Pages

الجمعة، 27 مايو 2016

مقال للأستاذ حسين إسماعيل


 قرأت، أنت وأنا وكثيرون، في كتاب المطالعة أن العمر الحقيقي للإنسان لا يُقاس بعدد السنوات التي يعيشها وإنما بقدر ما يقدم من عطاء ومساهمات لمجتمعه وللبشرية. وفي حوار تعرض لأشياء عديدة قال لي البروفيسور تشو كاي (نصر الدين)، أستاذ اللغة العربية السابق بجامعة الدراسات الأجنبية ببكين، إن للإنسان ثلاثة أعمار؛ الأول هو العمر الذي يُحدد بتاريخ الميلاد؛ وهذا لا حول لك ولا قوة فيه، فبطاقة هويتك وجواز سفرك وكافة وثائقك الرسمية تشهد به. والثاني، هو العمر النفسي، فقد تكون شابا في العشرين ولكن عمرك النفسي يضعك في صفوف الشيوخ، وقد تكون فوق الثمانين وعمرك النفسي عمر شاب في ريعان الشباب؛ الثالث هو العمر الصحي، فقد تكون شابا وصحتك عليلة وقد تكون كهلا أو شيخا هرما وصحتك أفضل من كثير من الشباب. العمر الأول، والكلام للأستاذ الصيني الذي يتحدث العربية الفصحى بطلاقة يحسده عليها كثير من أبناء الضاد، لا اختيار لك فيه، والثالث اختيارك فيه قائم ولكن غير مطلق، أما الثاني فملك لك وحدك. الأستاذ الصيني الذي انقلب تماما، مثل كثير من الصينيين، على مقولة القائل: سنون تمر وأيام تُعاد لعمرك ما في الليالي جديد، فقرر، ربما من باب التغيير أن يترك العمل بتدريس العربية ونزل إلى نهر التجارة مع العرب أيضا، حكى لي أنه شرح ذات مرة نظريته العمرية هذه لسفير العراق السابق لدى الصين بسام كُبة، الذي أصبح وكيلا للخارجية العراقية فيما بعد في حكومة إياد علاوي المؤقتة، فأبدى الرجل اهتماما وسأل عن التفاصيل حول العمر النفسي، فقال تشو كاي إن العمر النفسي له محددان، أولهما السعي إلى الجديد في كل شيء... وأنت يا سعادة السفير شغوف بمعرفة الجديد، وكان الرجل حقا دبلوماسيا متميزا ذا خبرة وسعي ومعرفة. المحدد الثاني هو السعي إلى الجمال، فأشار كبة، وفقا لرواية تشو كاي، إلى حيث الجمال في داره. لهذا عندما قرأ البروفيسور تشو نبأ اغتيال السيد كبة في الثاني عشر من يونيو عام 2004 لم يصدق أن الرجل قد مات، وكانت صدمته عظيمة. هكذا قال لي.

     وسألتني زميلة صينية عن عمر صديق لي، فقلت لها تجاوز الستين بعامين، فهزت رأسها وقالت: أمامه حوالي عشرين سنة!

     بعيدا عن هذه الفلسفة التي قد تتفق معها أو تختلف، الشيء المؤكد هو أن توقعات الصينيين لعمر الإنسان تغيرت ولهم أسبابهم، فبعد أن كان متوسط العمر المتوقع للفرد الصيني سنة 1949، عندما تأسست الصين الجديدة، ستة وثلاثين عاما، وصل في سنة 1999 إلى 68.55 سنة، وفي سنة2000 وصل إلى 71.4 سنة. بل إن العمر المتوقع للفرد في مدينة بكين، وهي ثاني أكبر مدينة في الصين من حيث العمر المتوقع للفرد بعد شانغهاي، بات في العام الماضي من الثمانين قاب قوسين أو أدنى، وتحديدا 79,87 سنة، متجاوزا الرقم في عام 2003 وهو 79,62 سنة. وبالطبع النساء في الصين، كما هو الحال في كل العالم، أطول عمرا من الرجال، فمتوسط العمر المتوقع للمرأة البكينية هو 81,51 سنة بينما العمر المتوقع للرجل البكيني هو78,24 سنة، أي يقل بثلاث سنوات عن المرأة. ويزيد العمر المتوقع للمواطن الصيني في المدن عن الريف بست سنوات، حيث مازال التفاوت بين أهل المدن والريف في مستوى المعيشة والظروف الصحية كبيرا.

     الصين التي وصل عدد سكان برها الرئيسي في الساعات الأولى من اليوم السادس للشهر الأول للعام الخامس بعد الألفين، مليارا وثلاثمائة مليون نفس، أصبحت بلد معمرين، واقرأ هذه الأرقام وتأكد تماما أنه ليس ثمة أي خطأ مطبعي: يوجد في الصين، حوالي ثمانية عشر ألف شخص عمرهم تجاوز المائة سنة، وبينما كان عدد الصينيين الذين تخطوا حاجز الثمانين في عام ألفين هو سبعة ملايين وستمائة وثمانون ألف إنسان وصل الرقم حاليا إلى نحو اثني عشر مليونا، بمعدل زيادة سنوية 4,56 في المائة، وبمعنى آخر، يوجد صيني يبلغ عمره ثمانين عاما أو يزيد بين كل مائة صيني، وفي عام 2010 سيصل عدد الثمانيين فما فوق سبعة عشر مليونا أي نصف عدد السكان الحالي لكندا، ثاني أكبر دولة مساحة في العالم، فالثمانيون يشكلون الفئة العمرية الأسرع نموا في الصين، و سرعة نمو هذه الفئة العمرية في الصين تفوق معدل النمو السكاني ومعدل زيادة المسنين بشكل عام بها!

     كان الصينيون قديما، ومازال كثيرون منهم، يقيمون احتفالا كبيرا لمن يبلغ سن الستين، فقد كانوا يعتبرون من يصل هذه السن حقق اختراقا، ولكن الذين تجاوزت أعمارهم الستين في الصين يقترب عددهم حاليا من مائة وثلاثين مليونا، وبمعنى آخر يوجد بين كل تسعة صينيين شخص واحد فوق الستين، وفي مدينة شانغهاي، أكبر مدينة صينية سكانا ومعمرين، يوجد 2,6 مليون فرد فوق سن الستين، أي أنه من بين كل خمسة أفراد في المدينة يوجد ستيني واحد. وتشير الدراسات إلى أنه في عام 2010 سيكون عدد من تخطوا الستين ربيعا في الصين مائة وأربعة وسبعين مليونا وفي عام 2050 سيكون عددهم أربعمائة مليون (منهم ثلاثمائة مليون فوق الخامسة والستين)، ولما كان الرقم المتوقع لتعداد سكان الصين في تلك السنة هو مليار وستمائة مليون فإن ذلك يعني أنه سيكون هناك شخص واحد فوق الستين بين كل أربعة صينيين.

     الصين حاليا هي الدولة الأكثر نموا في العالم، ليس في الاقتصاد فقط وإنما في شيخوخة مجتمعها، ونسبة كبار السن في ريف الصين أكبر من المدن، ذلك أن معظم الشباب ومتوسطي العمر يهجرون الريف إلى المدن سعيا وراء فرص عمل أفضل وحياة أكثر رفاها، تاركين الريف للعجائز والأطفال.

     اللافت أنه من بين 77 معمرا في منطقة نينغشيا الذاتية الحكم ينتمي 55 منهم إلى المسلمين أبناء قومية هوى، الذين يمثلون ثلث سكان المنطقة فقط، ويقال إن السر في طول أعمارهم هو عادات حياتهم، فهم لا يتناولون من الطعام الكثير ويفضلون شرب الشاي، الأخضر طبعا، والمأكولات غير الدسمة.، ويتناولون قدرا محددا من الطعام والماء في مواعيد منتظمة يوميا، إضافة إلى أنهم لا يدخنون ولا يشربون الخمر، على عكس عموم الصينيين الذين يعيش بينهم ثلث مدخني العالم ويشرب معظمهم المشروبات الكحولية.

     الصين تتقدم بقوة نحو ما يسميه علماء الاجتماع والسكان "مجتمع الشيخوخة"، بكل ما يفرضه ذلك من متطلبات وأعباء على الحكومة وعلى الأسر، وتبرز مشاكل الشيخوخة تدريجيا في الصين التي سيتخطى ربع سكانها سن التقاعد في عام 2030، وبذلك سيتحمل عدد ليس بالكثير ممن هم في سن العمل، نفقات العلاج وإعالة المسنين وستتفرع الاعتمادات المالية التي كانت تدفع التنمية الاقتصادية لتستخدم في رعاية كبار السن الذين يتزايد عددهم مع كل ثانية تمر.

     والمعمرون في الصين لهم مشاكلهم، حيث ينتحر مائة ألف مواطن صيني فوق سن الخامسة والخمسين سنويا، يمثلون ثلث عدد الذين ينتحرون. وحسب الخبراء، 25% من ضحايا قتل النفس الكبار يعانون من الاكتئاب والضغط لفترة طويلة، ولهذا أقامت العديد من التجمعات السكنية بالعاصمة الصينية مراكز استشارات نفسية من أجل تقليل نسبة الانتحاريين من كبار السن. ويعاني أكثر من ثمانين بالمائة من كبار السن من أمراض مختلفة على رأسها ارتفاع ضغط الدم وأمراض الجهاز التنفسي وإعتام عدسة العين وأمراض القلب والدماغ والأوعية الدموية و16.7 بالمائة منهم يحتاجون إلى مساعدة من الآخرين في حياتهم اليومية و5.1 بالمائة يعتمدون على الآخرين تماما. والمعمرون في الصين أدخلوا مصطلحا جديدا في قاموس الحياة الصينية هو "الأعشاش الخالية"، وحيث أن المعمرات أكثر عددا من المعمرين الذكور، فإن معظم قاطني الأعشاش الخالية مسنات، حيث يعيش 82% من كبيرات السن وحيدات في حين تبلغ النسبة بين المسنين الذكور 69%.

     الفراغ والملل القاتل وإهمال الأبناء وأسباب كثيرة تجعل من جهاز التلفاز التسلية، وربما السلوى، لكثير من كبار السن، فحسب دراسة نُشرت نتائجها مؤخرا يمضي 85% من المسنين وقتهم في مشاهدة التلفاز، وحسب دراسة أجراها مركز شانغهاي للصحة العقلية يعاني 70% من المسنين في المدينة من مشاكل نفسية وتراجع رضاء كبار السن عن حياتهم بنسبة 5,6% خلال السنوات السبع الأخيرة، وفقا لمركز شانغهاي لبحوث كبار السن.

     الحكومة الصينية تعي هذه القضية بكل أبعادها، وقد طالب نائب رئيس مجلس الدولة الصيني هوى ليانغ يوي، الحكومات على كافة المستويات باتخاذ إجراءات فعالة لمعالجة مسألة المجتمع المسن وحماية الحقوق القانونية لكبار السن. وحدد المسئول الصيني الذي يشغل أيضا منصب مدير اللجنة الوطنية لشؤون المسنين، أن مجتمع الشيخوخة في الصين بات مسألة "ذات أهمية استراتيجية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية"، وقال "إن كيفية معالجة مسألة المسنين على نحو لائق هي المهمة الضرورية وطويلة الأمد التي تواجهنا"، مؤكدا أن الحكومة سوف تناضل من أجل تحسين نظام المعاش الأساسي، ونظام علاوة المعيشة، ونظام الرعاية الصحية في كل من المناطق الحضرية والريفية لضمان مستوى المعيشة الأساسي لكبار السن، وسوف تدعم الحكومة نمو القطاعات التي تهتم بالاحتياجات الخاصة لكبار السن ومؤسسات الرعاية الاجتماعية للمسنين في الوقت الذي ستبحث فيه عن سبل "لإرشاد وتشجيع المسنين للمساهمة في التنمية الاقتصادية الاجتماعية في البلاد". وفي أجهزة الإعلام الصينية تقرأ كثيرا عناوين مثل " كيف نعيل المسنين غدا؟" و"رعاية المسنين ستثمر في كبرنا".

     إن حياة الصينيين راحت تطول وتصل أرذل العمر، بحساب عدد السنين، ولكن مشاكل الشيخوخة تجعلني أتحفظ كثيرا في ترديد عبارات تقليدية من شاكلة "يطول عمرك" "يا طويل العمر"، "البقية في حياتك" وتمنياتي لك بطول العمر.
http://www.chinatoday.com.cn/Arabic/2006n/0604/p80.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق