اعتدت منذ زمن بعيد أن أبحث في المكتبات بطريقتي
الخاصّة. سواء كانت مكتبة عامّة أم مكتبة عادية لبيع الكتب أم في معارض الكتب. وهنا
سأعرض نقطة هي بمثابة مثال. يمتعني التسكعّ في المكتبات، وبين رفوف الكتب، وقراءة عناوين
الكتب، كما تعوّدت على التوقّف في الأجنحة
التي تتعلّق بتخصّصي، وهو علم اللغة الحديث. والتوقّف، أيضا، أمام الأجنحة التي لا
تمتّ إ|لى تخصّصي، من حيث الظاهر، بصلة ، فأتوقّف عند أجنحة التاريخ والجغرافيا وعلم
النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد...
منذ عدّة أيّام دخلت إلى مكتبة الجامعة، وأدرت
ظهري لجناح الأدب العربيّ واللغة العربيّة، ورحت أتصفّح جناح كتب علم النفس وأقرأ تكعيبات الكتب الواقفة والمتراصفة، فاستوقفتني تكعيبة
كتاب عنوانه Karl_Bühler . كتاب عنوانه في تكعيبة الكتاب اكتفى باسم شخصية،
في علم النفس، مرموقة. عنوانٌ ظاهره بعيد عن مجال اللغة، فسحبته لأقرأ عنوانه الكامل.
الفضول فضيلة، وفلفشة صفحات الكتب مفاجآت سارّة، فكان عنوان الغلاف مفصّلاً بخلاف
عنوان التكعيبة:
Karl Bühler, du contexte
à la situation. La signification.
كتابٌ موضوعٌ
في مكان، من حيث الظاهر، لا علاقة له باللغة، ولكن مكانه الطبيعيّ، عند التدبّر، هو
جناح اللغة، وهكذا حصلت على ما هو لغويّ في
ما هو غير لغويّ. ولو بحثت في اللغويّ على ما هو لغويّ لبقي هذا الكتاب طيّ المجهول.
ومن يتصفّح فهرس الكتّاب يجد قرابته الحميمة مع علم اللغة. فهو كتاب يتكلّم على
المعنى، أو علم الدلالة، وعن دور السياق في عمليّة فهم المعنى، والنظرية السياقيّة
نظرية لغوية بامتياز، تربط معنى الكلام بما هو من خارج الكلام، أحياناً، كما هو
شأن "أسباب النزول" التي يستعين بها المفسّر في تفسير بعض آيات القرآن. كما
أنّ لكارل بوهلر نظرية حول مفهوم التواصل وأنواعه ووظائفه.
وكثيراً ما أتوقّف أمام كتب طبّية لها علاقة
بالتشريح، ولكن بحثاً عن أشياء لغوية، وكثيراً ما عثرت على كتب قيّمة ككتاب مثلاً عن
علم التشريح وفيه فصل عن تشريح الحنجرة والأذن والأنف فأجد تفاصيل توضّح لي مسائل المهموس
والمجهور من الأصوات ، أو الفارق بين الصوت الأنفيّ وغير الأنفيّ، فالأنف يلوّن
بعض الأصوات اللغوية، ويعطيها صفاتها، أو كتب الدماغ، فأجد تحاليل عن أماكن اللغة في
الدماغ، وكيف تتحرّك اللغة في الدماغ، فتظهر لك مكان إقامة المعنى، ومكان إقامة
الألفاظ، وكيف تتوزّع المفردة الواحدة في الدماغ بناء لدلالتها، فالصوت له محلّ، والنغمة
لها مكان، والمقطع له موقع، والكلمات ذات العلاقة بالشمّ مكانها غير الكلمات التي علاقة
باللون، أو الكلمات ذات الصلة بالمشمومات أو الكلمات التي تتناول الكلمات التي
تتصل بالحقل الدلاليّ للمسموعات.
ليس هناك من تخصّص لا علاقة له بتخصّص
آخر، فعلم الاجتماع مثلا لا يمكن فصله عن علم اللغة، لأسباب كثيرة، منها على سبيل
المثال علاقة مؤسس علم اللغة الحديث دي سوسير بعالم الاجتماع دورهايم، وهذا ما دفع
دي سوسير إلى النظر إلى اللغة كظاهرة اجتماعيّة، بل حتّى في كتب الاقتصاد ما له
صلة حميمة بعالم اللغة، وعالم الأدب، وكنت قد قرأت كتاباً جميلا بعنوان: اللغة
والاقتصاد، بل إنّ النظرية البراغماتية للغة لا يمكن فصلها عن مفاهيم كثيرة
مستوحاة من عالم الاقتصاد.
سنّة التخصّص أن يكون عابراً للتخصصّات!
بلال
عبد الهادي