في العربية بعض الأصوات التي يتطلب النطق بها وضع طرف اللسان بين الأسنان، وتسمى هذه الأحرف بالأسنانية، أي لا يمكنك أن تخرجها المخرج الحسن الا بأن يغامر اللسان بروحه ويضع طرفه بين الأسنان. وهي، في العربية، ثلاثة حروف: ث، ذ، ظ.
ماذا
يفعل اللسان في هذه الحالة؟ هل يترك طرفه عرضة للعضّ ؟ وكيف يأمن مكر الأسنان ؟
وهو حرف حذر ، لا يملك روح المغامرة! لم يطاوعه قلبه الثائيّ الضعيف أن يستسلم
للقدر المسنون. والأصوات كرّ وفرّ!
لقد
تراجع اللسان، من باب الاحتياط، إلى الخلف وفضّل أن تتشوه صورته المسموعة على أن
تتشوه خلقته، وتحمّل لذلك انفصام شخصه الكريم، فصار حرفين، صار تاء! وصار سينا!
وراح يلبس لكلّ حال صوتيّة لبوسها.
فثلاثة
في بعض اللهجات تتحول إلى " تلاتي"، طارت نقطة من نقاط الثاء الثلاث،
وصار في أماكن أخرى سيناً كما نسمعه في أفواه كثيرة.
لم
يزعجه أن يتخلّى عن شخصيته المنطوقة ولكن تشبّث بشكله المكتوب. المكتوب رأسه يابس
أكثر من المنطوق! ولكن هناك من يربكه صوته فيكتب كما تخرج الكلمات من بين شفتيه.
وهذا
ما يجعلنا نقرأ أحيانا كلمات ثائية وكأنّها كلمات سينيّة. كأن يكتب أحدهم "
حجر عسرة" بدلاً من " حجر عثْرة"، وها غيض من فيض الثاءات اضائعة
حقوقها على الأفواه والأقلام.
وما
يعزّي حرف الثاء هو وجود أصحاب له في أبجدية العرب تعاني معاناته، فالذال حرف
يُزال لصالح الدال أحيانا، ولصالح حرف الزاي أحيانا أخرى، والضاد مفخرة العربية
يتلاشى أحيانا تحت ضربات الدال أو تحت ضربات الظاء ، والظاء أيضا حرف يداعبه حرف
الطاء الذي يقف له بالمرصاد، وعينه على نقطته !
وهكذا
نرى على هامش الأبجدية الفصحى أبجديات عامية كثيرة تختلف في كثير أو قليل عن
الأبجدية الفصحى التي تهبّ عليها رياح اللهجات من جهات الأطلس اللغوي الأربع.
ومن
يتصفح كتب " الإبدال" أي كتب تحوّلات الأصوات والحروف يكتشف هشاشة
الأصوات أو قل سيولتها المائية، ومن هذه الهشاشة تتوّلد حروف جديدة وكلمات جديدة
ودلالات جديدة.
ديباج لغويّ
قد
ينوجد " الشيطان" في أمكنة غير متوقعة! التعريب فيه شيء من الشيطان
الرجيم أحياناً! أين الشيطان الديباجيّ؟ كيف يعثر المرء على الشيطان المتواري خلف
هذا اللفظ؟
الكلمة
كلمتان، وهذا يحدث كثيرا في عالم اللغات. حين تنتقل لغة من جوّ إلى جوّ تتغيّر
ملامح وجهها الصوتيّة أو تتغيّر أزياؤها الدلالية أو تتفتّت الكلمة الواحدة إلى
كلمتين أو تندمج كلمتان في كلمة واحدة كما حال كلمة " شاي" على سبيل
المثال. فالشاي، عربياً، كلمة واحدة. لا شيء يدلّ في ظاهر لفظها على انها كلمتان
كما " زنود الست" تلك الرقائق المقليّة المحشوّة بالقشطة والمشبعة
بالقطر. فالشاي، صينيا، هو رمزان " تشا" و " يه" ، الرمز
الأول يعني الشاي، والثاني يعني "ورقة"، توارت في التعريب الحدود
الفاصلة بين الكلمتين أو الرمزين! فالكلمة الغربية يضيع صاحبها لدى سماعها إن كان
من غير الملمّين بلغة مصدرها، وليس من الضروري أن يعرف أين بدايتها وأين نهايتها،
فيقطعها وفقا لمزاجه أو وفقا لطبيعة لغته الأمّ. أليس هذا ما نجده في مفردات
اسبانية كثيرة ذات أصل عربيّ؟
في
العربية كلمات دخيلة عديدة الواحدة منها هي أكثر من كلمة في الأصل، مثل كلمة
" ديوان" ومثل " ديباج" . وديباج كلمة شيطانية. نعرف، في
التعابير، نستعين بالشيطان لتبرير وجود شيء، وكان النابغة قديما حين لم يصدّق أن
بإمكان الإنسان أن يبني ما رأته عيناه في تدمر قد نسب الى جنّ سليمان بناء مدينة
تدمر.
وديباج
كلمتان فارسيتان تعنيان "صنع الجنّ" ! في الأصل، ثم صارا يعنيان الصنع
العجيب والنسج القشيب! أمّا كلمة ديوان الفارسية الأصل والعابرة للغات فتعني في
الأصل " مجمع الشياطين". وغالبا ما يغيب الأصل ويتوارى خلف طبقات كثيفة
من الدلالات الجديدة !
وأضيف
ما أضافه العرب على الديباج وهو التاء المربوطة في " ديباجة" لنخرج من
عالم الأزياء إلى عالم الخطاب والكلام، فيقال " ديباجة الكتاب" أي
فاتحته أو مقدّمته.
وفي
العربية تواصل ، في أيّ حال، دائم ما بين
الكلام والهندام. ألا نقول "نسيج النصّ"، وكأنّ الحبر نول ننسج به
الكلام المكتوب!
مدونّة
Blog
كلّ
انسان يدافع عن لغته بحسب استطاعته أو حسب رغبته أمام مدّ اللغة الانكليزية،
وفرنسا تشعر أنها مستهدفة من قبل اللغة الانكليزية، وتحاول جهدها أن تنتصر ولو
بالنقاط. ومن جملة ما قرأت اقتراح باستعمال فعل carneter كبديل عن
فعل bloguer وهو ما يعني التدوين على المدونة او كتابة تدوينة في البلوغ blog كما تكتب
"تغريدة" على "تويتر" مثلاً ) وهي كلمة إنكليزية منحوتة من web log ، وطريقة
نحتها طريفة فهي أخذت الحرف الأخير من كلمة web ووضعته
كبادئة لكلمة log فولدت كلمة انكليزية جديدة هي blog . وهنا
نلحظ كيف تتغير مصائر الحروف في الكلمات، فحرف "B " بين
ليلة وضحاها تحوّل من حرف كان في المرتبة الأخيرة إلى حرف له حقّ الصدارة في كلمة
لم يكن لها من قبل وجود!
ولكن
لا أحد يلعب دور الاستعمال، الاستعمال هو قضاء اللغة وقدرها. ولا يمكن لأحد أن
يتنبّأ بمصير الكلمات. القدر اللغويّ لا يستشير أحداً من جهابذة اللغة أو سدنتها،
والاستعمال اليوميّ لا يستشير أحداً فهو لا يحبّ الانتظار. والانتصار للاستعمال
مهما حاول المتشدّقون والمتنطّعون والمُتفيهقون ان يقفوا في وجه السيل اللغويّ
العرم. كلامي لا يعني ان نترك اللغة فوضى بلا رقيب أو حسيب. كلامي يعني ان نتفهم
وجهة نظر اللغة، وللغة وجهة نظر شخصية حكيمة تفوق أحياناَ حكمة لقمان الحكيم او
سليمان الحكيم أو حكمة سيبويه!
أشير
إلى أنّ الاقتراح باستخدام فعل " carneter" بدلا من فعل " bloguer " جاء
من مقاطعة كيبيك الفرنسيّة في كندا وليس من موطن اللغة الفرنسية الأم. وهذا بحد
ذاته دالّ!
فالفرنسيّة
الكنديّة تعاني الأمرّين من الإنكليزية التي تحاصرها من كلّ جانب، وتعيش الفرنسية
ذعرا يفوق عشرات المرّات ذعرها في عقر دارها الباريزيّ.