Pages

الأربعاء، 11 مايو 2016

الحوار الذي أجرته معي الكاتبة نسرين كمال لجريدة النهار، والذي صدر في العدد 19 تشرين الأول 2015 - السنة 83 - العدد 25808



من حفل توقيع كتاب" لعنة بابل"



المقابلة التي أجرتها معي الكاتبة نسرين كمال،
ونشرت في عدد اليوم من جريدة النهار
س- يقول دو سوسير أنه من الصعب تحديد الاختلاف بين اللغة واللهجة خصوصاً أنه غالباً ما يطلق على اللهجة اسم لغة لأنها أنتجت أدبا. ما هي المعايير التي تجعلنا نميّز بين اللغة واللهجة؟ وهل تصبح اللهجة لغة مثلاً؟

ج- ليس هناك فارق جوهري بين اللغة واللهجة من حيث الطبيعة اللغوية، بل يمكن القول إن الفارق بين اللغة واللهجة فارق غير لغويّ. فهو فارق قد يكون سياسيا أو دينيّا او قوميّا او عرقيّا. شيء لا علاقة له باللغة يجعل من اللهجة لغة كاملة الأوصاف. فبحسب ما يروى في الكتب القديمة التي تتناول نشأة اللغة العربية يشار الى أنّ اللغة العربية هي لهجة قريش، بل إنّ من يطّلع على كتب اللغة القديمة يلحظ عدم وجود فارق دلالي في الاستعمال بين اللغة واللهجة في أحيان كثيرة، فكلمة لهجة كانت تعني لغة، وكلمة لغة كانت تعني لهجة، هذا ما نراه على سبيل المثال في كتاب ابن جنّي المسمّى بـ "الخصائص". ومن يتصفّح ما قيل عن الصراعات اللغوية على امتداد الامكنة والازمنة يكتشف ان كل لغة هي في الاساس لهجة، شاءت ظروفها او اقدارها ان ترتقي الى مستوى اللغة، فالفرنسية والايطالية والاسبانية هي لهجات لاتينية تحولت لعوامل سياسية  الى لغات. ولكن هناك شروط لتحويل اللهجة الى لغة، ولعلّ اهم هذه الشروط هو كتابتها. وكتابتها هو نوع من الأسر لها، تجميدها، منعها من الحياة بشكل طبيعيّ. اللغة بطبعها سيالة، فاللغة صوت وليست حرفا، فالحرف هو رمز الصوت المكتوب. والصوت سيّال كالماء بينما الحرف جامد كالثلج!
 اللغة الالمانية على سبيل المثال نقلها نصّ من عالم اللهجات الى عالم اللغات، تماما كما حال القرآن الكريم الذي حوّل لهجة قريش من لهجة منطوقة محدودة بقبيلة الى لغة مكتوبة تتعدّى إطارها القبلي والجغرافيّ.
ولكل لهجة أدبها، كما أن لكل لغة ايضا أدبها، وهناك مشتركات، وهذا طبيعيّ. واللهجات العربية غنية جدّا بأدبها، فعندها الزجل والشعر النبطيّ، والحكايات، والأقوال المأثورة، ومع التقدّم الحضاريّ صار للهجات أفلامها ومسلسلاتها وبرامجها ومسرحياتها .
اما عن المعيار في نظري فهو بسيط، انه مسألة سياسية، ويتجلى ذلك في لغة الدساتير والمجلات والجرائد والكتب. وفي حال تمّ كتابة الدساتير والكتب المدرسية والمجلات والجرائد بلهجة من اللهجات فان هذه اللهجة تتحول الى لغة فصيحة لهذا البلد او ذاك. فالفرنسية، اليوم، ليست لهجة رغم انها كانت في الاساس لهجة سكّان باريس.
وما يمنع اللهجة ان تصير لغة هو، كما قلت، اسباب غير لغوية، وقد تكون دينية او سياسية. فلو لم تتفكّك الامبراطورية الرومانية وبقيت بكامل قوتها وهيبتها لكانت اللاتينية الى اليوم حيّة ترزق على سبيل المثال، في الأقلّ، على غرارر ما هو عليه الحال مع العربية المكتوبة. وما يمنع اللهجات العربية من ان تتحول الى لغات رسمية هو الإسلام، ولدينا في لغة مالطة خير دليل على ذلك، ومن الطريف ان نقرأ ما قاله اللغويّ الكبير احمد فارس الشدياق عن لغة مالطة في كتابه " الواسطة في معرفة أحوال مالطة" عن اللغة المالطية، وما سمح بتحويلها الى لغة رسمية هو العامل الديني، فالشعب المالطيّ شعب مسيحيّ وهو ما هيّأ لمالطة الّأرضية التي غيرت مصيرها وحرفها، اي انفصالها عن الحرف العربي وارتباطها بالحرف اللاتينيّ مع ما يعنيه ذلك من انفتاح أكثر وأكثر على الكلمات المكتوبة بالحرف اللاتيني.

س- اللغة هي كائن حي ينمو ويتطوّر في فضاء التفاعل وخارج القوقعة، كيف يتم برأيك تهجين اللغة دون المسّ بخصوصيّتها الثقافية والحضارية؟ وكيف نحمي لغتنا العربية من شراسة العولمة؟
ج‌-          هناك من ترعبه العولمة، ويخاف منها. والعولمة لها وجهان، كما لكل شيء شيء في هذا العالم، وجه سلبي وآخر ايجابيّ. فالعولمة شرسة من ناحية، ولكنها دمثة من جانب آخر. ومن حسنات العولمة انها مدتّ جسورا لا اسوارا بين الشعوب والحضارات. والانترنت هو شكل من اشكال العولمة، بل هو من تجليات العولمة. ويمكن الاستفادة من حسنات العولمة وتقليم اظافر النواحي السلبية منها. ولا يمكن للغة من اللغات ان تنغلق على نفسها. الانغلاق يسبب الاختناق ومن ثمّ الموت او الترقق في العظم او الفقر في الدم. فالعربية قويت بالتلاقح عبر تاريخها مع الفارسية واليونانية واللاتينية والسريانية والهندية والعبرية. بل ان من ينظر الى الكتاب العربي الأعظم وهو القرآن الكريم يجد فيه كلمات كثيرة غير عربية، كلمات يونانية وعبرية ولاتينية ويونانية وحبشية وهذا باعتراف كبار العلماء العرب ومن يطّلع على كتاب السيوطي" الاتقان في علوم القرآن"  او كتاب الزركشي" البرهان في علوم القرآن" لوجد ابوابا تتناول ما يسمّى بالدخيل في القرآن الكريم. وهذا طبيعيّ، اللغة كالطعام، ليس هناك مجتمع لا يستورد اطعمة او توابل، والمفردات الاعجمية هي توابل لا غنى عنها. لا يعيب لغة من اللغات ان تقترض او تستورد او تستعير بعض المفردات، فاللغة الانكليزية على سبيل لمثال لم تجد غضاضة من استعارة مفردات حتى من لغات الهنود الحمر. التهجين سنّة الحضارات، كل المطلوب هو حسن ادارة التهجين، والمهارة في استيراد المفردات، وللعرب القدامى ليونة فذّة في التعامل مع الوافد الغريب من خلال العبارة التالية: " ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب".
س- لقد لفت نظري عبارة لك ملفتة :"أرني لغتك أقل لك من أنت" كيف تصف علاقتنا بلغتنا العربية اليوم؟
ج‌-          اللغة بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فهي صورة عن ناسها، او هي مرآة صادقة لا تكذب، تنشط بنشاط الناطقين بها، وتخمل بخمول الناطقين بها، اللغة العربية اليوم ضعيفة ليس لانها ضعيفة وانما لاننا ضعاف على كل المستويات تقريبا، فالعرب اليوم على هامش التطور العلميّ والتكنولوجي، فليس من المستغرب ان تكون اللغة العربية على هامش اللغات الفاعلة والفعالة، وان كان لها مكانة اليوم فمكانتها قمرية اذا صحّ التعبير وليس شمسية واقصد بذلك ان القمر يستمد قيمته النورانية من اشعة الشمس وليس من اشعته الذاتية، بخلاف الشمس التي تستمد من صلب أشعتها قيمتها النورانية. العربية اليوم قمرية لانها تستمد قيمتها من الانوار القرآنية والتراثية وليس من صلبها، فلنتخيل ماذا كان سيكون مصيرها لولا حضور النصّ القرآني الحيّ الذي ينشر انواره وبنفس الوقت لغته خارج قطر الدائرة العربية. والعربيّ يحرمها من روافد كثيرة، فحين تكون الابحاث العلمية التي يكتبها العربي بلغة انكليزية او فرنسية أو ألمانية فانه من غير ان يدري يصيب العربية بفقر دم، والعربية اليوم تعاني من فقر الدم بخلاف اللغة الانكليزية التي تأتيها الروافد من شتى اصقاع الارض، ما عدد الصينيين مثلا الذين يكتبون بالعربية او اليابانيين الذين يكتبون بالعربية مقارنة مع ما يكتبونه بالانكليزية او الفرنسية. اعرف كاتبا يابانيا واحدا له كتاب بالعربية" العرب، وجهة نظر يابانية" وهو المستعرب  نوبوأكي نوتوهارا . كانت العربية نشطة ودمها دفاق حين كتب بها الفارسي والهندي والتركيّ والرومي واليهوديّ الخ. فأعلام كبار في تراثنا العربيّ ينتمون الى عالم غير عربيّ وكان لهم كتابات بالعربية وبلغاتهم الأم كابن سينا مثلا.
س‌-        من الواضح أن المترادفات هي من مميزات اللغة العربية . ما هو تحليلك الشخصي؟
ج-   لا تخلو لغة من اللغات من المترادفات، فالمترادفات هي في نظري طرق وشوارع ودروب، فلا اظن انك لا تصلين مثلا من بيتك الى مكان عملك الا من طريق واحدة. واللغة كل لغة تحب الدفاع عن نفسها والمترادفات هي ضرب من ضروب دفاع اللغة عن نفسها. اللغات تشبه الأرنب الصيني في مثل يقول: " الأرنب الذكي يحفر ثلاث مداخل الى جحره". والمترادفات لها وظائف كثيرة منها ما هو جمالي ومنها ما هو عمليّ، براغماتي .اعرف ان هناك عددا لا بأس به من الناس يتناول مسألة المترادفات بنوع من السخرية حين يقول ان للجمل اسماء كثيرة، وهذا طبيعيّ. لأنّ الجمل وسيلة حياة او موت في حياة العربي الصحراوية. وهذا ما يعادل كثرة نظنها تخمة في اسماء الثلج في لغات سكان الاسكيمو. فللغيمة مثلا في العربية اسماء كثيرة والسبب ان الغيمة نبع جوّال في فضاء الصحراء العربية، وهي تسيل لعاب سكان الصحراء فكان من الطبيعي ان يكثروا اسماءها للتمييز بين من تحمل الشراب ومن تحمل السراب!


س‌-     هل ثمة رابط بين لغتنا وتجربتنا النفسية_الإجتماعية؟
ج-     بالتأكيد هناك رابط، ورابط متين، فاللغة كما قلت صورة عن المجتمع، تحمل التجارب الحياتية بكل اشكالها، الرابط ليس فقط بين العربية وتجربتنا، بل هذا امر ينتظم كل اللغات، وهناك دراسات كثيرة تربط بين البنية اللغوية والبنية الاجتماعية، ويمكن للمرء ان يرى المجتمع ويحلله من خلال تحليل البنى اللغوية، كما ان هناك دراسات كثيرة تظهر الرابط بين اللغة والنفس. ومشاكل نفسية كثيرة يمكن معالجتها عبر تغيير علاقة الشخص مع مفرداته التي يستعملها، ومع جمله التي يقولها لترجمة صورة العالم الذي يعيش فيه. الانسان يسكن في عالمين : عالم جغرافي وعالم لغوي.
س‌-        يعتقد ماكس مولر أن ثمة ترابط بين اللغة والأسطورة وما يدعوه الأسطورة هو من منجزات فاعلية اللغة. كيف تنظر إلى العلاقة بين اللغة والأسطورة؟
ج- ما هي الاسطورة؟ هناك من يردّ الكلمة إلى أصل يونانيّ ويعني " التاريخ أو البحث" رغم ما يوحي به شكلها من قرابة مع جذر" سطر"، والأشكال خدّاعة! وهذا صحيح إّلى حدّ بعيد. بدايات كلّ التواريخ البشرية أساطير، هذا ما نراه في كتاب " كوجيكي ، وقائع الأشياء القديمة " الياباني وهذا ما نراه في الحوليات الصينية القديمة. لا يمكن نسف الاساطير، والانسان الى اليوم ولوع بالاساطير، هناك أساطير حديثة، ورولان بارت كان  عينا ثاقبة حين وضع كتابه " ميثولوجيات او اساطير". الاسطورة ليست اسطورة الا من حيث النظرة اليها، فما اراه اسطورة قد يراه غيري واقعة تاريخية لا تمس، والعكس صحيح، وهنا اتكلم على مستور التواريخ البشرية بشكل عام دون تخصيص للغة العربية
س‌- في كتابك "لعنة بابل" محاولات بارعة لاكتناه أسرار العربية وكشف مواطن فتنتها بأسلوب رشيق ومحبب . ما هو مشروعك للغة العربية وماذا تنتظر من القارىء؟
ج- كلمة مشروع كلمة كبيرة، في كتابي " لعنة بابل" حاولت ان اظهر حبي للغة العربية من خلال تناول بعض المواضيع . يؤلمني ان ارى على المستوى الشخصي هذه العلاقة السلبية بين العربي ولغته. انا افهم واتفهم العلاقة السلبية الراهنة، فاللغة بريئة، ليس هناك لغة تحب او لغة تكره، اللغة وسيلة، اداة، وحين اجد ان هذه الاداة لا تؤمن لي الخدمات التي اريدها اهجرها، وانتقل إلى أداة اسلم، فهاتف نوكيا مثلا بعد ان كان كاسحا لسوق الهواتف المحمولة تركه الناس الى "سامسونغ" و"ايفون" لأنه صار يؤمن خدمات اكثر. واللغة العربية لا تؤمن اليوم الخدمات التي تؤمنها اللغة الانكليزية مثلا. فمن الطبيعي ان يهجر الناس العربية الى الانكليزية، فما عدد المجلات العربية العلمية وما هو مستوى ابحاثها او مقالاتها؟ وما هو عدد الجرائد والمجلات العربية المشوقة للصغار مقارنة مع ما تضخّه المجلات الاجنبية من مواد واخبار ومعلومات مشوقة وغنية وذكية.
على المسؤولين من سياسيين وعلماء وتربويين وفنيين ومغنين ان يبنوا مشروعا مغريا بالعربية لجذب القارىء والكاتب على السواء. هناك مدارس كثيرة مثلا ليس فيها مكتبات وان كان فيها مكتبات فالكتب التي فيها اكلها العتّ وليست جذابة لا على صعيد المضمون ولا على صعيد الشكل. وتعليم اللغة لا يجوز ان يترك فقط للغويين، والنحويين، فكتب النحو والقراءة مثلا في الصفوف الابتدائية يجب ان يشترك في صوغها فنانون ورسامون وعلماء نفس وعلماء اجتماع وأهل الإعلان. ما فتنني مثلا ان الكتب التعليمية للصفوف الابتدائية في المدارس الصينية هي انها برامج عمل وبرامج احلام ومشاريع مستقبلية . نصوص لا تعلم فقط اللغة،  وانما الطموح والصبر والتضحية من دون ان تلمح نفور الناحية الوعظية. على طرائقنا في تعليم اللغة العربية ان تتعلم فنّ الاغراء وفن الترويج لإعادة الالفة بين العربي ونصوصه.

س- ذكرت في كتابك أن الإنسان أسير لغته، ما قولك في من ينكر لغته ويتبنّى لغة أخرى كهويّة له؟

ج- لغة الانسان الأولى تسمى اللغة الأم. ولا يمكن ان نسمّي من يستهين بلغته ويحتقرها إلاّ بأنه عاقّ. والعقوق اللغويّ كالعقوق مع الاهل عمل مشين. انا احب الطريقة التي يتعامل بها الياباني مع لغته الأم. وكنت قد كتبت مقالا وضعت له عنوان" بيت وسيارة" وهو موجود في كتابي " لعنة بابل" واعتبرت ان اللغة الام هي البيت ولغة الاخرين هي السيارة. لا يمكن اليوم الاستغناء عن السيارة ولكن ليس من المستحبّ ان نسكن في السيارة. ومن يهجر لغته لا يهجرها لسبب واحد. فمثلا كاتب ياسين هجر لغته الأم مكرها،  وكان يكتب بالفرنسية ولكن كان يشعر انه يعيش في منفى. كانت اللغة الفرنسي منفاه اللغويّ، والهجرة قد تكون اختيارا بخلاف المنفى المكره عليه المرء. حين يستعيد العربيّ ثقته بقدراته على النهوض سيعود الى لغته عودة الابن الضالّ.



وهذا رابطها:

http://newspaper.annahar.com/article/276542-%D8%A8%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%A4%D9%85%D9%86-%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D9%87%D8%AC%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%84%D9%88%D8%A8-%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D9%84%D8%BA%D9%88%D9%8A-%D9%85%D8%BA%D8%B1


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق