الرصيف، هذا الذي لا يملأ عين أحد، في بلادنا، يمكن أن يكون نصّاً قابلاً للقراءة. الوجود نصّ، والرصيف مقطع دالّ من هذا الوجود. الفكرة ليست من عندي. كان الجاحظ لا يعترف بوجود مهمل، بوجود لا معنى له، بوجود دالّ لا يضمر مدلولا. اليس هذا ما تقوله عبارته المأثورة: " المعاني مطروحة في الطريق"؟ والرصيف هامش الطريق، الطريق متْن، والرصيف ملاحظات على هذا المتن، ملاحظات تشكّل حواشيه وشروحاته. الأرصفة جزء من المدن، بل ان أي مدينة لا تحلو ولا تتنفس إلاّ بالأرصفة، فهي رئة الشوارع ومتنفّس الناس. والشوارع بلا أرصفة أشبه بنصّ خال من النقاط والفواصل أي من "علامات" الترقيم ، إذ كما للبحار شطآنها، وللمنازل شرفاتها، وللجبال وديانها ومنبسطاتها كذلك للشوارع أرصفتها. وعليه فمن الطبيعيّ أن يكون للشوارع أرصفة نطلّ منها على حركة الحياة الخافقة. إلا أننا في بلادنا لا نحترم الأرصفة كما لا نحترم أشياء كثيرة. في أيّ حال، حتّى بعض ما يوطأ بالأقدام يستحقّ شيئا من الاحترام إذا ما انتبهنا، في الأقلّ، للمعنى الظاهر في بيت أبي العلاء المعرّي:
خفف الوطء، ما
أظنّ أديم الأرض الاّ من هذه الأجساد
ألا يمكن اعتبار علاقتنا مع الرصيف تشبه إلى حدّ ما
علاقتنا مع ذاتنا؟ كيف هي هذه العلاقة؟ الا يكفي تجوال النظر في الأرصفة لتبيان
دلالة وارية طوراً ومتوارية طورا آخر. الأشياء تحكي، ومن يظنّ ان الاشياء لا تحكي
عليه ان يشكّ بعينيه وأذنيه وجملة حواسّه التي أيبسها الخدار. هذا ما تقوله
السيمياء التي تنقّب عن الكلام المضمر في الأشياء، وتستحلب المعنى المخبوء. من هنا
، فيما أظنّ، أعتقد ان قراءة علاقتنا مع الرصيف يمكن ان تثمر وعياً باللامفكّر فيه
وتبني علاقة مترامية النظر مع الرصيف.
الرصيف ليس مجرّد رصيف، من يتأمّل مفرداته يجدانها تنتمي
الى اكثر من حقل دلاليّ. جزء منه ينتمي الى عالم الطبيعة، واقصد الشجر النابت من
تضاعيف الأرصفة. من يتوقّف عند بعض الشجرات يمكنه ان يتناول بعد النظر وقصر النظر.
لا اقصد قصر نظر الشجر وانّما قصر نظر زارع الشجر. كيف؟ الرصيف ينتمي الى عالم
الجماد بخلاف الشجرة التي تنتمي الى عالم النبات. نلحظ صراعا بين الجامد
والمتحرّك. الأشجار في بعض المطارح فلّعت وصدّعت الأرصفة، مزقت جسد الرصيف. هل
الحقّ على الشجرة؟ هل تلام الشجرة لأنّها تمرّدت على الاغلال الاسمنتية ومزّقت
اوصالها؟ لا مفرّ من الاعتراف ببراءة
الشجرة! فهي بريئة مما اقترفته جذوعها أو جذورها، حيث نجدها تزيّن بعض الأرصفة و
قد خرجت جذورها على سطح الرصيف ففلّعته أو أن جذوعها، بعد أن أمدّ الله في عمرها،
قد خرجت عن الإطار المحصورة فيه، وللشجر كما للبشر حقّ التمرّد على الأقفاص الآسرة.
ألا يعلم راصف الرصيف أن لا شيء يبقى على ما هو عليه في هذه الدنيا بما في ذلك
الأشجار التي تزرع نحيلة الجذع ثم تأخذ حقّها الطبيعيّ في النموّ؟ أليس من بؤس
البشر ان يكون الشجر أبعد مدى من نظر البشر؟ بمقارنة بسيطة يخرج من هذا الدالّ(
تفلّع الرصيف) مدلول ( معنى) وهو ان الاطار لم يحسب حساب نموّ الشجرة.
"الإطار ناتجٌ ثقافيّ لا طبيعيٌّ". هل كان من المطلوب ان تلفت الشجرة
نظر زارعها الى احتياجاتها المستقبليّة المتزايدة من الفسحة الترابي؟ ولكن ماذا
استنتج من المدلول الأوّل؟ وهل المدلول الأوّل
( تفلّع الشجر) غير دالّ لمدلول
ثانٍ يضمر معنى (قصر نظر زارع الشجر)؟
أنتقل الى فقرة
أخرى من نصّ الرصيف. الا وهي هذه العلاقة العجيبة الغريبة بين المشاة والسيارات
والشوارع حيث يختلط حابل الأمور بنابلها، فيتّخذ الماشي من الشارع رصيفا له طورا
إما لعدم وجود رصيف - وهو هنا معذور، إذ الضروريّ بحسب المأثور، يبيح المحظور -
وإما لأنّ السيارات التهمت الأرصفة فلم يبق موطىء قدم للمشاة. الا يستحقّ تبادل
الادوار بين الرصيف والشارع الانتباه والدرس؟ اعتداء متبادل، السيارّة تحتلّ حيّزا
من رصيف المشاة، والمشاة ينتهكون حيّزاً من حرمة السيّارات.
وأعجب العجب طريقة تزفيت الشوارع التي تفرّخ الفواجع حيث
نراها تقضم، مع كلّ تسويد جديد، من علوّ
الأرصفة شيئا فشيئاً، وإذ بالرصيف في بعض الأماكن من فرط ما زفتت الطرقات! انخفض
عن مستوى الشارع انخفاضا قاتلا، بكلّ ما يحمل من مخازن أو حتى أماكن أثرية، كما في
أحياء كثيرة في المدينة، مما يغري في بعض الأماكن مياه الأمطار إلى الدخول براحة
كارثية إلى داخل بعض المحالّ التجارية.(أعود هنا الى المتن والهامش، لألحظ ان
الهامش صار متنا ، والمتن صار هامشا!)
وكان من جراء ذلك أن ذهب من يبني حديثا إلى اتخاذ إجراءات واحتياطات، من
غدرات التزفيت، كأن يزيد من ارتفاع الرصيف
ارتفاعا أعلى من راحة الأقدام، وهو بهذا يضرب عصفورين بحجر واحد: يدافع عن نفسه من
احتمال احتلال الرصيف من قبل السيارات التي تضيق بها الطرقات، ويحتاط من تزفيت
جديد سوف يأتي لا محالة. ولكن نتج عن ذلك أنّ سائق السيارة قد يجد نفسه اسير
سيّارته لانه لا يصير بمكنة الباب ان يفتح حين تصفّ السيّارة بموازاة الرصيف بسبب
علوّه الذي يمسك بتلابيب الباب ممّا يجعل السائق مجبرا على ابعاد السيارة عن
الرصيف ليتحرر من داخلها مع ما يسببه ذلك من احتمال تعرض السيارة – لضيق الشوارع-
من احتكاك مع سيارة مارّة مما يعرض طلاء السيارة للخدش وإثارة غيظ صاحب السيّارة ،
غيظ مادّي. من المسؤول؟ السيارة العابرة ام الرصيف النافر؟
انتقل الى فقرة ثالثة في صيغة سؤال؟ لماذا يسير المشاة
في الشارع وليس على الرصيف؟ هل من علاقة في ذلك بين الضوء والرصيف؟ هل يمكن تغييب
انقطاع الكهرباء عن انقطاع الناس عن عادة المشي على الرصيف؟ قد يقول قائل وما
علاقة عتمة الطريق بالسيارة؟ الفت نظره
الى ان السيّارة تقوم بدور تعويضيّ عن غياب الضوء. أضواء السيارة تكشف الطريق امام
عيني الماشي في ليلة انكسر فيها ضخّ الكهرباء الرسميّ. صارت اضواء السيارة اشبه
بالموّلدات الكهربائية التي تقوم مقام شركة تأمين أو تقنين! الكهرباء.
واشير اخيرا الى الشرذمة الرصيفيّة، ليس هناك امتداد
متناغم للرصيف، كلّ قطعة بحجم او لون او شكل، انها اشبه بلباس البهلوان الرقيع على
شاكلة وطن مرقّع بنظام طائفيّ.
هل الترقيع فقط في الألبسة؟ يمكن ان نراه في الأرصفة، في
الشوارع، في الأنظمة. الترقيع سمة من سمات الأرصفة فهي أشبه بمسوّدة نصّ لا
مبيضته. للمسودّة اهميّة حين تكون للمبيضة اهمية، لم تأت اهميّة مسودات كتاب :
" البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست مثلا من "مسوّديتها"
وانما من قيمة مبيضتها! لا اقول ان ما قلته هو تفسير حرفيّ للرصيف، أو أنّه تفسير وحيد استنفد الدلالات.
النصوص، كلّ النصوص، لا تؤمن بأحاديّة الدلالة، انها على
قولة السيميائي الايطالي القدير امبرتو ايكو" نصوص مفتوحة" oeuvres ouvertesمع الاخذ بعين الاعتبار
لـ"حدود التأويل" كما يقول ايكو، ايضا، في كتابه:" Les
Limites de l'interprétation" الذي يفصّل فيه حدود
التأويل.
بلال
عبد الهادي