيّ، ولكن من قال لك أيها الجار الحكيم إنّ الأرواح لا تنعم برؤية إنجازات أجسادها الأرضية؟ المشوار طويل قد يستغرق أولادي وأحفادي وأولاد أحفادي فنحن نتكاثر بخلاف الجبلين العاجزين عن الإنجاب أيها الجار الحكيم. وهل الجبال غير مجموعة حصى نعاود تفكيكها وإعادتها إلى طبيعتها الصغرى؟ بهت الجار الحكيم، ورأى أن لا جدوى من إقناع العجوز بالإقلاع عن رأيه النزق وتضييع حبّات العمر فيما لا يجدي.

 واصل العجوز مع أفراد أسرته تكسير الجبلين بهمّة فتيّة لم يثنها مزاج السماء المتقلّب أو صلف البرد أو فحيح الرياح. تقول الحكاية إنّ الأمر الذي يحدث في الأرض وصلت أصداؤه إلى مسامع السماء، لكن كبير الآلهة لم يغضب، بل أعجب أعجاباً ملحوظاً بعزم هذا العجوز الذي لا يصدّه عائق عن إتمام عمله الهدّام. تيقّن كبير الآلهة أنّ مآل الجبال إلى زوال، مهما استغرق العمل من أجيال، فما دامت رسالة العجوز تتواصل عبر أيادي الأولاد والأحفاد فلن يكون للجبلين موطىء قدم أمام دار العجوز.

قرر كبير الآلهة الوقوف إلى جانب الشيخ في عمله والى جانب الجبلين في الوقت نفسه، فأصدر قراراً بنقل الجبلين من غير أن يكون للعجوز أي علم بما يدور في خلد كبير الآلهة. انتهز كبير الآلهة حلول الليل وعودة الأيادي التي تحفر مصير الجبلين إلى بيتها للراحة من عناء الهدم. وبعد أن خلدوا إلى النوم، شرع كبير الآلهة بإنجاز قراره.

استيقظ العجوز مع أفراد الأسرة في صباح اليوم التالي كالعادة لمتابعة نقل الجبلين وما إنْ فتح العجوز باب البيت حتى طلّت من عيون الجميع دهشة خرساء إذ لم يجدوا للجبلين أيّ أثر!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق