كنت قد قرأت عبارة يصف فيها الناقد البلغاريّ تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov منهج الناقد الروسيّ الشهير ميخائيل باختين Mikhaïl Bakhtine وطريقته في ممارسة تخصّصه في الكتابة النقديّة فكان ممّا قاله: " إنّ تخصّص باختين ... هو أنْ لا يكون متخصّصاً" (وردت العبارة في كتاب "ميخائيل باختين، المبدأ الحواريّ" ترجمة فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص15). استوقفتني العبارة ربّما لأنّي لست من المؤمنين إيماناً أعمى بالتخصّص الضيّق، واعتبره نقيصة تؤذي العلم والعالم أكثر ممّا تنفعه، فالعلم، على ما أتصوّر، كالجسد مترابط ومتراصّ، ولكن لا مفرّ، عمليّاً، من التخصّص. كيف تكون متخصّصاً وتتمرّد، في الوقت نفسه، على التخصّص الزمّيت الذي يقيّد عينيك ويكبّل حركات فكرك؟ على المتخصّص أن يكون ماهراً، على شاكلة خيط السبحة، في نظم أكثر من حبّة في خيط تخصّصه.
ولقد ورد في كتاب الراغب الأصفهاني "محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء" ، وهو من الكتب التراثية القيّمة والمؤنسة، عبارة قد تصدم من يقرأها لأوّل وهلة لأنّها تطعن في فحولة أهل التخصّص، وهي:" من لا يعلم إلاّ فنّاً واحداً من العلم سمّي الخصيّ من العلماء". يبدو أنّ ميخائيل باختين لم يكن يريد أنْ يكون من العلماء الخصيان فاضطرّ أنْ ينفذ بجلده من التخصّص إلى آفاق أرحب.
أستعين، هنا، بمفهوم الشجرة لتبيان وجهة نظري في فهم التخصّص وافتراض تشعبّه لإخصابه، والشجرة صفحة من كتاب الطبيعة الذي لا تنفد صفحاته وحكمه، الطبيعة كتاب بكلّ معنى الكلمة، كلّ ذرّة رمل هي درس يمكن أن يكون درساً في الحكمة لا سيّما في زمن " تقنيّة النانو". ومن يقلب صفحات الكون يمكن أنْ يصير مثقّفاً كونيّاً. هناك أناس كثيرون مثقّفون ولكنّهم أميّون في علاقتهم مع الطبيعة ومع العالم ومع الأشياء. ولا يحظى بإعجابي من يتعالى عن مقاعد الدراسة في مدرسة الطبيعة، أو يعتبر نفسه ختم العلم ولا يحتاج إلى مزيد رغم نصوع دلالة الآية القرآنيّة الكريمة:" وقلْ ربّ زدني علماً". ومن لا يعرف قيمة البرغشة ليس أفضل حالاً من البرغشة. الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها ولو من جناح بعوضة أو رفرفة فراشة!
أعود إلى الشجرة وأقارن بينها وبين التعليم وبينها وبين العالِم. على العالم أن يكون على شاكلة بنية الشجرة. كلّ شجرة تتألف من ثلاثة أشكال مترابطة. شكلان متشابهان يربط بينهما شكل مختلف. كلّ شجرة هي جذور وجذع وأغصان ( أترك الورق والثمر لما بعد) اتكلم على هيكل الشجرة الخشبيّ لا العظميّ. الداخل إلى المدرسة يشبه حبّة تزرع في الأرض. تبدأ جذورها بالتشكّل قبل أنْ تشقّ طريقها إلى الضوء، أي أنّ الطفل يبدأ باللاتخصّص، يدرس لغته ولغة ثانية ورياضيّات وتاريخا وجغرافيا ورسما ...إلخ، اللاتخصّص، هنا، هو تشكيل للجذور المتشعّبة. هل تكتفي شجرة بجذر واحد يقيم أود جذعها والأغصان؟
المدرسة هي الأساس ولا تختلف عن طبيعة الشجرة في تكوين الجذور. كلّ مادة يتعلّمها الإنسان في المدرسة هي بمثابة جذور له، وبعد المدرسة يبدأ التخصّص في الجامعة. التخصّص الجامعيّ بمثابة جذوع الأشجار أي أنّ التخصّص صلب بصلابة الجذوع، والتخصّص ينبثق من صلب اللاتخصص انبثاق الجذع من تجميع الجذور. ولكن الشجرة بعد الجذع تجد نفسها ليست شجرة مكتملة. الشجرة لا تكتمل إلاّ بأغصانها. والتخصّص عليه أن يكتمل بالتخلّص من التخصّص اي ان تتفرّع من جذع تخصصه أغصان كثيرة لأنّ الثمر ليس في الجذع وانّما في الأغصان.
كلّ الموسوعيين في العالم كانوا يعرفون فضل الشجرة على نمط كتاباتهم. إنّ التخصّص التي لا يطعّم بعلوم بعيدة عنه، في الظاهر، لا يمكن له أن ينضج ويؤتي أكله. وهنا استشهد مجددا بعبارة أخرى لتودوروف عن باختين يقول فيها:" إنّ منظرّاً عبقريّاً في حقل الأدب ينبغي أن يأخذ في اعتباره حقولاً أخرى غير حقل الأدب".
كان للبيولوجيا، على سبيل المثال، فضْل في تطوّر علم اللغة وولادة الألسنيّة، كما كان لمنهج دركهايم في علم الاجتماع فضل على نظرية ده سوسور في كتابه:" محاضرات في الالسنية العامّة". وكان لعلوم الدماغ فضل في تقدّم العلوم اللغويّة ورفع الغلالة عن بعض أسرار اللغة. فهل يحسن بعالم لغة مثلاً أن يقول: " ما لي ولطبّ الأعصاب؟" فيبقى على هامش تفاصيل كثيرة من عالم اللغة العصبيّ والبيولوجيّ الفاتن.
اللغة صرف ونحو وأعصاب وبيولوجيا.
وأجدني مؤمناً كلّ الإيمان بمقولة الراغب الأصفهانيّ التي تربط بين التخصّص والخصاء, وبالمناسبة "الخاء" و"الصاد" قاسم مشترك بين الكلمتين! وكأنّهما يريدان دعم وجهة نظر الراغب الأصفهانيّ.
انهي هذا المقال بطرفة مأساوية كنت قد قرأتها ذات يوم عن شخص يشكو وجعاً في عينه اليمنى فذهب عند طبيب عيون، ولكنّ الطبيب اعتذر عن معالجته لأنّه متخصّص بالعين اليسرى ولا يريد أن يعتدي على تخصّص غيره. طبعاً، لا تخلو الطُّرْفة من مبالغة مقصودة شأنها شأن أغلب الطرف.
مقالي ليس نقداً للتخصّص أو تقليلاً من شأنه وإنّما هو احتفال بالأغصان، ودعوة للتبصّر بهيكل الأشجار المثلّث. في أيّ حال، أشير إلى أنّ الجامعات انتبهت إلى مشكلة التخصّص المحض، الضيّق، وتوجهت إلى إدخال موادّ عابرة للتخصّص هي ما يعرف بالـ"transdisciplinaire" ولا سيّما في هذا الزمن المعولم والذي تحدّد معالمه "شبكة" المعرفة العنكبوتية.
بلال عبد الهادي
ولقد ورد في كتاب الراغب الأصفهاني "محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء" ، وهو من الكتب التراثية القيّمة والمؤنسة، عبارة قد تصدم من يقرأها لأوّل وهلة لأنّها تطعن في فحولة أهل التخصّص، وهي:" من لا يعلم إلاّ فنّاً واحداً من العلم سمّي الخصيّ من العلماء". يبدو أنّ ميخائيل باختين لم يكن يريد أنْ يكون من العلماء الخصيان فاضطرّ أنْ ينفذ بجلده من التخصّص إلى آفاق أرحب.
أستعين، هنا، بمفهوم الشجرة لتبيان وجهة نظري في فهم التخصّص وافتراض تشعبّه لإخصابه، والشجرة صفحة من كتاب الطبيعة الذي لا تنفد صفحاته وحكمه، الطبيعة كتاب بكلّ معنى الكلمة، كلّ ذرّة رمل هي درس يمكن أن يكون درساً في الحكمة لا سيّما في زمن " تقنيّة النانو". ومن يقلب صفحات الكون يمكن أنْ يصير مثقّفاً كونيّاً. هناك أناس كثيرون مثقّفون ولكنّهم أميّون في علاقتهم مع الطبيعة ومع العالم ومع الأشياء. ولا يحظى بإعجابي من يتعالى عن مقاعد الدراسة في مدرسة الطبيعة، أو يعتبر نفسه ختم العلم ولا يحتاج إلى مزيد رغم نصوع دلالة الآية القرآنيّة الكريمة:" وقلْ ربّ زدني علماً". ومن لا يعرف قيمة البرغشة ليس أفضل حالاً من البرغشة. الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها ولو من جناح بعوضة أو رفرفة فراشة!
أعود إلى الشجرة وأقارن بينها وبين التعليم وبينها وبين العالِم. على العالم أن يكون على شاكلة بنية الشجرة. كلّ شجرة تتألف من ثلاثة أشكال مترابطة. شكلان متشابهان يربط بينهما شكل مختلف. كلّ شجرة هي جذور وجذع وأغصان ( أترك الورق والثمر لما بعد) اتكلم على هيكل الشجرة الخشبيّ لا العظميّ. الداخل إلى المدرسة يشبه حبّة تزرع في الأرض. تبدأ جذورها بالتشكّل قبل أنْ تشقّ طريقها إلى الضوء، أي أنّ الطفل يبدأ باللاتخصّص، يدرس لغته ولغة ثانية ورياضيّات وتاريخا وجغرافيا ورسما ...إلخ، اللاتخصّص، هنا، هو تشكيل للجذور المتشعّبة. هل تكتفي شجرة بجذر واحد يقيم أود جذعها والأغصان؟
المدرسة هي الأساس ولا تختلف عن طبيعة الشجرة في تكوين الجذور. كلّ مادة يتعلّمها الإنسان في المدرسة هي بمثابة جذور له، وبعد المدرسة يبدأ التخصّص في الجامعة. التخصّص الجامعيّ بمثابة جذوع الأشجار أي أنّ التخصّص صلب بصلابة الجذوع، والتخصّص ينبثق من صلب اللاتخصص انبثاق الجذع من تجميع الجذور. ولكن الشجرة بعد الجذع تجد نفسها ليست شجرة مكتملة. الشجرة لا تكتمل إلاّ بأغصانها. والتخصّص عليه أن يكتمل بالتخلّص من التخصّص اي ان تتفرّع من جذع تخصصه أغصان كثيرة لأنّ الثمر ليس في الجذع وانّما في الأغصان.
كلّ الموسوعيين في العالم كانوا يعرفون فضل الشجرة على نمط كتاباتهم. إنّ التخصّص التي لا يطعّم بعلوم بعيدة عنه، في الظاهر، لا يمكن له أن ينضج ويؤتي أكله. وهنا استشهد مجددا بعبارة أخرى لتودوروف عن باختين يقول فيها:" إنّ منظرّاً عبقريّاً في حقل الأدب ينبغي أن يأخذ في اعتباره حقولاً أخرى غير حقل الأدب".
كان للبيولوجيا، على سبيل المثال، فضْل في تطوّر علم اللغة وولادة الألسنيّة، كما كان لمنهج دركهايم في علم الاجتماع فضل على نظرية ده سوسور في كتابه:" محاضرات في الالسنية العامّة". وكان لعلوم الدماغ فضل في تقدّم العلوم اللغويّة ورفع الغلالة عن بعض أسرار اللغة. فهل يحسن بعالم لغة مثلاً أن يقول: " ما لي ولطبّ الأعصاب؟" فيبقى على هامش تفاصيل كثيرة من عالم اللغة العصبيّ والبيولوجيّ الفاتن.
اللغة صرف ونحو وأعصاب وبيولوجيا.
وأجدني مؤمناً كلّ الإيمان بمقولة الراغب الأصفهانيّ التي تربط بين التخصّص والخصاء, وبالمناسبة "الخاء" و"الصاد" قاسم مشترك بين الكلمتين! وكأنّهما يريدان دعم وجهة نظر الراغب الأصفهانيّ.
انهي هذا المقال بطرفة مأساوية كنت قد قرأتها ذات يوم عن شخص يشكو وجعاً في عينه اليمنى فذهب عند طبيب عيون، ولكنّ الطبيب اعتذر عن معالجته لأنّه متخصّص بالعين اليسرى ولا يريد أن يعتدي على تخصّص غيره. طبعاً، لا تخلو الطُّرْفة من مبالغة مقصودة شأنها شأن أغلب الطرف.
مقالي ليس نقداً للتخصّص أو تقليلاً من شأنه وإنّما هو احتفال بالأغصان، ودعوة للتبصّر بهيكل الأشجار المثلّث. في أيّ حال، أشير إلى أنّ الجامعات انتبهت إلى مشكلة التخصّص المحض، الضيّق، وتوجهت إلى إدخال موادّ عابرة للتخصّص هي ما يعرف بالـ"transdisciplinaire" ولا سيّما في هذا الزمن المعولم والذي تحدّد معالمه "شبكة" المعرفة العنكبوتية.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق