حين يحدث تطوّر ما في علم
من العلوم، فإنّ ذلك يعني أنّ تطوّراً آخر في ميدان آخر سيحدث حكماً. فالعلوم
تتلاقح، ويأخذ بعضها من بعض، ويستوحي بعضها من بعض. علم اللغة، على سبيل المثال، ترك
بصماته في مجالات متعدّدة، وبشكل طريف، في تصنيف الطعام!
هل من الممكن أن يستخرج المرء من "
الحركات" الصوتيّة، أي من الفتحة والضمّة والكسرة قاعدة غذائيّة عامّة عابرة
للحضارات؟ وما دور علم البيولوجيا في تطوير دراسة الحكاية الخرافية بل وفي تطوير
دراسة المعلّقات العشر؟ قد لا يجد المرء علاقة بين الحكاية الخرافيّة والحركات الصوتيّة
والبيولوجيا. ولكن ليس هذا ما تقوله الوقائع. فخفاء العلاقات عن الأنظار لا يعني
عدم حضورها الفاعل.
بالنسبة لعلاقة الحركات الصوتية
بالغذاء، سوف أحيل إلى عالم الإناسة كلود ليفي ستروس، وهو عالم جليل ومؤسّس ما
يعرف بـ"البنيويّة الانتروبولوجيّة". اهتمّ بدراسة الأساطير لدى الشعوب
البدائيّة، واهتمّ أيضاً بأنماط الطعام. فالطبخ نقلة حضاريّة. كانت قراءته للطعام
من منطلق أنّ الإنسان يعيش في عالمين: عالم طبيعيّ وعالم ثقافيّ. والعالم الطبيعيّ
ليس مفصولاً عن العالم الثقافيّ، فالحدود بين ما هو طبيعيّ وما هو ثقافيّ لزجة، ومتداخلة.
هذا ما أظهره كلود ليفي ستروس في دراسته التي تناولت المثلّث الغذائي بتفرّعاته
العديدة: المشويّ، المسلوق، المقليّ، المدخّن وطبعاً النيء. ولكن من أين جاءته
فكرة " المثلّث الغذائيّ"؟
التقى كلود ليفي ستروس
بالعالم اللغويّ رومان جاكوبسون، وهو من مشاهير علم اللغة. ومن هذا اللقاء ولدت
فكرة " المثلّث الغذائيّ" في ذهن كلود ليفي ستروس، وربّما ما كان لها أن
تولد لولا ذلك الاتصال العلميّ الحميم بينه وبين جاكوبسون، ولهذا العالم اللغويّ
القدير مساهمات مرموقة في مجال علم الأصوات، والنظريّة الشعرية، والوظائف اللغويّة،
وكان قد تناول فكرة "المثلّث الصوائتيّ" أي الفتحة والضمّة والكسرة، وهي
الصوائت الأساسيّة التي تتفرّع منها كلّ الصوائت الأخرى التي نجدها في اللغات.
فكلّ " حركة" وهو ما يعرف في الفرنسيّة بالـ voyelle تتولّد من مزج بين اثنين من
هذه الصوائت، فما يعرف بـ"الإمالة" في العربيّة، على سبيل المثال، ليس
أكثر من ميل الفتحة نحو الكسرة، وهذا الميل ينتج " وحدة صوتيّة" في نظام
لغويّ ما، أي أنّ هذا المثلّث الصوائتيّ يشبه إلى حدّ ما المثلّث اللونيّ الأساسيّ
وهو: الأزرق والأصفر والأحمر الذي تشعّ منه كلّ الألوان.
استوحى كلود ليفي ستروس من
الحركات الثلاث الأساسيّة مثلّثه الغذائيّ: النيء، والمطبوخ، والمعفّن. وقد يستغرب
المرء إدراج المعفّن كضلع من أضلاع هذا المثلّث، ولكن أكتفي، هنا، لإزالة
الاستغراب بنوع من أنواع الجبنة، حيث تدخل العفونة كصفة من صفاتها، وهي "الجبنة
المعفّنة". وراح يصنّف الحضارات بناء لهذا المثلّث الغذائيّ، على شاكلة تصنيف
اللغات بناء لمثلّثها الصوائتيّ وتفرعاته.
هذا ما قصدته بالدور الذي
يلعبه علم ما في الكشف عن آليات علم آخر، وسأعطي مثالاً آخر هو دور البيولوجيا في
دراسة الحكاية الخرافيّة. لقد استوحى فلاديمير بروب من علم البيولوجيا، وتحديداً
نظريّة دارون التي عرضها في كتابه " أصل الأنواع"، طريقة في تحليل
الحكاية الخرافيّة في كتابه الشهير " مورفولوجيا الحكاية"، وهو لم يأخذ
مفردة المورفولوجيا من علم اللغة وإنّما من علم البيولوجيا، والفقرة الأولى من
كتابه تشير إلى ذلك فيقول: " تعني كلمة مورفولوجيا دراسة الأشكال، وفي علم
النبات، فإنّها تنطوي على دراسة الأجزاء المكوّنة للبنية، وعلاقة الأجزاء بعضها
ببعض، وعلاقة كلّ جزء منها بالمجموع، وبشكل آخر، فإنّها تعني دراسة بنية النبتة.
ولكن أحداً لم يخطر له في
البال إمكانيّة لوجود مفهوم مورفولوجيا القصّة أو إطلاق تعبير من هذا النوع، وذلك
على الرغم من أنّ دراسة الأشكال ووضع القوانين التي تحكم البنية أمر ممكن في ميدان
القصة الشعبيّة والفولكلوريّة، وبنفس الدقّة التي تضاهي مورفولوجيا التشكيلات
العضوية.
وإذا كان لا يمكن لهذا الإثبات
أن ينسحب على القصّة في مجملها، بكلّ ما في المصطلح من شمولية، فإنه ينسحب عليها
عندما يتعلّق الأمر بما يسمّى بالقصص العجيبة".
ومفردة "مورفولوجيا"
أضحت من مصطلحات علم اللغة أيضاً بمعنى "الصرف". والصرف اللغويّ كما
يلحظ المرء هو تلك التحوّلات التي تطرأ على الجذر الواحد أو الشكل الواحد. وثمّة
في الصرف ثابت ومتحوّل أغلب الأحيان، فبين " مدرسة" و "دارس"
نجد أن الدال والراء والسين من الثوابت بخلاف الميم والتاء والألف. وراح يستشكف
الثابت والمتحوّل في عالم الحكاية، ويدرس
الحكاية كما لو أنّها " نبتة"، فوجد أنّ الحكاية تشمل إحدى وثلاثين وظيفة،
هي على التوالي: النأي (
كغياب فرد من أفراد العائلة) ، المنع ( كأمر بعدم الخروج من البيت، أو عدم
دخول غرفة من غرف البيت، هل تخلو حكاية خرافيّة من منع وخرق لهذا المنع؟)، التعدّي،
الاستنطاق، الإخبار، الخداع، التواطؤ، الإساءة، الوساطة، بداية
الفعل العكسيّ، الانطلاق، التجربة، ردّ فعل البطل، استلام الأداة السحريّة، التنقّل،
المعركة، العلامة، الانتصار، الإصلاح، العودة، المطاردة، المساعدة، التخفّي، الادّعاء،
المهمّة الصعبة، المهمّة الناجزة، التعرّف، افتضاح، التغيير، العقاب،
الزواج . وإذا تمهّل القارىء في قراءة الوظائف وأخرج من ذاكرته حكاية خرافيّة، سوف
يلحظ حضور هذه الوظائف أو أغلبها في الحكاية التي تذكّرها. ولا تخلو ذاكرة من
حكاية خرافيّة إلاّ إذا تعتعها الألزهايمر!
إنّ تناول كلّ وظيفة من هذه
الوظائف يفيض عن حجم المقال، من جهة، ثمّ من جهة ثانية، لم يكن الغرض تناول نظريّة
فلاديمير بروب بتفاصيلها الغنيّة، وإنّما الإشارة الى الدور الذي لعبه علم
البيولوجيا في صياغة نظريته حول الحكاية الخرافيّة، وهي نظريّة استلهمها كثيرون من
بعده لا في دراسة الحكاية الخرافيّة وحسب وإنّما في دراسة القصّة والرواية وحتّى
الشعر كما فعل الناقد كمال أبو ديب في كتابه " الرؤى المقنّعة" الذي درس
فيه المعلّقات العشر دراسة دسمة.
مؤرّخو علم اللغة الحديث
يشيرون إلى أنّ المنهج التاريخيّ في دراسة اللغة خرج من عباءة البيولوجيا، ولكن
الحياة دين ووفاء كما يقال، فلقد شعرت البيولوجيا في مكان ما أنّها بحاجة إلى علم
اللغة لفهم ما يسمّى بالـ " ADN " فاستعارت منه عبارة
" ( ألفباء) الحمض النووي"!
بلال عبد الهادي