Pages

السبت، 11 يونيو 2016

ماذا يحدث في الصين الجديدة د. محمد عبد الرحمن يونس




بعد وفاة الرئيس الصيني ماو تسي تونغ عام (1976م) ، استلم مقاليد السلطة الرجل القوي في الحزب الشيوعي الصيني ( دنغ شياو بينغ ) ، وبدأ يغيّر خارطة الصين السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، وعمل جادا على نشر إيديولوجيته المعرفية المعادية لسياسة ماو تسي تونغ، وكرّس جميع توجهات الدولة في الصين لأن تسير وفق نسق معرفي مغاير تماما لما كان سائدا أيام ماو ، فأعلن رغبته العميقة بالانفتاح صوب أمريكا بمختلف علاقاتها الرأسمالية, وأطلق على برنامجه السياسي اسم : (( سياسة الإصلاح والانفتاح )) ، وفي ظلّ هذه السياسة تدنّت منزلة طبقة العمال والفلاحين في السلم الاجتماعي والسياسي, وارتفعت منزلة التجار وأصحاب الأموال والرأسماليين ، والملاك الجدد , وبدأت سياسة الدولة تنحدر تدريجياً لتتشبع بمفاهيم اقتصاد السوق وعلاقات شركاته التجارية والاستثمارية , و توفي دنغ شياو بنغ في عام (  1995م  ) ، وأتى بعده الرئيس جيانغ تسه مين , وانتهج سياسة سلفه دنغ شياو بنغ, وزادت طبقة العمال والفلاحين ـ التي كانت هي الطبقة الأولى المأمول منها أن تطوّر الصين صناعيا وحضاريا ـ فقراً وتهميشاً واستلاباً ، وأُبعدت تدريجياً عن بؤرة الأحداث والسياسة ومقاليد الحكم؛ وقد حدّثني صديق صيني مفكّر ومعروف في الوسط العلمي الصيني، وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث حول الحبّ والزواج والسياسة في عهد ماو، وعندما سألته: هل سبق لك وأن أحببت امرأة غير زوجتك الحاليّة حبّاً رومانسياً شفيفاً وعميقاً ملأ ذاكرتك ووجدانك؟ فقال: نعم، وكان أكبر مما تتصور، إنّه أول حب في حياتي، ولكني لم أوفّق إلى الزواج بها، لأنّ طبقتها الاجتماعية كانت أعلى منزلة من طبقتي، فقد رفضني والدها، لأنه كان  من طبقة العمال ، أمّا أنا فكنت محسوباً على طبقة المثقفين التي لا ترقى منزلة إلى طبقة العمال وفق رؤية نظام ماو تسي تونغ السياسي والاجتماعي. وإذا ما قارنا هذه الحادثة بما يجري اليوم في الصين المعاصرة، وتحت ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح، فإنّ الرجل الصيني المعاصر يطمح في أن يتزّوج من طبقة الأثرياء والملاك الجدد وأصحاب الشركات التجاريّة والمقاولين ورجال الأعمال، لا من طبقة العمال والفلاحين، لأنّ كثيراً من الأثرياء الجدد يتأففون من منظر الفلاحين القادمين إلى بكين.وقد قال لي أحد الطلاب ـ ينتمي إلى أسرة ثريّة يعمل الوالدان فيها في الشركات الخاصّة ، بكثير من الاستعلاء والطبقية ، وبينما كنّا نتجوّل في منطقة(كون جون فن) ـ : إنّ الفلاحين الكثر القادمين من الأرياف إلى بكين يخلقون مشاكل كثيرة، ويسهمون في تشكيل الفوضى والزحام والتلوّث، بالإضافة إلى أنّ مناظرهم الريفية تسيء إلى الوجه الجمالي المديني والسياحي لمدينة بكين . وقال لي صديق صيني آخر، وبينما كنّا نتجولّ وعندما شاهدنا بائع أوراق اليانصيب: إنّ الحياة حظوظ ، وهنيئا لمن يحالفه الحظّ ويربح جائزة اليانصيب. وذكر أنّ عاملاً صينياً ربح قبل عامين ثلاثين مليون يواناً صينياً، وصار الآن رجلاً مهماً ومرموقاً ومن كبار رجال الأعمال، وقال بالحرف الواحد : (( ولم يكن يساوي حتى بصلة عندما كان عاملاً)). فالعامل الذي قامت على كتفه ثورة ماو تسي تونغ، غدا لا يساوي حتى بصلة في ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح. ومن خلال رأي هذا الصديق الذي يعبّر عن كثير من قناعات الصينيين المعاصرين يمكن أن نلمس مدى تدني طبقة العمال في الصين المعاصرة في التراتب الطبقي مقارنة بما كانت عليه أيام ماو تسي تونغ، ومدى النزوع الشديد لدى جماهير الصين إلى الثراء الفاحش، واختزان الأموال واستثمارها، ففي عهد ماو تسي تونغ (( كان الرجل الصيني التقليدي يخجل من أن يذكر المال في حديثه، أو يبدي اهتماماً به في ظلّ المفاهيم التقليدية. ومن يبدي اهتماماً بالمال يستخفّ الناس به ويحتقرونه، أمّا الآن فقد ظهر اهتمام قوي بالكسب السريع، والتفنن في الملذّات الشخصيّة من شراب ورقص وخمور وطعام وجنس))، كما أكّد لي  الأستاذ الدكتور شريف شي سي تونغ الذي كنت أعمل معه في شعبة الدراسات العليا في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين .
وأصبح المال في المجتمع الصيني المعاصر غاية الغايات، وإلهاً وسيداً مطاعاً، وأخذ كثير من أبناء الجيل الجديد يدخلون الجامعات لا رغبة في المعرفة والتحصيل العلمي، وتوسيع آفاق العقل وقدراته، والإسهام في بناء الصين الحديثة، وعصرنتها، بل أملاً في الحصول على الوظيفة في الشركات الخاصة التي تدرّ الأموال الكثيرة . وقد حاورت طلبتي في الجامعة وسألتهم: هل تفضّلون الحصول على الوظائف الرسمية في الدولة أم على وظائف الشركات الخاصّة، والأجنبية العاملة في الصين، فأكدوا جميعاً أنهم يفضّلون العمل في شركات القطاع الخاص، والشركات الأجنبيّة لأنّ رواتبهم تتراوح في هذه الشركات ما بين 4500 يوان إلى 8000يوان، في حين أنها لا تتجاوز 2500 يوان في شركات القطاع العام ومؤسساته. وحاولت جاهداً أن أقنع الطلبة المتفوّقين، ـ طلاب السنة الرابعة ـ  والذين يتقنون اللغة العربيّة إتقاناً جيداً أن يتابعوا دراساتهم العليا في الأدب العربي ليزدادوا فهما ًله، وتذوّقاً لقيمه الجماليّة،والإنسانيّة العالية، لكني عبثاً ما حاولت ـ باستثناء طالبة واحدة أبدت رغبتها الشديدة بمتابعة دراساتها العليا، لأنّها زارت كثيراً من دول الوطن العربيّ، فوالدها ثريّ يعمل في التجارة ، وهي ليست بحاجة للدخول مبكّراً في سلك الوظيفة ـ  فهؤلاء الطلاب مقتنعون تماماً كما أكّدوا لي أنّ الدراسات العليا في الأدب العربي لا جدوى منها، لأنها  لا تسهم في الكسب والثراء السريع، ولا تعطي الفرد وظيفة مرموقة توصله إلى علية القوم، فالحكومة الصينية لا تولي كبير الاهتمام بخريجي أقسام اللغة العربية في الجامعات والمعاهد الصينية التي تدرّس اللغة العربية. بل تسعى في جميع توجهاتها السياسية والاقتصادية والبحثية إلى كسب المال وبأقصر الطرق ، وبشتى الوسائل , ولا يهمها إن كانت هذه الوسائل في المطاف الأخير تهدف إلى إسعاد الناس أو تعاستهم، وزيادة تحميلهم ما لا يطيقون.
         وفي هذه الأيام، وفي ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح,  سعت الحكومة جادة لجمع المال من المواطنين الصينيين ومن السياح الأجانب،وذلك بفرض الضرائب، وفرض الرسوم الماليّة على زائري المناطق والحدائق السياحية في جميع أنحاء الصين،فليست هناك في الصين حديقة عامة واحدة يستطيع أن يدخلها أي زائر ـ سواء أكان صينيا أم أجنبيا ـ إلاّ بعد أن يدفع رسوما مالية لإدراة الحديقة، وهناك بعض الاستثناءات الطفيفة ، إذ تمنح بطاقات حمراء خاصة لأعضاء الحزب الشيوعي البارزين، يتمكنون بوساطتها من دخول هذه المعالم والحدائق السياحية. مع العلم أنّ رسوم الدخول إلى هذه الأماكن السياحية ليست قليلة مقارنة بمداخيل المواطنين الصينيين. فعلى سبيل المثال يبلغ رسم الدخول إلى القصر الصيفي في بكين (30) يواناً، وإلى حديقة بيهاي (20) يوانا، وإلى حديقة الحيوان (25) يواناُ، وإلى الجبل العطري( 20) يواناً، وإلى سور الصين العظيم( 45) يواناً، وإلى مقرّ اتحاد الكتاب الصينيين عشرة يوانات، وهكذا. وتسهم هذه الرسوم إسهاماً كبيراً وواضحا في ثراء خزينة الحكومة، وبخاصة إذا عرفنا أنّ عدد زوار هذه المعالم كبير جداً، وأنّ هؤلاء الزوار يأتون من أنحاء الصين كافة. ومن جميع أنحاء العالم أيضا . ولا تتوانى الحكومة الصينية ـ دعما لسياسة الكسب السريع ـ في أن تفرض الضرائب حتى على العاهرات بائعات الهوى، وقد حدّثني غير شخص في بكين أنّ الدولة بين حين وآخر تشنّ حملات مداهمة ضدّ العاهرات في منازلهنّ، وفي الفنادق بمختلف درجاتها، وبخاصة في أيام الأعياد، وتقبض على عدد كبير منهنّ، وتقتادهنّ إلى السجون، وسرعان ما يفرج عنهنّ لقاء ضرائب مالية تتراوح بين (500) يوان إلى (2500) يوان.
وأملا في زيادة الكسب السريع والكثير من عائدات السياحة المزدهرة جداً في   الصين , فإنّ الحكومة الصينية ذات التوجه الميكيافيلي المعاصر لا تسمح للأجانب بالمبيت في الفنادق غير الراقية و رخيصة الأجرـ التي لا تحمل نجوما ـ  ، والغاصة بالعاهرات ومروجي المخدرات,  لأنّهم سينقلون ما يشاهدونه من أمراض وعيوب إلى شعوب بلدانهم، وصحافتها من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ ما يدفعونه من أجور سيكون قليلا مقارنة بما سيدفعونه في الفنادق الراقيّة الفخمة، ـ ذوات الخمس نجوم أو الأربع ـ  ولا سيما أنّ الحكومة الصينيّة حريصة كلّ الحرص على أن يبقى وجهها لامعاً نظيفاً أمام الرأي العام العالمي، وحريصة أيضاَ على أن تستدرَ أكبر قدر من الأموال إلى خزينة الدولة. وهذا لا يعني أبداُ خلو فنادق الصين الفخمة و الراقية التي تماثل أجمل فنادق العالم الأوروبي وأرقاها من بائعات الهوى، فمثل هذه الفنادق المنتشرة في جميع المدن الكبرى والسياحية غاصّة بالعواهر القادمات إليها من جميع أرجاء الصين، وهي أكثر أماناً لطالبي الجنس وبائعاته، وأقلّ تعرضا لمداهمات رجال البوليس، ورقابة رجال السلطة، إذ1 ما قارناها بالفنادق الرخيصة. ويؤمّ هذه الفنادق الراقية كبار رجال الاقتصاد والسياسة والمجتمع والتجارة والمال من صينيين  وأجانب سواء أكانوا تجارا أم رجال سلك دبلوماسي عربي أو أجنبي . ليلتقوا بأجمل النساء اللواتي يتمتعنّ بمواصفات جمالية متميّزة ومثيرة, وعلى درجة عالية من الجاذبية واللطف ، والقدرة على جذب الزبائن الممتلئين ثراء ونفوذا.
وقد حدّثني  أستاذ أمريكي، ( يحمل لقب بروفيسور) ،وبينما كنّا نتجول في شوارع بكين عن انطباعاته وآرائه في المرأة الصينية  المعاصرة ، وقال: أنا لا أحضر إلى الصين رغبة مني في العمل بجامعاتها، ورواتبها الهزيلة، فأنا أستاذ في جامعة عريقة في أمريكا، وأتقاضى راتباً وقدره ( 7500)  دولار أمريكي، بينما في الصين لا يتجاوز راتبي الشهري( 450) أربعمائة وخمسين دولارا أمريكيا، لكنّ ما يشدّني إلى الصين هو نساؤها العبقات الشهيّات المليئات بالجنس والشهوة، فلقد ذقت مذاق الصينيات بدءا من نساء تايوان إلى نساء هونغ كونغ إلى ضاليين إلى شانغهاي إلى كانتون إلى نانجين، وصولا إلى نساء بكين فائقات الجمال. إنّ للمرأة في الصين مذاقاً خاصاً لا يمكنك أن تنساه أبداً، فالمرأة في الصين تصبح سيّدة عظيمة عندما ينتصف الليل(gran lady). وعندما سألته: كيف استطعت أن تجذب هذا الكمّ الكبير من الصينيات؟ أكّد قائلاً: إننا نحن الأمريكيين محبوبون في الصين من النساء أكثر من العرب، ومن جميع الجنسيات الأخرى، لأننا نمثّل في نظر الصينيات الدولة العظمى، والشعب الأكثر تفوقا علميا وتكنولوجياً. وأكّد أنّ الدولار قادر على فعل العجائب في دولة فقيرة كالصين.وأنه ينفق كل شهر على نساء بكين وعلى صديقاته اللواتي يأتين خصيصا إليه في نهاية الأسبوع من شانغهاي وضاليين وكانتون جميع ما يتقاضه من الجامعة وهو ( 450) دولاراً، بالإضافة إلى ( 3500) دولار تأتيه شهرياً من أمريكا، وهي قسم من راتبه الشهري هناك، وأنّه يعمل مستشاراً في إحدى الشركات الأمريكية التجارية العاملة في الصين، وأنّ هذه الأموال الكثيرة التي تأتيه تجعله قادراً على اختيار أجمل حسناوات الصين واللواتي لا يتجاوزن ثلاثين عاما. وعندما سألته: لماذا لا تختار صديقة أمريكية في بكين ـ والنساء الأمريكيات في بكين كثيرات جداً ـ؟ . أكّد:أن المرأة الأمريكية قاسية جداً ولا تسبب للرجل إلاّ الأحزان العميقة ، وأعتقد أنّ الأحمق هو الذي يختار امرأة أمريكية طالما هو مقيم في الصين، وغارق بكلّ هذا الجمال الخرافي. وأكّد لي : أنّ المرأة في بكين أكثر جمالاً، وأنظف جسداً، وأكثر تهذيباً، وأشدّ شبقاً مقارنة بالمرأة الأمريكية، فالأمريكية باردة ومغرورة وغبيّة، وأقلّ نظافة وذكاء من الصينيّة، وهمّها الأول معاندة الرجل وإيذاؤه. وبهذا الصدد يذكر الكاتب المصري إبراهيم نافع في كتابه الموسوم بـ : (( الصين معجزة نهاية القرن العشرين))،: » أن نساء الصين لا يقنعن برجل واحد في حياتهنّ، ويفضلن تعدد العشاق(...) وأنّ شراء امرأة صينية أمر يسير جداً لا يكلف سوى 350 دولاراً. وتنتشر في الصين ظاهرة خطف السيدات وبيعهنّ وتشغيلهنّ في الأعمال المنافية للآداب« .
غير أنّه يمكن القول إن الرجل الصيني هو الآخر لا يقتنع بامرأة واحدة , بل يطمح إلى أن يكون له عشيقة خاصة يلتقي بها بعيدا عن عيني الزوجة , وفي كثير من الأحيان تعلم الزوجة بهذه العشيقة. ونظرا لأن المرأة الصينية لا تكتفي برجل واحد في حياتها الجنسية , فقد ظهر حديثا في الصين مصطلح يطلق عليه الصينيون : ظاهرة الشخص              الثالث  Third person )) ، ويعنون به: ( عشيق الزوجة ) ، وهذا العشيق يعمل على تفتيت الأسر الصينية الحديثة, ويؤدي في أحيان كثيرة إلى الطلاق , بعد أن صارت المحاكم الحديثة في الصين تسمح به , وتجيز انفصال الزوجين ، مع العلم أن كثيرا من الأزواج يعرفون في معظم الأحيان أن في حياة زوجاتهم شخصا ثالثا , أو عشيقا محبوبا ومقربا , لكنّهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً , وقد أكّد لي صديق صيني واسع الخبرة والثقافة ، و قدا بدا هادئا جدا، أنه مستعد لأن يترك زوجته فورا في ما إذا أعربت له عن رغبتها باتخاذ عشيق , دون أن يحقد عليها أو يذرف عليها دمعة حزن واحدة . ويمكن القول إنّ السبب الرئيس في وجود هذه الظاهرة هو الغزو الثقافي الأمريكي، وما يتبعه من أفلا م جنسيّة ومخدّرات،وموجات التحرر الجنسي،بالإضافة إلى شبكات الإنترنت العالميّة التي تسهم في سرعة لقاء الرجال بالنساء، عن طريق غرف الدردشة والتعارف الموجودة في هذه الشبكات. لأن هذه الظاهرة لم تكن موجودة في ظل سياسة ماو تسي تونغ , بل هي وليدة سياسة الانفتاح صوب أمريكا.  غير أنّه يمكن القول إنّ هذه الظاهرة ـ ظاهرة الشخص الثالث ـ ليست مقصورة على الصين وحدها، بل هي ظاهرة عالميّة موجودة في معظم المجتمعات الإنسانيّة، وقد كانت موجودة في المجتمعات الإسلاميّة: الأمويّة والعباسيّة. ومن يقرأ حكايات ألف ليلة وليلة جيداً سيلاحظ هذه الظاهرة في غير حكاية من حكاياتها. وعلى كلّ حال فإنّ الإباحيّة الجنسيّة في الصين، وظاهرة الشخص الثالث، هي أقلّ انتشاراً عمّا هي عليه في أمريكا والدول الأوروبيّة الصناعيّة، وبعض الدول الإفريقيّة والآسيويّة الأخرى، وتبقى نسبة عالية من النساء الصينيات على قدر كبير من الإخلاص لأزواجهنّ، والشرف والعفّة، والوفاء لمواثيق الزواج وقوانينه الأخلاقيّة، وربّما يعود ذلك إلى رواسب الثقافة الصينية التقليديّة، وبخاصّة الكونفوشيوسية والبوذيّة اللتين تنظران إلى الجنس الذي يحدث خارج إطار العلاقات الزوجيّة على أنّه من المحرّمات الخطيرة التي يعاقب عليها الآلهة عقاباً شديداً.
          ويسهم بعض رجال السلطة في الصين في تعهير النساء ودفعهنّ إلى طريق الرذيلة ، غير هيابين ، أملاً في كسب المزيد من المال ثمّ الوصول إلى قمّة الثروة والشهرة، إلاّ أن الحكومة الصينية في هذه الحال تكون قاسية مع هؤلاء الذين يستغلون نفوذهم الشخصي ومراكزهم الوظيفية، ومناصبهم في الحزب الشيوعي الصيني، فعلى سبيل المثال حكمت المحكمة في مدينة شنزين الصينية على 82 رجلاَ من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني بقضاء نصف سنة في الإصلاحيات لإعادة تأهيلهم، ثمّ جردتهم من عضويتهم في الحزب الشيوعي، لأنهم أدينوا بتهمة رعاية البغاء ، وتسهيل عمل العاهرات.
         وفي ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح عادت إلى الصين موبقات كثيرة مثل الدعارة والمخدرات والمقامرة، هذه الموبقات التي كانت قد قضت عليها الثورة الشيوعية بقيادة ماو تسي تونغ، والتي تولت السلطة في عام 1949م.
         وفي هذه الأيام غصّت شوارع بكين  بالعاهرات، وبخاصّة في الأحياء الفخمة والراقية التي يقطنها الدبلوماسيون الأجانب، والتجار، وأصحاب الشركات التجاريّة من أثرياء القوم وعليتهم. وأقدمت العاهرات من المدن الأخرى على النزوح إلى بكين محطّ الثروة والمال والتجارة والسياسة، وبأعداد كثيرة، واكترين المنازل في بكين، وأسهمنّ إلى حدّ كبير في ارتفاع أجور الكراء، هذا مع العلم أنّ هذه الأجور من أعلى الأجور في مدن العالم، إذا ما قارنّا دخل المواطن الصيني بدخل المواطن الأجنبي في هذه الدول ؛ فبكين مدينة ثريّة جداً، وبطرة وشاسعة، وأسعارها مرتفعة جداً إذا ما قارنّاها بأسعار المدن الصينية الأخرى ، ونستثني من ذلك مدينتي هونغ كونغ و شانغهاي، حيث تكثر الشركات التجاريّة ورؤوس الأموال والمستثمرون الأجانب في هاتين المدينتين.
 وقد أسهم ثراء بكين وكبرها، وكونها  عاصمة سياسية ومركزاً سياحياً متميزاً بين المراكز السياحية المهمة في العالم، في جذب بائعات الهوى من مختلف المدن الصينية. وقد أسهمت طالبات الجامعات الكثيرة في بكين، إلى حدّ كبير في نشر الفساد والبغاء، فقد قدمت هؤلاء الطالبات من مدن عديدة إلى بكين للنهل من المعارف والعلوم العديدة في جامعاتها التي تعدّ أكثر عدداً من أيّ الجامعات الموجودة في أيّ  عاصمة عالمية أخرى، ففي بكين    وحدها( 68) جامعة، وما إنّ وصلت هاته الطالبات  إلى بكين, وانخرطن في حياتها، حتى جذبتهنّ أضواء الملاهي والمراقص، والمتاجر الفاخرة، والفنادق الفخمة، والمطاعم الراقيّة، ورياح الثراء الجديدة التي هبّت قادمة مع سياسة الإصلاح والانفتاح، وغدت هذه الحياة حلماً جميلا من أحلامهنّ الكثيرة المتألقة، وما كنّ بقادرات على تحقيق هذه الأحلام، بسلوك السبل الشريفة، فاضطررن ّ صاغرات إلى سلوك طريق الدعارة، وما تدرّه عليهنّ من أموال تسهم في تحقيق بعض أحلامهنّ.
         وبالإضافة إلى انتشار ظاهرة الدعارة في بيوت عاهرات بكين السريّة ،وفنادقها, وبيوت النساء القادمات إلى بكين تسترت هذه الظاهرة تحت غطاء مهن أخرى كالحلاقة والتدليك، فنظراً لأنّ أجرة محلات الحلاقة في بكين مرتفعة جداً تفوق مداخيل الحلاقين ومعظمهم من النساء الشابات الجميلات، أضطرّ أصحاب صالونات الحلاقة ، ومعظمهم من السيدات، وحتى يغطوا أجور هذه الصالونات إلى تخصيص غرفة سريّة في كل صالون حلاقة لتدليك الزبائن ، تمهيداُ لإغوائهم جنسياً، وذلك أملاً في الكسب السريع والكثير، فعندما يتقدّم الزبون إلى الحلاّقة تستقبله بلطف كبير، وتبدأ عملها موجهة له مزيدا من العبارات الرقيقة، وعندما ينتهي تغسل له شعره، وتهمس في أذنه سائلة إن كان يريد مسّاجاً ممتازا، يزيل عنه متاعبه، وتطلب منه مقابل ذلك (500) يوان في بداية المساومة، ثمّ تنتهي المساومة، وتعلن الحلاقة: أنّ مائة يوان هي آخر الكلام.ولأنّ معظم الأجانب في الصين لا يعرفون اللغة الصينية، فإنّ بعض هاته الحلاّقات تطلب من المرافقين الصينيين لهؤلاء الأجانب أن  يترجموا لهم، ويغروهم بالمغامرة، واكتشاف فن التدليك الصيني، وخبرات مدلكاته المتميّزة، غير أنّ قسماً كبيراً من هؤلاء الحلاقات تدربنّ بمهارة على إتقان فنون الغزل والمجاملة باللغة الإنكليزية، التي تساعدهن مساعدة كبيرة على إقناع الزبائن بجمال التدليك ومتعته التي لا تنسى.
وليست حلاقات بكين هنّ اللواتي يغرين زبائنهنّ بالتدليك فقط، بل يلاحظ أنّ النساء في الشوارع الراقية يمارسن العمل نفسه. فعندما كنت أمشي بصحبة صديقي الأديب والمترجم محمد عبد الكريم الأستاذ في جامعة بكين، في أحد شوارع حي سانليتون، وهو الحي الذي تتركّز فيه معظم السفارات الأجنبيّة العاملة في الصين، وإذا بامرأتين جميلتين تتقدّمان إلينا مبتسمتين، وتسألان في ما إذا كنا نحتاج إلى مسّاج ممتاز، وعندما قلنا لهما: إننا فقراء وغرباء في بكين، ولا نملك أموالاً. قالت إحداهنّ بالإنكليزية: (( إنّه مساج جيد جداً وبمائة يوان فقط)). وقالت الأخرى: (( أنا أقبل بخمسة وسبعين يوانا)). وعندما اعتذرنا قالت الأولى : خمسون يوانا فقط , هيّا تعالوا.
          وقد أسهمت المراقص والنوادي الليلة الموجودة بكثرة في شوارع بكين الرئيسة والفرعية , إلى حدّ كبير، في الانفلات والتحرر الجنسي , فالرجال طالبو الملّذات والاستمتاع بالأجواء الحمراء , يرتادون هذه الملاهي بكثرة, حتى أن زائر الصين يلاحظ أن هذه المراقص زحفت من الشوارع الرئيسة إلى معاقل الجامعات, ففي أماسي يومي الجمعة والسبت تغص هذه المراقص بالطلبة الجامعيين وغير الطلبة أحيانا, ليشعلوا حفلات الرقص الأجنبي ويتبادلوا الأنخاب, وكثيرا ما تنتهي هذه الحفلات بالقبل والعناق , وربما الجنس , وعلى كل حال فإن الرجل الصيني والمرأة الصينية لا يجدان أي حرج من أن يلتحما ببعضهما بحرارة في الحدائق العامة والشوارع ومواقف الأوتوبيس , وداخل سيارات الأوتوبيس, ودور السينما والملاهي والمسارح والمطاعم , والبارات ,  دون أن يثير حفيظة أي أحد , أو استهجان أي أحد ، سواء من الناس العاديين أو من رجال الأمن والشرطة المزروعين بكثرة في شوارع بكين . 
 وإذا كانت بطاقات الدخول في مراقص الجامعات وبعض أحياء الصين مقبولة نسبياً، فإنها تصبح غالية جداً في المراقص والملاهي الليلية الفخمة. ومن الملاحظ أنّ هذه المراقص الفخمة ليست أماكن للرقص والشراب فقط، بل هي فضاءات أليفة لعقد صفقات الجنس . وقد صرّح لي بذلك غير صديق في الصين، فبينما كنت أمشي مع صديق صيني يتكلّم العربية بكثير من الاعوجاج، بجوار جامعة الدراسات الأجنبية في بكين، وإذ بنا نمرّ أمام بناية فخمة، مزيّنة بأضواء برّاقة كثيرة، وبيافطة حمراء عريضة مكتوبة باللغة الصينية، وكانت هي المرّة الأولى التي أشاهد فيها هذه البناية، وسألت الصديق: هل هي شركة تجارية أم سوبر ماركت أم مطعم؟ فقال: إنّ بها ملهى ليلياً، وهو من أكبر ملاهي بكين وأفخمها، وحدّثني كيف دخله ذات ليلة بصحبة صديق له ثري جداً كان قادماً من مدينة كانتون،وأوضح لي أنّ الذين يدخلون هذا الملهى هم أثرياء الصين وتجّارها، ولا مكان فيه لأبناء الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى لأنّ تكاليف دخوله تتراوح بين 600 يوان إلى 2500 يوان، وأحياناً تصل إلى 4000يوان صيني. وتساءلت عن سرّ هذا الاختلاف في تكاليف الدخول، فأكّد لي أنّ في الملهى نساء جميلات جداً، وعلى قدر كبير من السحر والجاذبية والأدب والظرف، وإذا ما أراد الزبون أن يختلي بواحدة منهنّ في غرفة خاصّة، فإنّ كلً الخدمات تُقدّم له من طعام وخمور ورقص وجنس. وإذا أراد أن يشرب فقط من دون أن يأكل أو يختلي بامرأة فأنّ ذلك قد يكلّفه( 600) يوان، أمّا إذا أراد أن يأكل ويشرب ويلمس جسد المرأة التي يختار مجالستها ـ ويبدو أنّ التركيب اللغوي في العربية لم يسعفه لأن يقول مثلاً : من دون أن يضاجعها أو يمارس الحبّ معها، فقال بالإنكليزيّة : ( without sex. Only touch)، فإنّ عليه في هذه الحال أن يدفع ما  بين ( 1000 ) و( 1500) يوان. وعلى كلّ حال فإنّ لكل امرأة في هذا الملهى سعرا خاصا بها،وهي التي تفرضه على من يجالسها، من دون أن يتدخل مدير الملهى في تحديد هذا السعر. وذكر لي: أنّ من يريد أن  يتعاطى الحشيش والأفيون في هذا الملهى يستطيع ذلك، بوساطة المرأة التي يجالسها، إذ تُحضر له جميع ما يشاء، ومن يرد أن يقامر فإنّه يستطيع أيضاً، لأنّ هناك صالة كبيرة في هذا الملهى خاصّة بلاعبي القمار من الرجال والنساء، وتغصّ هذه الصالة بالنساء الجميلات العاملات في الملهى، واللواتي يكنّ رهن إشارة المقامرين الأثرياء.
-----------------------------
د. محمد عبد الرحمن يونس
أستاذ سابق بجامعة صنعاء باليمن
و جامعة الدراسات الأجنبية في بكين/ الصين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق