النحت اللغويّ
لا يستهوي اللغة العربية كثيراً بسبب وجود بديل لغويّ حيويّ ذي
مقدرة فذّة على توليد الكلمات وهو الاشتقاق. والاشتقاق خصيصة من أهمّ
الخصائص اللغوية التي تتمتّع بها اللغات الساميّة. وكان الراحل عبد الله العلايليّ
قد فصّل هذه الناحية في كتابه الفذّ " مقدمة لدرس لغة العرب"، ولكن هذا
لا يعني عدم قدرة العربية على استخدام مخزونها الاحتياطيّ من النحت اللغويّ.
هنا سأتناول
طواعية العربية وقدرة معدتها على هضم النحت. فهو أي النحت، في أي حال، موجود منذ
زمن بعيد، ومن اللغويين من يعتبر النحت أصل الجذور العربية الثلاثية والرباعية
والخماسية، ولكنه، اليوم، يشبه الخلايا النائمة، ولا أحد يعرف متى أو كيف يستيقظ
من نومه العميق، فقد تكون حالته شبيهة بحالة الأميرة النائمة.
سأتناول النحت
من خلال كلمة إنكليزية هي : بكسل" التي عبرت اللغات بفضل الحاسوب، والهاتف
المحمول، والانتقال في فنّ التصوير من الفضّي إلى الرقميّ الذي اختلف في جوهره،
فصارت الصورة تتعامل مع البكسل.
والبكسل غيّر من
طبيعة الصورة ومن طبيعة التصوير، وكان ما يعرف بالـ " فلو flou" أي عدم وضوح
الصورة خطأ تصويريا استثمره بعض كبار التصوير في توليد بورتريهات رومانسية تشبه
غباش الحلم الملفّع بالضباب، وكان البعض يتقصد " الفلو" ضمن مقدار معيّن
لتوليد جمالية خاصة، وما عدت أذكر اسم ذلك المصوّر الاميركي الذي أدهش العالم
بصوره " الفلو" الضبابية الحالمة الممتعة للناظر!
البكسل نقطة، ولكنّه
عمليا وفعليا ليس نقطة، الانتقال الى العالم الرقمي ربّع الدوائر، فالبكسل هو أصغر
عنصر مربّع مكوّن للصورة، وهو من حيث المبدأ لا يرى لضآلة حجمه وإن كنت ترى أثره،
ولكن يكفي تكبير أي صورة على شاشة الحاسوب مهما كانت نقيّة، وواضحة لتظهر على سطح
الصورة تلك المربعات الملوّنة التي تتكوّن من تراصفها الصورة!
وكلمة بكسل pixel ليست كلمة قديمة، فهي كلمة
انكليزية منحوتة من كلمتين ، هما: picture و element
،
أخذ قسم من الكلمة الأولى pic التي تحوّلت إلى pix شكلاً مع الحفاظ
على النطق، وقسم من الكلمة الثانية هو el فصار عندي كلمة
جديدة.
النحت، هنا، يلعب
دور الرحم في إنجاب أولاد جدد. حاول العرب توليد كلمة منحوتة وإن بدا للناظر أنها
ليست منحوتة، والكلمة العربية ترجمت الكلمتين الانكليزيتين قبل أن يُعمل مقصّ النحت عمله، وهما: عنصر وصورة وأسفر النحت عن " عُنْصورة " بمعنى بكسل. الغلبة اليوم في الاستعمال العربيّ هو للبكسل،
ولكن لا يمكن معرفة مَن من الاثنين سينتصر فيما بعد! وهذا النحت العربيّ طريف،
وطرافته في الصاد التي نراها في " عنصر" وفي " صورة" ، ممّا يجعل المرء
لا يعرف إن كان حرف الصاد في " عنصورة" هو صاد " عنصر" أم صاد
" صورة"؟ فهنا، على قولة أهل النحو، يجوز الوجهان.
ليس هناك انتصار
حاسم في مسائل لغوية كثيرة كما في مسائل حياتية كثيرة. كلّ انتصار هو انتصار مؤقت،
وكلّ هزيمة حتّى وإن كانت ماحقة هي هزيمة مؤقتة، ومن يقلّب صفحات التاريخ بين
يديه، يعرف هذا التداول للقوّة في العالم! كم من هزيمة ماحقة
كان موّلدها انتصارات ساحقة! فالأضداد يتوالد بعضها من بعض! فهل يكتب لكلمة عنصورة" " العمر الطويل؟ الله أعلم! أعمار الكلمات بيد الله، والكلمة التي لها
عمر لا تقتلها شدّة! ما أودّ قوله هو أن كلّ إنسان يشهد في
حياته ولادة أشياء، وولادة كلمات! ونحن في عصر نشهد فيه ولادات أشياء كثيرة،
وكلمات كثيرة، فالعصر عاصف بتحوّلاته الرائعة والمروّعة!