بسم الله الرحمن الرحيم
بحمد الله نبتدئ ونستهدي، وعليه نتوكل، وهو
حسبنا ونعم الوكيل.
هذا ما ألفه الخليل بن أحمد البصريّ -رحمة الله عليه- من حروف: أ، ب، ت، ث، مع ما تكمَّلَت به فكان مدار كلام العرب وألفاظهم، فلا يخرج منها عنه شيء.
أراد أن تَعْرِفَ به العربُ في أشعارها وأمثالها ومخاطباتها فلا يشذُّ عنه شَيْء من ذلك، فأَعْمَلَ فكره فيه فلم يمْكِنْه أن يَبْتَدِئَ التأليفُ من أول ا، ب، ت، ث، وهو الألف، لأن الألف حرف معتلّ فلما فاته الحرف الأوّل كَرِهَ أن يَبْتَدِيءَ بالثاني -وهو الباء- إلاّ بعد حُجّةٍ واستقصاء النَّظَر، فدبّر ونظر إلى الحروف كلِّها وذاقَها فوجد مخرج الكلام كلّه من الحلق فصيَّر أولاها بالابتداء ادخَلَ حرف منها في الحلق.
وإنما كان ذَواقه إِيَّاها أنّه كان يَفْتَحُ فاهُ بالألفِ ثم يُظْهِرُ الحَرْفَ، نحو ابْ، اتْ، احْ، اعْ، اغْ، فوجد العيْن ادخَلَ الحروف في الحَلْقِ، فَجَعَلهَا أوّل الكتابِ ثمّ ما قَرُبَ منها الأرفعُ فالأرفع حتى أتَى على آخرها وهو الميم.
فإذا سُئِلَتَ عن كلمة وأردتَ أن تعرِفَ مَوْضِعَهَا. فانظُرْ إلى حُرُوْفُ الكلمةِ، فمهما وَجَدتَ منها واحداً في الكتاب المقدَّم فهو في ذلك الكتاب.
وقلَّبَ الخليل ا، ب، ت، ث، فوضعها على قدر مخرجها من الحلق وهذا تأليفه: ع، ح، ه، خ، غ، -ق، ك-ج، ش، ض، -ص، س، ز-ط، د، ت- ظ، ث، ذ -ر، ل، ن- ف، ب، م- و، ا، ي، همزة قال أبو مُعاذ عبدُ الله بنُ عائذ: حدَّثني الليثُ بنُ المُظَفَّر بن نصر بن سَيَّار عن الخليل بجميع ما في هذا الكتاب.
قال اللَّيث: قال الخليلُ: كلاَمُ العَرَب مبنيّ على أربعةِ أصناف: على الثُنَائِيِّ، والثُّلاَثِيّ، والرُّباعيّ، والخماسيّ، فالثُّنائِيُّ على حَرْفَيْنِ نحو: قَدْ، لَمْ، هَلْ، لَوْ.
بل ونحوه من الأدوات والزَجْر والثلاثيُّ من الأفعال نحو قولك: ضَرَبَ، خَرَجَ، دَخَلَ، مَبْنيٌّ على ثَلاَثَةِ أحرف.
ومن الأسماء نحو: عُمر وجَمَلَ وشَجَر مَبْنيٌّ على ثلاثةِ أحرُف.
والرباعي من الأفعال نحو: دَحْرَجَ، هَمْلَجَ، قَرْطَسَ، مبْنيٌّ على أربعةِ أحْرف.
ومن الأسماء نحو: عَبْقَر، وعَقْرَب، وجندب، وشبهه.
والخماسيُّ من الأفعال نحو: اسْحَنْكَكَ واقْشَعَرَّ واسحَنْفَرَ واسبَكَرَّ مبنيّ على خمسة أحرف.
ومن الأسماء نحو: سَفَرْجَلَ، وهَمَرْجَلَ، وشَمَرْدَلَ، وكَنَهْبَلَ، وقَرَعْبَلَ، وعقَنْقَلَ، وقَبَعْثَرَ وشبهه.
والألف التي في اسْحَنْكَكَ واقشَعَرَّ واسْحَنْفَرَ واسْبَكَرَّ ليستْ من أصل البناء، وإنما أُدخِلت هذه الألِفات في الأفعال وأمثالها من الكلام لتكونَ الألِفُ عماداً وسُلّماً لِلِّسان إلى حَرْف البناء، لأنَّ اللِّسان لا ينطلق بالساكِن من الحروف فيحتاجُ إلى ألفِ الوَصْل إلاّ أنَّ دَحْرَجَ وهَمْلَجَ وقَرْطَسَ لم يُحْتَجْ فيهنَّ إلى الألفِ لتكونَ السُلَّم فافْهَمْ إنْ شاءَ اللّهُ.
اعلم أن، الراء في اقشَعَرَّ واسبكَرَّهُما راءانِ أُدغِمَتْ واحدة في الأخرى.
والتَّشديدُ علامةُ الإدغام.
قال الخليل: وليس للعرب بناء في الأسماء ولا في الأفعال أكثر من خمسةِ أحرُف، فمهما وَجَدْتَ زيادة عن خمسة أحرف في فِعل أو اسم، فاعلم أنَّها زائدة على البناء. وليسَت من أَصْل الكلمة، مثل قَرَعْبلانة، إنما أصْلُ بنائها: قَرَعْبَلَ، ومثل عنكبوت، إنما أصل بنائها عَنْكَب.
وقال الخليل: الاسم لا يكون أقلَّ من ثلاثةِ أحرف. حرف يُبْتَدَأُ به. وحرف يحشى به الكلمة، وحرف يُوْقَفَ عليه، فهذه ثلاثة أحرف مثل سَعْد وعُمَر ونحوهما من الأسماء.
بُدِيءَ بالعين وحُشِيَتْ الكلمة بالميم ووُقِفَ على الراء. فأمّا زَيْد وكَيْد فالياء مُتَعَلِّقَة لا يُعْتَدُّ بها.
فإن صَيَّرْت الثنائيّ مثل قَدْ وهَلْ ولَوْ اسما أدخَلْتَ عليه التَّشديد فقلت: هذه لوٌّ مكتوبةٌ، وهذه قدٌّ حَسَنَةُ الكِتْبة، زِدْتَ واوا على واو، ودالاً على دال، ثم أَدْغَمْتَ وشَدَّدْتَ.
فالتَّشديدُ علامةُ الإدغام والحَرْفُ الثالثُ كَقَوْل أبي زُبيد الطائيّ:
فَشَدَّدَ "لَوّاًً" حين جعله اسماً.
قال ليث: قلت لأبي الدقَيش: هل لك في زُبْد ورُطَب? فقال: أشَدُّ الهَلِّ وأوحاه، فشدَّد اللام حينَ جَعَله اسماً. قال: وقد تجيء اسماءٌ لفظها على حرفين وتمامُها ومعناها على ثلاثة أحرف مثل يدٍ ودَمٍ وفَمٍ، وإنما ذَهَبَ الثالث لِعِلَّةِ أنها جاءت سواكن وخِلْقَتُهَا السُّكون مثل ياء يَدَيْ وياء دَمَيْ في آخر الكلمة، فلما جاء التنوين ساكناً اجتمع ساكنان فَثَبَتَ التنوين لأنه إعراب وذهب الحرفُ الساكن، فإذا أردتَ معرفَتها فاطلُبْها في الجمع والتَّصغير كقَولهم: أَيْديهم في الجَمع، ويُدَيَّة في التَّصْغير.
ويوجَد أيضاً في الفعل كقولهم: دَمِيَتْ يَدُهُ، فإذ ثَنَّيْتَ الفم قلتَ: فَمَوَان، كانت تلك الذاهبة من الفم الواو.
قال الخليل: بل الفَمُ أصلُه "فَوَهٌ" كما ترى والجمع أفواه، والفعل فاهَ يَفُوهُ فَوْها، إذا فَتَحَ فَمَهُ للكلام.
قال أبو أحمد حمزة بن زرعة: قوله: يدٌ دَخَلَهَا التنوين وذكر أنَّ التَّنوين أعرابٌ قلت بل الإعراب الضمَّة والكسرة التي تلزم الدال في "يد" في وجوه، والتَّنوينُ يُميِّزُ بين الاسم والفعل، ألا ترى أنك تقول: تفعَلُ فلا تجد التنوين يدخلُها ، وألا ترى أنك تقول: رأيتُ يَدَكَ، وهذه يَدُكَ، وعَجبتُ من يَدِكَ فتُعرب الدالَ وتطرح التَّنوينَ.
ولو كان التنوينُ هو الإعراب لم يسقط.
فأما قوله: "فَمَوان" فإنه جعل الواو بدلاً من الذاهبةِ. فإن الذاهبةَ هي هاء وواو، وهُما إلى جنب الفاء ودخلَتْ الميمُ عِوضاً منهما. والواو في "فَمَوَين" دَخَلَتْ بالغَلَط، وذلك أنَّ الشاعر، يَرَى ميماً قد أُدخلت في الكلمة فيَرى أن الساقطَ من "الفم" هو بعد الميم فيُدخل الواو مكانَ ما يظُنُّ أنّه سقَطَ منه ويغلَطُ.
قال الخليل: إعلم أنَّ الحروف الذُلْقَ والشَّفَوِيَّةَ ستَّة وهي: ر ل ن، ف، ب، م، وإنَّما سُمِّيَتْ هذه الحروف ذُلْقا لأن الذلاقة في المنطق إنّما هي بطَرَف أَسَلة اللَّسان والشفتين وهما مَدْرَحتا هذه الأحرف الستة، منهما ذليقة "11" ر ل ن، تخرج من ذَلْقَ اللسان من طَرَف غار الفم "12" وثلاثة شفوية: ف ب م، مخرجها من بين الشَّفَتيْن خاصة، لا تعمَلُ الشَّفتان في شَيء، من الحُرُوف الصَّحاح إلاَّ في هذه الأحرف الثلاثة فقط، ولا ينطلق اللَّسانُ إلا بالرَّاء والّلام والنون.
وأما سائر الحروف فإنَّها ارتفعَتْ فوق ظهر اللَّسان من لَدُنْ باطِن الثنايا من عند مَخْرَجْ التاء إلى مخرج الشين بين الغارِ الأعلَى وبين ظَهْر اللَّسان. ليس للَّسان فيهِنَّ عَمَلُ كثُر من تحريك الطبقتين بهنَّ، ولم ينحرفْنَ عن ظهر اللَّسان انحراف الرَّاء والّلام والنَّون.
وأمَّا مَخْرَج الجيم والقافِ والكافِ فمن بين عُقدة اللَّسان وبين اللَّهاة في أقصى الفَم.
وأما مَخْرَجُ العَيْنِ والحاء والهاء والخاء والغين فَالْحَلْقُ.
وأمّا الهَمْزة فَمَخْرَجُها من أقصَى الحَلْق مَهْتُوتة مضغوطَة فإذا رُفِّه عنها لانت فصارت الياء والواو والألف عن غير طريقة الحُروفِ الصَّحاح.
فلمَّا ذَلَقَتِ الحُروفُ السِّتَّةُ، ومَذَلَ بِهِنَّ اللِّسان وسَهُلَتْ عليه في المَنْطِقِ كَثُرَتْ في أَبنِيَةِ الكلام، فليس شَيْءٌ من بِناء الخماسيِّ التَّامِّ يَعْرَى منها أو من بعضها.
قال الخليل: فإن وَرَدَتْ عليك كلمة رباعيَّة أو خماسيَّة معرَّاة من حروف الذَلَق أو الشفوية ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك فاعلم أنَّ تلك الكلمة مُحْدَثة مُبْتَدَعة، ليست من كلام العرب لأنك لست واجداً من يسمع من كلام العرب كلمة واحدة رباعيَّة أو خماسيَّة إلاَّ وفيها من حروف الذَلَق والشفوية واحد أو اثنان أو أكثر.
قال الليث: قلت: فكيف تكون الكلمة المولدة المبتدعة غير مشوبة بشيء من هذه الحروف? فقال: نحو الكَشَعْثج والخَضَعْثَج والكَشَعْطَج وأشباهِهِنَّ، فهذه مولَّدات لا تجوز في كلام العرب، لأنه ليس فيهن شيء من حروف الذَلَق والشفوية فلا تَقْبَلنَّ منها شيئاً، وإنْ أشبَهَ لفظهم وتأليفهم، فإن النحارير منهم ربَّما ادخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللَّبس والتَعنُّيت.
وأما البناءُ الرباعيُّ المُنبَسطِ فإنَّ الجُمهور الأعظم منه لا يَعْرَى من الحروف الذُلْق أو من بعضها، إلاَّ كلمات نحوا من عشر كئن شواذَّ.
ومن هذه الكلمات: العَسْجَدُ والقَسْطوس والقُداحِس والدُعشُوقةُ والهُدْعةُ والزُهْزُقَةُ وهي مُفَسَّرة في أمكنتها.
قال أبو أحمد حمزة بن زرعة هي كما قال الشاعر:
وليس في كلام العَرَب دُعْشوقة ولا جُلاهِق، ولا
كلمة صَدْرُهَا "نَرَ" وليس في شيء من الأَلْسن ظاءً غير العربية ولا من لِسانٍ إلا
التَنُّور فيه تَنُّور.
وهذه الأحرف قد عَرينَ من الحروف الذُلْق، ولذلك نَزَرْنَ فَقَلَلْنَ. ولولا ما لزمَهُنَّ من العين والقاف ما حَسُنَّ على حال.
ولكن العين والقاف لا تدخلان في بناء إلا حَسَّنَتَاه، لأنهما أطلق الحروف وأضخمها جَرْسا.
فإذا اجتمعا أو أحدهما في بناء حَسُنَ البناء لنَصاعتهما، فإنْ كان البناءُ اسماً لَزِمَتْهُ السِّين أو الدَّال مع لزوم العَيْن أو القاف، لأن الدَّال لانَتْ عن صلابة الطَّاء وكزازتها، وارتَفعت عن خُفُوت التّاء فَحَسُنَتْ.
وصارت حالُ السِّين بين مَخْرَجِ الصَّاد والزاي كذلك، مهما جاء من بناء اسم رباعي مُنْبَسِط معرّى من الحُرُوف الذُلْق والشَّفَويَّةِ فإنّه لا يَعْرَى من أحدِ حَرْفَي الطَّلاقةِ أو كليهما، ومن السين والدال أو أحدهما، ولا يضُرُّ ما خالف من سائر الحروف الصُتْم. فإذا ورد عليك شيء من ذلك فانظر ما هو من تأليف العرب وما ليس من تأليفهم نحو: قَعْثَجْ ونَعْثَج ودَعْثَج لا يُنسَب إلى عربية ولو جاء عن ثِقَة لم يُنْكَر ولم نَسْمَع به ولكن ألَّفناه ليُعَرف صحيحُ بناءِ كلام العرب من الدخيل وأمّا ما كان من رباعيَّ منبسط مُعرَّى من الحروف الذُلق حكاية مؤلفة نحو: دَهداق وزهزاق وأشباهه فإن الهاء والدال المتشابهَتَيْن مع لُزوم العين أو القاف مُستحسَن. وإنما استحسنوا الهاء في هذا الضرب للينها وهشاشتها. وإنما هي نَفَس. لا اعتياص فيها.
وإن كانت الحكاية المؤلفة غير مُعَّراة من الحروف الذُلْق فلن يضُرَّ كانت فيها الهاء أو لا نحو: الغَطمطة وأشباهها. ولا تكون الحكاية مؤلفة حتى يكون حرف صدرها موافقا لحرف صدر ما ضُمَّ إليها في عَجْزها، فكأنَّهم ضمُّوا "د ه" إلى "د ق" فألَّفوهما، ولولا ما جاء فيهما من تشابه به الحرفين ما حَسُنت الحكاية فيهما لأنَّ الحكايات الرباعيات لا تخلو من أن تكونَ مُؤلَّفة أو مُضاعَفة.
فأمَّا المُؤلَّفةُ فعلى ما وصَفْتُ لك وهو نَزْر قليل، ولو كان الهُعْخُع من الحكاية لجاز في قياس بناء تأليف العرب، وإن كانت الخاء بعد العين، لأن الحكاية تحتمل من بناء التأليف ما لا يحتمل غيرها بما يُريدون من بيان المَحكيّ.
ولكن لمّا كان الهُعْخُعُ، فيما ذَكَرَ بعضُهم اسماً خاصّاً، ولم يكن بالمعروف عند أكثرهم وعند أهل البَصَر والعلم منهم ردّ ولم يُقْبَلْ.
وأما الحكايةُ المُضاعفَة فإنها بمنزلة الصَّلْصلة والزَّلْزِلَةِ وما أشبهها يتوهمون في حُسن الحركة ما يتوهمون في جَرْس الصوت يضاعفون لتستمر الحكاية في وجه التصريف.
والمضاعف في البيان في الحكايات وغيرها ما كان حرفا عجزه مثل حَرْفَي صدره وذلك بناء يستحسنه العَرَبُ فيجوز فيه من تأليف الحروف جميع ما جاء من الصحيح والمعتلّ ومن الذُّلْقِ والطُّلْق والصُّتْم، وينسب إلى الثنائي لأنه يضاعفه، ألا تَرى الحكايةِ أنّ الحاكي يَحكي صَلصلة اللجام فيقول صَلْصَلَ اللّجَام، وإن شاء قال: صَلَّ، يُخّفِّفُ مرّة اكتفاء بها وإنْ شاء أعادها مرتين أو أكثر من ذلك فيقول: صل، صَل، صَل، يتكلّف من ذلك ما بدا له.
ويجوز في حكاية المضاعَفة ما لا يجوز في غيرها من تأليف الحروف، ألا تَرَى أنّ الضَّادَ والكاف إذا أُلِّفَتَا فبُديء بالضَّادِ فقيل: "ضك" كان تأليفا لم يحسُن في أبنية الأسماء والأفعال ألا مفصولا بين حَرْفَيه بحرف لازم أو أكثر من ذلك الضَّنْك والضحك وأشباه ذلك.
وهو جائز في المضاعف نحو الضَّكضاكة من النساء. فالمضاعَفُ جائز فيه كل غَثّ وسَمين من الفصول والأعجاز والصُّدور وغير ذلك.
والعربُ تشتَقُ في كثير من كلامها أبنية المُضاعَف من بناء الثلاثي المُثقَّل بحَرْفَيْ التضعيف ومن الثلاثي المعتلّ، ألا ترى أنَّهم يقولون: صلَّ اللّجَامُ يَصِلُّ صليلا، لو حَكَيتَ ذلك فُلْتَ: صَلَّ تَمُدُّ اللام وتثقّلها، وقد خَفَّفتَها في الصلصلة وهما جميعا صوت اللّجَامُ، فالثِّقَل مدٌّ والتضاعُف ترجيعٌ يَخِفُّ فلا يتمكّن لأنّه على حَرفين فلا يتقدَّر للتصريف حتى يُضَاعَفَ أو يُثَقَّل فيجيءُ كثير منه مُتَّفقا على ما وصفت لك، ويَجيء منه كثير مختلفاً نحو قولك: صَرَّ الجُنْدُب صريرا وصَرْصَرَ الأخطَبُ صَرْصَرَة، فكأنّهم تَوَهَّموا في صوت الجُنْدُبِ مَدّا وتَوَهّموا في صوت الأخطب ترجيعا. ونحو ذلك كثيرٌ مختلِفٌ.
وأمّا ما يشتقّون من المضاعف من بناء الثلاثيّ المعتلّ، فنحو قول العجاج:
وقال في بيت آخر:
ولو شاء قال في البيت الأول ولو أنَخْنا
جَمْعُهم تَنوّخُوا ولكنّه اشتقّ التنوُّخ من تنوَّخناها فَتَنَوَّخَتْ، واشتقَّ
التَّنَخْنُخَ من أنَخْنَاهَا، لأنّ أناخ لمّا جاءَ مُخَفَّفا حَسُن إخراج الحرف
المعتلّ منه، وتضاعُف الحرفَيْن الباقيين في تَنَخْنَخْنا تَنَخْنُخاً، ولما
ثُقِّلَ قَويت الواو فَثَبَتَتْ في التنُّوخ فافهَمْ.
قال اللّيث: قال الخليل: في العربية تسعة وعشرونَ حَرْفا: منها خمسة وعشرونَ حَرْفاً صِحَاحا لها أحياناً ومدارج، وأربعة أحرف جُوْف وهي: الواو والياء والألف اللَّينَة والهمزة، وسُمِّيَتْ جوفاً لأنها تَخْرُجُ من الجوف فلا تَقَعُ في مدرجة من مدارِج الَّلسان، ولا من مدارِج الحَلْق، ولا من مدرِج اللهاة، إنَّما هي هاوية في الهواء فلم يكن لها حَيز تُنسب إليه إلا الجَوْفَ. وكان يقول كثيرا: الألِفُ اللَّينَةُ والواو والياءُ هوائية أي أنها في الهواء.
قال الخليل: فأقصي الحروف كلها العين ثم الحاء ولولا بَحَّة في الحاء لأَشْبَهَت العْيَن لقُرْب مَخْرَجها من العَيْن، ثم الهاء ولولا هَتَّة في الهاءِ، وقال مَّرة "ههّة" لأَشْبَهَت الحاء لُقْرب مَخْرَج الهاء من الحاء، فهذه ثلاثة أحرف في حَيِّز واحد بعضُها أرفع من بعض ثم الخاءُ والغَيْن في حيِّز واحد كلَّهُنَّ حلقية، ثم القاف والكاف لهَويتان، والكاف أرفع ثم الجيم والشين والضاد في حيِّز واحد، ثم الصّاد والسِّين والزَّاء في حيِّز واحد، ثم الطاء والدّال والتّاء في حيزِّ واحد، ثم الظاء والذال والثاء في حيِّز واحد، ثم الراء واللام والنون في حيّز واحد ثم الفاءُ والباءُ والميمُ في حيِّز واحد ، ثم الألفُ والواو والياءُ في حيِّزٍ واحد والهمزة في الهواء لم يكن لها حيِّز تُنْسَب إليه.
قال الليث: قال الخليل: فالعين والحاء والخاء والغَيْن حَلْقيّة، لأن مبدأها من الحَلْق، والقاف والكاف لَهَوِّيتانِ، لأنَّ مَبْدَأهُما من اللّهَاة. والجيم والشِّين والضاد شّجْريّة لأن مَبْدَأها من شجْر الفم. أي مَفرج الفَمِ، والصاد والسين والزاء أسلية، لأنَّ مبدأها من أسلة اللّسان وهي مُستدَقّ طرف الّلسان. والطاء والتاء والدال نِطْعيَة، لأنّ مبدأها من نطع الغار الأعلى.
والظاّء والذّال والثّاء لَثِويّة، لأنّ مَبْدَأها من الِّلثة. والرّاءُ واللاَّم والنُّون ذَلَقيّة، لأنّ مَبْدَأهَا من ذَلَق اللّسان وهو تحديدُ طَرفَي ذلق اللّسان.
والفاء والباء والميم شَفَويّة، وقال مّرةً شَفَهيّة لأن مبدأها من الشَفَة. والياء والواو والألف والهمزة هوائية في حَيِّز واحد، لأنّها لا يتعلّق بها شيء، فُنسِبَ كل حرف إلى مَدْرَجَتِه ومَوْضِعُه الذي يَبْدَأ منه.
وكان الخليل يُسّمِّي الميم مُطْبَقة لأنّها تطبِق الفم إذا نُطِقَ بها، فهذه صورة الحُرُوف التي أُلِّفَتْ منها العربية على الولاء، وهي تسعة وعشرون حرفاً: ع ح ه خ غ، ق ك، ج ش ض، ص س ز، ط د ت، ظ ذ ث، ر ل ن، ف ب م، فهذه الحروف الصحاح، و ا ي ء فهذه تِسعة وعشرون حرفا منها أبنيةِ كلامِ العربِ.
قال اللّيث: قال الخليل:
اعلم أن الكلمة الثنائيَّةَ تَتَصَرَّف على وَجْهَيْن نحو: قَدْ، دَقْ، شَدْ، دَشُ، والكلمةُ الثلاثَّيُة تتصرَّفُ على ستة أوجُه، وتُسمَّى مَسدُوسة وهي نحو: ضرب ضبر، برض بضر، رضب ربض، والكلمة الرباعية تتصرَّف على أربعة وعشرين وجها وذلك أن حروفها وهي أربعة أحرف تُضْرَب في وجوه الثلاثيِّ الصَّحيح وهي سَّتة أوجه فَتصيرَ أربعة وعشرين وَجْهاً، يُكَتَب مُسْتَعْمَلها. ويُلغى مُهْمَلها، وذلك نحو عبقر تقول منه.
عقرب، عبرق، عقبر، عرقب، عربق، قعرب، قبعر، قبرع، قرعب، قربع، رعقب، رعبق، رقعب، رقبع، ربقع، ربعق، بعرق، بقعر، بقرع، برعق، برقع.
والكلمة الخماسية تتصرّف على مئة وعشرين وجها، وذلك أن حروفها، وهي خمسة أحرف تُضرَب في وُجُوه الرُّباعيِّ، وهي أربعة وعشرون حرفا فتَصيرُ مئة وعشرينَ وَجْها يُسْتَعْمَل أقَلُّه ويُلغى أكثره.
وهي نحو: سَفَرجل، سفرلج، سَفجرل، سجفرل، سجرلف، سرفجل، سرجفل، سلجرف، سلرفج، سلفرج، سجفلر، سرفلج، سجفرل، سلفجر، سرجلف، سجرلف، سرلجف، سجلفر، وهكذا.
وتَفْسِيرُ لثُّلاثِّي الصِّحيح أن يكونَ ثلاثةَ أحرُف ولا يكون فيها واوٌ ولا ياءٌ ولا ألفٌ لينة ولا همزة في أصلِ البِنَاء، لأنّ هذه الحُرُوفَ يُقَالُ لها حُروف العِلَلِ.
فكلّما سَلِمت كلمة على ثَلاثَة أحَرُف من هذه الحُرُوف فهي ثلاثيّ صحيح مثل: ضَرَبَ، خَرَجَ، دَخَلَ، والثلاثيُّ المعتلّ مثل، ضَرَا، ضَرِيَ ضَرُوَ، خَلا، خلي، خلْو لأنه جاء مع الحَرْفَيْن ألفٌ أو واوٌ أو ياءٌ فافهم.
هذا ما ألفه الخليل بن أحمد البصريّ -رحمة الله عليه- من حروف: أ، ب، ت، ث، مع ما تكمَّلَت به فكان مدار كلام العرب وألفاظهم، فلا يخرج منها عنه شيء.
أراد أن تَعْرِفَ به العربُ في أشعارها وأمثالها ومخاطباتها فلا يشذُّ عنه شَيْء من ذلك، فأَعْمَلَ فكره فيه فلم يمْكِنْه أن يَبْتَدِئَ التأليفُ من أول ا، ب، ت، ث، وهو الألف، لأن الألف حرف معتلّ فلما فاته الحرف الأوّل كَرِهَ أن يَبْتَدِيءَ بالثاني -وهو الباء- إلاّ بعد حُجّةٍ واستقصاء النَّظَر، فدبّر ونظر إلى الحروف كلِّها وذاقَها فوجد مخرج الكلام كلّه من الحلق فصيَّر أولاها بالابتداء ادخَلَ حرف منها في الحلق.
وإنما كان ذَواقه إِيَّاها أنّه كان يَفْتَحُ فاهُ بالألفِ ثم يُظْهِرُ الحَرْفَ، نحو ابْ، اتْ، احْ، اعْ، اغْ، فوجد العيْن ادخَلَ الحروف في الحَلْقِ، فَجَعَلهَا أوّل الكتابِ ثمّ ما قَرُبَ منها الأرفعُ فالأرفع حتى أتَى على آخرها وهو الميم.
فإذا سُئِلَتَ عن كلمة وأردتَ أن تعرِفَ مَوْضِعَهَا. فانظُرْ إلى حُرُوْفُ الكلمةِ، فمهما وَجَدتَ منها واحداً في الكتاب المقدَّم فهو في ذلك الكتاب.
وقلَّبَ الخليل ا، ب، ت، ث، فوضعها على قدر مخرجها من الحلق وهذا تأليفه: ع، ح، ه، خ، غ، -ق، ك-ج، ش، ض، -ص، س، ز-ط، د، ت- ظ، ث، ذ -ر، ل، ن- ف، ب، م- و، ا، ي، همزة قال أبو مُعاذ عبدُ الله بنُ عائذ: حدَّثني الليثُ بنُ المُظَفَّر بن نصر بن سَيَّار عن الخليل بجميع ما في هذا الكتاب.
قال اللَّيث: قال الخليلُ: كلاَمُ العَرَب مبنيّ على أربعةِ أصناف: على الثُنَائِيِّ، والثُّلاَثِيّ، والرُّباعيّ، والخماسيّ، فالثُّنائِيُّ على حَرْفَيْنِ نحو: قَدْ، لَمْ، هَلْ، لَوْ.
بل ونحوه من الأدوات والزَجْر والثلاثيُّ من الأفعال نحو قولك: ضَرَبَ، خَرَجَ، دَخَلَ، مَبْنيٌّ على ثَلاَثَةِ أحرف.
ومن الأسماء نحو: عُمر وجَمَلَ وشَجَر مَبْنيٌّ على ثلاثةِ أحرُف.
والرباعي من الأفعال نحو: دَحْرَجَ، هَمْلَجَ، قَرْطَسَ، مبْنيٌّ على أربعةِ أحْرف.
ومن الأسماء نحو: عَبْقَر، وعَقْرَب، وجندب، وشبهه.
والخماسيُّ من الأفعال نحو: اسْحَنْكَكَ واقْشَعَرَّ واسحَنْفَرَ واسبَكَرَّ مبنيّ على خمسة أحرف.
ومن الأسماء نحو: سَفَرْجَلَ، وهَمَرْجَلَ، وشَمَرْدَلَ، وكَنَهْبَلَ، وقَرَعْبَلَ، وعقَنْقَلَ، وقَبَعْثَرَ وشبهه.
والألف التي في اسْحَنْكَكَ واقشَعَرَّ واسْحَنْفَرَ واسْبَكَرَّ ليستْ من أصل البناء، وإنما أُدخِلت هذه الألِفات في الأفعال وأمثالها من الكلام لتكونَ الألِفُ عماداً وسُلّماً لِلِّسان إلى حَرْف البناء، لأنَّ اللِّسان لا ينطلق بالساكِن من الحروف فيحتاجُ إلى ألفِ الوَصْل إلاّ أنَّ دَحْرَجَ وهَمْلَجَ وقَرْطَسَ لم يُحْتَجْ فيهنَّ إلى الألفِ لتكونَ السُلَّم فافْهَمْ إنْ شاءَ اللّهُ.
اعلم أن، الراء في اقشَعَرَّ واسبكَرَّهُما راءانِ أُدغِمَتْ واحدة في الأخرى.
والتَّشديدُ علامةُ الإدغام.
قال الخليل: وليس للعرب بناء في الأسماء ولا في الأفعال أكثر من خمسةِ أحرُف، فمهما وَجَدْتَ زيادة عن خمسة أحرف في فِعل أو اسم، فاعلم أنَّها زائدة على البناء. وليسَت من أَصْل الكلمة، مثل قَرَعْبلانة، إنما أصْلُ بنائها: قَرَعْبَلَ، ومثل عنكبوت، إنما أصل بنائها عَنْكَب.
وقال الخليل: الاسم لا يكون أقلَّ من ثلاثةِ أحرف. حرف يُبْتَدَأُ به. وحرف يحشى به الكلمة، وحرف يُوْقَفَ عليه، فهذه ثلاثة أحرف مثل سَعْد وعُمَر ونحوهما من الأسماء.
بُدِيءَ بالعين وحُشِيَتْ الكلمة بالميم ووُقِفَ على الراء. فأمّا زَيْد وكَيْد فالياء مُتَعَلِّقَة لا يُعْتَدُّ بها.
فإن صَيَّرْت الثنائيّ مثل قَدْ وهَلْ ولَوْ اسما أدخَلْتَ عليه التَّشديد فقلت: هذه لوٌّ مكتوبةٌ، وهذه قدٌّ حَسَنَةُ الكِتْبة، زِدْتَ واوا على واو، ودالاً على دال، ثم أَدْغَمْتَ وشَدَّدْتَ.
فالتَّشديدُ علامةُ الإدغام والحَرْفُ الثالثُ كَقَوْل أبي زُبيد الطائيّ:
ليتَ شعري وأينَ مِنِّي لَيْتُ | إنَّ لَيتاً وإنَّ لَوّا عَـنَـاءُ |
قال ليث: قلت لأبي الدقَيش: هل لك في زُبْد ورُطَب? فقال: أشَدُّ الهَلِّ وأوحاه، فشدَّد اللام حينَ جَعَله اسماً. قال: وقد تجيء اسماءٌ لفظها على حرفين وتمامُها ومعناها على ثلاثة أحرف مثل يدٍ ودَمٍ وفَمٍ، وإنما ذَهَبَ الثالث لِعِلَّةِ أنها جاءت سواكن وخِلْقَتُهَا السُّكون مثل ياء يَدَيْ وياء دَمَيْ في آخر الكلمة، فلما جاء التنوين ساكناً اجتمع ساكنان فَثَبَتَ التنوين لأنه إعراب وذهب الحرفُ الساكن، فإذا أردتَ معرفَتها فاطلُبْها في الجمع والتَّصغير كقَولهم: أَيْديهم في الجَمع، ويُدَيَّة في التَّصْغير.
ويوجَد أيضاً في الفعل كقولهم: دَمِيَتْ يَدُهُ، فإذ ثَنَّيْتَ الفم قلتَ: فَمَوَان، كانت تلك الذاهبة من الفم الواو.
قال الخليل: بل الفَمُ أصلُه "فَوَهٌ" كما ترى والجمع أفواه، والفعل فاهَ يَفُوهُ فَوْها، إذا فَتَحَ فَمَهُ للكلام.
قال أبو أحمد حمزة بن زرعة: قوله: يدٌ دَخَلَهَا التنوين وذكر أنَّ التَّنوين أعرابٌ قلت بل الإعراب الضمَّة والكسرة التي تلزم الدال في "يد" في وجوه، والتَّنوينُ يُميِّزُ بين الاسم والفعل، ألا ترى أنك تقول: تفعَلُ فلا تجد التنوين يدخلُها ، وألا ترى أنك تقول: رأيتُ يَدَكَ، وهذه يَدُكَ، وعَجبتُ من يَدِكَ فتُعرب الدالَ وتطرح التَّنوينَ.
ولو كان التنوينُ هو الإعراب لم يسقط.
فأما قوله: "فَمَوان" فإنه جعل الواو بدلاً من الذاهبةِ. فإن الذاهبةَ هي هاء وواو، وهُما إلى جنب الفاء ودخلَتْ الميمُ عِوضاً منهما. والواو في "فَمَوَين" دَخَلَتْ بالغَلَط، وذلك أنَّ الشاعر، يَرَى ميماً قد أُدخلت في الكلمة فيَرى أن الساقطَ من "الفم" هو بعد الميم فيُدخل الواو مكانَ ما يظُنُّ أنّه سقَطَ منه ويغلَطُ.
قال الخليل: إعلم أنَّ الحروف الذُلْقَ والشَّفَوِيَّةَ ستَّة وهي: ر ل ن، ف، ب، م، وإنَّما سُمِّيَتْ هذه الحروف ذُلْقا لأن الذلاقة في المنطق إنّما هي بطَرَف أَسَلة اللَّسان والشفتين وهما مَدْرَحتا هذه الأحرف الستة، منهما ذليقة "11" ر ل ن، تخرج من ذَلْقَ اللسان من طَرَف غار الفم "12" وثلاثة شفوية: ف ب م، مخرجها من بين الشَّفَتيْن خاصة، لا تعمَلُ الشَّفتان في شَيء، من الحُرُوف الصَّحاح إلاَّ في هذه الأحرف الثلاثة فقط، ولا ينطلق اللَّسانُ إلا بالرَّاء والّلام والنون.
وأما سائر الحروف فإنَّها ارتفعَتْ فوق ظهر اللَّسان من لَدُنْ باطِن الثنايا من عند مَخْرَجْ التاء إلى مخرج الشين بين الغارِ الأعلَى وبين ظَهْر اللَّسان. ليس للَّسان فيهِنَّ عَمَلُ كثُر من تحريك الطبقتين بهنَّ، ولم ينحرفْنَ عن ظهر اللَّسان انحراف الرَّاء والّلام والنَّون.
وأمَّا مَخْرَج الجيم والقافِ والكافِ فمن بين عُقدة اللَّسان وبين اللَّهاة في أقصى الفَم.
وأما مَخْرَجُ العَيْنِ والحاء والهاء والخاء والغين فَالْحَلْقُ.
وأمّا الهَمْزة فَمَخْرَجُها من أقصَى الحَلْق مَهْتُوتة مضغوطَة فإذا رُفِّه عنها لانت فصارت الياء والواو والألف عن غير طريقة الحُروفِ الصَّحاح.
فلمَّا ذَلَقَتِ الحُروفُ السِّتَّةُ، ومَذَلَ بِهِنَّ اللِّسان وسَهُلَتْ عليه في المَنْطِقِ كَثُرَتْ في أَبنِيَةِ الكلام، فليس شَيْءٌ من بِناء الخماسيِّ التَّامِّ يَعْرَى منها أو من بعضها.
قال الخليل: فإن وَرَدَتْ عليك كلمة رباعيَّة أو خماسيَّة معرَّاة من حروف الذَلَق أو الشفوية ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك فاعلم أنَّ تلك الكلمة مُحْدَثة مُبْتَدَعة، ليست من كلام العرب لأنك لست واجداً من يسمع من كلام العرب كلمة واحدة رباعيَّة أو خماسيَّة إلاَّ وفيها من حروف الذَلَق والشفوية واحد أو اثنان أو أكثر.
قال الليث: قلت: فكيف تكون الكلمة المولدة المبتدعة غير مشوبة بشيء من هذه الحروف? فقال: نحو الكَشَعْثج والخَضَعْثَج والكَشَعْطَج وأشباهِهِنَّ، فهذه مولَّدات لا تجوز في كلام العرب، لأنه ليس فيهن شيء من حروف الذَلَق والشفوية فلا تَقْبَلنَّ منها شيئاً، وإنْ أشبَهَ لفظهم وتأليفهم، فإن النحارير منهم ربَّما ادخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللَّبس والتَعنُّيت.
وأما البناءُ الرباعيُّ المُنبَسطِ فإنَّ الجُمهور الأعظم منه لا يَعْرَى من الحروف الذُلْق أو من بعضها، إلاَّ كلمات نحوا من عشر كئن شواذَّ.
ومن هذه الكلمات: العَسْجَدُ والقَسْطوس والقُداحِس والدُعشُوقةُ والهُدْعةُ والزُهْزُقَةُ وهي مُفَسَّرة في أمكنتها.
قال أبو أحمد حمزة بن زرعة هي كما قال الشاعر:
ودُعشوقة فيها تَرَنَّحَ دَهْثَـم | تعشَّقْتُها ليلا وتَحْتي جُلاهِقُ |
وهذه الأحرف قد عَرينَ من الحروف الذُلْق، ولذلك نَزَرْنَ فَقَلَلْنَ. ولولا ما لزمَهُنَّ من العين والقاف ما حَسُنَّ على حال.
ولكن العين والقاف لا تدخلان في بناء إلا حَسَّنَتَاه، لأنهما أطلق الحروف وأضخمها جَرْسا.
فإذا اجتمعا أو أحدهما في بناء حَسُنَ البناء لنَصاعتهما، فإنْ كان البناءُ اسماً لَزِمَتْهُ السِّين أو الدَّال مع لزوم العَيْن أو القاف، لأن الدَّال لانَتْ عن صلابة الطَّاء وكزازتها، وارتَفعت عن خُفُوت التّاء فَحَسُنَتْ.
وصارت حالُ السِّين بين مَخْرَجِ الصَّاد والزاي كذلك، مهما جاء من بناء اسم رباعي مُنْبَسِط معرّى من الحُرُوف الذُلْق والشَّفَويَّةِ فإنّه لا يَعْرَى من أحدِ حَرْفَي الطَّلاقةِ أو كليهما، ومن السين والدال أو أحدهما، ولا يضُرُّ ما خالف من سائر الحروف الصُتْم. فإذا ورد عليك شيء من ذلك فانظر ما هو من تأليف العرب وما ليس من تأليفهم نحو: قَعْثَجْ ونَعْثَج ودَعْثَج لا يُنسَب إلى عربية ولو جاء عن ثِقَة لم يُنْكَر ولم نَسْمَع به ولكن ألَّفناه ليُعَرف صحيحُ بناءِ كلام العرب من الدخيل وأمّا ما كان من رباعيَّ منبسط مُعرَّى من الحروف الذُلق حكاية مؤلفة نحو: دَهداق وزهزاق وأشباهه فإن الهاء والدال المتشابهَتَيْن مع لُزوم العين أو القاف مُستحسَن. وإنما استحسنوا الهاء في هذا الضرب للينها وهشاشتها. وإنما هي نَفَس. لا اعتياص فيها.
وإن كانت الحكاية المؤلفة غير مُعَّراة من الحروف الذُلْق فلن يضُرَّ كانت فيها الهاء أو لا نحو: الغَطمطة وأشباهها. ولا تكون الحكاية مؤلفة حتى يكون حرف صدرها موافقا لحرف صدر ما ضُمَّ إليها في عَجْزها، فكأنَّهم ضمُّوا "د ه" إلى "د ق" فألَّفوهما، ولولا ما جاء فيهما من تشابه به الحرفين ما حَسُنت الحكاية فيهما لأنَّ الحكايات الرباعيات لا تخلو من أن تكونَ مُؤلَّفة أو مُضاعَفة.
فأمَّا المُؤلَّفةُ فعلى ما وصَفْتُ لك وهو نَزْر قليل، ولو كان الهُعْخُع من الحكاية لجاز في قياس بناء تأليف العرب، وإن كانت الخاء بعد العين، لأن الحكاية تحتمل من بناء التأليف ما لا يحتمل غيرها بما يُريدون من بيان المَحكيّ.
ولكن لمّا كان الهُعْخُعُ، فيما ذَكَرَ بعضُهم اسماً خاصّاً، ولم يكن بالمعروف عند أكثرهم وعند أهل البَصَر والعلم منهم ردّ ولم يُقْبَلْ.
وأما الحكايةُ المُضاعفَة فإنها بمنزلة الصَّلْصلة والزَّلْزِلَةِ وما أشبهها يتوهمون في حُسن الحركة ما يتوهمون في جَرْس الصوت يضاعفون لتستمر الحكاية في وجه التصريف.
والمضاعف في البيان في الحكايات وغيرها ما كان حرفا عجزه مثل حَرْفَي صدره وذلك بناء يستحسنه العَرَبُ فيجوز فيه من تأليف الحروف جميع ما جاء من الصحيح والمعتلّ ومن الذُّلْقِ والطُّلْق والصُّتْم، وينسب إلى الثنائي لأنه يضاعفه، ألا تَرى الحكايةِ أنّ الحاكي يَحكي صَلصلة اللجام فيقول صَلْصَلَ اللّجَام، وإن شاء قال: صَلَّ، يُخّفِّفُ مرّة اكتفاء بها وإنْ شاء أعادها مرتين أو أكثر من ذلك فيقول: صل، صَل، صَل، يتكلّف من ذلك ما بدا له.
ويجوز في حكاية المضاعَفة ما لا يجوز في غيرها من تأليف الحروف، ألا تَرَى أنّ الضَّادَ والكاف إذا أُلِّفَتَا فبُديء بالضَّادِ فقيل: "ضك" كان تأليفا لم يحسُن في أبنية الأسماء والأفعال ألا مفصولا بين حَرْفَيه بحرف لازم أو أكثر من ذلك الضَّنْك والضحك وأشباه ذلك.
وهو جائز في المضاعف نحو الضَّكضاكة من النساء. فالمضاعَفُ جائز فيه كل غَثّ وسَمين من الفصول والأعجاز والصُّدور وغير ذلك.
والعربُ تشتَقُ في كثير من كلامها أبنية المُضاعَف من بناء الثلاثي المُثقَّل بحَرْفَيْ التضعيف ومن الثلاثي المعتلّ، ألا ترى أنَّهم يقولون: صلَّ اللّجَامُ يَصِلُّ صليلا، لو حَكَيتَ ذلك فُلْتَ: صَلَّ تَمُدُّ اللام وتثقّلها، وقد خَفَّفتَها في الصلصلة وهما جميعا صوت اللّجَامُ، فالثِّقَل مدٌّ والتضاعُف ترجيعٌ يَخِفُّ فلا يتمكّن لأنّه على حَرفين فلا يتقدَّر للتصريف حتى يُضَاعَفَ أو يُثَقَّل فيجيءُ كثير منه مُتَّفقا على ما وصفت لك، ويَجيء منه كثير مختلفاً نحو قولك: صَرَّ الجُنْدُب صريرا وصَرْصَرَ الأخطَبُ صَرْصَرَة، فكأنّهم تَوَهَّموا في صوت الجُنْدُبِ مَدّا وتَوَهّموا في صوت الأخطب ترجيعا. ونحو ذلك كثيرٌ مختلِفٌ.
وأمّا ما يشتقّون من المضاعف من بناء الثلاثيّ المعتلّ، فنحو قول العجاج:
ولو أَنَخْنَا جَمْعَهُم تَنَخْنَخُوا |
لِفَحلنا إنْ سَرَّه التَنُوُّخُ |
قال اللّيث: قال الخليل: في العربية تسعة وعشرونَ حَرْفا: منها خمسة وعشرونَ حَرْفاً صِحَاحا لها أحياناً ومدارج، وأربعة أحرف جُوْف وهي: الواو والياء والألف اللَّينَة والهمزة، وسُمِّيَتْ جوفاً لأنها تَخْرُجُ من الجوف فلا تَقَعُ في مدرجة من مدارِج الَّلسان، ولا من مدارِج الحَلْق، ولا من مدرِج اللهاة، إنَّما هي هاوية في الهواء فلم يكن لها حَيز تُنسب إليه إلا الجَوْفَ. وكان يقول كثيرا: الألِفُ اللَّينَةُ والواو والياءُ هوائية أي أنها في الهواء.
قال الخليل: فأقصي الحروف كلها العين ثم الحاء ولولا بَحَّة في الحاء لأَشْبَهَت العْيَن لقُرْب مَخْرَجها من العَيْن، ثم الهاء ولولا هَتَّة في الهاءِ، وقال مَّرة "ههّة" لأَشْبَهَت الحاء لُقْرب مَخْرَج الهاء من الحاء، فهذه ثلاثة أحرف في حَيِّز واحد بعضُها أرفع من بعض ثم الخاءُ والغَيْن في حيِّز واحد كلَّهُنَّ حلقية، ثم القاف والكاف لهَويتان، والكاف أرفع ثم الجيم والشين والضاد في حيِّز واحد، ثم الصّاد والسِّين والزَّاء في حيِّز واحد، ثم الطاء والدّال والتّاء في حيزِّ واحد، ثم الظاء والذال والثاء في حيِّز واحد، ثم الراء واللام والنون في حيّز واحد ثم الفاءُ والباءُ والميمُ في حيِّز واحد ، ثم الألفُ والواو والياءُ في حيِّزٍ واحد والهمزة في الهواء لم يكن لها حيِّز تُنْسَب إليه.
قال الليث: قال الخليل: فالعين والحاء والخاء والغَيْن حَلْقيّة، لأن مبدأها من الحَلْق، والقاف والكاف لَهَوِّيتانِ، لأنَّ مَبْدَأهُما من اللّهَاة. والجيم والشِّين والضاد شّجْريّة لأن مَبْدَأها من شجْر الفم. أي مَفرج الفَمِ، والصاد والسين والزاء أسلية، لأنَّ مبدأها من أسلة اللّسان وهي مُستدَقّ طرف الّلسان. والطاء والتاء والدال نِطْعيَة، لأنّ مبدأها من نطع الغار الأعلى.
والظاّء والذّال والثّاء لَثِويّة، لأنّ مَبْدَأها من الِّلثة. والرّاءُ واللاَّم والنُّون ذَلَقيّة، لأنّ مَبْدَأهَا من ذَلَق اللّسان وهو تحديدُ طَرفَي ذلق اللّسان.
والفاء والباء والميم شَفَويّة، وقال مّرةً شَفَهيّة لأن مبدأها من الشَفَة. والياء والواو والألف والهمزة هوائية في حَيِّز واحد، لأنّها لا يتعلّق بها شيء، فُنسِبَ كل حرف إلى مَدْرَجَتِه ومَوْضِعُه الذي يَبْدَأ منه.
وكان الخليل يُسّمِّي الميم مُطْبَقة لأنّها تطبِق الفم إذا نُطِقَ بها، فهذه صورة الحُرُوف التي أُلِّفَتْ منها العربية على الولاء، وهي تسعة وعشرون حرفاً: ع ح ه خ غ، ق ك، ج ش ض، ص س ز، ط د ت، ظ ذ ث، ر ل ن، ف ب م، فهذه الحروف الصحاح، و ا ي ء فهذه تِسعة وعشرون حرفا منها أبنيةِ كلامِ العربِ.
قال اللّيث: قال الخليل:
اعلم أن الكلمة الثنائيَّةَ تَتَصَرَّف على وَجْهَيْن نحو: قَدْ، دَقْ، شَدْ، دَشُ، والكلمةُ الثلاثَّيُة تتصرَّفُ على ستة أوجُه، وتُسمَّى مَسدُوسة وهي نحو: ضرب ضبر، برض بضر، رضب ربض، والكلمة الرباعية تتصرَّف على أربعة وعشرين وجها وذلك أن حروفها وهي أربعة أحرف تُضْرَب في وجوه الثلاثيِّ الصَّحيح وهي سَّتة أوجه فَتصيرَ أربعة وعشرين وَجْهاً، يُكَتَب مُسْتَعْمَلها. ويُلغى مُهْمَلها، وذلك نحو عبقر تقول منه.
عقرب، عبرق، عقبر، عرقب، عربق، قعرب، قبعر، قبرع، قرعب، قربع، رعقب، رعبق، رقعب، رقبع، ربقع، ربعق، بعرق، بقعر، بقرع، برعق، برقع.
والكلمة الخماسية تتصرّف على مئة وعشرين وجها، وذلك أن حروفها، وهي خمسة أحرف تُضرَب في وُجُوه الرُّباعيِّ، وهي أربعة وعشرون حرفا فتَصيرُ مئة وعشرينَ وَجْها يُسْتَعْمَل أقَلُّه ويُلغى أكثره.
وهي نحو: سَفَرجل، سفرلج، سَفجرل، سجفرل، سجرلف، سرفجل، سرجفل، سلجرف، سلرفج، سلفرج، سجفلر، سرفلج، سجفرل، سلفجر، سرجلف، سجرلف، سرلجف، سجلفر، وهكذا.
وتَفْسِيرُ لثُّلاثِّي الصِّحيح أن يكونَ ثلاثةَ أحرُف ولا يكون فيها واوٌ ولا ياءٌ ولا ألفٌ لينة ولا همزة في أصلِ البِنَاء، لأنّ هذه الحُرُوفَ يُقَالُ لها حُروف العِلَلِ.
فكلّما سَلِمت كلمة على ثَلاثَة أحَرُف من هذه الحُرُوف فهي ثلاثيّ صحيح مثل: ضَرَبَ، خَرَجَ، دَخَلَ، والثلاثيُّ المعتلّ مثل، ضَرَا، ضَرِيَ ضَرُوَ، خَلا، خلي، خلْو لأنه جاء مع الحَرْفَيْن ألفٌ أو واوٌ أو ياءٌ فافهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق