Pages

الأربعاء، 6 يناير 2016

الكانجي kan ji أو السلام المتفجّر


Mori Seihan أمين معبد كيوميزوديرا في كيوتو



الكانْجي أو السلام المتفجّر
كلّ من لا يعرف إلاّ لغة واحدة يعرف، من حيث لا يدري، عدّة كلمات من لغات أخرى كثيرة من غير أن ينتبه الى أنه يعرف شيئا ممّا لا يخطر بباله أنّه يعرفه. لا اظنّ ان هناك من لا يعرف بضعة كلمات صينية وتركية وفارسية بل بعض كلمات قبائل الهنود الحمر. فمن لا يعرف كلمات يابانية مثلا من قبيل "تويوتا" و"سوزوكي" والكلمة الأخيرة اسم عائلة عريقة ومرموقة في اليابان.
الأشياء في الحياة سيّارة، تمشي، ولكنها تمشي في أحيان كثيرة على قدمين لغويتين، وكلمة " كانجي" في عنوان المقال كلمة يابانيّة من أصل صينيّ وتعني " كتابة الهان " والهان هم القومية الأكبر من بين أكثر من خمسين قوميّة تحتضنهم الصين ضمن حدودها الشاسعة. ويقصد بكلمة " كانجي"  رموز الكتابة الصينيّة. والكلمات حين تبدّل بلدانها تعترضها تغيرات في بنيتها الصوتية والصرفية لتتلاءم مع البيئة الجديدة التي تعيش فيها، وأحيانا تغيّر طبيعتها الصوتية من غير أن تغيّر شيئا من شكلها المكتوب، فكلمة  " nation"الفرنسية، على سبيل المثال، تبقى من حيث الشكل والكتابة هي هي في اللغة الانكليزية ولكن صوت السين يتحوّل في اللفظ الى حرف الشين " ناشيون". هكذا الأمر في كلمة "كان جي" التي هي في اللغة الصينية تتألّف من رمزين han zi)) وتلفظ "هان تزه" أو "خان تزه" . وهناك من نحت  من هذين الرمزين كلمة عربية هي الـ"خَنْزة"، وقد يكتب لهذه الكلمة الوافدة عمر عربيّ خصوصاً بعد انفتاح اللغة الصينية على العالم، وترحيب العالم بهذه اللغة التي تعيش، راهناً، تجربتها المعولمة للمرّة الأولى عبر تاريخها المديد.
وحال الكانجي لفظاً كحال كلمة اليابان نفسها، فكلمة اليابان ليست كلمة يابانيّة، وهذا أمر قد يكون مثيرا للغرابة. ولكن ما يكشف لثام الغرابة هو معرفة الأسباب التي جعلتنا نقول عن اليابان انها يابان.
الكلمات تسافر من مكان الى مكان، والسفر رحم خصب، تتم في داخله تحولات كثيرة. ومن جملة التحوّلات التي تختمر في رحم السفر تحوّلات لغوية. فهناك مفردات، مثلا، في اللغة الفرنسية عربية، ولكنّها ليست عربية لأنّها وصلت الى فرنسا عبر تركيا أو عبر إيران. وهناك كلمات تركيّة من أصل عربيّ ولكنّها وصلت الى تركيا عبر ايران وليس عبر ممرّ عربيّ. وهكذا حين لا تصل الكلمة مباشرة من المنبع الى المصبّ تتغير بعض ملامحها. فكلمة يابان وصلت الى الغرب من طريق الصين وليس من طريق اليابان، وكلمة " يابان" هي توصيف صينيّ للأرخبيل الياباني، فالشمس تشرق في نظر الصيني من وراء جزر اليابان لهذا سمّى الصيني هذه الجزر بـ " جذور الشمس" ، أو منبت الشمس او مشرقها، وتلفظ في الصينيّة "جي بان"، وصوت " الجيم" من وجهة الإبدال الصوتيّ، صوت لعوب، متحوّل، فهو ينقلب في لغات كثيرة الى ياء، كما نرى ذلك مثلا في اسم (جوزيف / يوسف)، فصارت " جي بان" " يا بان" .
هناك لغات كتبت قبل لغات، وحين قررت بعض اللغات الانخراط في عالم الكتابة وهي لا تكتب كان امامها خيارات اما ان تبتكر شكلا كتابيا للغاتها، وإما أن تقترض أشكالا لكتابة لغاتها من البلدان المجاورة لها، وهذا ما حدث لليابان، فاللغة اليابانية كانت للحكي وليس للكتابة. وحين اراد اليابانيّ أن يكتب استعان بالرموز الصينية لكتابة لغته، وكان ذلك في القرن السادس قبل الميلاد. ولكن من المستحيل أن تجد لغتين يجمعهما نظام صوتيّ واحد، فكل لغة نظامها الصوتي الخاصّ، بل لكلّ لهجة من لهجات لغة واحدة نظامها الصوتيّ المميّز لها، فالنظام الصوتيّ للهجة اللبنانية غير النظام الصوتي للهجة المصرية او المغربية او السعودية، على صعيد الحروف، والحركات، والمقاطع، والنبر، والنغمات. وهكذا كان الأمر في الرموز الصينية التي لا تتفق والنظام الصوتي الياباني، فعدّلت بها من الناحية الصوتية لتلائم طبيعتها الخاصة بها.
وفي اللغة اليابانية حوالي ألفي رمز من أصل صينيّ دخلوا في نسيج الكتابة اليابانية، وهذه الرموز الصينية هي التي تعرف بالكانجيّ. واللغة اليابانية لغة طريفة لأنها تعتمد ثلاثة اشكال في كتابتها، وهي تندغم فيما بينها بشكل محيّر لغير اليابانيين،( من هنا سمّى المبشّرون البرتغال والفرنسيون، في القرن السادس عشر، اللغة اليابانية بـ " لغة الشياطين"!) فإلى جانب الكانجي هناك  الـ "هيراكانا  hirakana" ويعني " المدوّر" وهو الكتابة التبسيطية للـ"كانجي" ، والـ " كاتاكانا katakana" وتعني " الجزئيّ"، أي أخذ جزء من "الكانجي"  ويقصد به الكلّ أي أنّه يشبه ما يسمّى بالمجاز المرسل في علم البلاغة.





لن أخوض في تفاصيل الكتابة اليابانية، ولكن كتبت هذه المقال كرمى لعيني فكرة واحدة، وهي ولع اليابانيّ الغريب بالكلمات، والاحتفال بها احتفالا عظيما على صعد عدّة، منها هذه الظاهرة التي يمكن اعتبارها ظاهرة يابانية بامتياز. فاليابان في ختام كلّ عام تنظّم انتخابات لغوية برعاية جمعيّة تهتمّ بترسيخ علاقة اليابانيّ مع لغته المكتوبة. ويشترك في هذه الانتخابات عدد غفير من اليابانيين، وكلّ شخص ينتخب الكلمة التي يراها تعبّر عن هواجسه أو احلامه أو مخاوفه. وبعد عملية فرز الأصوات لطيفة ترفع الستارة عن وجه الكلمة التي سيكون لها موقع الصدارة، لتنال لقب " كلمة العام" أو " كانجي العام".
وهكذا في الخامس عشر من شهر كانون الأوّل من كل عام يكشف الستار عن الكلمة مخطوطةً وموضوعةً على منصة خشبية ارتفاعها 15 مترا في ساحة المعبد الياباني الأشهرKiyomizudera    كيوميزوديرا   في مدينة كيوتو التي كانت في زمن مضى العاصمة اليابانيّة. ويقوم الأمين العام على المعبد، في منتهى الخشوع والوقار وهو في زيّه الدينيّ،  بتخطيط الكلمة التي نالت حصّة الأسد من الأصوات. وكانت كلمة "السلام/ آن/  " صاحبة هذا اللقب لعام 2015.
 ولعلّ الأطرف في النتيجة هو ان الكلمة الثانية من حيث عدد الأصوات التي جنتها كانت " متفجّر / باكو/   /baku".
بلال عبد الهادي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق