Pages

الخميس، 23 يوليو 2015

اللصّ والجنرال / حكاية صينية من كتاب خوي نان تزه 淮南子 huainanzi



يمكن تلخيص الفكر الصينيّ والذهنية الصينية بمقولة اليين يانغ yin yang  ، وهما كلمتان صينيّتان تحملان معنيين نقيضين: السالب والموجب، المعتم والمضيء، الأنثى والذكر، مع إضافة فكرة تبادل الأدوار، وهذا ما تظهره رسمة اليين واليانغ في شكْلها الدائري، حيث نرى في قلب اليين دائرة صغرى تمثّل اليانغ، وفي اليانغ الأبيض دائرة صغرى بلون أسود تمثّل اليين، بمعنى أنّ السالب يحيط بالموجب بل يغلّفه كما يغلّف سكّر حبّة الملبّس حبّة اللوز.

ولكن حبّة اللوز الصينية تتحوّل مع الوقت إلى السكرّ الذي يغلّف حبّة اللوز، قد يقول البعض ان هذا الكلام غير منطقي، ولكن ما هو المنطق؟ من اخترع المنطق؟ المنطق مخلوق إغريقيّ لا عالميّ، وهو بالتأكيد ليس مخلوقاً صينيّاً، ويسخر الصينيّ كثيراً من المراهنين على امكانية المنطق في اصلاح العالم! ومن الدالّ جدّا ان كلمة " منطق" ليست من كلمات المعجم الصينيّ القديم. السيرة الذاتيّة للكلمات هي سيرة ذاتية للأفكار والأذهان، وهناك نظرية لغوية شهيرة تعرف بنظرية "وورف" و"سابيىر" وهما عالمان لغويان وانتروبولوجيّان اميركيّان ومفاد نظريّتهما ان الانسان لا يمكن له ان يرى العالم الا بمنظار لغته. الانسان مهما بلغت مهارته وحنكته يبقى أسير ما تُريه إياه لغته. الواقع الجغرافيّ هو التربة التي تترعرع فيها اللغة، هذا لا يعني ان الانسان لا يستورد كلمات كما يستورد بضائع، ولكن الكلمات المستوردة قد يصعب عليها العيش خارج بيئتها، جذورها لا تستطيع التأقلم مع تربة المكان الجديد فتذبل مهما حاولنا انعاشها كما يحصل مع بعض انواع النباتات التي تفضل الانتحار على العيش بعيدا عن مسقط رأسها.
قلت إنّ اللغة الصينية القديمة لم تعرف كلمة منطق، ولم تصل هذه الكلمة الى الصين إلاّ بعد حطّت رحالها في اليابان. وقامت اليابان التي لم تكن تملك ايضا هذه المفردة في قاموسها الى أخذها لفظيا كما هي وادخلتها لغتها، ومن اليابان دخلت الى الصين بلباسها الغربي فصارت في الصينية " لو دجيا" وهي، كما يرى القارىء، لا تزال تحمل ملامحها الصوتيّة الاغريقية.
 وفي الكتب الصينية حكايات كثيرة ووقائع كثيرة تظهر هشاشة المنطق، ومن الكتب الصينية التي سلّطت الأضواء على هشاشة المنطق كتاب معروف باسم " خْوي نان تزه  huai nan zi" وهو من أمّهات الكتب الصينيّة التي تفسّر وتبسط الفلسفة الطاوية، ألّفه في القرن الثاني قبل الميلاد حفيد مؤسّس سلالة هان الصينية وهي الامبراطورية التي ينتسب اليها الشعب الصينيّ. اسم المؤلف ليو آن Liu An  .الكتاب رهيب، بديع، يخرق العقل على ما كان يقول العُكبريّ حين يقف مذهولاً أمام بعض أبيات المتنبي، كان العكبريّ يشعر ان شرح البيت لا يكفي، فيقول معلّقاً: " وهذا ممّا يخرق العقول".
الكتاب يريك أحوال الدنيا، وتناقضات الناس.
أعرف ان معرفة الاشياء ودلالاتها ليست بالأمر السهل. فالعاقل، عند التعمّق، جاهل أو ذاهل. وقد يضرّك ما ينفعك، وقد ينفعك ما يضرّك، أو بحسب عبارة التوحيديّ في كتابه الفذّ "الإشارات الإّلهية": " بل ربّما ضرّ العلم، وربّما نفع الجهل، وربّما بعد الداني، وربّما قرب النائي، فليس لشيء ممّا تراه عينك منهاج".
كثيرة هي الحكايات التي تستوقفك تفاصيل أحداثها في كتاب "ليو آن" . ومنها حكاية لصّ، لصّ له فضل في تغيير مصير حرب لا معركة. هل للصّ حسنات؟ هل تخلو سلبيّة في الحياة من ايجابيات؟ وهل تخلو ايجابية في الحياة من سلبيّات؟ كثيرون تغرّهم الأجوبة السهلة، الأجوبة التي تقفز قبل غيرها إلى الفم، فيظنّ الفم نفسه فصيحا! ولكني أفضل طريقة " جف بيزوس jeff bezos " مؤسس موقع " أمازون دوت كوم" في التعامل مع الأجوبة. كان يضع الأجوبة التي تركض ركضا للخروج من شفتيه على أمل نيل المرتبة الأولى في سلّة المهملات. كان نجاحه في الحياة وليد عدم ثقته بالبديهيّات الغرّارة !
يروي لنا " ليو آن" حكاية جنرال صينيّ حربوق اسمه "تزه فا" يبحث عن أصحاب المواهب أو قل يصطاد أصحاب المواهب بشبكة حنكته وحكمته ليجنّدهم  في عسكره. والإدارة الناجحة هي فنّ اختيار الموظفين حتّى ولو كانوا في زيّ عسكريّ. فـ" قل لي من توظّف أقل لك من أنت"!
جاءه ذات يوم لصّ من مملكة تْشو ورغب في أن يلتحق بجيش الجنرال. حين سأله الجنرال عن مهنته، قال له: "اني لصّ احترفت سرقة الناس في أسواق المدينة ولا اظنّ أنّ لصّاً في المدينة يضاهيني في اللصوصية! فما أضع عليه عيني يصير من ممتلكاتي".
أعجب الجنرال بمهارته اللصوصيّة فأدرجه في جملة جيشه. اعترض المستشارون على قرار الجنرال. فأيّ عار يلحق جيشنا إن كان بين صفوفه لصّ يتباهى؟ ولكن الجنرال " تزه فا"، كما تثبت سيرته الحربية، ليس نزقا ً أو أحمق أو معتوها، ولا يتصرّف، عادة، بناء لنزوات آنية.
ولكن هل بإمكانك ان تُفهم الناس دائماً دوافع تصرفاتك؟ كان جواب الجنرال على تعليقات المعترضين: ليس بمقدور كلّ الناس فهم سلوكي.
قامت بعد فترة من الوقت مملكة تشي بالهجوم على مملكة تشو اي المملكة التي يرأس " تزه فا" قيادتها العسكرية .قام جيش تزه فا بالدفاع المستميت عن المملكة الا ان الهجمة كانت أصعب من تصدّ، وبدا ان الخسران هو النتيجة  المنتظرة، والمحتومة. ولكن من قال إنّ المحتوم محتوم.
ذهبت أدراج الرياح كلّ خطط الحكماء والجنرالات في ايقاف زحف جيش مملكة تشي    وكاد اليأس أن يطيح بالمدافعين عن المدينة  .وهنا تقدّم اللصّ من الجنرال وقال له:لا أملك المواهب القتالية التي يمكنني أن أقدّمها دفاعا عن المملكة، ولكني أريد ان أساعدك،  وأدلي بدلوي بين الدلاء . فقال تزه فا zi fa : افعل ما تقدر عليه.
وما إنّ حلّ ظلام الليل حتى دخل اللصّ الى مرقد جنرال العدوّ وهو مستغرق في النوم واختلس لحافه، وغادر غرفة الجنرال وعاد ادراجه وقدّم اللحاف للجنرال.  هنا، لم يكن من تزه فا الا ان اعاد اللحاف الى جنرال العدوّ.
في اليوم التالي قام اللص بالتسلل الى غرفة جنرال العدوّ وسرق مخدته، وأعطاها لجنراله .ولكن تزه فا أعاد كما في المرّة الأولى بردّ المخدة الى جنرال العدو.
وفي الليلة الثالثة تسلّل اللص مجددا الى غرفة جنرال العدو وسحب شكلة الشعر من رأس جنرال  العدوّ .ولكن تزه فا اعاد اليه شكلته. انتشر الخبر في وسط جيش العدو فدبّ الذعر بين أفراده.
اجتمع جنرال العدوّ بمعاونيه وقادته وقال لهم: " ان لم ننسحب اليوم فلا غرابة أن يقطع رأسي هذه الليلة! وأخذ قراراً فوريّاً بالانسحاب من المعركة". من الذي قلب مصير المعركة رأساً على عقب؟ لصّ، لصّ لا يملأ عين أحد. كم من روح أنقذ هذا اللصّ المخلّص؟
أغلب قصص كتاب " ليو آن" في فصل من كتاب " خوي نان تزه"  يحمل عنوان "عالم الناس" على هذا المنوال. في العربية مثل يقول: يسرق الكحل من العين .ومن يسرق الكحل من العين ليس من الحكمة التفريط بمؤهّلاته البديعة الني قد تحمي نور العين من الانطفاء!

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق