Pages

الاثنين، 26 أغسطس 2013

قصص قصيرة


دم جبل محسن
كان يسكن في باب التبّانة، وكان يصلّي في مسجد التقوى. كان من جملة الذين أصابتهم شظايا الانفجار فاستنزفت دمه. كثر المتبّرعون بالدم. تعبيراً عن حسن النيّة والجوار، نزل أبناء جبل محسن وتبرّعوا بدمهم. اختلط الدم السنّي بالدم العلويّ في أجساد المصابين. كان من نصيبه أن يكون دم متبرّع علويّ هو الذي يسري في عروقه.
حين استعاد وعيه شعر شعوراً غريباً، لم يألفه من قبل. لقد قرّر أن يغيّر مكان سكنه، أن يغادر باب التبّانة ويستأجر بيتاً في جبل محسن. تذكّر وهو ينقل عفشه البسيط مثلاً قديماً كان قد سمعه، يقول: الدم بحنّ. ما خطر بباله أن يرى "حنين الدم" لولا حادثة مسجد التقوى التي علّمته التقوى.
بائع الذرة
ترك عربة الذرة بأمانة بوّاب من أصحابه، وذهب إلى مسجد التقوى لأداء صلاة الجمعة، ولم يعد بعد، ينتظرون معرفة أشلائه المبعثرة. فرحت عرانيس الذرة لأنّ الله لم يكتب لها أن تموت إلاّ في أفواه الناس، حمدت  تلك العرانيس الله لأنّها لم تحترق على باب المسجد. تولّى صاحبه بيع العرانيس، ولكن الغصةّ كانت لا تفارق من يلتهم حبّاتها على أشلاء مشردّة في صقيع البرّادات.
ليلى سعيدة
ذبلت عيناه، شعر بالنعاس، قال لأهله قبل ان ينسحب الى فراشه: ليلى سعيدة، وعرف أن الفم لا يميّز بين التاء المربوطة والألف المقصورة في نهاية الكلمة. فأحبّ لفت الأسماع بالقول: ليلى سعيدة بألف مقصورة. استغرب أهله هذا التفلسف من فمه النعسان، ولكنّه كان واقعاً تحت تأثير ليلى عبد اللطيف. نحن نعيش اليوم في زمن " مجانين" ليلى.
جمهور
كان يحلم بالجماهير، عثر عليهم في صورة في إحدى الجرائد في مناسبة سياسية. أخذ الصورة ، كبّرها وعلّقها على الحائط، وجلس قبالتها، وراح يخطب وعيناه في جمهور الحائط. رأى الجمهور يمور لكلامه، يتفاعل مع حماسه الخطابيّ. صار يرفع يديه بعد كلّ عبارة ليحيّي الجمهور الملصوق على الحائط. شعر أنّه صار زعيماً لا يشقّ له غبار.
وكم كان سعيدا بجمهوره المعلّق على الحائط، لأنّه لا ينام، يبقى ساهراً على راحة كلماته.
رابعة
يمنع منعاً باتاً تسمية ايّ مولودة جديدة باسم " رابعة" تحت طائلة المسؤولية الخنفشاريّة. ما يؤلمني أنّ جدّتي رحمها الله تحمل اسم" رابعة". وما يثير الغيظ، في أيّ حال،  ان " رابعة" و"ربيع" من جذر واحد. ومن يدري! فقد يتمّ حذف فصل الربيع من فصول السنة " الأربعة". وللتخلّص من " الراء والباء والعين" فقد تصير الفصول ثلاثة، ولكن كلّ فصل" أربعة" اشهر. ليس سهلا حذف جذر "ربع" كما فعل واصل بن العطاء بحرف الراء، او جورج بيريك بحرف "E". فماذا نفعل بـ"الربع الخالي"، وبـ" يا هلا بالربع"؟ و" التربّع" على العرش وبكتاب " التربيع والتدوير" الساخر للجاحظ؟
فرح صديقي فرحاً عظيماً بفكرة سحب جذر " ربع"  بكلّ مشتقاته من التداول، قال لي: قد نرتاح يا أخي من " المرّبعات" الأمنية المتكاثرة كالفطر السامّ.
انتحار
كان لا يطيق سماع سيرة الموت، الخوف ليس بيده، الاّ ان الموت في كلّ مكان، لا يغيب كما تغيب الشمس. لا يسمع تلفزيون، ولا يفتح جريدة، ولا يستطيع أن يمشي على الرصيف، كان يخاف أن تباغته "نعوة" معلّقة على عمود كهرباء أو حائط. وكان لا يستطيع أن يقرأ قصّة او رواية أو قصيدة، لا يعرف متى تطلّ جملة برأسيها من ثنيات صفحة. لم يعد يحتمل حياة تخاف من الموت. وجد ان الحلّ الوحيد للخلاص من الموت هو أن ينتحر.
ذات يوم، تمدّد على السرير، أغمض عينيه وأطلق رصاصة على رأسه من الخلف، لم يحبّ أن ترى عيناه ما ترتكبه يداه.
رصاصة على صورة
وقف أمام المرآة، تأمّل صورة وجهه جيّدا، ثمّ سحب مسدّسه وأطلق الرصاص، تهشمت صورته أمام عينيه وتطايرت شظايا. أعاد المسدّس إلى خصره، ذهب وأحضر قحفاً ومكنسة، كنّس زذاذ صورته عن الأرض، ووضعها في سلّة المهملات، وتنفّس الصعداء.
أشلاء
كان يعرف أنّ حياته في المكان الذي هو فيه معرّضة للخطر. رأى بأمّ عينه كيف يتحوّل رجل في لحظة الى أشلاء، وكيف يختلط لحم رجل بلحم رجل آخر أو امرأة أخرى، تلمّ الأشلاء كيفما اتّفق وتوضع في أكياس نيلون وتدسّ في المقابر.
فكّر بطريقة تجنّب جسده هذا المصير، يحبّ أن يودّع الدنيا وهو كامل الأعضاء، ذهب في ليلة مقمرة الى المقبرة، أعاد فتح قبر طازج نزل اليه تمدّد بجوار ميت سليم الأعضاء ونام.
حزن إبليس
وضع إبليس قلبه على يده وهو يرى الأحداث الدائرة في المنطقة. شعر بهزيمة لم يشعر بها من قبل. كان هو اللاعب الأوّل في حياة الناس. كان هو الوسواس الخنّاس. أصابه يأس عارم وهو يرى ما لم يخطر بباله من أفانين الفتن، وضع حزاماً ناسفاً حول خصره وفجّر نفسه.
لحظة خجل
كان خجولاً، أحبّها بصمت، تجنّب اظهار حبّه لها. كان يلعن كلماته التي لا تريد أن تطلع من بين شفتيه. راح يتدّرب على الكلام، يقف أمام المرآة ويتأمّل فمه الخجول، يحادثه، يرجوه أن يفكّ الأغلال. كان فمه كالأبله في المرآة. لم يحتمل، الوقت يمرّ، وحبّه كالقنافذ الصغار في صدره.
ذات يوم، قرّر أن ينتصر لحبّه، ان يعترض على تردّده الأرعن. تأنّق على غير عادته، تخيّل نفسه ممثّلاً في فيلم، لن أسمح لشفتيّ أن تدمّرا هذا الحبّ الجارف، قال لنفسه.
اتّجه إليها. كان يحلم بحياة جديدة. شاءت عيناه التلفّت فرأى ما أعاده الى سيرته الأولى، رآها تعبر الشارع برفقة شاب يبدو أنّه انتهز صمت شفتيه.
لم يصدّق ما رأى، ظنّ أنّ عينيه متواطئتان مع شفتيه. عاد الى البيت وهو موقن ان للحبّ ما للموت من وقت لا يتقدّم لحظة او يتأخر لحظة.
أضداد في مطبخ
في المطبخ تتعايش الأضداد: الملح والسكّر، الغاز والبرّاد، ومن الحنفية الواحدة تنزل المياه الباردة والساخنة والفاترة، الزيت والسمن، البرغل والأرزّ بعد أن بلغ البرغل سنّ الرشد وتراجع عن قراره بشنق نفسه.
لماذا لا نتعلم من المطبخ كيف نتعايش مع أضدادنا؟ ليس هناك طبخة طيّبة من مكوّن واحد.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق