Pages

الأحد، 5 يونيو 2016

التباس المعنى في عبارة "اطلبوا العلم ولو في الصين".

البعد حجاب، والصين عالم بعيد، قصيّ، كانت الصين أقصى ما يمكن أن يتخيّله العربيّ من بعد جغرافيّ، ولقد ورد اسم الصين في نادرة رويت عن أحد معاصري الجاحظ،  قيل لأبي هفّان: لِمَ لا تهجو الجاحظ، وقد ندّد بك وأخذ بمُخنَّقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله، لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلاّ بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طنّ منها بيت في ألف سنة([24]). النادرة تحكي عن شهرة الجاحظ المستطيرة وانتشار مؤلفاته انتشار النار في الهشيم، والتضاد الحادّ بين ابن هفّان والجاحظ هو الفارق ما بين يوم وألف سنة، ولم يكن يوجد في ذلك الوقت إلاّ قدرة سحريّة توصل أرنبة أنف ابن هفّان الى الصين.
 وهنا أحبّ أن أقرأ قراءة مختلفة العبارة المأثورة، والمنسوبة للرسول، وقلت منسوبة لأنّ كتب الأحاديث الصحيحة لا تأتي على ذكر هذا الحديث. ولقد أورد ابن قيّم الجوزية هذا الحديث ضمن الأحاديث الموضوعة، والإمامان الألبانيّ والشوكانيّ اعتبراه موضوعاً أو ضعيفاً[25]. العبارة معروفة، وشائعة، تقول:" اطلبوا العلم ولو في الصين". هذا التعبير إذا ما دقّقنا النظر في دلالته البعيدة نجد أنه يضع الصين والمستحيل في حيّز واحد، أي أنّ على المرء أن يتحمّل في سبيل العلم كلّ المشقات. ولا تزال الصين، إلى اليوم، ذلك المكان القصيّ، البعيد جدّاً. هذا ما نلمحه في عبارة وردت على لسان أبي حامد الإسفرايينيّ :" لو سافر رجل الى الصين حتّى يحصل له كتاب تفسير محمّد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا" . والعبارة لا تقصد الذهاب الى الصين وإنّما تريد إظهار قيمة تفسير الطبريّ الذي يستحقّ الحصول عليه بذل المستحيل وقطع الأبعاد. وفي أحد التعابير الشائعة الطريفة التي نسمعها في لبنان نجد أنّ الصين تدخل في أحد الأقوال التي تنبت على اللسان حين نريد أن نظهر للشخص الذي نحدّثه أنّه غائب تماماً عن مجرى الأحداث أو إنّه لا يعرف شيئاً عما يحيط به، ويقال التعبير في صيغة استفهام استنكاري وينمّ عن استغراب" شو جايي من الصين"؟ أمن الصين أنت آت؟ وكأنّ المجيء من الصين يشبه يقظة أهل الكهف!
في الحديث المنسوب للنبيّ  تبرز" لو" على شاكلة السور الصينيّ المتعذّر خرقه. عبارة "اطلبوا العلم ولو في الصين" عبارة لم تحثّ العرب على طلب العلم من الصين أو في الصين، وأنا أتحدّث، هنا، عن مرحلة ماضية، ولكنّها كانت على المستوى الحضاريّ مرحلة عربية ذهبيّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق