لا يخلو مسار العلاقة بين الانسان والكتابة من توتّر محموم وطرافة على صلة نسب بالسِّحر والقداسة والتنجيم (كان من شروط المؤرّخ في الصين، مثلاً، ان يكون ضليعاً في التنجيم). وأظن أنه تكفي الاشارة الى ارتباط الكتابة بالسِّحر في أول نشأتها لدى كل الشعوب التي ارتبط تاريخها بالكتابة، بل يذهب البعض الى اعتبار السّحر بقدراته الغيبية الخارقة، هو الأب الشرعي للكتابة، كما أنه من الدال، النظر الى تلك الهالة التي كانت تضفيها الحضارات القديمة على الكاتب، القابض على رقاب الكلمات والعباد، ومن الآثار الرائعة المتبقيّة من العهود القديمة لهذه المهابة تمثال «الكاتب» المتربّع بخشوع في بهو الحضارة الفرعونية.
ولا يزال الانسان، الى الآن، يخضع، في أحيان كثيرة، بشكل او بآخر للـ«مكتوب». هذا يكتب لتلك التي تتمرّد على رغابه العاطفية «حجاباً» يحبسها فيه ويشلّ من خلال طلاسمه قراراتها الذاتية، او تلك تكتب لذاك «حجاباً مضاداً» يفك أسرها من أغلال مكتوبه. فالكتابة أسر، وإيقاع المرغوب في شباك المكتوب. ومن هنا، حين نرى إنساناً ما مذهولاً ومسحوراً نقول: «مَكْتِبْلو» أي (مكتوب له) والكارثة هي ان البعض لا يزال يرى، الى الآن، ان «الكتابة/ الحجاب حق نافذ لا رادّ لسلطانه!». ونعتبر المولود الجديد بمثابة «ورقة بيضاء!»، والعبارة الأخيرة تشير، رغم عدم صحّتها على ما تقول لنا أبجدية الـ«دنا DNA» والكشوفات النفسية والدماغية، بشكل خفيّ الى ان الحياة كلمات تكتب كالأوشام على أجسادنا وأرواحنا. ولكن المكتوب عند الشعوب التي لا تعرف الكتابة والقراءة يتحوّل مشكلة تبلبل العقول وتستولد الخوف والحذر.
ثمّة شعوب كثيرة تعيش، الى الآن، على بركة المنطوق والذاكرة دون ان تنزلق الى أفاعيل المكتوب وألاعيبه الماكرة، منها بعض القبائل التي تعيش في إفريقيا او في أميركا، فهي جرّبت السحر بلونيه الأبيض والأسود وعاشت في ظلّه المنطوق، ولكن لا خبرة لديها بسلطان السِّحر المكتوب! وثمة حكاية غنية بالتفاصيل وقعت بين هندي أحمر وأوروبي تعود الى بدايات الاحتلال الغربي للقارّة الحمراء (نسبة الى الهندي الأحمر) والى اللحظات الأولى التي اكتشف فيها الهندي الأحمر نفوذ الكتابة وسلطانها البصير. تقول الحكاية ان أوروبياً أراد ان يرسل سلّة تين لصديقه الأوروبي، فطلب من عبده الهندي الأحمر توصيل السلّة. إحتاط الأوروبي للأمر، فقد لا يكون فم عبده عفيفاً، وحتى تكون حبّات التين بمأمن من فم الهندي، كتب على ورقة عدد حبّات التين الموجودة في السلّة، ووضعها في كعب السلة. لكن العبد اشتهى، في منتصف الطريق، تذوّق الحبّات المحرّمة، فأكل عدداً منها. تابع طريقه حتى وصل وسلّم الأمانة المنقوصة والمأكول منها. عندما قرأ الصديق الورقة أنكر على العبد نقصان العدد، وأنه مخالف لما تنطق به الورقة. أصرّ العبد على أنه أوصل السلّة كما هي، لم يأكل منها ولا حبّة، كما أنه حملها بكل عناية خشية سقوط حبّاتها في الطريق. وقال للأوروبي: إن هذه الورقة كذّابة وبلهاء. من أين لها ان تعرف ما في داخل السلّة؟ وهل للورق ألسنة وأفواه حتى يحكي؟.
في المرّة الثانية، طلب السيد من العبد ان يوصل سلّة أخرى الى صديقه، وفيها عدد مشابه من التين، وورقة أخرى عن هذا العدد. وفي منتصف الطريق، جاع العبد مرّة أخرى أيضاً واستحلت شفتاه أكل بعض حبّات التين. ولكنه خاف من ان يكون سيده قد وضع في كعب السلّة تلك الورقة الماكرة والثرثارة، وقال: لن أسمح لخبث هذه الورقة، هذه المرّة، ان ينتصر عليّ، سأقطع لسانها فلن أسمح لورقة بلهاء ان تقرر مصيري او تجلب لي الفضيحة او تحرمني مذاق التين. رفع حبّات التين، حبّة حبّة، حتى وصل الى الورقة فأخذها شامتاً بها ومستهزئاً بقدراتها ووضعها تحت حجر حتى لا تتجسّس عليه وهو يلتهم حبّات التين الشهية، وحين انتهى من الأكل أعاد الورقة الى موضعها في أسفل السلّة، ثم أعاد ما تبقّى من الحبّات بعناية فائقة في قلب السلّة، وهو يضحك من الورقة الشبيهة بـ«الأطرش بالزفّة». ظنّ العبد الأحمر أنه قصّ لسان الورقة بهذه العملية وفقأ عينيها الجاحظتين وأصمّ أذنيها. فهي عاجزة الآن عن إخبار صديق سيدّه بما حصل لأنها لم تر شيئاً. لكنه فوجئ بأن الصديق يستنكر عليه العدد أيضاً. أصرّ العبد على ان العدد لم ينقص، غير ان إصرار الصديق على ما في الورقة أقنع الهندي الأحمر بأن الورقة عنيدة ولن تغيّر رأيها او تتراجع عن أقوالها حتى وإن لم تره يأكل حبّات التين، بل لعلّ للورقة بصراً حديداً يخرق الحاجب الحجري، وما كان يدهش الهندي هو ان الورقة صادقة، فهو يعرف من صميم قلبه أنها تعرف ما حصل رغم أنه حدث بعيداً عن عينيها الملوثتين بالحبر الأسود الثاقب. لم يعد أمام الهندي الأحمر إلاّ الاذعان والاعتراف بما التهم فمه والإقرار للورق بصحّة ما تفوّه به حبره. وصار، منذ ذلك الحين، يخاف من الورق ومن مقدرة المكتوب، لأن الورق نمّام، طويل اللسان، لا يترك سِتْراً مغطّى. وعرف الهندي الأحمر، منذ ذلك الوقت، ان «المكتوب ما منّو مهروب».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق