Pages

الأربعاء، 23 يناير 2013

مكونات المجتمع الأندلسي ومكانة أهل الذمة فيه


 

                                                الدكتور أحمد شحلان

                                                كلية الآداب - الرباط

ملاحظات لا بد منها

لا يحق لنا أن نزعم بأننا نستطيع أن نتناول في هذا المدخل مضمون العنوان الذي عنونا به بحثنا هذا، تناولا مفصلا ودقيقا وشاملا، لأن مقولة العنوان كانت مادة غزيرة لسلسلة متواترة من ترثنا التاريخي منذ العصر الأندلسي وإلى اليوم، كما كانت مطلبا كرست له أجيال من الباحثين المختصين، الوقت الطويل والجهد الكبير. لذلك فرغبتنا في هذا المدخل، هي أن نرسم خطاطة للمسرح الذي أثمرت تربته حضارة فريدة أفسحت المجال للفكر الإنساني في امتداداته المختلفة. ومن تلك الإمتدادات ما أنتجه العصر الذهبي العبري الذي بنى صرح ثقافته. من مكونات فكرية عربية إسلامية، فأنتج هو أيضا تراثا أرخ له اليهود بلغتهم، وأرخت له تلك السلسلة التاريخية المشار إليها أعلاه، وستكون هذه هي مواضيع بحوثنا في المقبل من الأعداد إن شاء الله (1) . فما هي إذا عناصر مكونات هذا المجتمع الأندلسي الفريد ؟

1- العرب

كانت النواة الأولى للعرب الذين وصلوا الأندلس تتكون من القيسيين والكلبيين، ممن وفد مع موسى بن نصير، ثم جاءت بعدهم دفعة أخرى مع الحر ابن عبد الرحمن الثقفي سنة 94 هـ. ومنذ ذلك تتابعت الهجرات، واستجلب عبد الرحمن الأول أجنادا سوريين، استقروا فيما بعد في جنوب وغرب الأندلس. وسمي أولئك الوافدون مع ابن نصير البلديين، في حين سمي الوافدون مع بلج بن بشير الشاميين.

 

 

استقر العرب بصفة عامة في مدن السهول الخصبة، خصوصا في منحدر الوادي الكبير وقرب منحدرات أنهار التجه وشنيل وإبره قرب مرسيا، واستقر العدنانيون القيسيون حول طليطلة والهذليون في منطقة أريولة وأكثر التميميين والقيسيين في منطقة إشبيليا وبلنسيه. وتوزع القحطانيون اليمنيون في عديد من الأماكن. واستقرت الأرستقراطية الحميرية في قرطبة وبطليوس وإشبيليا وألبيره ومرسيا،وتوزعت منازل العرب الشاميين في أماكن متعددة، فنزل جند دمشق كورة ( ضاحية) ألبيره وجند الأردن كورة جيان وجند مصر كورة باجة وبعضهم بكورة تدمير(2) . وعددهم مؤلف ذكر بعض مشاهير أعيان فاس في القديم، في الجنس الأول والثاني من ساكنة الأندلس حيث قال : "الجنس الأول دخل إليها من بني هاشم الجم الغفير، من الحجاز واليمن والعراق والشام ومصر وجراثيمهم ومواليهم الجم الغفير، من سائر البلاد التي ذكرنا"(3)

2- البربر

تدفقت جموع البربر على الأندلس، وكان أكثرها من زناتة،مع الطلائع الأولى للفتح، ثم تبعتها صنهاجة أيام ضعف الدولة الأموية، وازداد هذا العنصر سلطة في عهد المرابطين، حيث احتلت قبائلهم كثيرا من المدن، وخصوصا الثغور منها : "ولما فتح الموحدون الأندلس واستولى يوسف على شرقها، أنزل زناتة في بلنسيا وصنهاجة وهسكورة في شاطبة ومرسيا، وأهل تنمل في لورقة، وكوميا في ألمرية وبرشلونة. وعندما استرجع باجة سنة 570 أرسل مع أهلها قبيلا من الموحدين بأولادهم وعيالهم ليسكنوا معهم فيها. وفي سنة 616 أرسلت مجموعة من كوميا إلى الأندلس" (4) .

وعددهم صاحب أعيان فاس من الجنس الثالث ممن دخل الأندلس حيث قال : "الجنس الثالث دخل إليها من برابرة المغرب وإفريقيا. ومن كان منهم من أهل الحاضرة استقر في القرى"(5). ومن بيتاتهم التي ذكرها ابن حزم في جمهرة الأنساب : وزداجة وملزوزة وامغيلة ومكناسة وازناتة ومديونة وهوارة ومصمودة وأوربة وزواوة وصنهاجة (6) .

3- السقالبة ( الصقالبة) أو الموالي

وهم الخدم المستجلبون من الشمال، وأصلهم من أسارى أسرتهم الجيوش الجرمانية في حروبها مع السلافيين،ثم حملوا إلى الأندلس وبيعوا بها. والبعض منهم كان من أسرى القراصنة الذين كانوا يطوفون في مياه الأبيض المتوسط. واستجلب اليهود، من كان منهم خاصا بخدمة الحريم، من فرنسا، خصوصا من Verdun (7) .ويقول ابن حوقل : "ومن مشهور جهازهم الرقيق من الجواري والغلمان الروقة من سبي أفرنجة وجليقة وخدم الصقالبة...والصقالبة قبيل من ولد يافث...فنصف بلدهم بالطول يسبيه الخراسانيون...والنصف الشمالي يسببه الأندلسيون من جهة جليقة وإفرنجة وانكبردة وقلورية، وبهذه الديار من سبيهم الكثير، باق على حاله ..."(8). وكثر عدد الصقالبة الموالي أيام الخلافة، وصار لهم ذكر وصيت. يقول ابن عذاري المراكشي : "...وكانوا أبهى حلل المملكة وأخص عددها، عني الخلفاء بجمعهم والاستكثار منهم". وبلغوا حظوة عند الحكم ما بعدها حظوة، فعلى الرغم مما ظهر منهم من أمور قبيحة فإنه كان يقول : "هم أمناؤنا وثقاتنا على الحرم، فينبغي للرعية أن تلين لهم وترفق في معاملتهم فتسلم من معرتهم، إذ ليس يمكننا في كل وقت الإنكار عليهم "وازدادت سطوتهم بعد موت الحكم حتى ظنوا أن
" لا غالب لهم وأن الملك بأيديهم" كما يقول ابن عذاري(9). وجاء في "النفح" : " إن عدد الفتيان الصقالبة بالزهراء، بلغ ثلاثة عشرة آلاف وسبع مائة وخمسين فتى...وعدة النساء...الصغار والكبار وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاث مائة وأربعة عشرة امرأة"(10)

4- المستعمرون أو النصارى المعاهدون أو الأعاجم (Los Mozarabes )

وهم النصارى الذين بقوا بعد فتح الأندلس في المدن والبقاع المفتوحة ، في ظل الدولة الإسلامية ، وكانوا يكونون مجموعات كبيرة في قواعد الرئيسية مثل قرطبة و إشبيلية وطليطلة (11) . وكان من الطبيعي أن يكون عددهم كبيرا في كل أرجاء الأندلس ، ففي معاهدة فحص غرناطة ، مثلا وعد المعاهدة ابن رودمير باثني عشر ألف مقاتل ، وكانوا في منطقة جد محدودة (12) . وكان هؤلاء النصارى أو الأعاجم يكونون طبقتين داخل المجتمع الأندلسي ، طبقة عليا ، جماعها كبار النصارى ووجوههم ، وطبقة من العامة . وقد غير الفاتحون من وضع هؤلاء الإجتماعي ، ومكنوهم من خدمة الأرض مقابل جزء يسير من منتوجها يؤدونه للدولة ، ويحتفظون هم بجله ، وكانوا قبلا أقنانا مملوكين ( 13 ) . وكان كل امتيازاتها الاجتماعية ، إذ أخدت جل أرض الأندلس صلحا ، وعليه فإن أصحابها كانوا يبيعون ويباع منهم ، و أبناء آخر ملوك القوط حافظوا على ثلاثة آلاف ضيعة سميت بعد ذلك صفايا الملوك ( 14 ) .

5 - المولودون أو المسألة من أهل الدين

وهم سكان الأندلس الأصليون الذين اعتنقوا الإسلام . وعدهم صاحب " أعيان فاس " ، هم والنصارى المعاهدة ، في الجنس الرابع قال : " الجنس الرابع من أهلها الذين دخل عليهم المسلمون ، منهم من أسلم واستقر بموضعه ، ومنهم من سبي عند الفتح واستقر بها ، وبها بقي عقبه ، ومنهم من أسلم بعد الفتح أو سبي بعد الفتح واستقر بها عقبهما . وهذا الصنف على أجناس ، منهم الروم والجلالقة وقشتالة ، وراغون البرمدي ، والعريقيين والينير ( 15 ) والطوطيين من الأمم القديمة ، ومنهم أهل البريس مدينة مستقر طاغية فرانسيس ، ومنهم عجم رومية ...ومنهم من كان اليهود مستقرا بها قبل الفتح ، وأسلم عند الفتح أو بعده ، أو دخل إليها بعد الفتح و أسلم " ( 16 ) .

 

      6- اليهود

لا يعرف متى وصل اليهود أرض إسبانيا فقد زعم أنهم جاؤوا إليها مع طلائع الفينيقيين الأولى الذين قدموا مع Tharsis في القرن العاشر قبل الميلاد ، كما زعم أيضا أن مجموعة ثانية منهم وردت أيام نبوخد نصر سنة 558 قبل الميلاد . ومن المؤكد أنهم كانوا موجودين في أرض إسبانيا منذ القرن الرابع الميلادي ، إذ أقر المجمع الذي عقد في Ilibrow ، مابين 309 و 312 (ق. م) عديدا من البنود يمنع بمقتضاها تعامل النصارى مع اليهود وكذا مخالطتهم والزواج منهم ومشاركة الطعام ( 17 ) .

      وكان هؤلاء اليهود الذين استوطنوا الأندلس قبل الفتح عونا للفاتحين ، يقول المقري عن فتح طارق : " ... ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجه إلى البيرة ، فحاصروا مدينتها وفتحوها عنوة ، وألفوا بها يهودا ضموهم إلى قصبة غرناطة ، وصار ذلك سنة متبعة متى وجدوا بمدينة فتحوها يهودا ، ويضمونهم إلى قصبتها ويجعلون معهم طائفة من المسلمين يسدونها " ( 18 ) . وقد تحدث أسطور في كتابه " تاريخ اليهود في الأندلس الإسلامية " ، بتفصيل عن وجود طوائئف ذات أهمية كبرى في عديد من المدن ، مثل قرطبة وإشبيلية ولسيانة وغرناطة وطليطلة وقلعة حماد وسرقسطة ، وكذا في مدن الشمال ، مثل برشلونة وطركونة وطرطوشة ( 19 ) . ولن نفصل القول في موضوع اليهود في هذا القسم من البحث ، لأننا سنخصص معظم دراساتنا المقبلة لهم ولأهل الذمة ، كما أشرنا سابقا .

      هذه العناصر التي كونت سكان الأندلس منذ الفتح حتى السقوط ، وقد استطاعت أن تؤثر وتتأثر و أن تنتظم فيما بينها تنظيما دقيقا لو يحدث بهذا المقدار في زمن يسير إلا في هذه الأندلس( 20 ) . فهل كانت هذه العناصر تكون وحدة متكاملة أم كانت نسيجا مجتمعيا لم يستطع التخلص من خصوصياته ؟ . ينطلق الجواب على هذا السؤال من طبيعة الفتح ومسار الاستقرار والظروف السياسية التي ستطبع كل تاريخ الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية . فأرض الأندلس أرض فيئ، فتح جلها صلحا ، وعليه فإن أصحابها الأصلين سيحافظون على كثير من أراضيهم،

وسيظل لهم وجودهم الفعلي في النشاطات المختلفة . يقول ابن حوقل : " وبالأندلس غير ضيعة فيها الألوف من الناس لم تمدن وهم على دين نصرانية الروم " ( 21 ) . والكثير من أصحاب الأرض من غير هؤلاء ممن دخل الإسلام ، سيكونون في واقع أمرهم معظم سكان الأندلس ، وسيصبحون في مصاف العرب والبربر بعد أجيال ، وقد تستحيل التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء ( 22).

      وكان الصقالبة الذين نيف عددهم في قرطبة وحدها على خمسة عشرة ألف نسمة ( 23 ) التأثير الكبير ، خصوصا و أنهم كانوا في خدمة أصحاب القرار ، وقيادة الجيش، وكان لهم قول مسموع في نساء القصرولدى أهل السلطة ( 24 ) . وظل العنصر اليهودي الذي ساهم في الفتح ، كما أشرنا إلى ذلك ، نشطا يتحرك في مجالات الاقتصاد المختلفة ، ولكنه كان أيضا ذا تأثير سياسي كبير ( 25 ) .

      لقد كون كل هؤلاء ظاهريا ، مجموعا ينم عن انسجام ، وكانت العامة أكثره ، إذ كان في قرطبة وحدها " خلق لا يحصيه إلا خالقهم " ( 26 ) ، أو كما قال بن خلدون : " ويموجج بحر المدينة بالسفلة " ( 27 ) . وكان على قمة كل هذه العناصر أرستقراطية عربية تتكون من نبلاء الفاتحين وبعض أكابر البربر والصقالبة ، واتخد هؤلاء الطبقة العامة خدما في كل مجالات الحياة ( 28 ) ، وكانوا يعيشون ، سواء منهم سكان المدن أو الأرياف والحصون ، على طريقة ملاك الأراضي الكبار ، يستخدمون المولدين والعامة والفلاحين المستعربين في زراعة ضيعهم فيخصصون لهم أجرا مقدما أو يفردون لهم قسطا من المنتوج ( 29 ) غير أنه سيكون لهذه الطبقة العاملة التي تمثلت في بقية

 

الأجناس الأخرى ، بطبيعة الحال ، فيما آلت إليه الأمور وتبعا للتقلبات السياسية المختلفة ، وضع جديد يضعف من شأن العصبية العربية التي لم تجد لها منبتا خصبا في أرض الأندلس ، فتحللت الروابط القبلية في المدن التي لم تجد لها منبتا خصبا في أرض الأندلس، فتحللت الروابط القبلية في المدن وضعفت في البوادي لأن : " الأندلس ليست بدار عصائب ولا قبائل " ( 30 ) . أو كما قال ابن عباد في رسالته إلى يوسف بن تاشفين : " فإننا نحن العرب في هذه الأندلس قد تلفت قبائلنا وتفرق جمعنا ، وتغيرت أنسابنا ... فصرنا فيها شعوبا لا قبائل و أشتاتا لا قرابة ولا عشائر " ( 31 ) ولم يعد لكثير من أعقاب تلك البيوت الأرستقراطية ذكر ، فصاروا من عامة الناس . يقول ابن خلدون : " تجد كثيرا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة ، وأهل الدول منطرحين في الغمار ، منتحلين للحرف الدنيئة في معاشهم بما يفسد أخلاقهم وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة " (32 ) .

      ومما يثبت هذا الوضع الذي آلت إليه العصبية العربية أن الحكم في الأندلس ، منذ بداية الأمويين وحتى الأفول ، ظل متأثرا بما كان لكن هذه العناصر من قوة قد تزداد هنا وقد تضعف هناك ، تبعا للغلبة أو الاندحار اللذين كانا من ثمرة الانقسامات داخل سلطة العائلة الواحدة ، أو الصراع الذي كان يحدث بين الدويلات ، أو التهديدات التي كانت ترد من قوة خارجية شمالا وجنوبا ، زيادة على ما كانت تحدثه العناصر غير العربية من فتن أو ثورات أو تطلعات تريد بها علو كرسي السلطة . وباختصار ، فإن صيرورة الحكم في الأندلس ظلت رهينة بحركية يكاد يكون لها وحدها التأثير الكبير ، تلك هي النزاعات الداخلية والمناوشات الخارجية والصراعات السياسية . وكان لهذه الحركية مرتكزاتها الأساسية هي التي ولدت الفعل اليومي والنشاط المتأجج الذي سبك كل العناصر المكونة لسكان شبه الجزيرة الإيبيرية . وتمثلت هذه المرتكزات في الوظائف التي خص بها كل عنصر في البنية العامة التي تكون الحكم ، سواء عندما كان في أوجه وجماع وحدته أو ضعفه و انحداره وتفتته .

      تربعت النخبة العربية على سدة الحكم ، وتقلدت مراتب الوزارة والكتابة والقضاد

 

والشرط والحسبة والخطط والمظالم والمواريث والمباني وبيت المال وضرب السكة ( 33 ) . وشاركهم في هذه المناصب في ما بعد ، عديد من البربر الذين ارتبطوا بهم دما ، وكذا بعض المولدين الذين سواهم بهم الإسلام وتضلعهم في لغة القرآن و آداب حضارته الإسلامية . وكتب التراجم والرجال الأندلسية تزخر بأسماء هؤلاء في العلم والقضاء ( 34 ) . وقد استطاع هؤلاء المولدون أن يشغلوا مناصب كبرى كانت وقفا على الأستقراطية العربية ، مما سيخلق صراعا داخليا مريرا عبر عنه ابن الفرضي في حديثه عن عبد الله بن الحسن المعروف بابن الشدي ، الذي استقصاه أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد ، على وشقة وما والاها ، قال ابن الفرضي: " إنه كان منسوبا إل الكبير مزهوا شديد العصبية للمولدين منتقدا للعرب حافظا لمثالبها ... توفي 335 هـ " ( 35 ) .

      أما من احترف من العرب ، فكانت حرفتهم الفلاحة والغراسة ونسج الحرير والغزل والنسيج والتجارة فيهما ، وبيع العطر والشمع الفاكهة والخضر والخبز . ونشطت عامة البربر في الحواضر ، في عديد من الصتائع الجارية ، مثل ظفر الحلفاء والقنب والحبال وصناعة المحاريث والسلال والبراذع والشطاطيب وصيد الطيور وحمل الماء والبناء . ومن سكن منهم البوادي كان يجلب إلى المدن البقر والسمن والزيت والعسل والصوف والدجاج والفواكه والفحم والخشب ( 36 )        شحلان 2

      أشرنا سابقا إلى أهمية الصقالبة في دولة الأمويين ، ورأينا أن عددهم كان كثيرا في عديد من مرافق القصر وخدمة الدولة ( 37 ) حتى قال ابن عذارى : " وكانوا أبهى حلل المملكة وأخص عددها ، عني الخلفاء بهم والاستكثار منهم " ( 38 ) فجمعوا الأموال وملكوا الأراضي والعبيد ، وتقلدوا وظائف سامية في الدولة والجيش أيام الناصر - وقد نيفت ولايته على نصف قرن - فتولى عبد الله بن بدر الكتابة ، وقند المواريث ، ودري الشرطة ، و أفلح الخيل ، وخلف الفتى الطراز ، وطرفة بن عبد الرحمن صاحب " المطبخ المواريث " ، ورئيس نجدة حملة من الحملات العسكرية ، وأصبح قند، وهو غير الأول ، قائدا على طليطلة ، وكان بدر الفتى الكبير صاحب السيف (39 ) وأشرف عبد الله بن بدر سنة 329 على أعمال حفر قناة بين جبل سير والمسجد الكبير بقرطبة ، كما أشرف جعفر ابن عبد الرحمن الصقلبي ، حاجب الحكم الثاني ، على توسيع المسجد . وتولى الشرطة بقرطبة ثلاثة منهم محمد بن تمليخ ، صاحب البرد ، وأحمد بن ناصر صاحب السوق وقاضي جيان ، وخالد بن هشام الذي وزر لهشام الثاني ( 40 ) . وتعاظم أمرهم واستخدموا أحيانا في قمع الثوارت و إخماد النعرات ، بل كانوا هم أنفسهم وقودا لهذه الثورات ، كما جاء في " أخبار فائق النظامي وجؤدر " ، أيام الحكم الثاني . وظهرت لهم عصبية عبر عنها حبيب الصقلبي أيام هشام الثاني في كتاب أسماه " كتاب الاستظهار والمقابلة على من أنكر فضائل الصقالبة " ( 41 ) .

      ومن اشتغل من موالي الحواضر فقد اشتغل بالصنائع وبعض المهن والتجارة وتقديم الخدمات ، فمن صنائعهم الحياكة والخرازة والنسيج وسبك الحديد وصناعة آلات الحرب والنحاس و آلات الخيل وسرجه . ومن مهنهم الصباغة والحجامة والتطبيب والطحن وخراطة العود ونجارة الخشب وتسمير البهائم . وكانوا يتجرون في النعال والحياك والجلاليب واللحم . أما الخدمات التي كانوا يقدمونها للمجتمع ، فتمثلت في ضرب الطبول والبنود والقيام بالمساجد والآدان ورصد الوقت ودفن الوتى وحفر القبور وحراسة الأسواق ليلا وحراسة الفنادق وحمل السلع من بلد إلى بلد (42 ) .

      واحتل المعاهدة النصارى مناصب كبيرة في الدولة والجيش ( 43 ) مثل عمر بن قومس (Comes ) الذي كان كاتبا للأمير عبد الله ( توفي 298 ) ( 44 ) . وعلى الرغم من اعتراض الفقهاء على بلوغ النصارى مناصب عليا في الدولة ، فإن ذوي السلطة لم يروا في الأمر بأسا ، إذ تحدثنا الأخبار أن الفقهاء حثوا الأمير محمد الأول على تخيير كتابه النصارى بين الإسلام أو العزل ، كحال كاتبه القومس بن أنطونين ( 45 )،

غير أن الأميرومن جاء بعده لم يستغنوا عن كتابهم ومقتصديهم اليهود والنصارى خلال الحكم الأموي كله ( 46 ) ولا شك أن هؤلاء كانوا إداريين يدبرون أمور الاقتصاد وتنظيم الدولة وكانوا يختلفون عن كتاب الرسائل كما يفهم من كلام المقرئ . واسترشد أصحاب الحل والعقد في الأندلس بكبار النصارى في كثير من الأحيان ، فقد أشار أرطباص - الذي عينه العرب بعد الفتح ، حاكما على طليطلة ورئيسا للنصارى وزعيما لعجم الذمة ومستخرجا خراجهم لأمراء المسلمين - على أبي الخطار هشام ، بتفريق القبائل الشاميين في الكور ، تخفيفا عن قرطبة ( 47 ) . كما كان المظفر يستشير أب الربيع النصراني في مهمات أمره ( 48 ) . واعتمد الناصر لدين الله سنة 329 عباس بن المندر أسقف إشبيلية ، ويعقوب بن مهران أسقف بجاية وعبد الملك بن حسام أسقف البيرة ، في بعثة من قرطبة إلى جليقة لمفاوضات رودمير في فداء محمد بن هشام ( 49 ) .ولعب هؤلاء المعاهدة دورا كبيرا في ثورة ابن حفصون حيث حاولوا التدخل بالصلح أو التخلي عن هذا الأخير ( 50 ) .

      ومن أسلم من هؤلاء المعاهدة النصارى ، فمن كان من البادية اكتسب البقر والغنم واشتغل بالحرث وتربية النحل . وكان أهل الجبال منهم يغرسون الجنات ويرعون أشجار الفاكهة ويقطعون الخشب ويصنعون الفحم . ومن ولي البحر منهم امتهن الصيد وجلب الحوت والسردين وصناعة السفن و آلاتها ( 51 ) .

      سبق لنا أن ألمحنا أعلاه لأهمية اليهود إبان فتح المدن الأندلسية فنالوا كبير جزاء لهذا الفعل ، و أعدوا نفوسهم ثقافة وعلما ، ليقوموا بالمهمات الجسام في جهاز الدولة ، فهذا حسداي بن إسحق بن شبروط يصفه ابن حيان ب : " وحيد العصر الذي لا يعدل به خادم ملك ، في الأدب وسعة الحيلة ولطف المدخل وحسن الولوج " ( 52 ) . وحسداي هذا كان مترجما للناصر ومدبرا لإدارته العامة وجمارك المملكة ، كما كان يذهب في سفارات خطرة ، ويستقبل السفراء القادمين على قرطبة .

 

وهكذا استقبل سنة 944 سفارة قسطنطين الثامن الذي ورد من بزنطة ، واستقبل سنة 956 ممثلي أطان الأول ( Otton ) القادم من ألمانيا . واختياره الخليفة لدى أرمود الثالث (Ordomo ) عندما نزع إلى الصلح سنة 955 . وهو الذي أقنع الملكة ( Tota de Navarre ) بزيارة العاصمة ( 53 ) . وذهب أيضا في سفارة إلى أردون بن ردمير ، ملك جليقة لفداء محمد بن هشام وعقد الصلح ( 54 ) . " فارتفعت به الحرب بين الملتين بين مدينة شنترين ومدينة وشقة ، فاقنع رودمير غيره من النصارى بالصلح والمسالمة " (55) . وهو الذي عقد المسلم مع شنير بن غفيريد الإفرنجي صاحب برشلونة كما رضي بذلك الناصر لدين الله (56 ) . وكلف الحكم الثاني إبراهام بن يعقوب الإسرائيلي الطرطوسي ببعثة وجهها إلى ملوك الشمال ( 57 ) . ونقل ابن الخطيب عن ابن حيان قولا في ابن النغريلة المشهور ، جاء فيه : " وكان ... من أكمل الرجال علما وحلما ، وفهما وذكاء ودماثة ودهاء ، ومكرا وملكا لنفسه ، وبسطا من خلقه ومعرفة بزمانه ...ناهيك برجل كتب بالقلمين ، واعتنى بالعلمين ، وشغف باللسان العربي ونظر فيه ، وقرأ كتبه وطالع أصوله ، فانطلقت يده ولسانه ، وصار يكتب عنه وعن صاحبه بالعربي في ما احتاج إليه من فصول التحميد الله تعالى والصلاة على رسول الله r ، والتزكية لدين الإسلام وذكر فضائله ، وما يريد ولا يقصر فيما يريد ولا يقصر فيما ينشئه عن أوسط كتاب الإسلام ...وكان قد حمل ولده يوسف المكنى بأبي حسين على مطالعة الكتب ، وجمع إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية يعلمونه ويدرسونه ، وأعقله بصناعة الكتابة ، ورشحه لأول حركته لكتابة ابن مخدومه بلكين برتبة المترشح لمكانه تمهيدا لقواعد خدمته ، فلما هلك إسماعيل في هذا االوقت ، أدناه باديس إليه و أظهر الاغتباط به ، والاستعاض بخدمته عن أبيه " ( 58 ) .

      وقصة ابن النغريلة في تاريخ الأندلس كانت فصلا من أهم الفصول التي امتزج فيها الدهاء بالمكر ، وبررت فيها الغاية الوسيلة ، فقد أباح ابن النغريلة في مهمته في قصر باديس كل شيء فقد قتل خاله أبا الربيع ابن الماطوني لما مالت إليه أم ماكس ( 59 ) و أبعد كل من رأى فيه خطرا عليه من

القصر و ألحقه بوظائف خارج غرناطة وأوغل صدر الرئيس على وزيره ابن القروي علي وعبد الله. و أصبح يولي ويعزل ويغني ويفقر ، إلى أن انتهت حياته بمأساة خص لها الأمير بن بلقين صفحات عديدة من مذكراته وجاء صدى هذه الأحداث في رسالة ابن حزم التي خصها بابن النغريلة حيث يقول : " اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا ، بدنياهم عن إقامة دينهم وبعمارة قصورهم ، يتركونها عما قريب ، عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم ... حتى استشرق لذلك أهل القلة والذمة ، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك " ( 60 ) . ويقول في نفس السياق ، في رسالة التخلص لوجوه التخليص ، إجابة لسائل سأله : " وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أوحصن في شيء من أندلسنا هذه ، وأولها عن آخرها ، محارب الله تعالى ورسوله ، وساع في الأرض بفساد . والذي ترونه عيانا من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارهم و إباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون إلى أهلها، ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين ، مسلطون لليهود على قوارع طريق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أها الإسلام " ( 61 ) .

      وامتهن من أسلم من اليهود بخياطة الملف والثياب وظفر القيطان ونسج العقل والقلنصوات وصبغها والحجامة والدلالة في الأسواق و إصلاح النعال المخروزة . أما الموالي منهم، فقد اشتغلوا بصناعة الصابون والفانيد وتشبيك الفداوش والشعرياء والترد والمقروض ، وتفسير الكتب وتزويق الخشب وتركيب المناسج وضرب الدينار والدراهم وحلي النساء وفرط الجمان وخدمة الزجاج وتصفية المعادن وصناعة القدور . وتاجروا في الحوت والشحوم والأدوية والأعشاب والصوف والكتان وآلات الطرب والحلي ومواد التغدية . ومن الخدمات التي كانوا يقومون بها ، طبخ الأخباز والإسفنج والشواء وعصر الزيت وحملها وتخليص الرباع وتزليجها وخدمة الحمامات وسقاية الماء وكراء الأواني ( 3 )

      وكان لنساء الأندلس على العموم مهن اشتهرن بها أيضا ، من ذلك ما ذكره ابن حزم في " طوق الحمامة " ، إذا كان منهن الطبيبة والحجامة والسراقة ؟ ! والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والمستخفة والصانعات في المغزل والنسيج ( 63 ) .

      ومن الأكيد أنه كان بالأندلس صناعات كبرى وتجارة دولية وردت الإشارة إليها في أماكن كثيرة في كتب التراجم والرجال والتواريخ ، مما لم نستطع ذكره هنا نظرا لموقع الأندلس الجغرافي وغناها في باطن الأرض وظاهرها ، وحوطها ببحرين عظيمين وكونها كانت مراكز لسلطة قوية في كثير من عهودها .

      استقلالية أهل الذمة

      بنيت هذه الإستقلالية على وثيقة ترجع إلى أيام عمر بن الخطاب ، وهي الوثيقة التي بعث بها القائد عبد الرحمن بن غانم إلى عمر بن الخطاب ، حين صالح القائد المذكور نصارى الشام ( 64 ) . ويتضح ، بادئ ذي بدء ، أن نصارى الأندلس لم يتقيدوا ، خصوصا في بداية الفتح ، بجل بنود الإتفاقية . ففي المعاهدة التي وقعت بين عبد العزيز بن نصير و Théodémir (تدمير ) ، والتي أمن فيها ابن نصير تدمير على نفسه و أتباعه ، وضمن له فيها حرية المعتقد ، لم يرد أي تقييد يلزم تدمير ببقية البنود ( 65 ) . وظل مضمون المعاهدة ساري المفعول حتى عهد المرابطين والموحدين ، ولم يفرض الفاتحون الإسلام على أهل الأندلس فرضا ، وظلوا يعاملون السكان الأصليين ، نصارى ويهودا ، معاملة خاصة مكنتهم من حرية الدين والمعتقد . فقد أفتى القاضي أبو عبد الله بن يحيى ، وكان شيخ المفتين بقرطبة ( ت 297 ) ، بإطلاق سراح صبي نصراني أسلم ثم عاد إلى النصرانية ، في حين ورد الإفتاء بقتل من ارتد من أولاد المسلمين ، متى بلغ ولم ينفع فيه التأديب . وسوت لفتوى التاسعة ، في أحكام أهل الذمة بين من أنكر نبوة محمد r سواء كان ذميا أو مسلما ، ولم توجب شيئا على اليهودي والنصراني الذي يشهد بأن محمدا r أرسل للمسلمين ولم يرسل إلى أهل الذمة ( 66 ) . وجاء في فتوى ابن تاشفين أن الذين أسلموا خوفا يقبل إسلامهم ، و إذا رجعوا عن ا

 

 

 

الإسلام لهذا السبب يعذرون " إذ لا ملامة عليه (من رجع إلى النصرانية ) في أن يفر من الظلم بالخديعة والتلاعب " ( 67 ) .ويرجع بروفنسال إسلام الكثير من ساكنة الأندلس الأوائل طواعية، إلى الهروب من ثقل الضرائب ، بل يرى أن السلطة كانت تفضل أن يحافظ هؤلاء على دينهم ، لأن ذلك يوفر لبيت مال المسلمين دخلا كبيرا ( 68 ) . ولا يمكن أن نفهم ثورة مسيحي قرطبة أيام عبد الرحمن الثاني ، على أنها تورة قام بها النصارى لأنهم أرغموا على ترك المسيحية واعتناق الإسلام ، و إنما يجب أن نفهمها على أنها ثورة المسيحيين الذين أنكروا الإسلام وحقيقة النبي كحقائق مطلقة . والأصل فيما يعرف بقضية الشهداء كان تشكيكا في الإسلام وليس دعوة إلى التنصر ، وجل المحاكمين كانوا لسبهم الإسلام والنبي ، وليس لأنهم كانوا يؤدون طقوسهم الدينية " ( 69 ) . والقضية نفسها ، كما عرضها بروفنسال تفصح عن كبير حرية في أمور الجدل الديني ، كما تبين تحرز القضاة في إصدارهم و أحكامهم على المتهمين ، بل تظهر تردد الحكام أنفسهم في الموافقة على هذه الأحكام مما جعلهم يستفتون الفقهاء قبل اتخاذ أي قرار( 70 ) . وما جاء في رسالة Louis Le Pieux مسيحي Merida سنة 828 ، تظلما للخليفة عبد الرحمن وابنه الحكم ، ولا يشكو من أية مضايقة دينية ، و إنما كان التظلم من ثقل الضرائب بالدرجة الأولى . وظل المسيحيون يتمتعون في القواعد الرئيسية مثل قرطبة و إشبيلية وطليطلة باستقلال ذاتي ويطبقون شرائعهم القوطية القديمة على يد قضائهم وتحت مسؤولية قواميسهم ( 71 )، الذين كانوا يتمتعون باحترام كبير ، وكانوا من مستشاري الخلفاء في قضاياهم الخاصة ، وفي قضايا النصارى و أحوالهم . ويذكر ابن القوطية أن عبد الرحمن بن معاوية هو الذي نصب أول قومس في الأندلس ( 72 ) . ويبدو أن القومس كان يرأس جهازا إداريا كاملا مركزه قرطبة وفروعه في الكور . وهكذا فقد كان أهل الذمة في مختلف مدن البلاد وكورها يسيرون أمورهم برئاسة شيوخ من أهل دينهم ذوي حنكة ودهاء ومداراة ومعرفة بالجباية . وعليه فإن قضايا الطائفة خلال القرن العاشر كانت تدبر بواسطة موظفين تختارهم الطائفة باتفاق مع السلطة الإسلامية العليا . وكان على رأس

 

 

 

هذه الإدارة شخص يسمى باللاتينية Defensor أو Protector وهو الذي عرف في أدبيات التاريخ الأندلسي بالقومس ( Conde Comes ) . وكان Exceptor هو الذي يحصل الجباية والضرائب . ويقضي في قضاياهم الشرعية الخاصة بهم ، قاض يعرف بقاضي النصارى أو قاضي العجم ، ويسملى باللاتينية Censor . وكان مرجعهم التشريعي قوطي . أما الخلافات التي كانت تقع بينهم وبين المسلمين ، فإنها تعرض على القضاء الإسلامي . ومن قضاة النصارى بقرطبة ، أصبغ بن نبيل ووليد بن جيزران وحفص بن البر ( 73 ) . وجاء في المقتبس أن الخليفة الحكم استقبل سنة 360 رسل حلويرة ( Elvira ) بنت الملك رودمير " فوصل مع العجم من كبار نصارى قرطبة قاضيهم أصبغ بن نبيل و أسقفهم عيسى بن المنصور وقومسهم معاوية بن لب ومطران إشبيلية عبد الله بن قاسم ، يترجمون عنهم " ( 74 ) .

      واستقر كبار أساقفة النصارى بجل مدن الأندلس ، إذ في سنة 329 هـ كلف الناصر لدين الله عباس بت المندر جاتليق إشبيلية ، ويعقوب بن مهران أسقف بجاية ، وعبد الملك بن حسان أسقف البيرة بمهمة فداء محمد بن هشام ( 75 ) . وكان القوامس يظهرون الطاعة للسلطة الحاكمة في كثير من المناسبات إذ عندما وصل المنصور إلى مدينة عليسة وافاه " عدد عظيم من القوامس المتمثلين بالطاعة في رجالهم وعلى أتم احتفالهم فصاروا في ملك مسلمين " . وقد أظهر المنصور هذا احتراما لهم و أجزل لهم العطاء " فأجاز هناك القوامس بجملتهم على اقتدراهم وكساهم وكسا رجالهم وصرفهم إلى بلادهم " ( 76 )

      وتتجلى حرية التعبد في كثرة الكنائس التي كانت منتشرة في كل الأندلس ما بين القرن الثامن والثاني عشر ، سواء في المدن الكبرى أو الصغرى . ومن أشهر هذه الكنائس أيام الخلافة ، الكنيسة العظمى بقرطبة Saint- Aciscle ومن أشهر الأديرة الواقعة في أطراف المدينة دير أرملاط ( Guadimellato ) ( 77 ).

 

وكان الأمير أحيانا يحضر الصلاة في الكنيسة ، كما فعل أبو عامر بن شهيد ( 78 ) ، بل كان قرع النواقيس يبهج سمع أهل قرطبة على الرغم من تشدد الفقهاء في هذا الأمر ببلاد الإسلام ( 79 ) . ويذكر الإدريسي أنه كان بالأندلس كنيسة من الكنائس تستقبل الناس وتستضيفهم عادة متبعة ورثها الخلف عن السلف ، وكانت دائما عامرة بالقس والرهبان ، وبها أموال مذخرة و أحوال واسعة ، وأكثر هذه الأموال محبسة عليها في أقطار الغرب وبلاده ، وينفق منها على الكنيسة وخدامها " ( 80 ) .

      ونظرا لهذه الأهمية التي كانت تحظى بها الكنيسة فإنها لو تكن ملجأ النصارى وحدهم ، بل كانت ملجأ المسلمين وكل الغرباء ، وتعددت فيها الفتاوى التي وردت في كثير من المصادر ك " ـالمعيار " للونشريسي ، و " أحكام قضايا أهل الذمة " ( 81 ) وهي فتاوي غطت جل الحكم الإسلامي بالأندلس ،مما يبين أهمية الكنيسة ودورها الكبير . ونضرب مثالا لذلك بالفتوى التي وجهت إلى القاضي أبي الفضل عياض ، عن أحباس حبسها نصارى معاهدة ، على كنيسة لهم ، حيث قال : " وكان القسيسون يستغلونها وينفقونها (أموال التحبيس ) في مصالح كنيستهم ومافضل منها يأخذونه لأنفسهم " ( 82 ) ، والفتوى الثامنة منفتاوي ابن أصبغ حيث تقول : " وعلى غرار ما يكون الحكم فيما يتعلق بالأحباس التي تحبس على الكنائس والأديرة ، قربى إلى الله تعالى ، فلا يجوز للأسقف إخراجها عما حبست عليه من أجل بيعها ... إذ يبطل كل تصرف من هذا القبيل ... كما هوالحال بالنسبة لأحباس المسلمين على حد سواء " ( 83 ) .

      وإذا تحدثت الأخبار عن هدم الكنائس في الأندلس ، فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى وقائع خاصة ، أو عندما تصبح الكنيسة معقلاللثورة على السلطة ، كما جاء ذلك واضحا في كثير من كتب التاريخ مثل " الإحاطة " و " البيان " و " مذكرات ابن بلقين "، وقد ربطت هذه بين هدم بعض الكنائس وثورة ابن حفصون ( 84 ) . وكثيرا ما كانت تنتهي تلك الثورات بصلح فلا تمس

 

الكنيسة ويحافظ على حرمتها كما حدث في فتح ماردة ( 85 ) . ولو كان هدم الكنائس أمرا متعبا ، ما وجدنا فتاوي تفتي بمنع قرع النواقيس أو التخفيف منه ( 86 ) ، ولما أشار الونشريسي في " معياره " إلى التسامح في بناء الكنائس والحظ على عدم تهديمها ( 87 ) . وظل الحفاظ على الكنائس سنة كما سنها عبد الرحمن بن معاوية ، الذي وجد المسلمين يقاسمون نصارى قرطبة في كنيستهم العظمى ، فأوسع لهم البذل في شطرهم ، وفاء بعهد المصالحة ، وأباح لهم بناء كنائسهم التي كانت قد هدمت إبان الفتح وكذا بناء كنيستهم العظمى خارج قرطبة ( 88 ) . وكانت الأناجيل أيضا شائعة الرواج يطالعها النصراني وغير النصراني . وقد أفاد منها ابن حزم كثيرا في كتابه " الفصل " ، وكان يصاحب رجال الكنيسة ويجادلهم ( 89 ) .

      ظلت سلطة اليهود ومقاليد أمورهم الدينية الخاصة بهم بين أيديهم ، فقد جرت العادة على أن تعين السلطة رأس الجالوت أو الناسي أو شيخ اليهود ، للقضاء في أمرهم وبتشريعهم ، ويكون هذا الشيخ نفسه هو الواسطة بينهم وبين السلطة المدنية ( 90 ) ، فقد جاء في فتوى وجهت إلى أبي العتاب، أن يهوديا ادعى أن عمه حبس عليه جنة ، وقام نزاع حول هذه الجنة فأفتى ابن العتاب أن لليهودي الحق إذا أراد رفع دعواه على عميه ومحاكمتها إلى حكم أهل دينهم ( 91 ) . وقد تمتع اليهود ، في ظل هذه الحرية ، بالسماح لهم ببناء دور عبادتهم في أحيائهم الخاصة وكذلك بين السكان المسلمين ( 92 ). والدليل على الزيادة في بناء المعابد والبيع هو كثرة الفتاوى المتعلقة بها وقد جاءت هذه في " نوازل " ابن سهل ( 93 ) والونشريسي ( 94 ) وغيرها . كما كثرت الفتاوى أيضا حول التوراة والكتب اليهودية

 

وقد حذرت إحدى الفتاوي شراء الكتب من اليهود باستثناء كتبهم الدينية ( 95) . ومنع ابن عبد الرؤوف رواج الأخبار الكاذبة إلا أخبار بني إسرائيل فلا حرج عليها ( 96 ) . وقد أفاد ابن حزم كثيرا من هذه الكتب في مؤلفه " الفصل " و أخبر أن كثيرا من فرقهم كانت معروفة في الأندلس ففي حديثه عن فرق اليهود تحدث عن الفرقة العنانية ، وقال : " وهذه الفرقة بالعراق ومصر والشام ، وهم بالأندلس بطليطلة وطلبيرة " ( 97 ) . كما قال عن مذهب العيساوية : " ولقد لقيت من ينحو هذا المذهب من خواص اليهود كثيرا " ( 98 ) .

      هذه نظرة موجزة في الأندلس ، أهلا ونشاطا وحريات عقائدية وقانونية ، أردنا أن تكون مدخلا لما سنقدم عليه من دراسة في الثرات التاريخي العربي والعبري في الغرب الإسلامي، والله الموفق للصواب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 





 



(1) نسعرض للتراث العربي التاريخي وبعض الدراسات الهامة المكتوبة بالعبرية تحليلا ومقارنة، في المقبل من أعداد المجلة، إن شاء الله.
(2) لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار عرناطة، ( تحقيق محمد بن عبد عنان)، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973، ج1،صص. 103-105. وأنظر أيضا : ابن حزم، جمهرة أنساب العرب،فهو يذكر فيها القبائل العربية ويذكر المنازل التي استقرت بها.
(3) "ذكر بعض مشاهير أعيان فاس في القديم" 1، مؤلف مجهول ( تحقيق عبد القادر زمامة) مجلة البحث العلمي، العدد الثالث والرابع، السنة الأولى، 1964،ص.55 (سنحيل إليه ب : زمامة).
(4) ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ( تحقيق كولان وليفي بروفنسال) ( ج 4، تحقيق إحسان عباس)، دار الثقافة، بيروت، 1967، ج 4، ص.69.
(5) زمامة، ص.55.
(6) أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف بمصر صص.498-502.
(7) E. Lévi- Provençal, l’Espagne musulmane, paris, 1932, P.29 = Lévi ( Provençal 2).
(8) أبو القاسم بن حوقل النصيبي، كتاب صورة الأرض ، ط2، القسم الأول، ليدن، 1938، ص.110.
(9) البيان ، ج2، ص.259.
(10) أحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطب...،تحقيق محمد محيي الدين عبد المجيد، مطبعة السعادة، مصر، 1949 ، ج2، ص.103.
(11) لسان الدين بن الخطيب ، الإحاطة في أخبار غرناطة ، تحقيق محمد عبد الله عنان ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1937 ، ج 1 ، صص . 106- 107 .
(12) البيان ج 4 ، ص 69 ؛ والإحاطة ، ج 1 ص . 109 .
( 13 ) E . Lévi - provençal , L’Espagne musulmane au Xè siècle , P . 160 = Lévi - ( Proveçal )
( 14 ) أحمد الطاهري ، عامة قرطبة في عصر الخلافة ، منشورات عكاظ ، الرباط ، 1988 ، صص . 148 - 169 . أنظر التفصيل في ، Lévi- Provençal , Histoire de L’Espagne musulmane , Paris , 1950 , T. 3 PP 214-226 = (Lévi- Provençal 2)
( 15 ) يدكر المحقق عبد القادر زمامة ، في حاشية 54 بأنه لو يتوصل إلى تقويم هذه الأسماء المحرفة عن أصولها .
( 16 ) زمامة ، صص . 55 .
( 17 ) Raymond , R . Thourent , " Chrétiens et Juifs à Grenade au IV siècle avant J .C " Hespéris , T. XXX( 1943 ) , PP . 201 -202 .
( 18 ) النفح ، ج 1 ، ص . 10 ؛ البيان ، ج2 ، ص . 12 .
( أ . شتور ، تاريخ يهود إسبانيا المسلمة ، ج 1 ... 1960 )
( 20 ) Lévi- Provençal 1 , P .32 .
( 21 ) صورة الأرض ، القسم الأول ، ص . 111 .
( 22) Lévi- Provençal 1 , T . 1 ; P .75.
( 23 ) البيان ، ج 2 ، ص . 232 .
( 24 ) نفسه ، ص . 259 .
( 25 ) عبد الله بن بلقين ، مذكرات المسمااة بكتاب التبيان ، تحقيق بروفنسال ، دار المعارف بمصر ، 1955 ، ص .37 و 53 .
( 26 ) البيان ، ج 2 ، ص . 222 .
( 27 ) عبد الرحمان بن خلدون ، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر ... ، تحقيق علي عبد الواحد ، ج 3 ، ص . 878 .
( 28 ) Lévi- Provençal 1 , P 233 .
( 29 ) Lévi- Provençal 2 , T . 1 ; P .84-85 .
( 30 ) ابن خلدون ، ج 2 ، ص . 46 .
( 31 ) الحلل الموشية في الأخبار المراكشية ، تحقيق علوش ، الرباط ، 1936 ، ص 33 .
(32 ) ابن خلدون ، ج3 ، ص . 878 .
( 33 ) زمامة ، ص . 55 .
( 34 ) ابن الفرضي أبو الوليد عبد الله بن محمد ، تاريخ علماء الأندلس ، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر ؛ و أبو عبد الله محمد بن حارث الخشني ، قضاة قرطبة ، الدار المصرية للتأليف والترجمة ، 1966 .
( 35 ) ابن الفرضي ، ص . 227 .
( 36 ) زمامة ، ص . 55 .
( 37 ) النفخ ، ج 2 ، 163 ؛ والبيان ، ج 2 ، صص . 247 - 248 .
( 38 ) البيان ، ج 2 ، ص . 259 .
(39 ) البيان ، ج 2 ، ص . 165 و 164 و 183 و 191 و 203 و 214 و 223 .
( 40 ) Lévi- Provençal 1 , PP 105 - 107 .
( 41 ) البيان ، ج 2 ، ص . 259 - 262 ومابعدها ؛ وانظر : أخبار الناصر في النفح ، تحقيق إحسان عباس 1968 ، ج 1 ، صص 253 - 282 .
(42 ) زمامة ، ص . 55 .
( 43 ) Lévi- Provençal 1 , P112 et Lévi- Provençal 2 ,T. 1 PP. 232 - 234
( 44 ) Lévi- Provençal 2 , P111 et Lévi- Provençal 1 ,T..1 P. 290 .
( 45 ) انظر مثلا : النفخ ، ج 1 ، ص . 202 . Provençal 2 ,T. 1 PP. 232 - 234
( 46 ) Provençal 2 ,T. 1 P .290 .
( 47 ) الإحاطة ، ج 1 ، صص . 103 - 104 .
( 48 ) مذكرات ، صص . 66 - 67 .
( 49 ) ابن حيان القرطبي ، المقتبس ، ( نشر ب : سالميتا ، المعهد الإسباني للثقافة ، مدريد ، كلية الآداب ، الرباط 1979 ، ج 5 ، ص . 467.
( 50 ) نفسه .
( 51 ) زمامة ، ص . 55 .
( 52 ) المقتبس ، مدريد ، ص . 366 .
( 53 ) Lévi- Provençal 1 , P112 .
( 54 ) البيان ، ج 2 ، ص . 221 .
(55) المقتبس ، مدريد ، ص . 467 .
(56 ) نفسه .
( 57 ) أ . اشتور ، ج 1 ، صص . 228 - 229 .
( 58 ) الإحاطة ، ج 1 ، صص . 438 - 439 .
( 59 ) مذكرات ، ص . 48 و 53 .
( 60 ) ابن حزم الأندلسي ، الرد على ابن النغريلة اليهودي ، تحقيق احسان عباس ، دار العروبة ، 1960 ، ص. 45 .
( 61 ) نفسه ، ص . 173 .
( 3 ) زمامة ، ص . 55 .
( 63 ) ابن حزم الأندلسي ، طوق الحمامة في الألفة و الآلآف ، تحقيق حسن كامل الصيرفي ، المكتبة التجارية الكبرى ، 1959 ، ص . 19 .
( 64 ) الونشريسي أبو العباس أحمد بن يحيى ، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل افريقية والأندلسي والمغرب ، إشراف محمد حجي، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، ج 2 ، صص . 237 - 238 .
( 65 ) Lévi- Provençal 2 ,T. 1 PP. 32 - 33 .
( 66 ) أبو الأصبغ عيسى بن سهيل الأندلسي ، وثائق في أحكام قضايا أهل الذمة ، تخرج محمد عبد الوهاب خلاف ، المركز العربي الدولي للإعلام ، القاهرة ، 1980 ، الفتوى رقم 1 و 2 ؛ و انظر أيضا : المعيار ، ج 2 ، صص . 334 - 345 .
( 67 ) المعيار ، ج 8 ، ص . 63 .
( 68 ) Lévi- Provençal 2 ,T. 1 P .74 .
( 69 ) انظر التفصيل في : Lévi- Provençal 2 ,T. 1 P P. 234-239
( 70 ) نفسه ، ص , 229 .
( 71 ) الإحاطة ، ج 1 ، ص . 106 ( هامش 2 )
( 72 ) عامة قرطبة ، ص . 149 .
( 73 ) ابن حيان القرطبي ، المقتبس ، تحقيق عبد الرحمن حجي ، دار الثقافة ، بيروت ، 1956 ، صص . 63 - 64 ؛ والعامة ، ص . 28 .
( 74 ) المقتببس ، بيروت ، صص 21 - 22 .
( 75 ) المقتببس ، مدريد ، ص . 467 .
( 76 ) نفسه .
( 77 ) Lévi- Provençal 1, PP . 72-74
( 78 ) النفح ، ج 1 ، ص . 345 .
( 79 ) العامة ، ص . 151 .
( 80 ) نفسه ، ص . 152 .
( 81 ) المعيار ، ج 7 ،صص . 73 - 74 ؛ ج 8 ، ص 59 ؛ وأبو الأصبغ بن سهيل ، الفتوى ، رقم 8 .
( 82 ) المعيار ، ج 7 ،ص . 73 .
( 83 ) أبو الأصبغ بن سهل ، ص . 69 .
( 84 ) أنظر مثلا : الإحاطة ، ج 3 ، ص .279 .
( 85 ) البيان ، ج 2 ، ص . 15 .
( 86 ) ثلاث رسائل أندلسبة في آآداب الحسبة والمحتسب ، تحقيق ليفي بروفنسال ، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي ... القاهرة ، 1955 ، صص. 77 - 80 .
( 87 ) المعيار ، ج 2 ، ص . 214 .
( 88 ) البيان ، ج 2 ، ص . 229 ؛ وأبو الأصبغ بن سهل ، صص . 77- 80 .
( 89 ) أنظر مثلا : الفصل في الملل والأهواء والنحل ، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح و أولاده ، القاهرة ، ج 2 ، ص . 20 .
( 90 ) مذكرات ، ص . 131 .
( 91 ) المعيار ، ج7 ، ص . 439 .
( 92 ) أبو الأصبغ بن سهيل ، الفتوى ، رقم 7 .
( 93 ) نفسه ، ص . 247 .
( 94 ) المعيار ، ج 8 ، صص . 58 - 59 .
( 95) ثلاث رسائل ، ص . 57 .
( 96 ) نفسه ، ص . 13 .
( 97 ) الفصل ، ج 1 ص . 78 .
( 98 ) نفسه ، ص . 89 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق