الصين ليست كما يقال عنها اليوم، "مصنع العالم" فقط، وانما مستودع الحكمة أيضا ومسقط رأس كثير من الحكايات. وثمة حكاية طريفة عن صيّاد صنع ناياً من الخيزران ليساعده في الصيد، ويجذب إليه الطرائد وفق رغبات نفخه وحركات أنامله على خروق الناي، وهذا أمر ممكن الحدوث صوتياً. ألم يشبه ابن جني في كتابه: "سرّ صناعة الإعراب" الجهاز الصوتيّ بالناي؟ وألم يشر الفيلسوف ابن سينا في كتابه: "أسباب حدوث الحروف" إلى أنّ الإنسان قادر على "التصويت" بيديه عبر قرع الكفّ نوعاً من القرع بالإصبع لتوليد حروف الهجاء؟ بل إن الإنسان اماط اللثام اليوم عن أشياء كثيرة من مجاهل صوته ومجاهل أصوات كلّ الكائنات الحيّة، وبدأ بإماطة اللثام عن كلام الحيوان، فثمة لغات تتفرع إلى لهجات محلية لدى الطيور وغيرها من الحيوانات كما لدى البشر، وأظهرت التجارب العلمية أنّ حيوانين من فصيلة واحدة ولكنهما من منطقتين مختلفين قد يعجزان عن التفاعل أو التواصل. وتروي العالمة الروسيّة "ستيشكوفسكايا" في كتابها: "علم الأصوات الحيويّة، عمّ تتكلّم الحيوانات؟" أحداث تجربة على صيحات غربان من أمريكا الشماليّة وقعت في الأسر فكان أن تداعى لنجدتها الغربان هناك، ونقلت صيحات الغربان المسجّلة إلى إحدى الغابات الفرنسية فلم يكن رد فعل الغربان الفرنسيّة هو نفسه على صيحات الأسرى لأنّها لم تدرك "معنى" الأسر الكامن في صيحات الغربان الأجنبيّة !
إنّ الصيّاد الصينيّ عمد إلى توليد أصوات الحيوانات عبر طريقة معيّنه في العزف على الناي. فكانت تخرج من قصبة نايه أصوات الظباء والذئاب والنمور والدببة وغيرها من الحيوانات. لا تُعجز نايَه محاكاةُ صوتٍ. وكان الناي مصيدة صوتيّة يخدع بها الغزلان ويجذبها إليه. اعتاد الصيّاد أن يذهب إلى موقع جبليّ، ويأخذ معه قوسه وسهامه ويتزوّد بموقد يحضن الجمر لأنه كان يضع في رأس السهم قبل رميه جمرة تعجلّ في طلوع روح الطريدة. ويشرع الصيّاد بالنفخ محاكياً صوت الظَّبْي، مما يثير فضول الظباء التي تسمع صوت واحد من فصيلتها فتنجذب صوب الصوت لتلقط أخبار الظبي الشريد ولكن سهم الصياد الحارق يكون بالمرصاد، وفي أحد المرّات، لم تستجب الظباء لنايه، وإنّما استجاب للصوت ذئب يفتّش عن فريسة تقيم أود جوعه، فتلمّظت شفتا الذئب لسماع صوت الظبي، واتجه صوبه، وهنا انتبه الصياد إلى حضور الذئب، فارتعب، لم تصدق عيناه، لم يخطر بباله أن يخدعه الناي؟ عمد بسرعة إلى تغيير مواقع أصابعه على خروق الناي وقام بإخراج صوت نمر غاضب، ارتبك أيضا الذئب، فهو ليس على صحبة مع النمر، وظنّ أن أذنيه لم تسمعاه الصوت على حقيقته فكذّب أذنيه وطوى ذنبه وعاد أدراجه معتبراً أن الدنو مغامرة لا تحمد عقباها، ولكن في تلك الأثناء، كان نمر قد سمع صوت زميله، فدنا من مصدر الصوت، وهنا شعر الصياد انه فرّ من أنياب الذئب ليسقط فريسة لأنياب أشرس لا تعرف الرحمة. أسرع في بثّ صوت دبّ من نايه عسى النمر يرتدع عن الإقدام. والنمر يعرف من خبرته السابقة، انه لا يمكن المزاح مع الدبّ الفظّ الذي ما إن ينتصب على قدميه الخلفيتين حتى يتحول إلى كائن هجين مرعب، وتتحول قبضة يده بمخالبها المسنونة الشبيهة بالأسياخ إلى سلاح لا تقوى أنياب النمر على مقاومتها، فتراجع النمر بدوره راضياً من الغنيمة بالإياب. تنفّس الصيّاد الصعداء، إذ لم يعرف كيف تخلّص من هذه الورطات التي تتدفق عليه تدفق النغمات من فوّهات الناي! ولكن ما هي إلاّ لحظات، وحتّى قبل أن يستردّ أنفاسه المضطربة، اطلّ دبّ واقفاً يستطلع يمنة ويسرة عن مصدر صوت الدبّ الآخر ليؤنس وحدته في الجبل، فوقع نظره على الصيّاد، وكانت مفاجأة سارة جدّاً لفكّي الدبّ الذي أسرع إلى الصيّاد الحائر. الصيّاد جاءته الجمدة، لم يعد يعرف أي صوت يستلّ من نايه ليكون سوراً يحميه من الدبّ، ولم يسعفه أيضاً خوفه في تصويب سهمه إلى الدبّ للتخلّص من هذا الخطر الداهم.
انتبه الصياد إلى الوجه الآخر من حيلته الصوتية، انتبه إلى أنه سقط في فخّ نايه كما اسقط من قبل كثيراً من الظباء وغيرها من الطرائد. عرف خواء حيلته وهشاشتها، ولكن لم يسمح له الوقت بتغييرها، ولم يمهله نهم الدبّ الذي استفاد من ألاعيب الناي، فيما يبدو، أكثر مما استفاد الصيّاد الذي تحوّل إلى صيد شهيّ للدبّ الذي لم يبالِ بصرخاته الدامية النابعة من فمه هذه المرّة وليس من خروق الناي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق