كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب
فرش الكتاب قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى
قولنا في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان والنتف ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في
الطعام والشراب اللذين بهما نمو الغراسة وهما قوم الأبدان وعليهما بقاء الأرواح.
قال المسيح عليه الصلاة والسلام في الماء: هذا أبي وفي الخبز هذا
أمي.
يريد أنهما يغذيان الأبدان كما يغذيها الأبوان.
وهذا الكتاب جزآن جزء في الطعام وجزء في الشراب.
فالذي في الطعام منهما متقص جميع ما يتم ويتصرف به أغذية الطعام من
المنافع والمضار وتعاهد الأبدان بما يصلحها من ذلك في أوقاته وضروب حالاته واختلاف
الأغذية مع اختلاف الأزمنة بما لا يخلي المعدة وما لا يكظها فقد جعل الله لكل شيء
قدراً.
والذي في الشراب منهما مشتمل على صفوف الأشربة وما اختلف الناس فيه
من الأنبذة ومحمود ذلك ومذمومه فإنا نجد النبيذ قد أجازه قوم صالحون وكرهه قوم
صالحون.
وقد وضعنا لكل شيء من ذلك باب فيحتاط كل رجلٍ لنفسه بمبلغ تحصله
ومنتهى نظره فإن الرائد لا يكذب أهله.
أطعمة العرب الوشيقة من اللحم وهو أن يغلى إغلاءةً ثم يرفع يقال
منه وشقت أشق وشقا قال الحسن بن هانئ: حتى رفعنا قدرنا بضرامها واللحم بين موذم
وموشق والصفيف مثله ويقال: هو القديد يقال: صففته أصفة صفاً.
والربيكة: شيء يطبخ من بر وتمر ويقال: منه ربكته أربكه
ربكاً.
والبسيسة: كل شيء خلطته بغيره مثل السويق بالأقط ثم تلته بالسمن
أو بالزيت أو مثل الشعير بالنوى للإبل يقال: بسسته أبسه بساً.
والعبيثة: بالعين غير معجمة: طعام يطبخ ويجعل فيه جراد وهو
الغثيمة أيضاً.
والبغيث والعليث: الطعام المخلوط بالشعير.
فإذا كان فيه الزؤان فهو المعلوث.
والبكيلة والبكالة جميعاً: وهي الدقيق يخلط بالسويق ثم يبل بماء
أو سمن أو زيت يقال: بكلته والفريقة: شيء يعمل من اللبن.
فإذا قطعت اللحم صغاراً قلت: كتفته تكتيفاً.
أبو زيد قال: إذا جعلت اللحم على الجمر قلت: حسحسته وهو أن
تقشر عنه الرماد بعد أن يخرج من الجمر.
فإذا أدخلته النار ولم تبالغ في طبخه قلت: ضهبته وهو مضهب.
والمضيرة سميت بذلك لأنها طبخت باللبن الماضر وهو الحامض والهريسة
لأنها تهرس.
والعصيدة لأنها تعصد أي تلوى واللفيتة لأنها تلفت.
والفالوذ: وهو السرطراط.
ومن أسماء الفالوذ أيضاً: السريط لأنه يسترط مثل يزدرد.
ويقال: " لا تكن حلوا فتسترط ولا مراً فتعقي ".
يقال: أعقى الشيء: اشتدت مرارته.
الرغيدة: اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق
لعقاً.
الحريرة: الحساء من الدسم والدقيق.
والسخينة: حساء كانت تعمله قريش في الجاهلية فسميت به قال
حسان: زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب والعكيس: الدقيق يصب
عليه الماء ثم يشرب: قال منظور الأسدي: تمذحت أي انتفخت.
أسماء الطعام الوليمة: طعام العرس.
والنقيعة: طعام الإملاك.
والإعذار: طعام الختان.
والخرس: طعام الولادة.
والعقيقة: طعام سابع الولادة.
والنقيعة: طعام يصنع عند قود الرجل من سفره يقال: أنقعت
إنقاعاً.
والكيرة: طعام يصنع عند البناء يبنيه الرجل في داره.
والمأدبة: كل طعام يصنع لدعوة يقال: آدبت أودب إيداباً.
وأدبت أدباً.
قال طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر
الآداب: صاحب المأدبة.
والجفلى: دعوة العامة.
والنقري: دعوة الخاصة.
والسلفة: طعام يتعلل به قبل الغداء.
والقفي: الطعام الذي يكرم به الرجل يقال منه: قفوته فأنا أقفوه
قفواً.
والقفاوة: ما يرفع من المرق للإنسان قال الشاعر: ونقفي وليد
الحي إن كان جائعاً ونحسبه إن كان ليس بجائع صفة الطعام قال النبي صلى الله عليه
وسلم: أكرموا الخبز فإن الله سخر له السموات والأرض.
وكلوا سقط المائدة.
وقال الحسن البصري: ليس في الطعام سرف وتلا قوله تعالى:
" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما
طعموا ".
وقال الأصمعي: الكبادات أربعة: العصيدة والهريسة والحيس
والسميذ.
أبو حاتم: والسويق طعام المسافر والعجلان والحزين والنفساء وطعام
من لا يشتهي الطعام.
أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال أبو صوارة: الأرز الأبيض بالسمن
المسلي والسكر الطبرزذ ليس من طعام أهل الدنيا.
وقال مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أكل الخبيص يزيد
في الدماغ.
وقال الحسن لفرقد السبخي: بلغني أنك لا تأكل الفالوذج! قال:
يا أبا سعيد أخاف أن لا أؤدي شكره! قال: يا لكع وهل تؤدي شكر الماء البارد في
الصيف والحار في الشتاء أما سمعت قول الله تعالى: " يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ
اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ".
وسمع الحسن رجلاً يعيب الفالوذج فقال: لباب البر بلعاب النحل
بخالص السمن ما عاب هذا مسلم.
وقال رجل في مجلس الأحنف: ما شيء أبغض إلي من الزبد والكمأة.
فقال الأحنف: " رب ملوم لا ذنب له ".
ولد لعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام فصنع الأخبصة ودعا الناس وفيهم
مساور الوراق فلما أكلوا قال مساور الوراق: من لم يدمم بالثريد سبالنا بعد
الخبيص فلاهناه الفارس الرقاشي قال: أخبرنا أبو هفان أن رقبة بن مصقلة طرح نفسه
بقرب حماد الراوية في المسجد فقال له حماد: ما لك قال: صريع فالوذج.
قال له حماد: عند من فطالما كنت صريع سمك مملوح خبيث.
قال: عند حكم في الفرقة وفصل في الجماعة.
قال: وما أكلتم عنده قال: أتانا بالأبيض المنضود والملوز
المعقود والذليل الرعديد والماضي المودود.
محمد بن سلام الجمحي قال: قال بلال بن أبي بردة وهو أمير على
البصرة للجاوود بن أبي سبرة الهذلي: أتحضر طعام هذا الشيخ يعني عبد الأعلى بن
عبد الله بن عامر قال: نعم.
قال: فصفه لي.
قال: نأتيه فنجده متصحباً يعني نائماً فنجلس حتى يستيقظ فيأذن
لنا فنساقطه الحديث فإن حدثناه أحسن الاستماع وإن حدثنا أحسن الحديث ثم يدعو
بمائدته وقد تقدم إلى جواريه وأمهات أولاده أن لا تلطفه واحدة منهن إلا إذا وضعت
مائدته ثم يقبل خبازه فيمثل بين يديه فيقول: ما عندك اليوم فيقول: عندي كذا
عندي كذا فيعدد كل ما عنده ويصفه يريد بذلك أن يحبس كل رجل نفسه وشهوته على ما
يريد من الطعام وتقبل الألطاف من هاهنا وهاهنا وتوضع على المائدة ثم يؤتى بثريدة
شهباء من الفلفل رقطاء من الحمص ذات حفافين من العراق فنأكل معه حتى إذا ظن أن
القوم قد كادوا يمتلئون جثا على ركبتيه ثم استأنف الأكل معهم.
فقال أبو بردة: لله در عبد الأعلى ما أربط جأشه على وقع
الأضراس.
وحضر أعرابي طعام عبد الأعلى فلما وقف الخباز بين يديه ووصف ما
عنده قال: أصلحك الله أتأمر غلامك يسقيني ماء فقد شبعت من وصف هذا الخباز.
وقال له عبد الأعلى يوماً: ما تقول يا أعرابي لو أمرت الطباخ
فعمل لون كذا ولون كذا قال: أصلحك الله لو كانت هذه الصفة في القرآن لكانت موضع
سجود.
أبو عبيدة قال: مر الفرزدق بيحيى بن المنذر الرقاشي فقال له:
هل لك أبا فراس في جدي رضيع ونبيذٍ صليب منشراب الزبيب قال: وهل يأبى هذا إلا
ابن المراغة.
وقال الأحوص لجرير لما قدم المدينة: ماذا ترى أن نعد لك قال:
شواء وطلاء وغناء.
قال: قد أعد لك.
وقال مساور الوراق في وصف طعام: اسمع بنعتي للملوك ولا تكن فيما
سمعت كميت الأحياء إني نعت لذيذ عيشي كله والعيش ليس لذيذه بسواء ثم اختصصت في
اللذيذ وعيشه صفة الطعام لشهوة الحلواء فبدأت بالعسل الشديد بياضه شهد تباكره بماء
سماء إني سمعت لقول ربك فيهما فجمعت بين مبارك وشفاء أيام أنت هناك بين عصابة
حضروا ليوم تنعم أكفاء لا ينطقون إذا جلست إليهم فيما يكون بلفظةٍ عوراء متنسمين
رياح كل هبوبة بين النخيل بغرفة فيحاء فقعدت ثم دعوت لي بمبذرف متشمر يسعى بغير
رداء قد لف على عضلاته قلص القميص مشمر سعاء فأتى بخبز كالملاء منقط فبناه فوق
أخاون الشيزاء حتى ملاها ثم ترجم عندها بالفارسية داعياً بوحاء فإذا القصاع من
الخلنج لديهم تبدن جوانبها مع الوصفاء ومصوص دراج كثير طيب ونواهض يؤتى بهن شواء
وثريدة ملمومة قد سقفت من فوقها بأطايب الأعضاء وتزينت بتوابل معلومة وخبيصاتٍ
كالجمان نقاء هذا الثريد وما سواه تعلل ذهب الثريد بنهمتي وهوائي ولقد كلفت بنعت
جدي راضع قد صنته شهرين بين رعاء قال نال من لبن كثير طيب حتى تفتق من رضاع الشاء
من كل أحمر لا يقر إذا ارتوى من بين رقص دائم ونزاء متعكن الجنبين صافٍ لونه عبل
القوائم من غذاء رخاء فإذا مرضت فداوني بلحومها إني وجدت لحومهن دوائي ودع الطبيب
ولا تثق بدوائه ما خالفتك رواضع الجزاء إن الطبيب إذا حباك بشربة تركتك بين مخافة
ورجاء وإذا تنطع في دواء صديقه لم يعد ما في جونة الرقاء ليست بآكلة الحشيش ولا
التي يبتاعها الخناق في الظلماء
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الأكل في السوق دناءة
".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه
ويشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " سموا إذا أكلتم واحمدوا إذا
فرغتم ".
وكان يلطع أصابعه بعد الطعام.
وقال صلى الله عليه وسلم: " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر
وبعد الطعام ينفي اللمم.
ومن الأدب في الوضوء أن يبدأ صاحب البيت فيغسل يديه قبل الطعام
ويقدم أصحابه بعد الطعام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام
الثلاثة كافي الأربعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: " املكوا العجين فإنه أحد
الريعين ".
وكان فرقد يقول لأصحابه: إذا أكلتم فشدوا الإزار على أوساطكم
وصغروا اللقم وشدوا المضغ ومصوا الماء ولا يحل أحدكم إزاره فيتسع معاه ويأكل كل
واحد ما بين يديه.
وقالوا: كان ابن هبيرة يباكر الغداء فسئل عن ذلك فقال: إن فيه
ثلاث خصال: أما الواحدة: فإنه ينشف المرة والثانية: أنه يطيب النكهة
والثالثة: أنه يعين على المروءة.
فقيل له: وكيف يعين على المروءة قال: إذا خرجت من بيتي وقد
تغديت لم أتطلع إلى طعام أحدٍ من الناس.
البطنة وقولهم فيها قالوا: البطنة تذهب الفطنة.
وقال مسلمة بن عبد الملك لأليون ملك الروم: ما تعدون الأحمق فيكم
قال: الذي يملأ بطنه من كل ما وجد.
وحضر أبو بكرة سفرة معاوية ومعه ولده عبد الرحمن فرآه يلقم لقماً
شديداً فلما كان بالعشي راح إليه أبو بكرة فقال له معاوية: ما فعل ابنك التلقامة
قال: اعتل.
قال: مثله لا يعدم العلة.
ورأى أبو الأسود الدؤلي رجلاً يلقم لقماً منكراً فقال: كيف اسمك
قال: لقمان قال: صدق الذي سماك.
ورأى أعرابي رجلاً سميناً فقال له: أرى عليك قطيفة من نسج
أضراسك.
وقعد أعرابي على مائدة المغيرة فجعل ينهش ويتعرق فقال المغيرة:
يا غلام ناوله سكيناً.
قال قال أعرابي: كنت أشتهي ثريدة دكناء من الفلفل رقطاء من الحمص
ذات جفافين من العراق فأضرب فيها كما يضرب الولي السوء في ما اليتيم.
وقال أعرابي: ألا ليت لي خبزاً تسربل رائباً وخيلاً من البرني
فرسانها الزبد فأطلب فيما بينهن شهادة بموت كريمٍ لا يعد له لحد واصطحب شيخ وحدث
من الأعراب في سفر وكان لهما قرص في كل يوم وكان الشيخ مخلع الأضراس وكان الحدث
يبطش بالقرص ثم يقعد يشكو العشق والشيخ يتضور جوعاً وكان يسمى جعفراً فقال الشيخ
فيه: لقد رابني من جعفر أن جعفراً يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل فقلت له لو مسك
الحب لم تبت بطيناً ونساك الهوى شدة الأكل الأصمعي قال: تقول العرب في الرجل
الأكول: إنه برم قرون.
البرم: الذي يأكل مع الجماعة ولا يجعل شيئاً.
والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين ويأكل أصحابه تمرة تمرة.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن.
وكان عبد الله بن الزبير إذا قدم التمر إلى أصحابه قال عبد الله بن
عمر: إياكم والقران فإن وقيل لبسرة الأحول: كم تأكل كل يوم قال: من مالي أو
من مال غيري قيل له: من مالك.
قال: مكوكاً.
قيل: فمن مال غيرك قال: اخبزوا واطرحوا.
وقال رجل من أهل العراق في قينة حفص الكاتب: قينة حفص ويلها فيها
خصالٌ عشره أولها أن لها وجهاً قبيح المنظره ودارها في وهدةٍ أوسع منها القنطره
تأكل في مقعدها ثوراً وتخرى بقره قال تأبط شراً: ما أحببت شيئاً قط حبي ثلاثة:
أكل اللحم وركوب اللحم وحك اللحم باللحم.
وقال أبو اليقظان: كان هلال بن الأسعر التميمي أكولاً فيزعمون
أنه أكل جملاً وأكلت امرأته فصيلاً فلما أراد أن يجامعها لم يصل إليها فقالت له:
وكيف تصل إلي وبيني وبينك بعيران.
وكان الواثق واسمه هارون بن محمد بن هارون أكولاً وكان مفتوناً بحب
الباذنجان وكان يأكل في أكلة واحدة أربعين باذنجانة فأوصى إليه أبوه - وكان ولي
عهده - ويلك متى رأيت خليفة أعمى فقال للرسول: أعلم أمير المؤمنين أني تصدقت
بعيني جميعاً على الباذنجان.
وكان سليمان بن عبد الملك من الأكلة حدث العتبي عن أبيه عن المشردل
وكيل عمرو بن العاص قال: لما قدم سليمان الطائف دخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب
وابنه بستاناً لعمرو بن العاص فجال فيه ساعة ثم قال: ناهيكم بمالكم هذا مالاً ثم
ألقى صدره على غصن وقال: ويلك يا شمردل ما عندك شيء تطعمني قال: بلى إن عندي
جدياً كانت تغدو عليه بقرة وتروح عليه أخرى.
قال: عجل به.
قال: فأتيته به كأنه عكة سمن فأكله وما دعا عمر ولا ابنه حتى إذا
بقي الفخذ قال: هلم أبا حفص.
قال: إني صائم.
فأتى عليه ثم قال: ويلك يا شمردل ما عندك شيء تطعمني قال: بلى
والله عندي خمس دجاجات هنديات كأنهن رثلان النعام.
قال: فأتيت بهن فكان يأخذ برجلي الدجاجة فيلقي عظامها نقية حتى
أتى عليهن ثم قال: يا شمردل ما عندك شيء تطعمني قلت: بلى والله إن عندي حريرة
كأنها قراضة الذهب.
فقال: عجل بها.
فأتيته بعس يغيب فيه الرأس فجعل يلاطمها بيديه ويشرب فلما فرغ تجشأ
فكأنما صاح في جب ثم قال: يا غلام أفرغت من غدائي قال: نعم.
قال: وما هو قال: ثمانون قدراً قال: ائتني بها قدراً قدراً
قال: فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم وأقل ما أكل لقمة ثم مسح يده واستلقى على
فراشه ثم أذن للناس ووضعت المائدة وقعد فأكل مع الناس فما أنكرت من أكله شيئاً.
وقال الأصمعي: كنت يوماً عند هارون الرشيد فقدمت إليه فالوذجة
فقال: يا أصمعي.
قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: حدثني بحديث مزرد أخي الشماخ.
قلت: نعم يا أمير المؤمنين إن مزرداً كان رجلاً جشعاً نهماً
وكانت أمه تؤثر عيالها بالزاد عليه وكان ذلك مما يضريه ويحفظه فذهبت يوماً في بعض
حقوق أهلها وخلفت مزرداً في بيتها ورحلها فدخل الخيمة فأخذ صاعين من دقيق وصاعاً
من عجوة وصاعاً من سمن فضرب بعضه ببعض فأكله ثم أنشأ يقول: ولما مضت أمي تزور
عيالها أغرت على العكم الذي كان يمنع خلطت بصاعي حنطة صاع عجوة إلى صاع سمن فوقه
يتريع ودبلت أمثال الأثافي كأنها رؤوس رخال قطعت لا تجمع وقلت لبطني أبشري اليوم
إنه حمى أمنا مما تفيد وتجمع فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه وإن كنت غرثاناً فذا يوم
تشبع قال: فاستضحك هارون حتى أمسك على بطنه واستلقى على ظهره ثم قعد فمد يده
وقال: خذ فذا يوم تشبع يا أصمعي.
وقال حميد الأرقط وهو الذي يقال له: " هجاء الأضياف
" يصف أكل الضيف: أتانا وما ساواه سحبان وائل بياناً وعلماً بالذي هو
قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنه من العي لما أن تكلم باقل وقال: لا أبغض الضيف
ما بي جل مأكله إلا تنفجه حولي إذا قعد ما زال ينفخ جنبيه وحبوته حتى أقول لعل
الضيف قد ولدا وقال: لا مرحباً بوجوه القوم إذ نزلوا دسم العمائم تحكيها
الشياطين ألقيت جلتنا الشهريز بينهم كأن أظفارهم فيها سكاكين فأصبحوا والنوى عالي
معرسهم وليس كل النوى يلقى المساكين أبو الحسن المدائني قال: أقبل نصراني إلى
سليمان بن عبد الملك وهو بدابق بسلين أحدهما مملوء بيضاً والآخر مملوء تيناً
فقال: اقشروا فجعل يأكل بيضة وتينة حتى فرغ من السلين ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا
بسكر فأكله فأتخم ومرض فمات.
والأكلة كلهم يعيبون الحمية ويقولون: الحمية إحدى العلتين.
وقالوا: من احتمى فهو على يقين من المكروه وفي شك من العافية.
الحمية وقولهم فيها قيل لبقراط: مالك تقل الأكل جداً قال: إني
إنما آكل لأحيا وغيري يحيا ليأكل.
وأجمعت الأطباء على أن رأس الداء كله إدخال الطعام على الطعام وقالوا:
احذروا إدخال اللحم على اللحم فإنه ربما قتل السباع في القفر.
وأكثر العلل كلها إنما يتولد من فضول الطعام.
والحمية مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى صهيباً يأكل
تمراً وبه رمد فقال: " أتأكل تمراً وأنت أرمد ".
ودخل على علي رضي اللهعنه وهو عليل وبيده عنقود عنب فنزعه من
يده.
وقال عليه الصلاة والسلام: " لا تكرهوا مرضاكم على الطعام
والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم ".
وقيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء قال: الأزم.
يريد قلة الأكل.
ومنه قيل للمجاعة: الأزمة وللكثير أزمات.
وقيل لآخر: ما أفضل الدواء قال: أن ترفع يدك عن الطعام وأنت
تشتهيه.
أبو الأشهب عن أبي الحسن قال: قيل للمنذر بن جندب: إن ابنك أكل
طعاماً كظله حتى كاد ودعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى الغداء فقال: ما في فضل
يا أمير المؤمنين.
قال: لا خير في الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل.
وقال الأحنف بن قيس: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام فإني أبغض
الرجل أن يكون وصافاً لبطنه وفرجه.
وقيل لبعض الحكماء: أي الأدواء أطيب قال: الجوع ما ألقيت إليه
من شيء قبله.
وقال رجل من أهل الشام لرجل من أهل المدينة: عجبت منكم أن
فقهاءكم أظرف من فقهائنا ومجانينكم أظرف من مجانيننا قال: أوتدري من أين ذلك
قال: لا أدري.
قال: من الجوع ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لما خلا جوفه.
وقال الجاحظ: كان أبو عثمان الثوري يجلس ابنه معه يوم الرأس وكان
له يوم معروف يأكل فيه رأساً لا محالة وكان يجلس ابنه معه: ويقول: إياك يا بني
ونهم الصبيان وأخلاق النوائح ونهش الأعراب وكل مما يليك واعلم أنه إذا كان في
الطعام لقمة كريمة أو مضغة شهية أو شيء مستطرف فإنما ذلك للشيخ المعظم أو للصبي
المدلل ولست بواحد منهما.
وقد قالوا: مدمن اللحم كمدن الخمر.
أي بني عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة ولا تنهش نهش السباع
ولا تخضم خضم البراذين ولا تدمن الأكل إدمان النعاج ولا تلقم لقم الجمال فإن الله
جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة.
واحذر صرعة الكظة وسرف البطنة فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت
نهماً فعد نفسك من الزمنى واعلم أن الشبع داعية البشم والبشم داعية السقم وأن
السقم داعية الموت ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة لأنه قاتل نفسه وقاتل
نفسه ألأم من قاتل غيره.
أي بني والله ما أدى الركوع والسجود ذو كظة ولا خشع لله ذو بطنة
والصوم مصحة والوجبات عيش الصالحين.
أي بني لأمر ما طالت أعمار أهل الهند وصحت أبدان العرب ولله در
الحارث بن كلدة إذ زعم أن الدواء هو الأزم فالداء كله من فضول الطعام فكيف لا ترغب
في شيء يجمع لك صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح الدين والدنيا والقرب من عيش الملائكة
أي بني لم صار الضب أطول عمراً إلا لأنه يتبلغ بالنسيم ولم قال الرسول عليه الصلاة
والسلام: إن الصوم وجاء إلا لأنه جعله حجازاً دون الشهوات فافهم تأديب الله عز
وجل وتأديب رسوله عليه الصلاة والسلام.
أي بني قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن ولا انتشر لي عصب ولا
عرفت ذنين أنف ولا سيلان عين ولا سلس بول ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد.
فإن كنت تحب الحياة سياسة الأبدان بما يصلحها قال الحجاج بن يوسف
للباذون طبيبه: صف لي صفةً آخذ بها نفسي ولا أعدوها.
قال له: لا تتزوج من النساء إلا شابة ولا تأكل اللحم إلا فتياً
ولا تأكله حتى تنعم طبخه ولا تشرب دواء إلا من علة ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها
ولا تأكل طعاماً إلا أجدت مضغه وكل ما أحببت من الطعام واشرب عليه فإذا شربت فلا
تأكل ولا تحبس الغائظ ولا البول وإذا أكلت بالنهار فنم وإذا أكلت بالليل فامش قبل
أن تنام ولو مائة خطوة.
قيل ليهود خيبر: بم صححتم على وباء خيبر قالوا: بأكل الثوم
وشرب الخمر وسكنى اليفاع وتجنب بطون الأودية والخروج من خيبر عند طلوع النجم وعند
سقوطه.
وقال قيصر لقس بن ساعدة: صف لي مقدار الأطمعة.
فقال: الإمساك عن غاية الإكثار والبقيا على البدن عند الشهوة.
قال: فما أفضل الحكمة قال: معرفة الإنسان قدره.
قال: فما أفضل العقل قال: وقوف الإنسان عند منتهى علمه.
وسأل عبد الملك بن مروان أبا المفوز: هل أتخمت قط قال: لا.
قال: وكيف ذلك قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا وإذا مضغنا دققنا
ولا نكظ المعدة ولا نخليها.
وقيل لبزر جمهر: أي وقت فيه الطعام أصلح قال: أما لمن قدر فإذا
جاع ولمن لم يقدر فإذ وجد.
وقال: أربع يهدمن العمر وربما قتلن: الحمام على البطنة
والمجامعة على الامتلاء وأكل القديد الجاف وشرب الماء البارد على الريق.
وقال إبراهيم النظام: ثلاثة أشياء تفسد العقل: طول النظر في
المرآة والاستغراق في الضحك ودوام النظر في البحر.
الأصمعي قال: جمع هارون من الأطباء أربعة: عراقياً ورومياً
وهندياً ويونانياً فقال: ليصف لي كل واحد منكم الدواء الذي لا داء معه.
فقال العراق: الدواء الذي لاداء معه حب الرشاد الأبيض.
وقال الهندي: الإهليلج الأسود.
وقال الرومي: الماء الحار وقال اليوناني - وكان أطبهم - حب
الرشاد الأبيض يولد الرطوبة والماء الحار يرخي المعدة والإهليلج الأسود يرق المعدة
لكن الدواء الذي لا داء معه أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه وتقوم عنه وأنت
تشتهيه.
تدبير الصحة ثم نذكر بعد هذا من وصف الطعام وحالاته وما يدخل على
الناس من ضروب آفاته باباً في تدبير الصحة التي لا تقوم الأبدان إلا به ولا تنمى
النفوس إلا عليه.
وقد قال الشافعي: العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان.
ولم نجد بداً - إذ كانت جملة هذه المطاعم التي بها نمو الغراسة
وعليها مدار الأغذية تضر في حالة وتنفع في أخرى - من ذكر ما ينفع منها ومقدار نفعه
وما يضر منها ومبلغ ضره وأن نحكم على كل ضرب منها بالأغلب عليه من طباعه وقلما نجد
شيئاً ينفع في حالة إلا وهو يضر في الأخرى ألا ترى أن الغيث الذي جعله الله رحمة
لخلقه وحياة لأرضه قد يكون منه السيول المهلكة والخراب المجحف وأن الرياح التي
سخرها الله مبشرات بين يدي رحمته قد أهلك باه قوماً وانتقم بها من قوم وفي هذا
المعنى قال حبيب الطائي: ولم تر نفعاً عند من ليس ضائراً ولم تر ضراً عند من ليس
ينفع قال خالد بن صفوان لخادمه: أطعمينا جبناً فإنه يشهي الطعام ويهيج المعدة
وهو حمض العرب.
قال: ما عندنا منه شيء.
فقال: لا عليك فإنه يقدح الأسنان ويشد البطن.
ولما كانت أبدان الناس دائمة التحلل لما فيها من الحرارة الغريزية
من داخل وحرارة الهواء المحيط بها من خارج احتاجت إلى أن يخلف عليها ما تحلل
واضطرت بذلك إلى الأطعمة والأشربة وجعلت فيها قوة الشهوة ليعلم بها وقت الحاجة
منها إليها ومقدار ما يتناول منها والنوع الذي يحتاج إليه ولأنه لا يخلف الشيء
الذي يتحلل ولا يقوم مقامه إلا مثله وليس تستطيع القوة التي تحيل الطعام والشراب
في بدن الإنسان أن تحيل إلا ما شاكل البدن وقاربه.
فإذا كان هذا هكذا فلا بد لمن أراد حفظ الصحة أن يقصد لوجهين:
أحدهما أن يدخل على البد الأغذية الموافقة لما يتحلل منه والآخر أن ينفي عنه ما
يتولد فيه من فضول الأغذية.
ما يصلح لكل طبيعة من الأغذية وينبغي لك أن تعرف اختلاف طبائع
الأبدان وحالاتها لتعرف بذلك موافقة كل نوع من الأطعمة لكل صنف الناس.
وذلك أن الأغذية مختلفة فمنها معتدلة كالتي يتولد منها الدم الخالص
النقي ومنها غير معتدلة كالتي يتولد منها البلغم والمرة الصفراء والسوداء والرياح
الغليظة ومنها لطيفة ومنها غليظة ومنها ما يتولد منه كيموس لزج وكيموس غير لزج
ومنها ما له خاصة منفعة أو مضرة في بعض الأعضاء دون بعض.
فقد يجب متى كان المستولي على البدن الدم النقي أن تكون أغذيته
قصداً في قدرها معتدلة في طبائعها.
ومتى كان الغالب عليه البلغم فيجب أن تكون مسخنة أو يغتذي بما يزيد
في الحرارة ويقمع الرطوبة.
ومتى كان الغالب عليه المرة السوداء فينبغي له أن يغتذي بالأغذية
الحارة الرطبة.
ومتى كان الغالب عليه المرة الصفراء فيغتذى بالأغذية الباردة
الرطبة ومتى كان البدن مستحصفاً عسر التحلل فينبغي أن يغتذى بأغذية يسيرة لطيفة
جافة ومتى كان متخلخلاً فينبغي له أن يتعذى بأغذية لزجة لكثرة ما يتحلل من
البدن.
فهذا التدبير ينبغي أن يلتزم ما لم يكن في بعض أعضاء البدن ألم
فينبغي أن يستعمل النظر في الأغذية الموافقة للعضو الألم لأنا ربما اضطررنا إلى
استعمال ما يوافق العضو الآلم إن كان مخالفاً لسائر البدن كما أنه لو كانت الكبد
باردة ضيقة المجاري احتجنا إلى استعمال الأغذية اللطيفة وتجنب الأغذية الغليظة وإن
كان سائر البدن غير محتاج إليها لضعف أو نحافة لئلا تحدث الطبيعة في الكبد سدداً
وربما كانت الكبد حارة فتحذره الأغذية الحلوة وإن احتاج إليها لسرعة استحالتها إلى
المرة الصفراء.
وربما كانت المعدة ضعيفة فتحتاج إلى ما يقويها من الأغذية وربما
كان يولد الطعام فيها بلغماً فتحتاج إلى ما يقمع الصفراء وإلى تجنب الأشياء المولد
لها.
وربما كان الطعام يبقى على رأس المعدة طافياً فيستعمل الأغذية
الغليظة الراسية ليتثقل بثقلها إلى أسفل المعدة وتأمره بحركة يسيرة بعد الطعام
لينحط الطعام عن رأس المعدة.
وربما كان رأس المعدة حاراً قابلاً للحار فيتجنب الأغذية الحارة
وإن احتاج إليها سائر البدن.
وينبغي ألا يقتصر على ما ذكرنا دون النظر في مقدار الحركة قبل
الطعام والنوع بعده فمتى كانت الحركة قبل الطعام كثيرة غذيناه بأغذية كثيرة غليظة
لزجة إلى اليبس ما هي بطيئة التحلل ولم نأمره بالحمية لقلة الحاجة إليها.
ومتى لم تكن قبل الطعام حركة أو كانت يسيرة فينبغي ألا يقتصر على
الحمية بقلة الطعام ولطافته دون أن يستعين على تخفيف ما يتولد في البدن من الفضول
باستفراغ الأدوية المسهلة وبالحمام وبإخراج الدم.
ومتى كانت الحركة كافية استعملنا الأغذية المعتدلة في كثرتها وقد
لطافتها وغلظها.
ومت كان النوم بعد الطعام كثيراً احتجنا إلى استعمال أغذية كثيرة
غزيرة الغذاء لطول الليل وكثرة النوم ومتى كان النوم قليلاً احتجنا إلى الطعام
القليل الخفيف اللطيف كالذي يغتذي به في الصيف لقصر الليل وقلة النوم.
تقدير الطعام وما يقدر منه وما يؤخر ويجب في الطعام أن يقدر فيه
اربعة أنحاء: أولها ملاءمة الطعام لبدن المغتذي به في الوقت الذي يعتذي به فيه
كما ذكرنا آنفاً: أنه متى كان الغالب على البدن الحرارة احتاج إلى الأغذية
البادرة.
ومتى كان الغالب عليه البرد احتاج إلى الأغذية الحارة ومتى كان
معتدلاً احتاج إلى الأغذية المعتدلة المشاكلة له.
والنحو الثاني: تقدير الطعام بأن يكون على مقدار قوة الهضم لأنه
وإن كان في نفسه محموداً وكان ملائماً للبدن وكان أكثر من قد احتمال قوة الهضم ولم
يستحكم هضمه تولد منه غذاء رديء.
والنحو الثالث: تقديم ما ينبغي أن يقدم من الطعام وتأخير ما
ينبغي أن يؤخر منه ومثل ذلك أنه ربما جمع الإنسان في أكلة واحدة طعاماً يلين البطن
وطعماً يحبسه.
فإن هو قدم الملين وأتبعه الآخر سهل انحدار الطعام منه ومتى قدم
الطعام الحابس وأتبعه الملين لم ينحدر وفسدا جميعاً.
وذلك أن الملين حال فيما بينه وبين النزول الطعام الحابس فبقي في
المعدة بعد انهضامه ففسد به الطعام الآخر.
ومتى كان الطعام الملين قبل الحابس انحدر الملين بعد انهضامه وسهل
الطريق لانحدار الحابس.
وكذلك أيضاً إن جمع أحد في أكلة واحدة طعاماً سريع الانهضام وآخر
بطيء الانهضام فينبغي له أن يقدم البطيء الانهضام ويتبعه السريع الانهضام ليصير
البطيء في قعر المعدة لأن قعر المعدة أسخن وهو أقوى على الهضم لكثرة ما فيه من
أجزاء اللحم المخالطة له وأعلى المعدة عصبي بارد لطيف ضعيف الهضم.
ولذلك إذا طفا الطعام على رأس المعدة لم ينهضم.
والنحو الرابع: أن من يتناول الطعام الثاني بعد انحدار الأول وقد
قدم قبله حركة كافية وأتبعه بنوم كاف استمرأه.
ومن أخذ وقد بقي في معدته أو أمعائه بقية من الطعام الأول غير
منهضمة فسد الطعام الثاني ببقية الأول.
مع الطعام ومن أكل الطعام بعد حركة كافية وأخذه على حاجة من البدن
إليه وافى الطعام الحرارة الغريزية بمنزلة النار إذا اشتعلت.
ومن تناول طعاماً من غير حركة وأخذه على غير حاجة من البدن إليه وافى
الطعام الحرارة الغريزية خامدة بمنزلة النار الكامنة في الزناد.
ومن اتبع الطعام بنوم بطنت الحرارة الغريزية فيه فاجتمعت في باطن
البطن فهضمت طعامه.
ومن اتبع الطعام بحركة انحدر عن معدته غير منهضم وابنث في العروق
غير مستحكم فأحدث سدداً وعللاً في الكبد والكلى وسائر الأعضاء.
وربما كانت الأطعمة لضعف المعدة تطفو فيها وتصير في أعلاها فلا
نأمره بالنوم حتى ينحدر الطعام على المعدة بعض الانحدار حتى يصير في قعر المعدة.
وربما أمرنا بحركة يسيرة كما ذكرنا آنفاً لانحدار الطعام عن المعدة
بعض الانحدار.
وإن أكثر الشراب منع الطعام من الانهضام لأنه يحول فيما بين جرم
المعدة وبين الطعام وإذا لم تلق المعدة الطعام لم تحله إلى مشاكلة البدن وموافقته
فيبقى فيها غير منهضم فيجب لذلك على من أخذ الطعام أن يتناول معه من الشراب ما
يسكن به جل العطش ويصبر على قدر احتماله من العطش ويصبر حتى ينهضم ثم يتناول بعد
ذلك من الشراب ما أحب فإنه عند ذلك يعين على انحدار الطعام وترقيقه لتنفيذه في
المجاري الدقاق.
ويجب أيضاً أن يكون أخذه للطعام في وقت حركة الشهوة.
وذلك أنه إذا تحركت الشهوة ولم يبادر بأخذ الطعام اجتذبت المعدة من
فضول البدن ما صار في المعدة أبطل الشهوة وأفسد الطعام إذا خالطه.
الأوقات التي يصلح فيها الطعام أجود الأوقات كلها الطعام:
الأوقات الباردة لجمعها الحرارة في باطن البدن فأما الأوقات الحارة فينبغي أن
يتجنب أخذ الطعام فيها لأن حرارة الهواء تجذب الحرارة الباطنة الغريزية إلى ظاهر
البدن ويخلو منها باطنه فتضعف الحرارة في باطن البدن عن هضمه فلذلك كانت القدماء
تفضل العشاء على الغداء لما يلحق العشاء من اجتماع الحرارة في باطن البدن لبرد
الليل والنوم ولأن الحرارة في النوم تبطن وتسخن باطن البدن ويبرد ظاهره واليقظة
على خلاف ذلك لأن الحرارة تنتشر في ظاهر البدن وتضعف في باطنه.
والذي يحتاج إلى كثرة الغذاء من الناس من كان الغالب على بدنه
الحرارة وكانت كبده لحرارتها سريعة التوليد للمرة الصفراء فلذلك يحتاج إلى الأطعمة
الغليظة البطيئة الانهضام ويستمرئها ويستمرئ لحم البقر ولا يستمرئ لحم الدجاج وما
أشبهه من الأطعمة الخفيفة.
ولا يصلح شيء من هذه إلا في وقت تحرك الشهوة فإنه أفضل وقت يؤخذ
فيه الطعام.
وللعادة في هذا حظ عظيم ألا ترى أنه من اعتاد الغداء فتركه واقتصر
على العشاء عظم ضرر ذلك عليه ومن كانت عادته أكلة واحدة فجعلها أكلتين لم يستمرئ
طعامه ومن كانت عادته أن يجعل طعامه في وقت من الأوقات فنقله إلى غير ذلك الوقت
أضر ذلك به وإن كان قد نقله إلى وقت محمود.
فيجب لذلك أن يتبع العادة إذا تقادمت فطالت وإن كانت ليست بصواب
إذا لم يحدث شيء اضطره إلى نقلها لأن العادة طبيعة ثانية كما ذكر الحكيم أبقراط.
فإن حدث شيء يدعوه إلى الانتقال عنها فأوفق الأمور في ذلك أن ينتقل
عنها قليلاً قليلاً.
وللشهوة أيضاً في استمراء الطعام أعظم الحظ لأنها دليل على
الموافقة والملاءمة فمتى كان طعامان مستويان في الجودة وكانت شهوة المحتاج إليهما
أميل إلى أردئهما اخترناه على الأجود إذا لم نخف منه ضرراً أكثر مما ينال منه من
المنفعة لحسن قبول المعدة له واستمرائها إياه.
فقد بان أنه يحتاج في حسن استعمال الأغذية وجودة تخير الأطعمة إلى
معرفة اختلاف الطبائع وحالاتها.
فقد بينت اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها وما يجب على كل واحد منها
من أنواع الأطعمة والأشربة.
وبقي أن نبقي اختلاف قوى الأطعمة والأشربة وأن أصف أنواع الأغذية
وأسمي ما في كل صنف منها إن شاء الله تعالى.
أنواع الأطعمة الأطعمة اللطيفة هي التي يتولد منها دم لطيف.
فمنها لباب خبز الحنطة والحب المقشور ولحم الفراريج ولحم الدراج
والطيهوج والحجل وأجنحة جميع الطيور وما لان لحمه من صغار السمك ولم تكن فيه لزوجة
والقرع والماش وما أشبهه.
وهذا الجنس من الأطعمة نافع لمن ليست له حركة وكانت الحرارة
الغريزية في بدنه ضعيفة ولم يأمن أن يتولد في بدنه كيموس غليظ ويتولد في كبده أو
طحاله سدد أو في كلاه أو في صدره أو في دماغه أو في شيء من مفاصله من البلغم.
الأطعمة اللطيفة في نفسها الملطفة لغيرها هي التي يكون ما يتولد
منها لطيفاً وتلطف ما تلقاه من الكيموس اللزج الغليظ في البدن.
وهذا الجنس من الأطعمة أربعة أصناف: صنف منها حلو لطيف لما فيه
من قوة الجلاء مثل ماء الشعير والبطيخ والتين اليابس والجوز والقسطل والعسل ما
يعمل منه من الناطف.
وهذا الجنس في منفعته من جنس الأول من الأطعمة اللطيفة إلا أنه
أبلغ في تلطيف البدن.
والصنف الثاني حار حريف: كالحرف والثوم والكراث والكرفس والكرنب
والجرجير وهذا كله نافع لمن احتاج إلى فتح السدد التي في الكبد والطحال والصدر
والدماغ وتقطيع البلغم وترقيقه.
ولا ينبغي لأحد أن يكثر استعماله لأنه يرقق الدم أولاً ويصيره
مائياً فيقل لذلك غذاء البدن.
ويضعف ثم إنه يسخن البدن سخونة مفطرة فيصير أكثره مرة صفراء ثم إنه
بعد ذلك إذا تمادى مستعمله في استعماله حلل لطيف الدم وترك غليظه فصار أكثر مرة
سوداء وربما تولد من ذلك حجارة في الكلى.
ومضرة هذا الصنف أشد ما تكون على من كانت المرة الصفراء غالبة
عليه.
والصنف الثالث: يذيب ويلطف بملوحته كالمري وما لان لحمه وقل شحمه
من السمك إذا ملح والسلق وماء الجبن وكل ما جعل فيه من الأطعمة الملح والمري
والبورق.
ومنافع هذا النصف ومضاره قريبة من منافع الأشياء الحريفة ومضارها
إلا أن هذا الصنف في تنقية المعدة والأمعاء وتليين الطبيعة أبلغ.
والصنف الرابع: يقطع ويلطف بحموضته كالخل والسكنجبين وحماض
الأترج وماء الرمان الحامض وكل ما يتخذ بها من الأطعمة.
وهذا الصنف نافع لمن كان معدته وسائر بدنه حاراً إذا تولد فيها
البلغم من غلظ ما يتناول من الأغذية ومن كثرتها.
منها البصل والجزر والفجل والسلجم وما أشبه ذلك.
فهذه الأطعمة في نفسها غليظة وتلطف ما تلقى من الشيء الغليظ بما
فيها من الحدة والحرافة وهي تولد كيموساً غليظاً.
ومتى ما طبخ شيء منها أو شوي ذهب عنه قوة الحرافة والتقطيع وبقي
جرمه غليظاً رديئاً وقد يتناول للمنفعة بتقطيع هذه الأطعمة وتلطيفها ويسلم من غلظ
جرمها على إحدى ثلاث جهات: إما أن تطبخ فتلطف كالذي يفعل بالبصل وإما أن تعصر أو
تطبخ ثم يستعمل ماؤها وإما أن تؤكل نيئة فتقطع البلغم كالذي يفعل بها جميعاً.
الأطعمة الغليظة الغالب على الأطعمة الغليظة كلها اليبس واللزوجة.
فمنها شيء يكون اليبس واللزوجة من طبعه.
ومنها ما يكتسب اليبس من غيره.
فالذي يكون اليبس من طبعه العدس ولحم الأرانب والبلوط والشاه بلوط
والكمأة والباقلي المقلو.
هذه كلها غليظة لأن اليبس في طبائعها.
وأما الذي يكتسب اليبس من غيره فالكبود والبيض المسلوق والمشوي وما
قلي منه واللبن المطبوخ طبخاً كثيراً والضروع وعصير العنب المطبوخ لا سيما إن كان
العصير غليظاً.
فهذه كلها غليظة لأن الحرارة بالطبخ أحدثت لها يبساً وانعقاداً.
وأما لحوم الإبل ولحوم التيوس ولحوم البقر والكروش والأمعاء فإنها
غليظة بصلابتها.
وكذلك الترمس وثمر الصنوبر والسلجم واللوبيا وما خبز على الفرن فإن
ظاهره غليظ لما أحدثت له النار من اليبس وباطنه غليظ لما فيه من اللزوجة.
وكذلك كل ما لم يجود عجنه أو خبزه أو إنضاجه من خبز التنور وكل ما
خبز على الطابق بدهن أو غيره والسمن والفطر والشهد واللبن والأدمغة فإنها كلها
غليظة للزوجة فيها طبيعية.
وأما الفالوذج فإنه غليظ للزوجته والانعقاد الحادث له من الطبخ.
وأما الباذنجان فإنه غليظ لليبس وللزوجة في طبعه.
وأما الخبز فإنه غليظ لاجتماع الحالات الثلاث فيه.
فأما السمك الصلب اللزج فإنهغليظ لاجتماع الصلابة واللزوجة فيه.
وأما الآذان والشفاه وأطراف العضل فإنها تولد كيموساً لزجاً ليس
بالغليظ وقد تولد ما يعرض من الأغذية الباردة عن هضمها وتلطيفها كالذي يعرض من أكل
الفاكهة قبل نضجها ومن أكل الخيار والقثاء وشحم الأترج واللبن الحامض.
فهذه الأطعمة الغليظة كلها إن صادفت بدناً حاراً كثير التعب قليل
الطعام كثير النوم بعد الطعام انهضمت وغذت البدن غذاء كثيراً نافعاً وقوته تقوية
كثيرة.
وأحمد ما تستعمل هذه الأغذية في الشتاء لاجتماع الحرارة في باطن
البدن وطول النوم ومتى أحس أحد في بدنه نقصاناً بيناً.
وإن أكلها من يجد الحرارة في بدنه قليلة ولا سيما في معدته وتعبه
قليل ونومه بعد الطعام قليل لم يستحكم انهضامها وتولد منها في البدن كيموس غليظ
حار يابس يتولد منه سدد في الكبد والطحال.
فلذلك ينبغي لمن أكل طعاماً غليظاً من غير حاجة إليه لعلة أو شهوة
أن يقل منه ولا يفرده ولا يدمنه.
وما كان من الأطعمة الغليظة له مع غلظه لزوجة فهو أغذاها للبدن فإن
لم تنهضم فهو أكثرها توليداً للسدد.
الأطعمة المتوسطة المتوسطة بين الغلظة واللطيفة تصلح لمن كان بدنه
معتدلاً صحيحاً ولم يكن تعبه كثيراً.
وأجود الأغذية له المتوسط لأنها لا تنهكه ولا تضعفه كاللطيفة ولا
تولد خاماً ولا سدداً كالغليظة وهي كل ما أحكم صنعه من الخبز ولحوم البقر والدجاج
والجداء والحولية من الماعز.
وأما لحوم الخرفان والضأن كلها فرطبة لزجة.
وأما لحم فراخ الحمام والقطا فهي تولد دماً سخناً وأغلظ من الدم
المعتدل.
وأما فراخ الوراشين فإنها مثل فراخ الحمام والقطا والإوز فأجنحتها
معتدلة وسائر البدن كثير الفضول.
وكل ما كثرت حركته من الطير وكان مرعاه في موضع جيد الغذاء صافي
الهواء كان أجود غذاء وألطف.
وكل ما كان على خلاف ذلك فهو أردأ غذاء وأوسخ.
وكل ما لم يستحكم نضجه من البيض وخاصة ما ألقي على الماء الحر وأخذ
من قبل أن يشتد فهو معتدل.
وكل ما كان من لحم السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة والزهومة وكان
مرعاه ماء نقياً من الأوساخ والحمأة فهو معتدل جيد الغذاء.
ومن الفواكه التين والعنب إذا استحكم نضجهما على الشجر وأسرعت
الانحدار إلى الجوف كان ما يتولد منها معتدلاً فإن لم تسرع الانحدار فلا خير
فيها.
ومن البقول الهندبا والخس والهليون.
ومن الأشربة ما كان لونه ياقوتياً صافياً ولم يكن عتيقاً جداً.
الأطعمة الحارة يحتاج إليها من كان الغالب عليه البرودة وفي
الأوقات الباردة والبلاد الباردة.
وينبغي أن يجتنبها من كان حار البدن وفي الأوقات الحارة وفي البلاد
الحارة.
منها الحنطة المطبوخة والخبز المتخذ من الحنطة والحمص والحلبة
والسمسم والشهدانج والعنب الحلو والكرفس والجرجير والفجل والسلجم والخردل والثوم
والبصل والكراث والخمر العتيق.
وأسخن الأشربة الحارة العتيق الأصفر.
الأطعمة الباردة ينبغي أن يستعملها من كان حار البدن وفي الأوقات
الحارة والبلد الحار.
وهي الشعير وكل ما يتخذ منه والجاورس والدخن والقرع والبطيخ والخيار
والقثاء والإجاص والخوخ والجمار وما بين الحموضة والعفوصة من العنب والزبيب والطلع
والبلح والخس والهندبا والبقلة الحمقاء والخشخاش والتفاح والكمثرى والرمان.
فما كان من الرمان عفصا فهو بارد غليظ وما كان حامضاً فهو بارد
لطيف.
فأما الخل فهو بارد لطيف وهو ضار بالعصب.
وما كان أيضاً من الشراب عفصا هو أقل حرارة وما كان من ذلك حديثاً
غليظاً فهو بارد.
الأطعمة اليابسة يحتاج إلى الأطعمة اليابسة من كان الغالب على بدنه
الرطوبة وفي الأوقات الرطبة وللبلد الرطب.
منها العدس والكرنب والسويق وكل ما يشوى ويطبخ ويقلى وكل ما أكثر
فيه السذاب والمري والخل والأبزار والخردل ولحم المسن من جميع الحيوان.
الأطعمة الرطبة يحتاج إلى الأطعمة الرطبة من أفرط عليه اليبس وفي
الأوقات اليابسة والبلد اليابس.
وهي: الشعير والقرع والبطيخ والقثاء والخيار والجوز الرطب والعنب
والنبق والإجاص والتوت والجمار والخس والبقلة اليمانية والقطف والباقلاء الرطب
والحمص الرطب واللوبيا الرطبة وكل ما يطبخ بالماء ويسلق به وثقل فيه الأبزار والخل
والمري والسذاب وجيمع لحوم صغار الحيوان.
الأطعمة القليلة الفضول أجنحة الطيور وأكارع المواشي ورقابها وما
يربى في البر من الحيوان في المواضع الجافة.
الأطعمة الكثيرة الفضول منها لحم الأوز خلا الأجنحة والأكباد كلها
من جميع الحيوان والنخاع والدماغ والطيور التي في الفيافي والآجام والحمص الطري
والباقلاء الطري ولحم الضأن ولحم المراضع من كل الحيوان ولحم كل ساكنٍ غير سريع
النهوض وما كان من السمك على ما ذكرنا صلباً لرجاً.
الأطعمة التي غذاؤها كثير كل ما غلظ من الأطعمة إذا نهضم غذى غذاءً
كثيراً.
وكل ما كان له فضول كان غذاؤه كثيراً.
وقد يحتاج إلى الأطعمة الكثيرة الغذاء من احتاج إلى أن يأخذ طعاماً
قليلاً يغذي غذاءً كثيراً كالناقة والمسافر وكالذي يثقل معدته الكثير من الطعام
وبدنه يحتاج إلى عذاء كثير.
فمن ذلك لحم البقر والأدمغة والأفئدة وحواصل الطير كلها والسمك
الغليظ اللوح والسميد والباقلاء والحمص واللوبيا والترمس والعدس والتمر والبلوط
والشاه بلوط والسلجم تغذو غذاءً كثيراً لغلظها.
واللبن الحليب والشراب الأحمر.
وغذاء اللبن كله أغلظه وأرقه ٌل غذاء.
وأغلظ اللبن لبن البقر ولبن النعاج وأرقه لبن الأتن وألبان
اللقاح.
وألبان الماعز متوسطة بين ذلك.
وأغذى الأشربة النبيذ الغليظ الحلو ثم الغليظ الأسود الحلو ثم
الغليظ الأبيض الحلو ثم من بعد هذه الأشربة العفصة الحلوة.
وكلما مال إلى الحمرة والحلاوة كان أغذى.
والأبيض أقلها غذاء.
الأطعمة التي غذاؤها قليل كل ما كان من الأطعمة لطيفاً كان غذاؤه
قليلاً وكل ما أفرط فيه اليبس أو الرطوبة أو كثرة الفضل قل غذاؤه كالأكارع والكروش
والمصارين والشحم والآذان والرئة ولحم الطير كله.
وما ملح من الحيوان قليل الغذاء لليبس الذي فيه.
وكذلك الزيتون والفستق والجوز واللوز والبندق والغبيرا والزعرور
والخروب والبطم والكمثرى العفص والزبيب العفص فإنما قل غذاؤه للعفوصة.
وأما السمك والقرع والرمان والتوت والإجاص والمشمش فإنما قل غذاؤها
لكثرة رطوبيتها.
وغذؤها غير باقٍ سريع التحلل.
وأما خبز الشعير والخشكار والباقلاء الرطب وجميع البقول مثل الكرنب
والسلق والحماض والبقلة الحمقاء والفجل والخردل والحرف والجزر فقليلة الغذاء لكثرة
الفضل فيها.
وأما البصل والثوم والكراث فإنها إذا أكلت نيئة لم تغذ.
وإذا طبخت غذت غذاءً يسيراً.
وأما التين والعنب فإنهما بين ما قل غذاؤه وما كثر غذاؤه.
الأطعمة التي تولد كيموسا جيداً كل ما كان معتدلاً من الأطعمة لم
تفرط فيه قوة ولا تجاوزت القدرة فيه ولد دماً خالصاً نقياً صحيحاً.
وكل ما كان كذلك فهو موافق لجميع الأبدان وفي جميع الأوقات وهو
لجميع الأبدان المعتدلة في الأوقات المعتدلة أوفق لأن ما تجاوز الاعتدال من
الأبدان يحتاج من الأطعمة إلى ما فيه قوة تجاوز الاعتدال وكذلك الأبدان المعتدلة
التي ليست بمعتدلة.
وفي الأطعمة المعتدلة ما هو غليظ وما هو لطيف وما هو بين ذلك.
وأجودها لجميع الناس ما كان معتدلاً منها بين الغليظ واللطيف.
وقد وصفنا الأطعمة الغليظة واللطيفة والمتوسطة ومتى يصلح كل صنف
منها.
فبقي علينا أن نخبر بجملة الأطعمة المولدة الكيموس الجيد وقسمتها
على ما قسمناها.
فمن ذلك: خبز الحنطة النقي المحكم الصنعة إن كان من يومه ولحم
الدجاج والجداء وحولية الماعز وما كان من السمك ليس بصلب ولا كثير اللزوجة وما لم يكن
له زهومة وما لم يكن له سمن كثير وما كان مرعاه في ماء ليس فيه أوساخ ولا حمأة ولم
يكن سريع العفونة وكل ما اشتد واستحكم نضجه من البيض وكل شراب طيب الريح ياقوتي
اللون ليس فيه حلاوة وكل ذلك يولد كيموساً معتدلاً بين اللطيف والغليظ.
وأما الدراج والفراريج وأجنحة جميع الطير وما صغر من السمك وكان
مرعاه على ما وصفنا وما ألقى عليه من السمك الملح فصار رخصا وذهبت لزوجته وأما كشك
الشعير والشراب الطيب الرائحة الأحمر.
فكل ذلك جيد الكيموس لطيف.
وأما اللبن الحليب فإنه جيد الكيموس إلا أن فيه غلظاً.
ولذلك ربما تجبن في المعدة.
فلهذه العلة يخلط به العسل والملح ويرق بالماء.
وأجود اللبن وأعدله لبن الماعز لأنه ألطف من لبن الضأن والبقر
وأغلظ من لبن الأتن واللقاح.
وينبغي للبن أن يؤخذ من حيوانٍ صحيح شاب جيد الغذاء.
ولا يستحب في وقت ما يضع الحيوان ولا بعد ذلك بزمان طويل لأن اللبن
من الحيوان في وقت ما يضع غليظ ثم يرق بعد ذلك قليلاً قليلاً حتى يصير مائياً
فلذلك كان أوله وآخره ردئياً.
وأجود ما يؤخذ اللبن ساعة يحلب قبل أن يغيره الهواء لأنه سريع
الاستحالة.
وأما الخشكار من الخبز الرطب وكل ما لم تحكم صنعته من خبز السميد
وخبز الفرن ولحم العجل ومن أجزاء الغنم: الضرع والكبد والفؤاد ومن الحبوب
الباقلاء ومن الشراب ما كان طيب الرائحة حلواً فكل ذلك يولد كيموساً غليظاً
جداً.
الأطعمة التي تولد كيموساً رديئاً كل ما لم يكن معتدلاً من الأغذية
لم يولد دماً خالصاً صافياً.
والأطعمة الرديئة الكيموس ثلاثة أصناف: منها ما يزيد في البلغم
ومنها ما يزيد في الصفراء ومنها ما يزيد في السوداء.
وينبغي لجميع الناس أن يتجنبوا الإكثار منها وإدمان استعمالها وإن
كانوا لها مستمرئين لأنها وإن لم يتبين لها ضرر في عاجل الأمر يجتمع منها في بدن
مدمن استعمالها مع طول الزمان كيموس رديء يولد أمراضاً رديئة.
وأولى الناس بتجنب كل صنف من أصنافها من كان الغالب على فأقول:
إن كل ما يتخذ من الخبز من دقيق كثير النخالة أو ما عتق من الحنطة رديء الكيموس
يزيد في السوداء.
ولحم الضأن كله يزيد في البلغم ولحم الماعز المسن كله يزيد في
السوداء وأردؤه لحم التيوس.
ولحم البقر والجزور والأرانب والظباء والأيايل كل هذا يزيد في
السوداء وشر هذه اللحوم لحم الجزور وبعده لحم التيوس لا سيما ما لم يخص منها وبعده
لحم المسن من الضأن وبعده لحم البقر.
وكل ما خصي من هذه كان أجود غذاء.
وأما لحوم الأرانب والظباء والأيايل فهو دون جميع ما ذكرنا في
الرداءة.
ومن أعضاء جميع الحيوان الكلى رديئة الكيموس لزهومتها وما استفادت
من رداءة البول.
والدماغ يزيد في البلغم وكل البطون تزيد في البلغم لكثرة الفضول
فيها.
والبيض المطجن يولد غذاء غليظاً فاسداً وكذلك الجبن ولا سيما ما
عتق منه.
والعدس يزيد في السوداء.
والدخن والجاورس يولدان دماً غليظاً.
وما صلب لحمه من السمك وغلبت عليه اللزوجة يولد البلغم فإن ملح
وعتق ولد السوداء.
والتين اليابس إن أكثر أكله ولد فضلاً عفناً يكثر منه القمل.
والكمثرى والتفاح إن أكلا غير نضيجين ولدا كيموساً رديئاً
بارداً.
كذلك القثاء والخيار.
فأما البطيخ والقرع فربما انهضما ولم يحدثا في البدن حدثاً رديئاً
وربما فسدا في المعدة فولدا كيموساً ردئياً ولا سيما إن صادفا في المعدة فضلاً
رديئاً فلذلك تعرض الهيضة كثيراً لمن أكل البطيخ.
والبقول كلها رديئة الكيموس لكثرة الفضل فيها وقلة الغذاء.
وأما البصل والثوم والكراث والفجل والجزر والسلجم فرديئة لما فيها
من الحرارة والحرافة وربما زادت في الصفراء وربما زادت في السوداء أيضاً كما ذكرت
آنفاً إلا أنها أن طبخت وصب ماؤها وطبخت بماءٍ ثان ذهبت الحرافة والرداءة عنها.
والباذروج يسخن الدم ويجففه تجفيفاً شديداً.
والكرنب يولد السوداء وكذلك جميع البقول الرديئة.
الأطعمة المتوسطة الكيموس وهي بين ما يولد الكيموس الجيد وما يولد
الكيموس الردي فمنها خبز الخشكار ولحم الخصيان من المعز والضأن.
ومن الأعضاء: اللسان والأمعاء والذنب.
ومن الفاكهة: العنب والبطيخ والمعلق من العنب أجود والتين اليابس
مع الجوز والشاهبلوط ومن البقول الخس وبعده الهندبا وبعده الخبازى وبعده القطف
والبقلة الحمقاء اليمانية والحماض وما لم يكن الأطعمة السريعة الانهضام وإنما يسرع
الانهضام لأحد وجهين: فالوجه الأول منهما إذا كانت الأطعمة غير يابسة كالعدس ولا
صلبة كالترمس ولا لزجة كالحنطة ولا خشنة كالسمسم ولا كريهة كالسذاب ولا كثيرة
الفضول كالأرز ولا يغلب عليها برد شديد كاللبن الحامض ولا حر شديد كالعسل.
والوجه الثاني: لطبيعة البطن المستمرئ لها وذلك لأحد وجهين:
الأول موافقة الأغذية ومشاكلة الأبدان الطبيعية كالأطعمة التي يشتهيها ويلذها
الإنسان فقد تجد الناس يختلفون في شهواتهم ويستمرئ كل واحدٍ منهم ما شهوته إليه
أميل وإن كان الذي لا يشتهيه أحمد من الذي يشتهيه.
والوجه الثاني: لمزاج عارض يصادف من الطعام مضادة كالذي ترى أن
من غلب عليه الحر لعلةٍ من العلل كان للأطعمة الباردة أسد استمراء لما تطفئ من
حرارة البدن وتعدله.
ومن غلب عليه البرد استمرأ الحار ولم يستمرئ البارد.
ومن رطب بدنه أو معدته استمرأ الأطعمة الجافة ولم يستمرئ الرطبة
ومن عرض له اليبس خلاف ذلك.
فقد بان بما ذكرناه أن الأطعمة اللطيفة والمتوسطة في نفسها سريعة
الانهضام.
وقد يجوز أن تكون الأطعمة الغليظة أسرع انهضاماً في بعض الأبدان
أيضاً.
فقشر الخبز المحكم ولحم الدجاج والفراريج والدراج والحجل وكبود
الإوز وأجنحتها سريعة الانهضام.
وفي الجملة: الجناح من كل طائر أسرع انهضاماً من سائره.
وليس الطير كله بأسرع انهضاماً من المواشي.
وكل ما كان من الحيوان يابساً فصغيره أسرع انهضاماً.
وكذلك لحم العجاجيل أسرع انهضاماً من لحم البقر ولحم الجدي الحولي
أسرع انهضاماً من لحم المسن من الماعز.
وكل ما كان من الحيوان أرطب فكبيره من قبل أن يشتد أسرع انهضاماً
من صغيره.
ألا ترى أن الحولي من الضأن أسرع انهضاماً من الخروف وكل ما كان
مرعاه في المواضع اليابسة أسرع انهضاماً مما كان مرعاه في المواضع الرطبة.
وكل ما كان جرمه متخلخلاً فهو أسرع انهضاماً مما كان جرمه
متلززاً.
ولذلك كان الجوز أسرع انهضاماً من البندق.
والبيض الحار امرأ من البيض البارد.
والشراب الحلو أمرأ من العفص.
الأطعمة البطيئة الانهضام وإنما يعسر الانهضام من الطبيعة في
الطعام إذا كان يابساً أو صلباً أو لزجاً أو ملتززاً أو كثير الدسم أو كثير الفضول
أو كريه الطعم أو الحرافة فيه مفرطة أو البرد أو الحر أو مخالفاً للمزاج الطبيعي
إذا لم يشته.
فلحم البقر ولحم الإبل والكروش والأمعاء والأوز والآذان من جميع
الحيوان والجبن والبيض البارد عسرة الانهضام ليبسها وصلابتها.
وكذلك من الطير الوراشين والفواخت والطواويس.
والقوانص من جميع الطير عسرة الانهضام.
ومن الحبوب: الأرز والترمس والعدس والدخن والجاورس والبلوط
والشاهبلوط.
وأما لحم التيوس وأكارع البقر فعسرة الانهضام لزهومتها وكراهتها.
وأما لحم الضأن والكبود من جميع الحيوان والإوز فلكثرة الفضول فيها
وأما الجبن الحامض فلبرده.
وأما الحنطة المسلوقة فللزوجتها وتلززها.
وأما الباقلاء واللوبياء - كثرة النفخ فيها.
وأما السمسم فلكثرة دهنه.
وأما العنب والتين وسائر الفواكه إذا لم يستحكم نضجها والأتراج
والباذروج والسلجم والجوز والشراب الحديث الغليظ فلكثرة الفضول فيه.
الأطعمة الضارة للمعدة السلق رديء للذعه أياها ولما فيه من الحدة
البورقية والباذروج والسلجم ما لم يستقص طبخهما للذع فيهما.
والبقلة اليمانية والقطف للزوجتهما فلذلك ينبغي أن يؤكلا بالخل
والمري.
والحلبة رديئة للمعدة للذعها إياها والسمسم رديء للمعدة للزوجته
وكثرة دهنه واللبن لسرعة استحالته في المعدة والعسل ما أكثر منه لذع المعدة
وأغثاها.
والبطيخ أيضاً يغثي وإذا لم ينضج في المعدة ولد كيموساً رديئاً
فينبغي بعد أكل البطيخ أن يأكل طعاماً كثيراً جيد الكيموس.
والأدمغة أيضاً كلها رديئة للمعدة فلذلك ينبغي أن تؤكل بالصعتر
والفودنج البري والخردل والملح.
وكذلك أيضاً المخاخ.
والنبيذ الحديث الغليظ الأسود العفض يسرع الحموضة في المعدة
ويغثي.
الأطعمة التي تفسد في المعدة المشمش والسمسم والنون والبطيخ إذا لم
يسرع انحدارها عن المعدة وصادفت فيها كيموساً رديئاً أسرع إليها الفساد.
فيجب أن تؤكل قبل الطعام والمعدة نقية ليسرع انحدارها عنها ويسهل
الطريق لما يؤكل بعدها من الطعام فإن أكلت بعد الطعام فسدت لبقائها في المعدة
وأفسدت سائر الطعام بفسادها وربما بلغ الفساد بها إلى أن تصير بمنزلة السم
القاتل.
الأطعمة التي لا يسرع إليها الفساد في المعدة من كان يفسد طعامه في
معدته فأجود الأطعمة له ما كان غليظاً بطئ الانحدار مثل لحم البقر الأطعمة الملينة
المسهلة للبطن كل ما كان من الأطعمة فيه حلاوةٌ أو حدة أو لزوجة.
فمن ذلك ماء العدس وماء الكرنب يلينان البطن وجرمهما يمسك البطن
وكذلك مرقة الديوك العتيقة وخبز الخشكار وماء الحلبة مع العسل وزيتون الماء إذا
كان قبل الطعام مع مريٍ لين البطن فإن كان أيضاً بعد الطعام بلا مري فإنه يقوي
المعدة على دفع الطعام لعفوصته.
وكذلك ما عمل منه بالخل.
وكل طعام عفصٍ فإنه دابغ للمعدة مقوٍ لها.
فأما اللبن وماء الجبن فيلينان البطن ولا سيما إذا خلط به الملح.
ولحم الصغير من الحيوان والسلق والقطف والبقلة اليمانية والقرع
والبطيخ والتين والزبيب الحلو والتوت الحلو والجوز الرطب والإجاص الرطب والسكنجبين
والنبيذ الحلو ملين للبطن.
الأطعمة التي تحبس البطن إذا كان الطعام ينحدر عن المعدة قبل انهضامه
احتجنا إلى الأطعمة الممسكة الحابسة للبطن.
وكل ما غلب عليه من الأطعمة اليبس أو العفوصة أو الغلظ كالسفرجل
والكمثرى وحب الآس وثمر العوسج وجرم العدس والبلوط والشاهبلوط.
والنبيذ العفص يمسك البطن لعفوصته وقبضه.
والجاورس والدخن وسويق الشعير تمسك البطن بيبوستها.
ولحم الأرانب والكرنب المطبوخ بعد صب مائه الأول عنه ثم يطبخ بماءٍ
ثان فإنه يمسك البطن بيبسه.
واللبن المطبوخ والجبن كلاهما يمسك البطن لغلظه.
وذلك أن يطبخ اللبن حتى تفني مائيته ويبقي جرمه وربما ولد سدداً في
الكبد وحجارة في الكلى.
وأما الأشياء الحامضة كالتفاح الحامض والرمان الحامض فإن صادفت في
المعدة كيموساً غليظاً قطعته وحدرته ولينت البطن وإن صادفت المعدة نقية أمسكت
البطن.
الأطعمة التي تولد السدد اللبن الغليظ والجبن ربما أحدثا سدداً في
الكبد وحجارة في الكلى لمن أكثر استعمالها وكان كلاه وكبده مستعدة لقبول الآفات.
وجميع الأطعمة الحلوة رديئة للكبد والطحال فإذا أكل معها الفوذنج
الجبلي والصعتر والفلفل فتح سدد الكبد والطحال.
والرطب والتمر وجميع ما يتخذ من الحنطة سوى الخبز الجيد الصنعة
والأشربة الحلوة أيضاً تولد سدداً في الكبد وحجارة في الكلى وتغلظ الطحال.
ماء الكشك كشك الشعير يجلو المعدة ويفتح السدد.
والحلبة والبطيخ والزبيب الحلو والباقلاء والحمص الأسود ينقي الكلى
ويفتت الحجارة المتولدة فيها.
والكبر بالخل والعسل إذا أكل قبل الطعام فإنه يجلو وينقي المعدة
والأمعاء ويفتح السدد.
والسلق أيضاً يجلو ويفتح السدد في الكبد ولا سيما إذا أكل
بالخردل.
والبصل والثوم والكراث والفجل يقطع ويلطف الكيموس الغليظ.
والتين رطبه ويابسه يجلو وينقي الكلى.
واللوز كله ولا سيما المر منه فإنه يجلو ويلطف ويفتح سدد الكبد
والطحال ويعين على نفث الرطوبة من الصدر والرئة.
والفستق يقوي الكبد ويفتح سددها.
وعسل النحل حارٌ يابس وماء العسل يلطف البصاق الغليظ ويعين على
نفثه.
والسكنجبين يلطف ويقطع الرطوبة الغليظة.
ويفتح سدد الكبد والطحال وينقي الصدر والرئة.
والنبيذ اللطيف إذا كانت له حدة وحرافة يصفي اللون وينقي العروق من
الكيموس الغليظ وينتفع به من كان يجد في بدنه كيموساً غليظاًبارداً.
وأما النبيذ الرقيق المائي فإنه يعين على نفث الرطوبة من الرئة
بتقويته الأعضاء وتلطيفه لما بها من الفضل الغليظ وقد يفعل ذلك النبيذ الحلو.
الأطعمة التي تنفخ الحمص والباقلاء ولا سيما إن طبخ بقشره فإن طبخ
مقشراً أو مسحوقاً كان أقل نفخاً وإن قلي أيضاً كان أقل نفخاً.
وبعد هذه اللوبياء والماش والعدس والشعير إذا لم ينعم طبخها.
والنعناع والأنجذان والحلتيت والتين الرطب يولد نفخاً إلا أنه
يتحلل سريعاً لسرعة انحداره.
وما استحكم نضجه من التين والعنب كان أقل نفخاً.
ويابس التين أقل نفخاً من رطبه.
واللبن يولد رياحاً في المعدة.
والعسل إذا طبخ ونزعت رغوته قل نفخه.
والنبيذ الحلو العفص يولد نفخاً.
ما يذهب النفخ من الأطعمة كل الطعام نافخٍ إذا أحكمت صنعته وأجيد
طبخه وإنضاجه قل نفخه.
وكل ما قلي منه قل نفخه.
وكل ما خلط به الأبزار المحللة للرياح كالكمون والذاب والأنيسون
والكاشم يقل نفخه.
والخل الممزوج بالعسل يلطف الرياح ويذهب بالنفخ.
كتاب إسحاق بن عمران إلى بعض إخوانه كتب إسحاق بن عمران المعروف
بسم ساعة إلى رجل من إخوانه: اعلم رحمك الله أن الخام والبلغم يظهران على الدم
والمرة بعد الأربعين سنة فيأكلانهما وهما عدوا الجسد وهادماه.
ولا ينبغي لمن خلف الأربعين سنة أن يحرك طبيعة من طبائعه غير الخام
والبلغم ويقوي الدم جاهداً غير أنه ينبغي له في كل سبع سنين أن يفجر من دمه شيئاً
ومن المرة مثل ذلك لقلة صبره على الطعام اللذيذ والمشروب الروي.
فتعاهد أصلحك الله ذلك من نفسك واعلم أن الصحة خير من المال والأهل
والولد ولا شيء بعد تقوى الله سبحانه وتعالى خير من العافية.
وما تأخذ به نفسك وتحفظ به صحتك أن تلزم ما أكتب به إليك: في شهر
يناير تشرب شراباً شديدياً كل غداة.
وفي شهر فبرير لا تأكل السلق.
وفي مارس لا تأكل الحلواء كلها وتشرب الأفسنتين في الحلاوة.
وفي أبريل لا تأكل شيئاً من الأصول التي تنبت في الأرض ولا
الفجل.
وفي مايه لا تأكل رأس شيء من الحيوان.
وفي يونيه تشرب الماء البارد بعد ما تطبخه وتبرده على الريق.
وفي يوليه تجنب الوطء.
وفي أغشت لا تأكل الحيتان.
وفي سبتمبر تشرب اللبن البقري.
وفي أكتوبر لا تأكل الكراث نيئاً ولا مطبوخاً.
وفي نبنبر لا تدخل الحمام.
وفي دجنبر لا تأكل الأرنب.
زعم علماء الطب أن الجسد من الطبائع الأربع اثني عشر رطلاً:
فللدم منها ستة أرطال وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال فإن غلب الدم
الطبائع تغير منه الوجه وورم وخرج ذلك إلى الجذام وإن غلبت الثلاث الطبائع الدم
أنبتت المد.
قال: فإذا خاف الإنسان غلبة هذه الطبائع بعضها بعضاً فليعدل جسده
بالاقتصاد وينقه بالمشي فإنه إن لم يفعل اعتراه ما وصفنا: إما جذام وإما مد.
نسأل الله العافية.
ولا بأس بعلاج الجسد في جميع الأزمان إلا أيام السموم إلا أن ينزل
فيها مرض شديد لا بد من مداواته أو يظهر فيها موم أو ذات الجنب فإنه ينبغي للطبيب
أن يعانيه بفصاد أو شيء خفيف فإنها أيام ثقيلة.
وهي خمسة عشر يوماً من تموز إلى النصف من آب فذلك ثلاثون يوماً لا
يصلح فيها علاج وكان بقراطيس يجعلها تسعة وأربعين يوماً ويقطع الغرر والخطر في
أيام القيظ فإذا مضى لأيلول ثلاثة أيام طاب التداوي كله.
وأمر جالينوس في الربيع بالحجامة والنورة وأكل الحلاوة وشربها ونهى
عن القطاني واللبن الرائب وعتيق الجبن والمالح والفاكهة اليابسة إلا ما كان
مسلوقاً.
وفي القيظ وهو زمان المرة الصفراء بأكل البارد الرطب على قدر قوة
الرجل في طبعه وسنه وترك الجماع وأكل الحوت الطري والفاكهة الرطبة والبقول ولحم
البقر والمعز ومن القطاني العدس ومن الأشربة المربب بالورد والسكركة من الشعير
والسكر بالماء المطبوخ وأكل الكزبرة الخضراء في الأطعمة وأكل الخيار والبطيخ ولزوم
دهن الورد وماء الورد ورش الماء وبسط البيت بورق الشجر ومن الدواء السكر بالمصطكى
يسحقهما مثلاً بمثل ويأخذ منهما على الريق قدر الدرهم أو أكثر قليلاً.
وفي زمان الخريف وهو زمان السوداء وهو أثقل الأزمنة على أهل تلك
الطبيعة من الطعام والشراب بالحار الرطب مثل الأحساء بالحلاوة وأكل العسل وشربه.
ونهي فيه عن الجماع وأكل لحم المعز والبقر وأمر بأكل صيود البر
والبحر وحسو البيض والدهن قبل الحمام وإيتان النساء على غير شبع في آخر الليل وفي
أول النهار والتماس الولد على الريق من الرجل والمرأة فإن أولاد ذلك الزمان أسد
وأقوى تركيباً من غيرهم كما قالت الحكماء.
الخمر المحرمة في الكتاب أجمع الناس على أن الخمر المحرمة في
الكتاب خمر العنب وهي ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب من غير أن تمسه نار.
ولا تزال خمراً حتى تصير خلاً وذلك إذا غلبت عليها الحموضة
وفارقتها النشوة لأن الخمر ليست محرمة العين كما حرمت عين الخنزير وإنما حرمت لعرض
دخلها فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالاً كما كانت قبل الغليان حلالاً وعينها في
كل ذلك واحدة وإنما انتقلت أعراضها من حلاوةٍ إلى مرارة ومن مرارة إلى حموضة كما ينتقل
طعم الثمرة إذا أينعت من حموضة إلى حلاوة والعين قائمة وكما ينتقل طعم الماء بطول
المكث فيتغير طعمه وريحه والعين قائمة.
ونظير الخمر فيما يحل ويحرم بعرض: المسك الذي هو دم عبيط حرام ثم
يجف وتوجد رائحته فيصير حلالاً طيباً.
فهذه الخمر بعينها المجمع على تحريمها.
وأصحاب النبيذ إنما يدورون حولها ويتعللون بأنهم يشربون ما دون
المسكر ولا لذة لهم دون مواقعة السكر كما قال الشاعر: يدورون حول الشيخ يلتمسونه
بأشربةٍ شتى هي الخمر تطلب وكقول القائل: إياك أعني فاسمعي يا جاره قيل للأحنف
بن قيس: أي الشراب أطيب فقال: الخمر.
قيل له: وكيف علمت ذلك وأنت لم وقال ابن شبرمة: ونبيذ الزبيب
ما اشتد منه فهو للخمر والطلاء نسيب وقال عبد الله بن القعقاع: أتانا بها صفراء
يزعم أنها زبيب فصدقناه وهو كذوب فهل هي إلا ساعة غاب نحسها أصلي لربي بعدها وأتوب
وقال ابن شبرمة: أتانا الفرزدق فقال: اسقوني.
فقلنا: وما تريد أن نسقيك قال: " أقربه إلى الثمانين
" ويعني حد الخمر.
وقال قيصر لقس بن ساعدة: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن قال:
" ما صفا في العين واشتد على اللسان وطابت رائحته في الأنف من شراب الكرم
".
قيل له: فما تقول في مطبوخه فقال: " مرعى ولا
كالسعدان! ".
قيل له: فما تقول في نبيذ الزبيب قال: ميت أحيى فيه بعض المتعة
ولا يكاد يحيا من مات مرة.
قيل له: فما تقول في العسل قال: نعم شراب الشيخي ذي الإبردة
والمعدة الفاسدة.
علي بن عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بابن
شراعة من الكوفة فوالله ما سأله عن نفسه ولا سفره حتى قال له: يا ابن شراعة إني
والله ما بعثت فيك لأسألك عن كتاب الله ولا سنة رسول.
قال: والله لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما حماراً.
قال: فإنما أرسلت إليك لأسألك عن القهوة.
قال: فأنا دهقانها الخبير وطبيبها العليم.
قال: فأخبرني عن الطعام قال: ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم
غير أن أنفعه أدسمه وأشهاه أمرؤه قال: فما تقول في الشراب قال: ليسأل أمير
المؤمنين عما بدا له.
قال: فما تقول في الماء قال: لا بد لي منه والحمار شريكي
فيه.
قال: فما تقول في السويق قال: شراب الحزين والمستعجل
والمريض.
قال: فما تقول في اللبن قال: ما رأيته قط إلا استحييت من أمي
من طول ما أرضعتني به.
قال: فنبيذ التمر قال: سريع الامتلاء سريع الانفشاش.
قال: فنبيذ الزبيب قال: حاموا به على الشراب.
قال: فما تقول في الخمر قال: أوه تلك صديقة روحي.
قال: وأنت والله صديق روحي.
قال: وأي المجالس أحسن قال: ما شرب الناس على وجه قط أحسن من
النساء.
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد وهو في الفرش منغمس كما
ولدته أمه فقال لي: يا أصمعي من أين طرقت اليوم قال: قلت احتجمت.
قال: وأي شيء أكلت عليها قلت: سكباجة وطباهجة.
قال: رميتها بحجرها.
قال: هل تشرب قلت: نعم يا أمير المؤمنين: اسقني حتى تراني
مائلاً وترى عمران ديني قد خرب آفات الخمر وجناياتها أول ذلك أنها تذهب العقل -
وأفضل ما في الإنسان عقله - وتحسن القبيح وتقبح الحسن.
قال أبو نواس: اسقني حتى تراني حسنٌ عندي القبيح وقال أيضاً:
اسقني صرفاً حمياً تترك الشيخ صبيا وتريه الغي رشداً وتريه الرشد غيا وقال
أيضاً: عتقت في الدن حولاً فهي في رقة ديني وقال الناطق بالحق: تركت النبيذ
وشرابه وصرت خدينا لمن عابه شراب يضل سبيل الرشاد ويفتح للشر أبوابه وإنما قيل
لمشارب الرجل " نديم " من الندامة لأن معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما
يندم عليه وفعل ما يندم عليه فقيل لمن شاربه نادمه لأنه فعل مثل ما فعله فهو نديم
له كما يقال جالسه فهو جليس له.
والمعاقر: المدمن كأنه لزم عقر الشيء أي فناءه.
وقال أبو الأسود الدؤلي: دع الخمر يشربها الغواة فإنني رأيت
أخاها مغنياً بمكانها فإلا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها وقد شهر
أصحاب الشراب بسوء العهد وقلة الحفاظ وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر وما عوفيت
حتى تنكب وما غلت ذنانك حتى تنزف وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك.
قال الشاعر: أرى كل قومٍ يحفظون حريمهم وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا وإن غبت عنهم ساعة فذميم إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم
وكلهم رث الوصال سئوم فهذا ثنائي لم أقل بجهالة ولكنني بالفاسقين عليم وقال قصي بن
كلاب لبنيه: اجتنبوا الخمر فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان.
وقيل لعدي بن حاتم: مالك لا تشرب الخمر قال: لا أشرب ما يشرب
عقلي.
وقيل لأعرابي: مالك لا تشرب النبيذ قال: لا أشرب ما يشرب
عقلي.
وقال يزيد بن الوليد: النشوة تحل الحبوة.
وقيل لعثمانبن عفان رضي الله عنه: ما منعك من شرب الخمر في
الجاهلية ولا حرج عليك فيها قال: إني رأيتها تذهب العقل جملة وما رأيت شيئاً
يذهب جملةً ويعود جملة.
وقال أيضاً: ما تغنيت ولا تفتيت ولا شربت خمراً ولا مسست فرجي
بيدي بعد أن خططت بها المفصل.
وقال عبد العزيز بن مروان لنصيب بن رباح: هل لك فيما يثمر
المحادثة ثريد المنادمة قال: أصلح الله الأمير الشعر مفلفل واللون مرمد ولم أقعد
إليك بكرم عنصر ولا بحسن منظر وإنما هو عقلي ولساني فإن رأيت ألا تفرق بينهما
فافعل.
وربما أذهبت الكأس البيان وغيرت الخلقة فيعظم أنف الرجل ويحمر
ويترهل.
وقال جرير في الأخطل: وشربت بعد أبي ظهير وابنه سكر الدنان كأن
أنفك دمل شبه أنفه بالدمل في ورمه وحمرته.
وقال آخر في حماد الراوية: هدلت مشافره الدنان فأنفه مثل القدوم
يسنها الحداد وأبيض من شرب المدامة وجهه فبياضه يوم الحساب سواد ودخل أمية بن عبد
الله بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثر فقال: ما هذا فقال: قمت
بالليل فأصاب الباب وجهي.
فقال عبد الملك: رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها وللشاربيها
المدمنيها مصارع فقلت: لا واخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك.
فقال: بل واخذك الله بسوء مصرعك.
وقال حسان بن ثابت.
تقول شعثاء لو صحوت عن ال كأس لأصبحت مثري العدد أنسى حديث الندمان
في فلق ال صبح وصوت المسامر الغرد لا أخدش الخدش بالجليس ولا يخشى نديمي إذا
انتشيت يدي يأبى لي السيف واللسان وقو م لم يساموا كلبدة الأسد وقال ابن
الموصلي: سلام على سير القلاص مع الركب ووصل الغواني والمدامة والشرب سلام أمئ
لم تبق منه بقية سوى نظر العينين أو شهوة القلب ليالي أمشي بين بردي لاهباً أميس
كغصن البانة الناعم الرطب ويروى أن الحسن بن زيد لما ولي المدينة قال لإبراهيم بن
هرمة: لا تحسبني كمن باع لك دينه رجاء مدحك وخوف ذمك فقد رزقني الله بولادة نبيه
الممادح وجنبني المقابح وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حقه وإني أقسم لئن
أتيت بك سكران لأضربنك حدين: حد الخمر وحد السكر ولأزيدنك لموضع حرمتك فليكن
تركك لها لله تعن عليه ولا تدعها للناس فتوكل إليهم.
فنهض ابن هرمة وهو يقول: نهاني ابن الرسول عن المدام وأدبني
بآداب الكرام وقال لي اصطبر عنها ودعها لخوف الله لا خوف الأنام وكيف تصبرني عنها
وحبي لها حب تمكن في العظام أرى طيب الحلال علي خبثاً وطيب النفس في خبث الحرام
وذكروا أن حارثة بن بدر الغداني كان فارس بني تميم وشريفها وكان قد غلب على زياد
وكان الشراب قد غلب عليه فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك وهو رجل مستهتر
بالشراب.
فقال لهم: كيف باطراح رجلٍ ما راكبني قط فمست ركبتي ركبته ولا
تقدمني فنظرت إلى قفاه ولا تأخر عني فلويت إليه عنقي ولا سألته عن شيء قط إلا وجدت
علمه عنده.
فلما مات زياد جفاه ولده عبيد الله بن زياد فقال له حارثة: أيها
الأمير: ما هذا الجفاء مع معرفتك بحالي عند أبي المغيرة فقال له عبيد الله: إن
أبا المغيرة قد برع بروعاً لم يلحقه معه عيب وأنا حدث وإنما أنسب إلى من تغلب علي
وأنت رجل نديم الشراب فدع النبيذ وكن أول داخلٍ وآخر خارج.
فقال حارثة: أنا لا أدعه لله أفادعه لك قال: فاختر من عملي ما
شئت! قال: ولني رامهرمز فإنها عذبة وسرق فإن بها شراباً وصف لي عنه فولاه
إياها فلما خرج شيعه الناس.
وكتب إليه أنس بن أبي أنيس: أحار بن بدر قد وليت ولايةً فكن
جرذاً فيها تخون وتسرق ولا تحقرن يا حار شيئاً تخونه فحظك من ملك العراقين سرق
وبادر تميماً بالغنى إن للغنى لساناً به المرء الهيوبة ينطق فإن جميع الناس إما
مكذب يقول بما تهوي وإما مصدق يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ولو قيل يوماً حققوا لم
يحققوا فوقع حارثة في أسفل كتابه " لا بعد عنك الرشد ".
ولما خرجت الأزارقة على أهل البصرة لاقاهم حارثة بن بدر وتولى
حربهم في أصحابه في فرسانٍ من بني يربوع حتى أصيب في تلك الحروب.
وقال فيه الشاعر: إذا قيل من حامي الحقيقة أو مأت إليه معد
بالأكف وقحطان وقال الشاعر: شربنا من الداذي حتى كأننا ملوك لهم في كل ناحية وفر
فلما علت شمس النهار رأيتنا تخلى الغنى عنا وعاودنا الفقر وكان أبو الهندي من ولد
شبث بن ربعي الرياحي من بني يربوع وكان قد غلب عليه الشراب على كريم منصبه حتى كاد
يبطله وكان قد ضاف إلى راعٍ يسمى سالماً فسقاه قدحاً من لبن فكرهه وقال: سيغني
أبا الهندي عن وطب سالم أباريق كالغزلان بيض نحورها مفدمة قزاً كأن رقابها رقاب
كراكٍ أفزعتها صقورها فما ذر قرن الشمس حتى كأنما أرى قريةً حولي تزلزل دورها
ولقيه نصر بن سيار والي خراسان وهو يميد سكراً فقال له: أفسدت مروءتك وشرفك.
قال: لو لم أفسد مروءتي لم تكن أنت والي خراسان.
ومرض أبو الهندي فلما وجد فقد الشراب جعل يبكي ويقول: رضيع
المدام فارق الراح روحه فظل عليها مستهل المدامع وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد
الكناني وكان أبو الوليد ناسكاً فاستعدى عليه وعلى ابنه فهرب معه وقال فيه أبو
الهندي: قل للسري أبي قيس أتوعدنا ودارنا أصبحت من داركم صددا أبا الوليد أما
والله لو علمت فيك الشمول لما حرمتها أبدا ولا نسيت حمياها ولذتها ولا عدلت بها
مالاً ولا ولدا وشرب أبو الهندي في غرفة مع نديمٍ له فاطلع منها فإذا بميت يزف به
على شرجع فالتفت إلى صاحبه فقال: اصبب على قلبك من بردها إني أرى الناس يموتونا
فكان هذا القول منه " دليلاً " على " عدم " اتعاظه
بالموت.
وكان أبو الهندي عجيب الجواب وجلس إليه رجل كان صلب أبوه في جناية
فجعل يعرض له بالشراب فقال أبو الهندي: أحدهم يبصر القذى في عين أخيه ولا يبصر
الجذع المعترض في أست أبيه! وقال عبد الرحمن بن أم الحكم: وكأس ترى بين الإناء
وبينها قذى العين قد نازعت أم أبان فما ظن ذا الواشي بأروع ماجد وعذراء خود حين
يلتقيان دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن أخاها ولم أرضع لها بلبان دعتني أخاها بعد ما
كان بيننا من الأمر ما لا يفعل الأخوان وقال: لا هنيئاً بما شربت مريئاً ثم قم
صاغراً وغير كريم لا أحب النديم يومض بالعي ن إذا ما انتشى لعرس النديم وقال أبو
العباس المبرد: ودخل عمرو بن مسعدة على المأمون وبين يديه جام زجاج فيه سكر
طبرزذ وملح جريش قال: فسلمت عليه فرد وعرض علي الأكل فقلت: ما أريد شيئاً.
هنأك الله يا أمير المؤمنين فلقد باكرت الغداء.
قال: بت جائعاً! ثم أطرق ورفع رأسه وهو يقول: اعرض طعامك
وابذله لمن دخلا واعزم على من أبى واشكر لمن أكلا ولا تكن سابري العرض محتشماً من
القليل فلست الدهر محتفلا ودعا برطل ودخل شيخ من جلة الفقهاء فمد يده إليه فقال:
والله يا أمير المؤمنين ما شربتها ناشئاً فلا تسقينها شيخاً.
فرد يده إلى عمرو بن مسعدة فأخذها منه وقال: يا أمير المؤمنين
فإني عاهدت الله في الكعبة ألا أشربها أيضاً.
ففكر طويلاً والكأس في يد عمرو بن مسعدة فقال: ردا علي الكأس
إنكما لا تعلمان الكأس ما تجدي لو ذقتما ما ذقت ما امتزجت إلا بدمعكما من الوجد
خوفتماني الله ربكما وكخيفتيه رجاؤه عندي إن كنتما لا تشربان معي خوف العقاب
شربتها وحدي شرب المأمون ويحيى بن أكثم القاضي وعبد الله بن طاهر فتغامز المأمون
وعبد الله على سكر يحيى فغمز يد الساقي فأسكره وكان بين أيديهم رزم من ورد ورياحين
فأمر المأمون فشق له لحد في الورد والرياحين وصيروه فيه وعمل بيتي شعر ودعا قينة
فجلست عند رأسه وحركت العود وغنت: دعوته وهو حي لا حراك به مكفنٌ في ثياب من
رياحين فقلت قم قال رجلي لا تطاوعني فقلت خذ قال كفي لا تواتيني فانتبه يحيى لرنة
العود وقال مجيباً لها: يا سيدي وأمير الناس كلهم قد جار في حكمه من كان يسقيني
لا أستطيع نهوضاً قد وهى جسدي ولا أجيب المنادي حين يدعوني فاختر لبغداد قاضٍ إنني
رجلٌ الراح تقتلني والعود يحييني حدثنا أبو جعفر البغدادي قال: كان بالجزيرة رجل
يبيع نبيذاً في ماخورٍ له وكان بيته من قصب وكان يأتيه قوم يشربون عنده فإذا عمل
فيهم الشراب قال بعضهم لبعض: أما ترون بيت هذا النباذ من قصب فيقول بعضهم: علي
الآجر ويقول الآخر: علي الجص ويقول الآخر: علي أجرة العامل.
فإذا أصبحوا لم يعملوا شيئاً فلما طال ذلك على النباذ قال فيهم:
لنا بيت يهدم كل يوم ويصبح حين يصبح جذم خص إذا ما دارت الأقداح قالوا غداً نبني
بآجر وجص وكيف يشيد البنيان قومٌ يمرون الشتاء بغير قمص ودخل حارثة بن بدر على
زياد وبوجهه أثر فقال: ما هذا قال: ركبت فرسي الأشقر فصرعني.
قال: أما إنك لو ركبت الأشهب ما صرعك.
أراد حارثة بالأشقر النبيذ وأراد زياد بالأشهب اللبن.
وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال
الخمار في جواره حتى ينفذ ما عنده.
فشرب قيس ذات يوم فسكر سكراً قبيحاً فجذب ابنته وتناول قرنها ورأى
من تاجر فاجر جاء الإله به كأن لحيته أذناب أجمال جاء الخبيث ببيسانيةٍ تركت صحبي
وأهلي بلا عقل ولا مال فلما صحا أخبر بما صنع وما قال فآلى ألا يذوق خمراً
أبداً.
- وربما بلغت جناية الكأس إلى عقب الرجل ونجله.
قال المأمون: " يا نطف الخمار ونزائع الظؤور وأشباه
الخؤولة ".
وقال الشاعر: لما رأيت الحظ حظ الجاهل ولم أر المغبون غير العاقل
رحلت عنساً من كروم بابل فبت من عقلي على مراحل وقال آخر يصف السكر: أقبلت من
عند زيادٍ كالخرف أجر رجلي بخطٍ مختلف كأنما يكتبان لام ألف وقال آخر يصف السكر:
شربنا شربةً من ذات عرقٍ بأطراف الزجاج من العصير وأخرى بالمروح ثم رحنا نرى
العصفور أعظم من بعير كأن الديك ديك بني تميم أمير المؤمنين على السرير فبت أرى
الكواكب دانياتٍ ينلن أنامل الرجل القصير أدافعهن بالكفين مني وألثم لبة القمر
المنير وقال الشاعر: دع النبيذ تكن عدلاً وإن كثرت فيك العيوب وقل ما شئت يحتمل
هو المشيد بأخبار الرجال فما يخفى على الناس ما قالوا وما فعلوا كم زلةٍ من كريم
ظل يسترها من دونها ستر الأبواب والكلل أضحت كنارٍ على علياء موقدةٍ ما يستسر لها
سهل ولا جبل والعقل علق مصونٌ لو يباع لقد ألفيت بياعه يعطون ما سألوا فاعجب لقوم
مناهم في عقولهم أن يذهبوها بعل بعده نهل قد عقدت بخمار الكأس ألسنهم عن الصواب
ولم يصبح بها علل وزررت بسنات النوم أعينهم كأن أحداقها حول وما حولوا تخال رائحهم
من بعد غدوته حبلى أضر بها في مشيها الحبل وحاله من أقبح الحالات في نفسه والعرس
والبنات أف له أفٍ إلى أفات خمسة آلافٍ مؤلفاتٍ من حد من الأشراف في الخمر وشهر
بها منهم يزيد بن معاوية وكان يقال له: يزيد الخمور وبلغه أن مسور بن مخرمة
يرميه بشرب الخمر فكتب إلى عامله بالمدينة: أن يجلد مسوراً حد القذف ففعل.
فقال مسور: أيشربها صرفاً بطين دنانها أبو خالدٍ ويضرب الحد مسور
وممن حد في لشراب الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمان بن عفان لأمه.
شهد أهل الكوفة عليه أنه صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران.
ثم التفت إليهم فقال: إن شئتم زذتكم! فجلده علي بن أبي طالب
بين يدي عثمان.
وفيه يقول الحطيئة وكان نديمه أبو زبيد الطائي: شهدت الحطيئة يوم
يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر نادى وقد تمت صلاتهم ليزيدهم خيراً ولا يدري
ليزيدهم خيراً ولو قبلوا لقرنت بين الشفع والوتر كبحوا عنانك إذ جريت ولو تركوا
عنانك لم تزل تجري ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر فحده هناك عمرو بن
العاص سراً.
فلما قدم إلى عمر جلده حداً آخر علانية.
ومنهم العباس بن عبد الله بن عباس كان ممن شهر بالشراب ومنادمة
الأخطل الشاعر.
وفيه يقول الأخطل: ولقد غدوت على التجار بمسمحٍ هرت عواذله هرير
الأكلب لباس أردية الملوك تروقه من كل مرتقبٍ عيون الربرب ومنهم قدامة بن مظعون من
أصحاب رسول الله )حده عمر بن الخطاب بهشادة علقمة الخصي وغيره في الشراب.
ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شحمة حده أبوه في
الشراب وفي أمر أنكره عليه.
ومنهم عبد الله بن عروة بن الزبير حده هشام بن إسماعيل المخزومي في
الشراب.
ومنهم عاصم بن عمر بن الخطاب حده بعض ولاة المدينة في الشراب.
ومنهم عبد العزيز بن مروان حده عمرو الأشدق.
وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة الأشعري وفيه يقول يحيى ابن
نوفل الحميري: يبيت يمص عتيق الشراب كمص الوليد يخاف الفصالا ويصبح مضطرباً
ناعساً تخال من السكر فيه احولالاً ويمشي ضعيفاً كمشي النزيف تخال به حين يمشي
شكالا وممن شهر بالشراب عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي القاضي بالكوفة.
وفضح بمنادمة سعد بن هبار.
وفيه يقول حارثة بن بدر: نهاره في قضايا غير عادلة وليله في هوى
سعد بن هبار ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت إلا دوياً دوي النحل في الغار يدين
أصحابه فيما يدينهم كأساً بكأس وتكراراً بتكرار فأصبح الناس أطلاحاً أضربهم حث
المطي وما كانوا بسفار ومنهم أبو محجن الثقفي وكان مغرماً بالشراب وقد حده سعد بن
أبي وقاص في الخمر مراراً.
وشهد القادسية مع سعد وأبلى فيها بلاء حسناء.
وهو القائل: إذا مت فادفني إلى ظل كرمة تروي عظامي بعد موتي
عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا مامت ألا أذوقها فقد أباكرها صهباء
صافيةً طوراً وأشربها صرفاً وأمتزج وقد تقوم على رأسي مغنية فيها إذا رفعت من
صوتها غنج فتخفض الصوت أحياناً وترفعه كما يطن ذباب الروضة الهزج ومنهم عبد الملك
بن مروان وكان يسمى " حمامة المسجد " لاجتهاده في العبادة قبل
الخلافة.
فلما أفضت إليه الخلافة شرب الطلاء وقال له سعيد بن المسيب:
بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت بعدي الطلاء فقال: إي والله والدماء! ومنهم
الوليد بن يزيد ذهب به الشراب كل مذهب حتى خلع وقتل.
وهو القائل: خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ثباتاً يساوي ما حييت
عقالا دعوا لي سلمى والنبيذ وقينة وكأساً ألا حسبي بذلك مالا أبالملك أرجو أن أخلد
فيكم ألا رب ملك قد أزيل فزالا وسقى قوم أعرابية مسكراً فقالت: أيشرب نساؤكم هذا
الشراب قالوا: نعم.
قالت: فما يدري أحدكم من أبوه! ومنهم إبراهيم بن هرمة وكان
مغرماً بالشراب وحده عليه جماعة من عمال المدينة فلما ألحوا عليه وضاق ذرعه بهم
دخل إلى المهدي بشعره الذي يقول فيه: لهم طينة بيضاء من آل هاشم إذا اسود من لؤم
التراب القبائل إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أتى وإن قال إني فاعل فهو فاعل فأعجب
المهدي بشعره وقال له: سل حاجتك.
قال: تأمر لي بكتاب إلى عامل المدينة أن لا يحدني على شراب.
فقال له: ويلك كيف نأمر بذلك لو سألتني عزل عامل المدينة وتوليتك
مكانه لفعلت.
قال: يا أمير المؤمنين: ولو عزلت عامل المدينة ووليتني مكانه
أما كنت تعزلني أيضاً وتولي غيري قال: بلى.
قال: فكنت أرجع إلى سيرتي الأولى.
فقال المهدي لوزرائه: ما تقولون في حاجة ابن هرمة وما عندكم فيها
من التلطف قالوا: يا أمير المؤمنين إنه يطلب مالا سبيل إليه: إسقاط حد من حدود
الله.
قال المهدي: إن عندي له حيلةً إذ أعيتكم الحيل فيه اكتبوا له إلى
عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة سكران فيضرب ابن هرمة ثمانين ويضرب الذي يأتيك
به مائة.
فكان ابن هرمة إذا مشى في أزقة المدينة يقول: من يشتري مائه
بثمانين وكان بأمج رجل يقال له: حميد وكان مفتوناً بالخمر فهجاه ابن عم له وقال
فيه: حميد الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع علاه المشيب على شربها وكان
كريماً فما ينزع ودخل حميد يوماً على عمر بن عبد العزيز فقال له: من أنت قال:
أنا حميد.
قال: " حميد الذي " قال: والله يا أمير المؤمنين
ما شربت مسكراً منذ عشرين سنة.
فصدقه بعض جلسائه فقال له: إنما داعبناك.
الفرق بين الخمر والنبيذ أول ذلك أن تحريم الخمر مجمع عليه لا
اختلاف فيه بين اثنين من الأئمة والعلماء.
وتحريم النبيذ مختلف فيه بين الأكابر من أصحاب النبي )والتابعين
بإحسان.
حتى لقد اضطر محمد بن سيرين في علمه وورعه أن يسأل عبيدة السلماني
عن النبيذ.
فقال له عبيدة: اختلف علينا في النبيذ.
وعبيدة ممن أدرك أبا بكر وعمر.
فما ظنك بشيء اختلف فيه الناس وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام
متوافرون فمن بين كطلق له ومحظر عليه وكل واحدٍ منهم يقيم الحجج لمذهبه والشواهد
على قوله.
والنبيذ كل ما نبذ في الدباء والمزفت فاشتد حتى يسكر كثيره.
وما لم يشتد فليس يسمى نبيذا كما أنه ما لم يغل من عصير العنب حتى
يشتد فليس يسمى خمراً كمال قال الشاعر: نبيذ إذا مر الذباب بدنه تقطر أو خر
الذباب وقيذا وقيل لسفيان الثوري وقد دعا بنبيذٍ فشرب منه ووضعه بين يديه: يا
أبا عبد الله أخشى الذباب أن يقع في النبيذ.
قال: قبحه الله إذا لم يذب عن نفسه.
وقال حفص بن غياث: كنت عند الأعمش وبين يديه نبيذ فاستأذن عليه
قومٌ من طلبة الحديث فسترته فقال لي: لم سترته فكرهت أن أقول: لئلا يراه من
يدخل فقلت: كرهت أن يقع فيه الذباب.
فقال لي: هيهات إنه أمنع من ذلك جانباً.
ولو كان النبيذ هو الخمر التي حرمها الله في كتابه ما اختلف في
تحريمه اثنان من الأمة.
حدث محمد بن وضاح قال: سألت سحنون فقلت: ما تقول فيمن حلف
بطلاق زوجته إن المطبوخ من عصير العنب هو الخمر التي حرمها الله في كتابه قال:
بانت زوجته منه.
وذكر ابن قتيبة في كتاب الأشربة: إن الله تعالى حرم علينا الخمر
بالكتاب والمسكر بالسنة فكان فيه فسحة فما كان محرماً بالكتاب فلا يحل منه لا قليل
ولا كثير وما كان محرماً بالسنة فإن فيه فسحةً أو في بعضه كالقليل من الديباج والحرير
يكون في الثوب والحرير محرم بالسنة.
وكالتفريط في صلاة الوتر وركعتي الفجر وهما سنة.
فلا تقول: إن تاركهما كتارك الفرائض من الظهر والعصر.
وقد استأذن عبد الرحمن بن عوف رسول الله )في لباس الحرير لبلية
كانت به وأذن لعرفجة بن سعد وكان أصيب أنفه يوم الكلاب باتخاذ أنفٍ من الذهب.
وقد جعل الله فيما أحل عوضاً مما حرم فحرم الربا وأحل البيع وحرم
السفاح وأحل النكاح وحرم الديباج وأحل الوشي وحرم الخمر وأحل النبيذ غير المسكر.
والمسكر منه ما أسكرك.
قال في كتابه: فإن قال قائل: إن المنكر هو الشربة المسكرة
أكذبه النظر.
لأن القدح الأخير إنما أسكر بالأول وكذلك اللقمة الأخيرة إنما
أشبعت بالأولى.
ومن قال: السكر حرام فإنما ذلك مجازٌ من القول وإنما يريد ما
يكون منه السكر حرام.
وكذلك التخمة حرام.
وهذا الشاهد الذي استشهد به في تحريمه " قليل ما أسكره
كثيره " وتشبيهه ذلك بالتخمة شاهد عليه لا شاهد له لأن الناس مجمعون أن
قليل الطعام الذي تكون منه التخمة حلال وكثيره حرام.
وكذلك ينبغي أن يكون قليل النبيذ الذي يسكر كثيره حلالاً وكثيره
حرام وأن الشربة الآخرة المسكرة هي المحرمة.
ومثل الأربعة الأقداح التي يسكر منها القدح الرابع مثل أربعة رجال
اجتمعوا على رجل فشجه أحدهم موضحة ثم شجه الثاني منقلة ثم شجه الثالث مأمومة ثم
أقبل الرابع فأجهز عليه.
فلا نقول: إن الأول هو قاتله ولا الثاني ولا الثالث وإنما قتله
الرابع الذي أجهز عليه.
وعليه القود.
وذكر ابن قتيبة في كتابه بعد أن ذكر اختلاف الناس في النبيذ وما
أدلى به كل قومٍ من الحجة.
فقال: وأعدل القول عندي أن تحريم الخمر بالكتاب وتحريم النبيذ
بالسنة وكراهية ما أفتر وأخدر من الأشربة تأديب.
ثم زعم في هذا الباب بعينه أن الخمر نوعان: فنوع منهما مجتمع على
تحريمه وهو خمر العنب من غير أن تمسه نار لا يحل منه لا قليل ولا كثير.
ونوع آخر مختلف فيه وهو نبيذ الزبيب إذا اشتد ونبيذ التمر إذا صلب
وهو يسمى السكر ولا يسمى السكر إلا نبيذ التمر خاصةً.
وقال بعض الناس: ليس نبيذ التمر خمراً.
ويحتجون بقول عمر: ما انتزع بالماء فهو حلال وما انتزع بغير
الماء فهو حرام.
وقال ابن قتيبة: وقال آخرون: هو خمر حرام كله.
وهذا هو القول عندي لأن تحريم الخمر نزل وجمهور الناس مختلفة وكلها
يقع عليها هذا الاسم في ذلك الوقت.
وذكر أن أبا موسى قال: خمر المدينة من البسر والتمر وخمر أهل
فارس من العنب وخمر أهل اليمن من البتع وهو نبيذ العسل.
وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة وخمرة التمر يقال له: البتع
والفضيخ.
وذكر أن عمر قال: الخمر من خمسة أشياء: من البر والشعير والتمر
والزبيب والعسل.
والخمر ما خامر العقل.
ولأهل اليمن أيضاً شراب من الشعير يقال له المزر.
فزعم ها هنا ابن قتيبة أن هذه الأشربة كلها خمر.
وقال: هذا هو القول وقد تقدم له في صدر الكتاب أن النبيذ لا يسمى
نبيذاً حتى يشتد ويسكر كثيره كما أن عصير العنب لا يسمى خمراً ثم قال فيما حكم به
بين الفريقين: أما الذين يذهبون إلى تحريمه كله ولم يفرقوا بين الخمر وبين نبيذ
التمر وبين ما طبخ وبين ما نقع فإنهم غلوا في القول جداً ونحلوا قوماً من أصحاب
رسول الله )البدريين وقوماً من خيار التابعين وأئمة من السلف المتقدمين شرب
الخمر.
وزينوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل.
وغلطوا في ذلك فأتهموا القوم ولم يتهموا نظرهم ونحلوهم الخطأ
وبرءوا أنفسهم منه.
فعجبت منه كيف يعيب هذا المذهب ثم يتقلده ويطعن على قائله ثم يقول به.
إلا أني نظرت في كتابه فرأيته قد طال جداً فأحسبه أنسي في آخره ما
ذهب إليه في أوله.
والقول الأول من قوله هو المذهب الصحيح الذي تأنس إليه القلوب
وتقبله العقول لا قوله الآخر الذي غلط فيه.
احتجاج المحرمين لقليل النبيذ وكثيره ذهبوا أجمعوا أن جميع ما أسكر
كثيره من الشراب فقليله حرام كتحريم الخمر.
وقال بعضهم: بل هو الخمر بعينها ولم يفرقوا بين ما طبخ وبين ما
نقع.
وقضوا عليه كله أنه حرام.
وذهبوا من الأثر إلى حديثٍ رواه عبد الله ابن قتيبة عن محمد بن
خالد بن خداش عن أبيه عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام وكل مسكر خمر ".
وحديثٍ رواه ابن قتيبة عن إسحاق بن راهويه عن المعتمر بن سليمان عن
ميمون بن مهدي عن أبي عثمان الأنصاري عن القاسم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " كل مسكر حرام.
وما أسكر منه الفرق فالحسوة منه حرام ".
والفرق: ستة عشر رطلاً.
وللعرب أربعة مكاييل مشهورة: فأصغرها المد وهو رطل وثلث في قول
الحجازيين ورطلان في قول العراقيين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد.
والصاع: أربعة أمداد خمسة أرطال وثلث في قول الحجازيين وثمانية
أرطال في قول العراقيين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع.
والقسط وهو رطلان وثلثان في قول الناس جميعاً.
والفرق وهو ستة عشر رطلاً ستة أقساط في قول الناس جميعاً.
وذهبوا إلى حديثٍ رواه ابن قتيبة عن محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن
الزهري عن أبي سلمة عن اعائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل
شراب أسكر فهو حرام " مع أشباهٍ لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها إلا
أن هذه أغلظها في التحريم وأبعدها من حيلة المتأول.
قالوا: والشاهد على ذلك من النظر: أن الخمر إنما حرمت لإسكارها
وجنايتها على شاربها ولأنها رجس كما قال الله.
ثم ذكروا من جنايات الخمر ما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا في باب
آفات الخمر وجناياتها.
ثم قالوا: فالعلة التي لها حرمت الخمر من الإسكار ومن الصداع
والصد عن ذكر الله وعن الصلاة قائمة بعينها في النبيذ كله المسكر.
فسبيله الخمر لا فرق بينهما في الدليل الواضح والقياس الصحيح.
كما أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا وقعت في السمن
إنه كان جامداً ألقيت وألقي ما حولها وإن كان ذائباً أريق السمن.
فحملت العلماء الزيت وغيره محمل السمن بالدليل الواضح.
وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى السمن خاصة بنجس
الفأرة وإنما سئل عن الفأرة تقع في السمن فأفتى به فقاس العلماء الزيت وغيره
بالسمن.
وكما أمر في الاستنجاء بثلاثة أحجار فعلم أهل العلم أنه إنما أراد
صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الأحجار للتنقية من الأذى فأجازوا كل ما أنقى: من
الخزف والخرق وغير ذلك وحملوه محمل ثلاثة الأحجار.
ولما حرمت الخمر لعلةٍ قائمة في النبيذ المسكر حمل النبيذ محمل الخمر
في التحريم.
قالوا: ووجدناهم يقولون لمن غلب عليه غنث النفس وصداع الرأس من
الخمر: مخمور وبه خمار.
ويقولون مثل ذلك في شارب النبيذ ولا يقولون: منبوذ ولا به
نباذ.
والخمار مأخود من الخمر كما يقال: الكباد في وجع الكبد والصدار
في وجع الصدر.
وذهبوا في تحريم النبيذ إلى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم " أنه نهى عن أن ينبذ في الدباء والمزفت " وقالوا: لمن أجاز
قليل ما أسكر كثيره: إنه ليس بين شارب المسكر وموافقته السكر حد ينتهى إليه ولا
يوقف عنده ولا يعلم شارب من شاربي المسكر متى يسكر حتى يسكر كما لا يعلم الناعس
متى يرقد حتى يرقد.
وقد يشرب الرجل من الشراب المسكر قدحين وثلاثة أقداح ولا يسكر.
ويشرب من غيره قدحاً واحداً فيسكر لا بل قد يختلف طبع الرجل في
نفسه فيسكر مرة من القدحين ويشرب مرة أخرى ثلاثة أقداح فلا يسكر.
" أما بعد فإن الناس كان منهم في هذا الشراب المحرم أمر
ساءت فيه رغبة كثير منهم حتى سفه أحلامهم وأذهب عقولهم فاستحل به الدم الحرام
والفرج الحرام وإن رجالاً منهم ممن يصيب ذلك الشراب يقولون: شربنا طلاء فلا بأس
علينا في شربه.
ولعمري إن فيما قرب مما حرم الله بأساً وإن في الأشربة التي أحل
الله: من العسل والسويق والنيذ من الزبيب والتمر لمندوحةً عن الأشربة الحرام غير
أن كل ما كان من نبيذ العسل والتمر والزبيب فلا ينبذ إلا في أسقية الأدم التي لا
زفت فيها ولا يشرب منها ما يسكر فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن شرب ما جعل في الجرار والدباء والظروف المزفتة.
وقال: " كل مسكر حرام ".
فاستغنوا بما أحل الله لكم عما حرم عليكم.
وقد أردت بالذي نهيت عنه من شرب الخمر وما ضارع الخمر من الطلاء
وما جعل في الدباء والجرار والظروف المزفتة وكل مسكر - اتخاذ الحجة عليكم.
فمن يطع منكم فهو خير له.
ومن يخالف إلى ما نهي عنه نعاقبه على العلانية ويكفنا الله ما
أسر.
فإنه على كل شيء رقيب.
ومن استخفى بذلك عنا فإن الله أشد بأساً وأشد تنكيلاً ".
احتجاج المحللين للنبيذ قال المحللون لكل ما أسكر كثيره من النبيذ:
إنما حرمت الخمر بعينها خمر العنب خاصةً بالكتاب وهي معقولة مفهومة لا يمتري فيها
أحدٌ من المسلمين وإنما حرمها الله تعبداً لا لعلة الإسكار كما ذكرتم ولا لأنها
رجس كما زعمتم.
ولو كان ذلك كذلك لما أحلها الله للأنبياء المتقدمين والأمم
السالفين ولا شربها نوحٌ بعد خروجه من السفينة ولا عيسى ليلة رفع ولا شربها أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام.
وأما قولكم: إنها رجس فقد صدقتم في اللفظ وغلطتم في المعنى إذ
كنتم أردتم أنه منتنة فإن الخمر ليست بمنتنة ولا قذرة ولا وصفها أحد بنتن ولا قذر
وإنما جعلها الله رجساً بالتحريم كما جعل الزنا فاحشة ومقتاً أي معصية وإثماً
بالتحريم وإنما هو جماع كجماع النكاح وهو عن تراضٍ وبذل كما أن النكاح عن تراضٍ
وبذل.
وقد يبذل في السفاح ما يبذل في النكاح ولذلك سمى الله تبارك وتعالى
المحرمات كلها خباثث.
فقال تعالى: " ويحرم عليهم الخبائث ".
وسمى المحللات كلها طيبات فقال: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم
الطيبات " وسمى كل ما جاوز أمره أو قصر عنه سرفاً وإن اقتصد فيه.
وقد ذكر الخمر فيما امتن به على عباده قبل تحريمها فقال تعالى:
" ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً
حسناً ".
ولو أنها رجس على ما تأولتم ما جعلها الله في جنته وسماها لذة
للشاربين.
وإن قلتم: إن خمر الجنة ليست كخمر الدنيا لأن الله نفى عنها عيوب
خمر الدنيا فقال تعالى: " لا
يصدعون عنها ولا ينزفون " وكذلك قوله في فاكهة الجنة: " لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة
" فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا لأنها تأتي في وقتٍ وتنقطع في وقت ولأنها
ممنوعة إلا بالثمن ولها آفات كثيرة وليس في فواكه الجنة آفة.
وما سمعنا أحداً وصف الخمر إلا بضد ما ذكرتم من طيب النسيم وذكاء
الرائحة.
قال الأخطل: كأنما المسك نهبى بين أرحلنا وقد تضوع من ناجودها
الجاري وقال آخر: فتنفست في البيت إذ مزجت كتنفس الريحان في الأنف وقال أبو
نواس: نحن نخفيها ويأبى طيب ريحٍ فتفوح وإنما قوله فيها " رجس "
كقوله تعالى: " وأما
الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم
".
أي كفراً إلى كفرهم.
وأما منافعها التي ذكرها الله تعالى في قوله: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع
للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " فإنها كثيرةٌ لا تحصى: فمنها أنها تدر
الدم وتقوي المنة وتصفي اللون وتبعث النشاط وتفتق اللسان ما أخذ منها بقدر الحاجة
ولم يحاوز المقدار.
فإذا جاوز ذلك عاد نفعها ضراً.
وقال ابن قتيبة في كتاب الأشربة: كانت الأوائل تقول: الخمر
حبيبة الروح ولذلك اشتق لها اسم من الروح فسميت راحاً وربما سميت روحاً.
وقال إبراهيم النظام: ما زلت آخذ روح الزق في لطفٍ وأستبيح دماً
من غير مذبوح حتى انثنيت ولي روحان في جسدي والزق مطرح جسم بلا روح وقد تسمى دماً
لأنها تزيد في الدم.
قال مسلم بن الوليد الأنصاري: مزجنا دماً من كرمة بدمائنا فأظهر
في الألوان منا الدم الدم وسلافةٍ مما تعتق بابل كدم الذبيح سلبتها جريالها
فقال: " شربتها حمراء وبلتها بيضاء ".
يريد أن حمرتها صارت دماً.
ومن منافع الخمر أنها تزيد في الهمة وتولد الجرأة وتهيج الأنفة
وتسخي البخيل وتشجع الجبان.
قال حسان بن ثابت: ونشر بها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا
اللقاء وقال طرفة: فإذا ما شربوها وانتشوا وهبوا كل أمون وطمر ثم راحوا عبق
المسك بهم يلحفون الأرض هداب الأزر وقال مسلم بن الوليد: تصد بنفس المرء عماً
يغمه وتنطق بالمعروف ألسنة البخل وقال الحسن بن هانئ: إذا ما أتت دون اللهاة من
الفتى دعا همه من صدره برحيل ومن تسخيتها للبخيل على البذل قول بعض المحدثين:
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى وينزعه مني إذا كان صاحيا فياليت حظي من سروري
وترحتي ومن جوده ألا علي ولا ليا قالوا: ولولا أن الله تعالى حرم الخمر في كتابه
لكانت سيدة الأشربة.
وما ظنك بشراب الشربة الثانية منه أطيب من الأولى والثالثة أطيب من
الثانية حتى يؤديك إلى أرفق الأشياء وهو النوم.
وكل شراب سواها فالشربة الأولى أطيب من الثانية والثانية أطيب من
الثالثة حتى تمله وتكرهه.
وسقى قومٌ أعرابياً كؤوساً ثم قالوا: كيف تجدك قال أجدني أبشر
وأجدكم تحببون إلي.
وقالوا: ما حرم الله شيئاً إلا عوضنا ما هو خير منه أو مثله وقد
جعل الله النبيذ عوضاً عن الخمر نأخذ منه ما يطيب النفس ويصفي اللون ويهضم الطعام
ولا نبلغ منه إلى ما يذهب العقل ويصدع الرأس ويغثي النفس ويشرك الخمر في آفاتها
وعظيم جناياتها.
قالوا: وأما قولكم: إن الخمر كل ما خمر والنبيذ كله يخمر فهو
خمر - فإن الأسماء قد تتشاكل في بعض المعاني فتسمى ببعضها لعلةٍ فيها وهي في آخر
ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر.
ألا ترى أن اللبن قد يخمرونه بروبةٍ تلقى فيه ولا يسمى خمراً وأن
العجين قد يخمر فيسمى خميراً ولا يسمى خمراً وأن نقيع التمر يسمى سكراً لإسكاره
ولا يسمى غيره من النبيذ سكراً وإن كان مسكراً.
وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحاط به.
ورائب اللبن يسكر إسكاراً كسكر النبيذ.
ويقال: قوم ملبونون وقوم روبى إذا شربوا الرائب فسكروا منه.
وقال بشر بن أبي خازم: فأما تميم تميم بن مرٍ فألفاهم القوم روبي
نياما وأما قولكم للرجل: مخمور وبه خمار إذا أصابه صداع من الخمر وقد يقال مثل
ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ فيقال: به خمار ولا يقال به نباذ - فإن حجتنا في
ذلك أن الخمار إنما يعرض مما أسكر من النبيذ وذلك حرام لا فرق بينه وبين الخمر
عندنا فيقال فيه ما يقال في الخمر.
وإنما كان شربة النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء
والعشاء ومما لا يعرض منه خمار.
وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر فقال الأقيشر وكان مغرماً
بالشراب: وصهباء جرجانية لم يطف بها حنيف ولم تنغر بها ساعةً قدر أتاني بها يحيى
وقد نمت نومةً وقد غارت الشعري وقد خفق النسر فقلت: اصطحبها أو لغيري فاسقها فما
أنا بعد الشيب ويحك والخمر إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يأتي حياءٌ
ولا ستر فدعه ولا تنكر عليه الذي أنى وأن جر أرسان الحياة له الدهر وأما قول بعض
الشعراء في شاربي النبيذ وما عابوهم به من قلة الوفاء ونقض العهود فقد قالوا أقبح
من ذلك في تارك النبيذ وقال ابن بيض: ألا لا يغرنك ذو سجدةٍ يظل بها دائباً يخدع
وما للتقى لزمت وجهه ولكن ليأتي مستودع ثلاثون ألفاً حواها السجود فليست إلى ربها
ترجع ورد أخو الكأس ما عنده وما كنت في رده أطمع وقال آخر: أما النبيذ فلا يذعرك
شاربه واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء قوم يورون عما في نفوسهم حتى إذا استمكنوا كانوا
هم الداء مشمرين إلى أنصاف سوقهم هم الذئاب وقد يدعون قراء وقال أعرابي: صلى
فأعجبني وصام فرابني نح القلوص عن المصلي الصائم وقال غيره: شمر ثيابك واستعد
لقائل واحكك جبينك للقضاء بثوم وقال بعض الظرفاء: أظهروا لله سمتاً وعلى المنقوش
داروا وله صلوا وصاموا وله حجوا وزاروا لو يرى فوق الثريا ولهم ريش لطاروا وهؤلاء
المراءون بأعمالهم العاملون للناس والتاركون للناس هم شرار الخلق وأراذل البرية.
وقد فضل شربة النبيذ عليهم بإرسال الأنفس على السجية وإظهار
المروءة.
ولسنا نصف بهذا منهم إلا الأدنياء فليس في الناس صنف إلا ولهم
حشوة.
ومن احتجاج المحللين للنبيذ ما رواه مالك وأثبته في موطئه من حديث
أبي سعيد الخدري: أنه قدم من سفر فقدم إليه لحم من لحوم الأضاحي فقال: ألم يكن
من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أمر.
فخرج إلى الناس فسألهم فأخبروه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وادخروا
وتصدقوا.
وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الدباء والمزفت فانتبذوا وكل مسكرٍ
حرام.
وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً ".
والحديثان صحيحان رواهما مالك بن أنس وأثبتهما في موطئه وإنما هو
ناسخ ومنسوخ وإنما كان نهيه أن ينتبذ في الدباء والمزفت نهياً عن النبيذ الشديد
لأن الأشربة التي تعتمل فيها تشتد.
ولا معنى للدباء والمزفت غير هذا.
وقوله بعد هذا: " كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل
مسكر حرام " إباحةٌ لما كان حظر عليه من النبيذ الشديد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام "
فنهاهم بذلك أن يشربوا حتى يسكروا.
وإنما المسكر ما أسكر ولا يسمى القليل الذي لا يسكر مسكرا.
ولو كان ما يسكر كثيره يسمى قليله مسكرا ما أباح لنا منه شيئاً.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ شرب من سقاية
العباس فوجده شديداً.
قطب بين حاجبيه ثم دعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه ثم قال:
" إذا اغتلمت أشربتكم فاكسروها بالماء ".
ولو كان حراماً لأراقه وما صب عليه ماء ثم شربه.
واحتجوا: في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل
مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف حرام فإن هذا كله منسوخ نسخه شربه للصلب
يوم حجة الوداع.
قالوا: ومن الدليل على ذلك أنه كان نهى وفد عبد القيس عن شرب
المسكر ثم وفدوا إليه بعد فرآهم مصفرة ألوانهم سيئة حالهم فسألهم عن قصتهم فأعلموه
أنه كان لهم شراب فيه قوام أبدانهم فمنعهم من ذلك فأذن لهم في شربه.
وأن ابن مسعودٍ قال: " شهدنا التحريم وشهدتم وشهدنا
التحليل وغبتم ".
وأنه كان يشرب الصلب من نبيذ الجر حتى كثرت الروايات به عنه وشهرت
وأذيعت واتبعه عليه عامة التابعين من الكوفيين وجعلوه أعظم حججهم وقال في ذلك
شاعرهم: من ذا يحرم ماء المزن خالطه في جوف خابيةٍ ماء العناقيد إني لأكره تشديد
الرواة لنا فيه ويعجبني قول ابن مسعود وإنما أراد: أنهم كانوا يعمدون إلى الرب
الذي قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فيردون عليه من الماء قدر ما ذهب منه ثم يتركونه حتى
يغلي ويسكن جأشه ثم يشربونه.
وكان عمر يشرب على طعامه الصلب ويقول: يقطع هذا اللحم في
بطوننا.
واحتجوا بحديث زيد بن أخزم عن أبي داود عن شعبة عن مسعر بن كدام عن
ابن عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس أنه قال: " حرمت الخمر
بعينها والسكر من كل شراب ".
وبحديث رواه عبد الرحمن بن سليمان عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن
ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف وهو شاكٍ على بعير ومعه
محجن كلما مر بالحجر استلمه بالمحجن حتى إذا انقضى طوافه نزل فصلى ركعتين ثم أتى
السقاية فقال: " اسقوني من هذا ".
فقال له العباس " ألا نسقيك مما يصنع في البيوت قال:
" لا ولكن اسقوني مما يشرب الناس ".
فأتي بقدح من نبيذ فذاقه فقطب وقال: " هلموا فصبوا فيه
الماء ".
ثم قال: " زد فيه " مرة أو مرتين أو ثلاثة.
ثم قال: " إذا صنع بكم هذا فاصنعوا به هكذا ".
وبحديث رواه يحيى بن اليمان عن الثوري عن منصور بن خالد عن سعيد بن
مسعود الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش وهو يطوف بالبيت فأتي بنبيذٍ
من السقاية فشمه فقطب ثم دعا بذنوب من ماء زمزم فصب عليه وشرب فقال له رجل:
أحرام هو يا رسول الله فقال: " لا ".
وقال الشعبي: شرب أعرابي من إداوة عمر فانتشى فحده عمر.
وإنما حده للسكر لا للشراب.
ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يشربون ويوقدون في
الأخصاص فقال: نهيتكم عن معاقرة الشراب فعاقرتم وعن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم
".
وهم بتأديبهم فقالوا: مهلاً يا أمير المؤمنين نهاك الله عن
التجسس ونهاك عن الدخول بغير إذنٍ فدخلت فقال: هاتان بهاتين.
وانصرف وهو يقول: " كل الناس أفقه منك يا عمر ".
وأصل المعاقرة من عقر الحوض وهو مقام الشاربة.
ولو كان عنده ما شربوا خمراً لحدهم.
وبلغه عن عامل بميسان أنه قال: ألا أبلغ الحسناء أن حليلها
بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قريةٍ وصناجةٌ تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا في الجوسق المتهدم فقال: إي والله إنه ليسوؤني ذلك.
فعزله وقال: والله لا عمل لي عملاً أبداً.
وإنما أنكر عليه المدام وشربه بالكبير والصنج والرقص وشغله باللهو
عما فوض إليه من أمور الرعية.
ولو كان ما شرب عنده خمراً لحده.
حدث محمد بن داود عن سعيد بن نصير عن يسار عن جعفر قال: سمعت
مالك بن دينار وسئل عن النبيذ أحرام هو فقال: انظر ثمن التمر من أين هو ولا تسل
عن النبيذ أحلالٌ هو أم حرام وعوتب سعيد بن زيد في النبيذ فقال: أما أنا فلا
أدعه حتى يكون شر عملي.
وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ قال: نعم.
فقيل: وكيف تشربه فقال: على غدائي وعشائي وعند ظمئي.
قيل: فما تركت منه قال: التكأة ومحادثة الإخوان.
قال المأمون: " اشرب النبيذ ما استبشعته فإذا سهل عليك
فدعه ".
وإنما أراد به أنه يسهل على شاربه إذا أخذ في الإسكار.
وقيل لسعيد بن أسلم: أتشرب النبيذ فقال: لا.
قيل: ولم قال: تركت كثيره لله وقليله للناس.
وكان سفيان الثوري يشرب النبيذ الصلب الذي تحمر منه وجنتاه.
واحتجوا من جهة النظر أن الأشياء كلها مباحة إلا حرم الله قالوا:
فلا نزيل نفس الحلال بالاختلاف ولو كان المحللون فرقة من الناس فكيف وهم أكثر
الفرق وأهل الكوفة أجمعون على التحليل لا يختلفون فيه.
وتلوا قول الله عز وجل: " قل
أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أذن لكم أم
على الله تفترون ".
حدث إسحاق بن راهويه قال: سمعت وكيعاً يقول: " النبيذ
أحل من الماء ".
وعابه بعض الناس في ذلك وقالوا: كيف يكون أحل من الماء وهو وإن
كان حلالاً فهو بمنزلة الماء.
وليس على وكيع في هذا الموضع عيب ولا يرجع عليه فيه كذب لأن كلمته
خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم كما يقولون: " هو أشهر من الصباح
" و " أسرع من البرق " و " أبعد من النجم " و
" أحلى من العسل " و " أحر من النار ".
ولم يكن أحدٌ من الكوفيين يحرم النبيذ غير عبد الله بن إدريس.
وكان بذلك معيباً.
وقيل لابن إدريس: من خيار أهل الكوفة فقال: هؤلاء الذين يشربون
النبيذ.
قيل: وكيف وهم يشربون ما يحرم عندك قال: ذلك مبلغهم من
العلم.
وكان ابن المبارك يكره شرب النبيذ ويخالف فيه رأي المشايخ وأهل
البصرة.
قال أبو بكر بن عياش: من أين جئت بهذا القول في كراهيتك النبيذ
ومخالفتك أهل بلدك قال: هو شيء اخترته لنفسي قلت: فتعيب من شربه قال: لا.
قلت: فأنت وما اخترت.
وكان عبد الله بن داود يقول: ما هو عندي وماء الفرات إلا سواء.
وكان يقول: أكره إدارة القدح وأكره نقيع الزبيب وأكره المعتق.
وقال: من أدار القدح لم تجز شهادته.
وشهد رجل عند سوار القاضي فرد شهادته لأنه كان يشرب النبيذ.
فقال: أما النبيذ فإني غير تاركه ولا شهادة لي ما عاش سوار حدث شبابة
قال: حدثني غسان بن أبي الصباح الكوفي عن أبي سلمة يحيى بن دينار عن أبي المطهر
الوراق قال: بينما زيد بن علي في بعض أزقة الكوفة إذ بصر به رجل من الشيعة فدعاه
إلى منزله فأحضره طعاماً فتسامعت به الشيعة فدخلوا عليه حتى غص المجلس بهم فأكملوا
معه ثم استسقى فقيل له: أي الشراب نسقيك يا ابن رسول الله قال: أصلبه أو
أشده.
فأتوه بعس من نبيذ فشرب ودار العس عليهم فشربوا.
ثم قالوا: يا ابن رسول الله لو حدثتنا في هذا النبيذ بحديثٍ
رويته عن أبيك عن جدك فإن العلماء يختلفون فيه قال: نعم حدثني أبي عن جدي أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتركبن طبقة بني إسرائيل خذو القذة
بالقذة والنعل بالنعل.
ألا وإن الله ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت أحل منه الغرفة
والغرفتين وحرم منه الري وقد ابتلاكم بهذا النبيذ أحل منه القليل وحرم منه الكثير
".
وكان أهل الكوفة يسمون النبيذ " نهر طالوت ".
وقال فيه شاعرهم: اشرب على طرب من نهر طالوت حمراء صافيةً في لون
ياقوت من كف ساحرة العينين شاطرةٍ تربي على سحر هاروتٍ وماروت لها تماوت ألحاظ إذا
نظرت فنار قلبك من تلك التماويت قصة الحارث بن كلدة طبيب العرب مع كسرى أنوشروان
الفارسي حكى الفرغاني عن بعض رجاله قال: وفد على كسرى ملك الفرس الحارث بن كلدة
طبيب العرب فأذن له بالدخول فمثل بين يديه فقال له كسرى: من أنت قال: أنا
الحارث بن كلدة.
قال: أعرابي أنت قال: نعم من صميمها.
قال: فما صناعتك قال: طبيب.
قال: فما تصنع العرب بالطبيب مع جهلها وضعف عقولها وقلة قبولها
وسوء غذائها فقال: ذلك أجدر أيها الملك إذ كانت بهذه الصفة ان تحتاج إلى من يصلح
جهلها ويقيم عوجها ويسوس أبدانها ويعدل أمشاجها.
قال الملك: كيف لها أن تعرف ما نزوره عليها لو عرفت الحق لم تنسب
إلى الجهل.
قال الحارث: أيها الملك إن الله جل اسمه قسم العقول بين العباد
كما قسم الأرزاق وأخذ القوم نصيبهم ففيهم ما في الناس من جاهل وعالم وعاجز
وحازم.
قال الملك: فما الذي يحمد من أخلاقهم ويحفظ من مذاهبهم قال
الحارث: لهم أنفس سخية وقلوب جرية وعقول صحيحة مرضية وأحساب نقية يمرق الكلام من
أفواههم مروق السهم العائر ألين من الماء وأعذب من الهواء يطعمون الطعام ويضربون
الهام وعزهم لا يرام وجارهم لا يضام ولا يروع إذا نام ولا يقرون بفضل أحدٍ من
الأنام ما خلا الملك الهمام الذي لا يقاس به أحد من الأنام.
قال: فاستوى كسرى جالساً ثم التفت إلى من حوله فقال: أطرى قومه
فلولا أن تداركه عقله لذم قومه على أني أراه راجحاً.
ثم أذن له بالجلوس فقال: كيف بصرك بالطب قال: ناهيك.
قال: فما أصل الطب قال: ضبط الشفتين والرفق باليدين.
قال: أصبت الدواء فما الداء قال: إدخال الطعام على الطعام هو
الذي أفنى البرية وقتل السباع في البرية.
قال: أصبت.
ثم قال: فما الجمرة التي تلتهب منها الأدواء قال: هي التخمة إن
بقيت في الجوف قتلت وإن تحللت أسقمت.
قال: فما تقول في الحجامة قال: في نقصان الهلال في يوم صحو لا
غيم فيه والنفس طيبة والسرور حاضر.
قال: فما تقول في الحمام قال: لا تدخل الحمام شبعان ولا تغش
أهلك سكران ولا تنم بالليل عريان وارفق بجسمك يكن أرجى لنسلك.
قال: فما تقول في شرب الدواء قال: اجتنب الدواء ما لزمتك الصحة
دعه فإذا أحسست بحركة الداء فاحبسه بما يردعه من الدواء فإن البدن بمنزلة الأرض إن
أصلحتها عمرت وإن أفسدتها خربت.
قال: فما تقول في الشراب قال: أطيبه أهناه وأرقه أمراه ولا
تشرب صرفاً يورثك صداعاً ويثر عليك من الداء أنواعاً.
قال: فأي اللحمان أحمد قال: الضأن الفتي وأدسمه أمرؤه واجتنب
أكل القديد المالح من الجزور والبقر.
قال: فما تقول في الفاكهة قال: كلها في إقبال دولتها وحين
أوانها واتركها إذا أدبرت وتولت وانقضى زمانها.
وأفضل الفاكهة الرمان والأترج وأفضل البقول الهندبا والخس وأفضل
الرياحين الورد والبنفسج.
قال: فما تقول في شرب الماء قال: هو حياة البدن وبه قوته وينفع
ما شرب منه بقدر وشربه بعد النوم ضرر وأفضل المياه مياه الأنهار العظام أبرده
وأصفاه.
قال: فما طعمه قال: شيء لا يوصف مشتق من الحياة.
قال: فما لونه قال: اشتبه على الأبصار لونه يحكي لون كل شيء
يكون فيه.
قال: فأخبرني عن أصل الإنسان ما هو قال: أصله من حيث يشرب
الماء.
يعني رأسه.
قال: فما هذا النور الذي تبصر به الأشياء قال: العين مركبة من
أشياء فالبياض شحمة والسواد ماء.
قال: فعلى كم طبع هذا البدن قال: على أربع طبائع: على المرة
السوداء وهي باردة يابسة والمرة الصفراء وهي حارة يابسة والدم وهو حار رطب والبلغم
وهو بارد رطب.
قال: فلم لم يكن من طبع واحد قال: لو خلق من شيء واحد لم ينحل
ولم يمرض ولم يمت.
قال: فمن طبعين ما حال الاقتصار عليهما قال: لو اقتصر عليهما
لم يجز لأنهما ضدان يقتتلان ولذلك لم يجز من ثلاثة: موافقان ومخالف.
قال: فأجمل لي الحار والبارد في أحرف جامعة.
قال: كل حلو حار وكل حامض بارد وكل حريف حار وكل مز معتدل وفي
المر حار وبارد.
قال: فما أفضل ما عولج به المرة السوداء قال: بكل حار لين.
قال: فالرياح قال: الحقن اللينة والأدهان الحارة اللينة.
قال: أفتأمر بالحقن قال: نعم قرأت في بعض الكتب: أن الحقنة
تنقي الجوف وتكسح الدواء عنه وعجباً لمن احتقن كيف يهرم أو يعدم الولد وإن الجاهل
كل الجاهل من أكل ما قد عرف مضرته فيؤثر شهوته على راحة بدنه.
قال: فما الحمية قال: الاقتصاد في كل شيء فإنه إذا أكل فوق
المقدار ضيق على الروح ساحته.
قال: فما تقول في إيتان النساء قال: كثرة غشيانهن رديء وإيتان
المرأة المولية فإنها كالشن البالي تسقم بدنك وتجذب قوتك ماؤها سم قاتل ونفسها موت
عاجل تأخذ منك ولا تعطيك.
عليك بإيتان الشباب فإن الشابة ملؤها عذب زلال ومعانقتها غنج ودلال
فوها بارد وريحها طيب ورحمها حرج تزيدك قوة ونشاطاً.
قال: فأي النساء القلب لها أبسط والعين برؤيتها آنس وأقصد قال:
إن أصبتها مديدة القامة عظيمة الهامة واسعة الجبين عريضة الصدر مليحة النحر ناهدة
الثديين لطيفة الخصر والقدمين بيضاء فرعاء جعدة غضة حسنة الثغر تخالها في الظلمة
بدراً زاهراً تبسم عن أقحوان باهر وإن تكشف تكشف عن بيضةٍ مكنونة وإن تعانق تعانق
ما هو ألين من الزبد وأحلى من الشهد وأعذب قال: فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه
قال: فأي الأوقات أفضل قال: عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى والنفس أشهى
والرحم أدفا.
قال: فأي الأوقات ألذ وأطرب قال: نهاراً يزيدك النظر
انتشاراً.
قال كسرى: لله درك من أعرابي لقد أعطيت علماً وخصصت بفطنة
وفهم.
ثم أمر له بجائزة وكسى وقضى حوائجه.
وحضر ابن أبي الحوارى بالشام - وكان معروفاً بالرقائق والزهد -
مائدة صالح العباسي مع فقهاء البلد فحدثني البحتري بن عبادة وكان ممن حضر
المجلس: أنه بعث إليه بقدح نبيذ فشربه ثم بعث إليه بثانٍ فامتنع من شربه فأخذه
الناس بألسنتهم وقالوا: شربت المسكر على أعين هؤلاء وصرت لهم حجة.
قال: أحسبكم أردتم أن أكون ممن قال الله تعالى فيه " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم
" فكيف كنت أدعه لكم وأشربه بعين الله.
وقال بعض القضاة لرجل كان يعذله: بلغني أنك تشرب المسكر.
فقال: ما أشرب المسكر ولكني أشرب النبيذ الصلب.
فأين هؤلاء في ترك الرياء والتصنع من رجل سرقت نعله فلم يشتر نعلاً
حتى مات فعوتب في ذلك فقال: أخشى أن أشتري نعلاً فيسرقها أحد فيأثم.
وآخر لما نظر إلى أهل عرفاتٍ قال: ما أظن الله إلا وقد غفر لهم
لولا أني كنت فيهم.
ورجل سأل ابن المبارك فقال: إني قاسمت إخوتي وبيننا مبرز غير
مقسوم وفي بطر أفترى لي أن ادخله أكثر مما يدخله شركائي وآخر قال: أفطرت البارحة
على رغيف وزيتونة ونصف أو زيتونة وثلث أو زيتونة وربع أو ما علم الله من زيتونة
أخرى.
فقال له بعض من حضر المجلس: يا فتى إنه بلغنا أن من الورع ما
يبغضه الله وأحسبه ورعك هذا.
الأعمش قال: أتاني عبد الله بن سعد فقال لي: ألا تعجب جاءني
رجل فقال: دلني على شيء إذا أكلته أمرضني فقد اتسبطأت العلة وأحببت أن أعتل
فأوجر.
فقلت له: سل الله العافية واستدم النعمة فإن من شكر على النعمة
كمن صبر على البلية.
فألح علي فقلت له: كل السمك واشرب نبيذ الزبيب ونم في الشمس واستمرض
الله يمرضك إن شاء الله! هارون بن داود قال: شرب رجل عند خمار نصراني فأصبح
ميتاً فاجتمع عليه الناس وقالوا للخمار: أنت قتلته.
قال: لا والله ولكن قتله استعماله قوله: وأخرى تداويت منها بها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق