شوي تشينغ قوه الأدب العربي في الصين
1- ترجمة الأدب العربي في الصينتعود العلاقات الصينية العربية إلى ما قبل ألفي سنة تقريبا، حيث ربط طريق الحرير المشهور بين الأمتين العريقتين. ولا تخلو السجلات التاريخية والجغرافية الصينية القديمة من ذكر أخبار العرب ونوادرهم، عبر كتابات الرحالين والتجار الصينيين، إلا أن هذه الكتابات اكتفت برصد العادات والتقاليد العربية، ولم تتناول العوالم الروحية والفكرية للعرب. أما الأدب العربي، فظل مجهولا من قبل الصينيين حتى أواخر القرن التاسع عشر، عندما تُرجم أول عمل أدبي-- ديني عربي إلى اللغة الصينية هو قصيدة «البردة» لمحمد شرف الدين البوصيري. وكان الفضل في ذلك يرجع إلى العالم المسلم ما ده شينغ (Ma Dexing) الذي عاد إلى الصين بهذا الكتاب من البلاد العربية، وسرعان ما تعاون مع تلميذ له في ترجمته. على أن المنية وافته فلم تتم هذه الترجمة إلا على أيدي تلميذيه اللذين ترجما القصيدة إلى اللغة الصينية الموزونة الكلاسيكية، وطبعت هذه الترجمة مع النص العربي عام 1896.يمكن اعتبار المرحلة التي بدأت من صدور ترجمة قصيدة «البردة» حتى تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 المرحلة الأولى لترجمة الأدب العربي في الصين. ولم تشهد هذه المرحلة نشاطات مكثفة في ترجمة الأعمال الأدبية. وكان السبب الرئيسي في ذلك هو قلة الدارسين الصينيين للعربية في ذلك الوقت، وانشغال أغلبهم بالقضايا الدينية. فقد قام بعض العلماء المسلمين بترجمة عدة كتب تتعلق بدين الإسلام والحضارة العربية الإسلامية عن اللغة العربية مباشرة. أما الترجمة الأدبية فتمت على أيدي المترجمين عن لغات أخرى، حيث ظهرت عدة ترجمات جزئية لـ «ألف ليلة وليلة» عن الإنجليزية واليابانية ابتداء من عام 1900؛ ولم تظهر الترجمة عن العربية مباشرة إلا على يد المستعرب المسلم ناشيون (Na Xun)، الذي ترجم معظم حكايات الكتاب ونشرها في خمسة مجلدات عام 1941.بالإضافة إلى «ألف ليلة وليلة»، كان للقراء الصينيين احتكاك بالأدب العربي الحديث أيضاً، ذلك عن طريق أعمال جبران خليل جبران، حيث ترجم الأديب الشهير ماو دون (Mao Dun) عن الإنجليزية خمسة مقاطع نثرية في كتاب «السابق» ونشرها في مجلة أدبية عام 1923 بعد ثلاث سنوات من صدور الكتاب الأصلي في الولايات المتحدة عام 1920. وفي عام 1931 ظهرت الترجمة الرائعة لـ «النبي» التي قامت بها الأديبة المشهورة بينغ شين (Bing Xin)، التي كتبت في مقدمة الكتاب "إنني مولعة بالحكمة الشرقية الفائقة واللغة الشاعرية العجيبة في هذا الكتاب الصغير". وقد لقيت هذه الترجمة إقبالا كبيرا في الصين وأعيدت طباعتها مرات كثيرة من يوم صدورها حتى الآن.وتعتبر الفترة من تأسيس الصين الجديدة إلى ما قبل "الثورة الثقافية" المرحلة الثانية لترجمة الأعمال العربية. وكانت تتأجج في تلك الفترة الحركات النضالية في سبيل الاستقلال والتحرر. ومن الطبيعي أن تقف الصين المتحررة حديثاً بجانب الشعوب المناضلة. ولخدمة هذا الموقف السياسي فقد ترجمت إلى الصينية عدة دواوين شعرية تضم قصائد وطنية أو ثورية لأبي القاسم الشابي وعبد الوهاب البياتي وشعراء آخرين من أقطار عربية عديدة، إضافة إلى مجموعات قصصية واقعية لقصاصين من مصر وسوريا ولبنان. وترجمت في هذه الفترة أيضاً «الأيام» لطه حسين و«كليلة ودمنة» لابن المقفع.ثم يأتي ما عرف بـ "الثورة الثقافية" التي دامت عشر سنوات ابتداء من عام 1966، والتي في الحقيقة ليست إلا كارثة بكل معنى الكلمة. وكان مضمار الترجمة الأدبية العربية حينذاك صورة مصغرة لما كانت تعانيه الصين من التدهور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إذ أن نشاطات الترجمة في هذه الفترة اختفت تماما.ومع انتهاء تلك الحقبة ودخول الصين عصر الإصلاح والانفتاح في أوائل الثمانينات القرن الماضي، دخلت الترجمة العربية المرحلة الثالثة وهي مرحلة ذهبية امتدت حتى منتصف التسعينات. فقد ترجمت خلال أقل من عشرين سنة نحو 150 عملا بين الروايات ومجموعات قصصية ومختارات شعرية أو نثرية، ونال الكتّاب المصريون واللبنانيون حظاً أوفر في النقل إلى اللغة الصينية، حيث يأتي نجيب محفوظ في صدارة هؤلاء الكتّاب، إذ ترجمت له حوالي عشرين عملا بما فيها ثلاثية «بين القصرين» و«أولاد حارتنا»، ويليه إحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وطه حسين وغيرهم. أما من لبنان فقد ترجمت المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران (أربع مرات)، إضافة إلى ترجمات كثيرة لمختاراته نثرا وشعرا؛ كما ترجمت أعمال لميخائيل نعيمة وجرجي زيدان وتوفيق يوسف عواد وغيرهم.ومن أقطار عربية أخرى ترجمت أعمال متفرقة لبعض الكتاب، منهم أسماء كبيرة في الأدب العربي الحديث، مثل أبو القاسم الشابي وغسان كنفاني وحنا مينا وعبد الحميد بن هدوقة وعبد المجيد بن جلون والطاهر بن جلون وأحمد إبراهيم الفقيه والطيب صالح وآسيا جبار وسعاد الصباح وليلى عثمان.وتباطأت وتيرة ترجمة الأدب العربي في الصين منذ انضمام الصين إلى المنظمة العالمية للملكية الفكرية في منتصف تسعينات القرن الماضي، إذ ينبغي على دور النشر طلب موافقة الكاتب قبل ترجمة أعماله ونشرها في الصين، مما يعني أن هذه الدور مضطرة إلى مراعاة الحسابات المالية قبل اختيار عناوين الترجمة. لذا، دخلت ترجمة الأدب العربي المرحلة الرابعة وهي مرحلة هادئة، فترجمت في القرن الجديد حتى الآن نحو ثلاثين عملا بين روايات ومجموعات قصصية ودواوين شعرية، منها 14 رواية عربية من ضمن 105 أفضل رواية عربية في القرن العشرين التي تم اختيارها من قبل اتحاد الكتاب العرب، وصدرت في خمس مجلدات تحت عنوان "مختارات من الروايات العربية". كما ترجمت ثلاث مختارات شعرية لأدونيس وكتاب آخر لمختاراته النثرية، وروايتان لجمال الغيطاني، إضافة إلى أعمال متفرقة بين روايات ومجموعات قصصية لبعض الكتاب العرب المعاصرين.بعد هذا العرض لأهم الإنجازات في ترجمة الأدب العربي في الصين، نتوصل إلى استنتاج أن الأدب العربي قد أثبت تواجده في الصين عبر جهود أجيال من المترجمين، ولكن حركة الترجمة لا تزال ناقصة وتعاني من بعض المشاكل والصعوبات.أولاً، إن التراث الأدبي العربي القديم لم ينقل إلى الصينية إلا ما يعدّ على الأصابع؛ ثانياً، لم تترجم من الشعر والمسرحية أعمال كثيرة، كما أن الترجمة ركزت على أقطار عربية معينة، أما أدب الخليج وأدب المغرب العربي فلم يستوفيا حقهما. ثالثاً، مستوى ترجمة الأدب العربي لم يكن مرضياً بشكل عام، ولاشك أن مستوى الترجمة غير المرضي كان من بين الأسباب التي تحول دون انتشار الأعمال العربية في الصين، حيث أن معظم الأعمال المترجمة –باستثناء ألف ليلة وليلة وأعمال جبران وبعض روايات نجيب محفوظ وشعر أدونيس- لم تطبع إلا نسخاً محدودة، وأن قراءها يقتصرون على الباحثين والمعنيين بالآداب الأجنبية..2- دراسة الأدب العربي في الصينلم تصاحب حركة الترجمة للأدب العربي في الصين حركة مماثلة لدراسة هذا الأدب إلا في وقت متأخر جداً. فكانت نشاطات الدراسة للأدب العربي لا تتجاوز جهوداً فردية بذلها قلة من الباحثين في أكاديمية العلوم الاجتماعية وبعض الجامعات التي تدرس اللغة العربية، وظهر نتاجهم البحثي بشكل أطروحات ومقالات تنشر في عدد من المجلات والصحف المتعلقة بالثقافات والآداب الأجنبية. وظلت الحال كذلك حتى عام 1984، حيث أقيم في بكين المنتدى الأول للأدب العربي اشترك فيه عشرات من الباحثين والهواة للأدب العربي من كل أنحاء الصين، وقدموا مداخلاتهم حول "الأدب العربي: ماضيه وحاضره"، واتفقوا على ضرورة تنظيم وتنشيط الجهود لدراسة الأدب العربي. فانبثقت من هذا المنتدى فكرة إنشاء جمعية بحوث الأدب العربي وبدأت بعد ذلك الأعمال التحضيرية لإنشاء الجمعية. وفي المنتدى الثاني للأدب العربي الذي أقيم في بكين عام 1987، والذي دار حول الموضوعين "ألف ليلة وليلة" و"نجيب محفوظ"، تم إنشاء جمعية بحوث الأدب العربي في الصين وانتخاب مجلس إدارة الجمعية. وانتخب الأستاذ رضوان ليو لين روي (Liu Linrui) المستعرب المسلم الشهير في جامعة بكين رئيساً للجمعية.بعد إنشاء الجمعية وتمشياً مع انفتاح الصين على الخارج واهتمام مثقفيها المتزايد بالثقافات والآداب الأجنبية، تكثفت نشاطات الجمعية التي تضم الآن نحو 50 عضوا، وعقدت ندوات بشكل سنوي دارت حول موضوعات مختلفة، مثل: "الأدب العربي والعالم"، و"الأدب العربي والحضارة العربية"، و"المرأة في الأدب العربي والأدب النسائي"، و"ألف ليلة وليلة"، و"الأدب العربي في ملتقى القرنين"، و"احتفاء بجبران"، و"احتفاء بنجيب محفوظ" و"دراسات مقارنة بين الأدب العربي والأدب الصيني"، و"الأدب العربي في ظل المتغيرات العربية" وغيرها، وإضافة إلى ذلك، أقيمت عديد من الحلقات والمحاضرات العلمية التي تناولت الموضوعات التالية: "الأدب العربي الحديث في اليمن"، "ترجمة الأدب العربي في الصين: واقعها ومستقبلها"، "الذكرى المئوية لميلاد ميخائيل نعيمة"، "الذكرى المئوية لطه حسين والعقاد"، "أزمة الخليج والأدب العربي في التسعينات"، و"أضواء على آخر التطورات في الأدب المصري" و"يحيى حقي وإبداعه الأدبي" و"أدب جيل الستينات في مصر" و"جبران خليل جبران: أديباً وشاعراً ورساماً" و"الحداثة والانتهاك الثقافي في شعر أدونيس" إلخ. كما نظمت لقاءات كثيرة بين أعضاء الجمعية وبين الأدباء العرب الزائرين للصين.ومنذ الثمانينات بدأت بعض الجامعات التي تدرس اللغة العربية تقبل طلاباً لدراسة الأدب العربي في مرحلة الدراسات العليا. وقد تخرجت من هذه الجامعات حتى الآن نحو 100 طالب وطالبة يحملون شهادتي الماجستير أو الدكتوراه في الأدب العربي. وإضافة إلى الجامعات التي تدرّس اللغة العربية (عدد هذه الجامعات تفوق 40 جامعة حسب آخر الإحصاء)، هناك عدة كليات للغة الصينية في جامعات أخرى تقوم بدراسة الأدب العربي أيضاً، وذلك عن الأعمال المترجمة إلى اللغة الصينية.وإضافة إلى البحوث والأطروحات التي نشرت في المجلات والصحف الأدبية، ألف الباحثون الصينيون في السنوات الأخيرة العديد من الكتب في الأدب العربي. ومنها «التاريخ العام للأدب العربي» للأستاذ صاعد تشونغ جي كون (Zhong Jikun)، أستاذ ومستعرب مخضرم في جامعة بكين والرئيس السابق لجمعية بحوث الأدب العربي في الصين، وقد فاز بجائزة الشيخ الزايد لشخصية العام الثقافية في عام 2011، وجائزة الملك عبد الله للترجمة عام 2011. ومن المؤلفات الأكاديمية التي صدرت أيضا «ألف ليلة وليلة: بين الأسطورة والواقع» و«التصوف في الأدب العربي الحديث»، و«عاصفة من الشرق: سيرة نقدية لجبران»، و«معجم الأدب العربي المعاصر»، و«بانوراما الأدب العربي»، و«التغني للحب: دراسة في شعر سعاد الصباح»، و«دراسات مقارنة للأدب العربي والأدب الصيني»، و«الأدب الشعبي العربي»، و«الخصائص اللغوية في أدب نجيب محفوظ»، و«التحول الثقافي في الأدب العربي الحديث»، و«دراسات لشعر فاروق جويدة»، و«دراسات للصور الشعرية في شعر محمود درويش»، و«الأدب العربي في الصين» و«السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث» وغيرها.
3- الأدباء العرب والصين
امتلك العرب، منذ العصور الوسطى حتى العصر الحديث، متخيلاً عاماً وتراكما معرفيا غنيا عن الصين، انعكست فيه صورة زاهية عن الحضارة الصينية والشعب الصيني، مفعمة بالحماسة والإعجاب، وربما ساعد على تكوين هذه الصورة الحديث المأثور (اطلبوا العلم ولو في الصين) الذي حمل في طياته الإشارة إلى بُعْد الصين، وإلى ما تختزنه من علوم.
أما الأدب العربي الحديث، فلم يخلُ من الذكر للصين على أيدي كبار الأدباء العرب، منهم جبران خليل جبران، الذي وضع الفيلسوفين الصينيين القديمين كونفوشيوس ولاو تسي في مقدمة الأبطال الذين تقرره فكرته كما وردت في مقالته بعنوان"لكم فكرتكم ولي فكرتي"؛ ومنهم ميخائيل نعيمة الذي يولع بالفكر التاوي للفيلسوف لاو تسي بشكل خاص، وكتب عنه مقالة جميلة بعنوان "وجه لاو تسي"؛ وبدر شاكر السياب، الذي كتب قصيدة "من رؤيا فوكاي"، مستوحاة من أسطورة شعبية صينية؛ وعبد الوهاب البياتي الذي عبر عن إعجابه بالثورة الصينية والزعيم الصيني في قصيدة بعنوان "إلى الشاعر ماو تسي تونغ"؛ ونزار القباني الذي ذكر كلمة الصين في قصائده أكثر من عشر مرات، كما في هذه الأبيات الشهيرة:
"أنا أحبك يا من تسكنين دمي
إن كنت في الصين،
أو كنت في القمر."
ومنهم أيضا الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح الذي كتب قصيدة بعنوان "قبلة إلى بكين"؛ والروائي اليمني محمد عبد الولي، الذي كتب قصة قصيرة بعنوان "طريق الصين"، تناول فيها قصة المهندسين والعمال الصينيين الذين ساعدوا اليمن على شق طريق جبلي يربط بين صنعاء ومدينة حديدة؛ والروائي السوري حنا مينا، الذي كتب ثلاثية روائية «حدث في بيتاخو»، بناء على سنوات قضاها في الصين كخبير اللغة العربية في دار النشر باللغات الأجنبية في بكين، مع العلم أن بيتاخو هو ترجمة صوتية لمصيف ساحلي مشهور قرب بكين. كما كتب أدباء عرب آخرون عن الصين ولا تكفي صفحات هذه المقالة لذكر كل كتاباتهم.
وفي السنوات الأخيرة، قام العديد من الشعراء والكتاب العرب الكبار بزيارات إلى الصين، تلبية لدعوات من جامعات صينية أو أصدقاء صينيين، منهم الشاعر السوري أدونيس الذي تشرفتُ بترجمة مختارات من شعره ونثره إلى اللغة الصينية، وزار الصين خمس مرات خلال السنوات الخمس الماضية وكتب ثلاث قصائد مطولة عن الصين هي: "غيوم تمطر الحبر الصيني: زيارة إلى بيجينغ وشانغهاي"، و"أول الأرض حلم" و"جرح لا يلتئم في جسد المعنى"؛ ومنهم الأديب المصري جمال الغيطاني، الذي زار الصين عام 2008، وسجل انطباعاته عن الزيارة في مقالة جميلة ضمها في كتابه «مقاصد الأسفار»؛ ومنهم الشاعر العراقي سعدي يوسف، الذي نشر كتيبا بعد زيارته للصين بدعوة صديقه شاعر صيني، وعنوان الكتيب: «ثلاث مدن، ثلاثة أسابيع في الصين»؛ ومنهم أيضا الأديب السوري علي عقلة عرسان الذي زار الصين مرات وكتب كتابا بعنوان «الصين: علاقات، قراءات، مشاهدات»؛ والشاعر المصري عبد المعطي حجازي، والكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه، وغيرهم ممن كتبوا رحلات أو مقالات عن الصين. ومن المقرر أن تزور الكاتبة المصرية نوال السعداوي العاصمة الصينية بكين في سبتمبر هذا العام حيث ستنشر مجلة «الآداب العالمية» الصينية عددا خاصا بأعمالها.
4- الأدب العربي وأنا
بدأت معرفتي بالأدب العربي بقراءة حكايات مختارة من «ألف ليلة وليلة»، شأن ذلك شأن كثير من القراء الصينيين. قرأتها بنهم وكنت تلميذاً في المدرسة الثانوية قبل أكثر من ثلاثين سنـة. لم تترك تلك الحكايات انطباعاً خاصاً في ذهني سوى أنها حكايات ظريفة ومشوقة. ولم أرجع إليها إلا في وقت متأخر - عندما طلب مني ناشر صيني أن أشارك جماعة مــن الأصدقاء لتقديم ترجمة جديدة للكتاب إلى اللغة الصينية. لذا، أتيحت لي إعادة قراءة الحكايات التي كنت سأقوم بترجمتها، وقد اكتشفتُ عبر هذه القراءة، بل القراءات، القيمة الفنية لهذا العمل الأدبي الخالد. ووجدتني أشاطر رأي أورهان باموك الذي اعترف بصراحة أنه لم يحب «ألف ليلة وليلة» في بداية الأمر لأنها "مليئة بالخيانات والحيل"، ولكن انطباعه تغير بعد قراءتها الثالثة وهو في العقد الثالث من عمره، "ربما يعود ذلك إلى أني عشت بما فيه الكفاية، وعرفت أن الحياة عبارة عن الخيانات والحيل. فأعجب بالمنطق الدفين لحكاياتها، وبدعاباتها الخفية وغناها وغرابتها، وجمالها وقباحـــتها، ووقاحتها وصفاقتها. لذا، تمكنت من أن أقدر «ألف ليلة وليلة» على أنها تحفة فنية. وإذا لم نستطع قبول «ألف ليلة وليلة» كما هي، كان ذلك يعني رفضنا قبول الحياة كما هي، ووقوعنا في مآسٍ دائمة".
بعد التحاقي بالجامعة بدأتُ دراسة اللغة العربية، وبدأتُ قراءة بعض القصص العربية القصيرة، ولكني كنت أشعر دائماً بأن هناك مسافة بيني وبين هذه الأعمال، هل يرجع سبب ذلك إلى الجو الثقافي السائد فيها، أو مشاعر شخصياتها، أو أساليبها اللغوية غير المألوفة؟ لست متأكداً. وقد تغلبت على هذه المسافة أخيراً عندما دخلت السنة الثالثة من مرحلتي الجامعية، حيث قرأت الترجمة الصينية لرواية «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران التي نشرت في مجلة «يي لين» (, Yi Linغابة الترجمة). وتأثرت بقصة الحب المأسوي بين بطلي الرواية، وهي مأساة تقترن بمآسي البلاد الشرقية، كما تأثرت بالسرديات المفعمة بالمشاعر والحِكم التي تتخلل صفحات الرواية. إنها المرة الأولى التي تذوقت فيها جمال الأدب العربي، فاستعرت من أستاذي النسخة العربية للرواية وقضيت أياماً ليل نهار لنسخ الرواية بنصها العربي وترجمتها الصينية إلى دفتر بخط اليد. وقد مضى على ذلك أكثر من ثلاثين عاماً حتى الآن، حيث انتقلت من منزل إلى منزل، ولكني ما زلت أحتفظ بهذا الدفتر الذي اصفرّ لونه منذ سنين، لأنه بمثابة تذكار حميم لمحبتي للأدب العربي.
اشتغلت بالتدريس في الجامعة بعد حصولي على الدكتوراه في أوائل تسعينات القرن الماضي، وفوجئت بأن أعمالاً كثيرة لجبران لم تترجم بعد إلى اللغة الصينية، منها أعماله المكتوبة بالإنكليزية مثل «المجنون» و «السابق» و «التائه» و «حديقة النبي» وغيرها، ومنها أيضاً رسائل حب مكتوبة إلى مي زيادة وماري هاسكل، فبدأت أنهمك في هذا الكنز الأدبي الدفين، قراءة وترجمة. أذكر أن ذلك كان في أوائل الشتاء القارس، وقد فتح العمال فتحات في جدار مسكني لتركيب رادياتور (مشعاع) التدفئة، ولكنهم لم يسدّوا هذه الفتحات إلا بعد أسبوع تقريباً. كنت أجلس تحت المصباح لابساً معطفاً قطنياً ثقيلاً، بل ألفّ حول جسمي لحافاً قطنياً من أجل الاستدفاء، أجلس تحت المصباح لأقرأ وأترجم، من دون أن أشعر بالبرد والعزلة، بل كان يغمرني الدفء والغبطة. اليوم، عندما تصفحت أعمال جبران باللغة الصينية التي قمت بترجمتها، خيّل إلي أني أحسست بالهواء البارد الممزوج بالتراب الذي تسلل إلى مسكني من فتحات الجدار، وفوق ذلك، أحسست بالدفء الذي كان يبعثه في نفسي الأدب العربي متمثلاً في أعمال جبران.
ولم يلبث أن دخل نجيب محفوظ إلى عالمي الروحي بقوة، حيث تمتعت بمتعة لا توصف في قراءة أعماله الروائية: فقد أحزنتني «بداية ونهاية» وجعلتني غارقاً في أسى كبير متحسراً على مأساة انهيار أسرة مصرية متوسطة الحال بعد وفاة الوالد، واستهوتني ثلاثية «بين القصرين»، وهزتني الأزمة الروحية التي نغّصت بال كمال أحمد عبدالجواد بعد احتكاك هذا الشاب الشرقي بالفكر الغربي، وكدرت صفاء بالي الذي تعوّد على الهدوء والراحة في البيئة الثقافية الصينية، وزادت «أولاد حارتنا»، إحدى الروائع المحفوظية الجريئة التي أعادت النظرة إلى العلاقة بين الله والإنسان، زادت وعمّقت إدراكي لمسيرة الإنسان إلى الرقي المعنوي والمعرفي، المسيرة التي ما خلت أبداً من عثرات وعذابات... وقد كان لي شرف اللقاء بنجيب محفوظ في مبنى جريدة الأهرام عام 1987 عندما كنت طالباً مستمعاً في جامعة القاهرة. كان في منتهى التواضع واللطف، أذكر أن مترجم الرواية «زقاق المدق» إلى الصينية كان معي أيضاً، وعندما أهدى صديقي المترجم النسخة الصينية لهذه الرواية إليه، وأهداه معها تمثالاً خزفياً ملوناً لحصان، كعربون خجول للصداقة بدلاً من حق التأليف، قبلهما الأديب الكبير بابتسامة، وشكر المترجم قائلاً: "زقاق المدق في الصينية كمان؟!". وأذكر أنه كان ثقيل السمع، فاضطررنا إلى رفع الصوت والتكرار حتى يسمع، وأخبرنا في معرض الحديث أنه قرأ من الأعمال الصينية «كتاب الحوار» لكونفوشيوس، ورواية «الركشاوي» للأديب الصيني المعاصر لاو شه (Lao She)، وأعجب بهما كثيراً. وفي عام 2000، حين عكفت على ترجمة كتابه الجديد «أصداء السيرة الذاتية»، كنت أذهب دائماً إلى نهر صغير قرب بيتي، أتمشى في ضفتيه متأملاً لحل "ألغاز أبي الهول" التي وضعها محفوظ في ثنايا هذا الكتاب، الصغير بحجمه والكبير بجماله الفكري والفني. وكانت صورته اللطيفة تطفو كثيراً في مخيلتي. وبفضل هذا الكتاب ازدادت معرفتي للحياة التي قال عنها الأديب: "تبدو الحياة سلسلة من الصراعات والدموع والمخاوف، ولكن لها سحر يفتن ويسكر".
وفي السنوات الأخيرة تشرفت بالتعرف إلى صديق جديد، ولا يعني ذلك إهمالي أصدقائي القدامى طبعاً! وقد لاحظ بعض معارفي أن حديثي في هذه السنوات لا يخلو من ذكر اسم أدونيس. وليس في الأمر غرابة في رأيي، نظراً إلى أهمية أدونيس البالغة سواء بالنسبة إلى الشعر العربي الحديث أم الثقافة العربية المعاصرة. وقد كتبتُ في رسالتي الأولى إليه ما يأتي: "في السنوات الماضية، وفي ليالي بكين التي انطفأت معظم أضوائها حين انتصف الليل، كان مصباح مكتبي يضيء مؤلفاتك الشعرية أو النثرية، التي قضيت بصحبتها أوقاتاً سعيدة لا تنسى". ومن دواعي فخري واعتزازي أن أدونيس أثار في الصين عواصف شعرية في السنوات الأربع الماضية، إذ إن مختاراته الشعرية التي قمت باختيارها وترجمتها وصدرت في آذار (مارس) عام 2009 تحت عنوان «عزلتي حديقة»، قد أعيدت طباعتها إثنى عشر مرة حتى الآن، الأمر الذي شكل ظاهرة فريدة في الوسط الشعري والأدبي في الصين اليوم. أما إذا بحثنا عن اللفظ "أدونيس الشاعر" في محرك البحث الصيني على الإنترنيت، فتصل نتائج البحث إلى مئات الآلاف! هل عليّ، إذاً، أن أكتب رسالة جديدة إلى أدونيس قائلاً: "في ليالي بكين، بل في ليالي ربوع أرض الصين الشاسعة، يسهر شعرك راقصاً ليرافق عدداً كبيراً من قرائك ومحبيك في بلاد التنين"؟
اليوم، عندما أتابع مشاهد مؤلمة للمآسي الإنسانية التي تقع يومياً في وطن الشاعر، في أرض سورية الجميلة، أعرف أن قلبه يقطر حزناً ودماء تحت وطأة الألم، ولشد ما تأثرت بأبياته الجميلة عن الوطن:
"وطني وأنا
في قيدٍ واحدٍ:
من أين لي أن أنفصلَ عنه؟
كيف يمكنُ ألا أحبَّه؟"
في هذه اللحظة، تطفو على ذاكرتي أيضاً وجوه كثيرة للشعراء والكتاب العرب الذين ترجمت أعمالهم أو قرأتها: بدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي، صلاح عبدالصبور، أمل دنقل، نزار قباني، محمود درويش، سعدي يوسف، الطيب صالح، محمود المسعدي، جمال الغيطاني، علاء الأسواني، زيد مطيع الدماج، سعدالله ونوس، أحلام مستغانمي، ليلى عثمان ورجاء عالم... وجوه لطيفة مبتسمة صبوحة أو وجوه نحيفة حزينة مكفهرة، كلها تركت انطباعات لا تمحى في ذاكرتي. يبدو لي، أن الأدب لا يختزن الطاقة التي تمكِّنه من إحداث "الدوي الذي يشق الفضاء"، كما قال أدونيس، ولكن "فيه قوة الحرير وصلابة العسل"، كما قال محمود درويش. فها هو الأدب، استطاع أن يحافظ على الكرامة والنبل للأمة العربية بعد أن عاشت دهوراً من المعاناة والمصائب. وها هو الأدب، جعلني أنا، وعدداً لا يحصى من القراء الصينيين، أصدقاء الروح للشعوب العربية.
===================
* شوي تشينغ قوه، عميد كلية الدراسات العربية في جامعة الدراسات الأجنبية - بكين
* (نشرت المقالة في مجلة بانيبال، صيف عام 2004)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق