بين العربية والعبرية قرابة لا ينكرها
أحد. وهذه القرابة يمكن أن تستثمر للعثور على الضائع من دلالات بعض المفردات
العربية. فكلا اللغتين تنتميان إلى عائلة لغوية واحدة هي العائلة السامية. ولا ريب
في أنّ معرفة العبرية تفيد في معرفة العربية نفسها.
سألني أحدهم مرّة :لماذا تدرس العبرية؟
لم أقلْ له لأنّ المطلوب معرفة لغة الأعداء
وإنما أجبت: لأزيد، بكل بساطة، معرفتي بلغتي العربية. استغرب الجواب، وبدا له
كأنّي أسخر من سؤاله أو كأنّي تقصّدت إعطاء جواب مراوغ. كنت مقتنعاً أن معرفتي
بالعربية تظلّ قاصرة ما دمت لا أعرف اللغات السامية. وأعطيت سائلي مثلاً بسيطاً لإزالة
ما سببه له جوابي من التباس. قلت له: في حال كنت تعرف شخصاً ما ثم، بحكم المصادفة،
تعرفت على قريب له أليس هناك احتمال من أن تزيد معرفتك بذلك الشخص من خلال ما
يقوله لك عنه قريبه؟ الاحتمال وارد، ورود الاحتمال هو ما يبرر درس العبرية
والسريانية وغيرهما من اللغات السامية، وان كان للعبرية فضل الأحياء على الأموات. ولا شكّ في أن تجربة
اللغة العبرية تستأهل الدرس بعد أن استطاعت حفنة من اليهود نفض غبار القبر عنها
وبثّ الروح في عظامها. ومن الحكمة إعطاء العدو حقّه، ولكن أترك ناحية نهوض العبرية
من القبر لوقت آخر.
المعروف أنّ المفردة لا تستطيع أن تعيش
بوجه واحد، أو بمعنى واحد. معانيها لا تثبت على حال شأن غيمة في كبد السماء لا تكف
عن تغيير شكلها على ما تقول الحكمة الصينية. المفردة من الناحية الصوتية تتغير،
افتح لسان العرب مثلا وانظر كيف للزعتر أكثر من شكل: فهي" زعتر" و"
صعتر" و" سعتر"، وكذلك من الناحية الدلالية، إنها تبدّل ثوبها
الدلالي أحياناً كما تبدّل الحية جلدها.
سأتوقف، في هذا المقال، عند كلمة واحدة،
أو بالأحرى عند جذر لغوي واحد هو " هلك " في العربية والعبرية. وهو مثال
واحد يعبّر عن قدرة العبرية على إضاءة الدلالات
العربية. اللغة تعيش في ثنائيات عدّة منها: اللفظ والمعنى، التذكير والتأنيث،
الحقيقة والمجاز. لا يمكن لأي مفردة أن تقتنع أو تكتفي بدلالتها الحقيقية، تحتاج
كما الإنسان لوصلات أو امتدادات لها. فالإنسان أراد أنْ يركّب لذاكرته وصلة فاخترع
الكتابة، ومن هنا عبارة لطيفة للكاتب الأرجنتيني بورخيس يقول فيها: " إنّ
القلم امتداد للذاكرة"، فضلاً عن أنّه لا ينسى، وأراد أن يركب لقدميه وصلات
فاخترع الدولاب، وإذا تمعن المرء في كلّ الاختراعات يكتشف أنها وصلات لحواسه
وأحلامه. المفردات أيضا تريد أن تركّب لدلالاتها امتدادات فكان المجاز. المجاز روح
اللغة، ولا أقصد المجازات الشعرية أو التي يخترعها كبار الكتاب، وإنما مجازات
الحياة اليومية.
سأدخل من باب الحقيقة والمجاز إلى
المقارنة بين الهلاك العربي والهلاك العبري. سوف يبدو لنا أن الهلاك العربي ليس
أكثر من مجاز. مجاز تحول إلى حقيقة . حين أقول "هلك فلان" يعني مات.
ولكن الموت ليس أكثر من مجاز كثر استعماله حتى صار حقيقة يبحث له عن مجازات جديدة.
ومن جماليات المفردات أنها تنشطر إلى حقيقة ومجاز، ثمّ يبلغ المجاز أشدّه فينفصل
عن الحقيقة الأم، ويبني له حقيقة جديدة هي مجازه القديم. قد تبقى الحقيقة القديمة
طي القواميس يكتشفها مصادفة من يبحث في أمهات المعاجم وقد لا يعثر لها على اثر لأن
الحقيقة اندثرت أو انسحبت من التداول والأفواه قبل ولادة المعاجم والكتابة.
كيف تجد الحقيقة الأولى وهي لم تترك
أثراً في معجم أو فم؟ كيف تستطيع العثور على الحقيقة المندثرة؟ الحقيقة التي لا
تؤمن بها لأنّك لا تراها في لغتك. ألا يمكن أن تكشف لك مفردات غيرك حقيقة مفردات
لغتك؟ هنا تكمن أهمية ناحية من نواحي علم اللغة المقارن وهي التي تدرس أغصان
الشجرة اللغوية الواحدة.
لكم أدهشني استعمال فعل " الهلاك
" في اللغة العبرية. فهو لا يرتبط ظاهراً بالاستعمال العربي على الإطلاق. في
العبرية مفردتان للتعبير عن الانتقال. الانتقال على القدمين أو عبر وسيلة من وسائل
النقل. ليس في العبرية عبارة تشبه "رايح ع البيت"، لأنّ كلمة
"رايح" هنا لا تعلمني إذا كان الرواح إلى البيت مشياً على الأقدام أو
بواسطة وسيلة نقل. اللغة العبرية أحبت هنا أن تستعمل كلمتين. وفعل" هلك"
جرى تخصيصه للتعبير عن الذهاب مشياً على الأقدام.
ما علاقة المشي العبري بالموت العربي؟
إنّ المفردة واحدة في العربية والعبرية ولكن بمعنيين مختلفين فأيّ معنى هو الأول؟ المشي شيء مرئي، بينما
الموت شيء لا تراه العين. المعنى المجرد لا ينبت أوّلاً وإنما المادّي. بدايات
المجازات مادية. وعليه لا بدّ من أن يكون المعنى العبريّ بمثابة حقيقة اللفظ
والعربيّ مجاز اللفظ.
ثمة عبارة في العربية متداولة تربط بين
طرفي المعنى وهي "هلكت من المشي" التي تحمل معنى مجازياً لأنّه يستحيل أن ينطق بها لسان ميت!
يولد الهلاك من رحم المشي. المشي والهلاك وجها المفردة الواحدة. وعليه فإنّ
العبرية لمّت شمل المعنى لفعل "هلك" العربيّ وأعادت العافية الى قدميه.