Pages

الخميس، 26 مايو 2016

في تعريف البلاغة من البيان والتبيين تأليف الجاحظ


أخبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان وحدثني محمد بن أبان - ولا أدري كاتب من كان - قالا قيل للفارسي ما البلاغة قال معرفة الفصل من الوصل وقيل لليوناني ما البلاغة قال تصحيح الاقسام واختيار الكلام وقيل للرومي ما البلاغة قال حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الاطالة وقيل للهندي ما البلاغة قال وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الاشارة وقال بعض اهل الهند جماع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة ثم قال ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة ان تدع الافصاح بها الى الكناية عنها اذ كان الافصاح أوعر طريقة وربما كان الاضراب عنها صفحا أبلغ في الدرك وأحق بالنظر 
وقال مرة جماع البلاغة التماس حسن الموقع والمعرفة بساعات القول وقلة الحرف بما التبس من المعاني او غمض وبماشرد عليك من اللفظ او تعذر ثم قال وزين ذلك كله وبهاؤه وحلاوته وسناؤه ان تكون الشمائل موزونة والالفاظ معدلة واللهجة نقية فان جامع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت فقد ثم كل التمام وكمل كل الكمال وخالف عليه سهل بن هرون وكان سهل في نفسه عتيق الوجه حسن الاشارة بعيدا من الفدامة معتدل القامة مقبول الصورة يقضى له بالحكمة قبل الخبرة وبرقة الذهن قبل المخاطبة وبدقة المذهب قبل الامتحان وبالنبل قبل التكشف فلم يمنعه ذلك ان يقول ما هو الحق عنده وان أدخل ذلك على حاله النقص قال سهل بن هرون لو ان رجلين خطبا او تحدثا او احتجا او وصفا وكان احدهما جميلا جليلا بهيا جسيما نبيلا وذا حسب شريفا وكان الاخر قليلا قميئا وباذ الهيئة دميما وخامل الذكر مجهولا ثم كان كلاهما في مقدار واحد من البلاغة وفي وزن واحد من الصواب لتصدع عنهما الجمع وعامتهم تقضي للقليل الدميم على النبيل الجسيم وللباذ الهيئة على ذي الهيئة ولشغلهم التعجب منه عن مساواة صاحبة ولصار التعجب منه سببا للعجب به ولكان الاكثار في شأنه علة للاكثار في مدحه لان النفوس كانت له أحقر ومن بيانه أيأس ومن حسده أبعد فاذا هجموا منه على ما لم يحتسبوه وظهر منه خلاف ما قدروه تضاعف حسن كلامه في صدورهم وكبر في عيونهم لأن الشيء من غير معدنه أغرب وكلما كان أغرب كان ابعد في الوهم وكلما كان أبعد في الوهم كان اظرف وكلما كان اظرف كان أعجب وكلما كان اعجب كان ابدع وانما ذلك كنوادر كلام الصبيان وملح المجانين فان ضحك السامعين من ذلك أشد وتعجبهم به اكثر والناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البديع وليس لهم في الموجود الراهن المقيم وفيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى مثل الذي معهم في الغريب القليل وفي النادر الشاذ وكل ما كان في ملك غيرهم وعلى ذلك زهد الجيران في عالمهم الاصحاب في الفائدة من صاحبهم وعلى هذه السبيل يستطرفون القادم عليهم ويرحلون الىالنازح عنهم ويتركون من هو أعم نفعا واكثر في وجوه العلم تصرفا وأخف مؤونة واكثر فائدة 
ولذلك قدم بعض الناس الخارجي على العريق والطارف على التليد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق