يقظة التنين الصيني تثير الخوف والقلق لدى القوى العظمى في العالم، والتنين هذا الكائن الخرافيّ تعود جذور ولادته إلى أساطير قديمة جدا، وان كان التنين يثير الرعب في الغرب، فهو لا يحمل الدلالات نفسها في الصين، انه يجسد روح الصين وفلسفتها ونظرتها إلى الحياة، وعليه فإن تفكيك رمزيته يساهم في فهم الذهنية الصينية التي تقوم على فلسفة الوئام وليس الخصام. الصينيون يقولون إنهم من سلالة التنين. وهذه الخرافة الصينية في شجرة الأنساب لا أساس لها، عملياً، من الصحة لأن ليس للتنين كيان حقيقي وفعلي وإنما هو مخلوق مركّب. يعود تاريخ ولادة التنين الرمز إلى ولادة الصين نفسها، هذه الحضارة المعمّرة والأقدم في العالم التي لم تنقرض شأن الحضارة الفرعونية أو الفينيقية أو الرومانية وغيرها من الحضارات القديمة، ولعلّ بعض سحر الصين مستمدّ من هذا الامتداد الزمني الذي لا يمكن لأي حضارة راهنة أن تدّعيه. ويقول علماء الأنتروبولوجيا في الصين إنّ التنين هذا الكائن الخرافي ليس إلاّ عملية تسوية تاريخية توحيدية قامت بها القبائل الصينية القديمة التي كان لكل منها طوطمها الخاص، فالبعض كانت الأفعى طوطمه أو السمكة أو السلحفاة أو الأيّل. ومن بين هذه القبائل خرج قائد كبير ووحّدها كلها تحت سلطانه، ولكنه لم يتخذ من طوطم قبيلته الخاص رمزا مفروضاً على سائر القبائل ولم يترك، بالمقابل، للقبائل الأخرى حرية الاحتفاظ بطوطمها الخاص فقام بعملية توحيد كل هذه الحيوانات الطوطمية في كائن خرافيّ افتراضي أخذ شكل التنين، ومن يتأمل رسومات التنين يدرك أن أعضاءه مأخوذة من عدة حيوانات.فالتنين الراهن له قرون غزال وجلد أفعى ومخالب نسر ...الخ. والتنين لا يرمز إلى الأمة الصينية فقط وإنما إلى روحها ووحدتها القائمة على التعددية المتناغمة.
وتسعى الصين حاليا إلى فصل سيرة حياة التنين الصيني عن التنانين الغربية الغريبة، والتي ترمز إلى الرذيلة بخلاف ما ترمز اليه التنانين الصينية. من هنا اقترح المفكر الصيني كوان شيه دْجْيِه) (Guan Shi jie الاحتفاظ بالكلمة الصينية "لونغ" للتنين، وإدخالها إلى معاجم الغرب حتى لا يتلوّث معناه بالمعنى الغربي، معتبرا ان تشويه صورة التنين الصيني تعود إلى عامل مطابقته بمدلول مفردة التنين الغربيdragon) ) الذي ينطوي على دلالات سلبية. فالتنين الغربي يرمز إلى الهيمنة والسيطرة والاقتحام في الغرب، وعليه فإن تحرير التنين الصيني من معناه الغربيّ يعيده إلى طبيعته الصينية المسالمة الموحدة، التي تنشد التناغم. وان اتخذت العولمة مسارها بما ينسجم مع طبيعة التنين الصينيّ المركبة فهذا يعني ان العولمة سيشارك فيها الجميع، وتكون ملامحها مأخوذة من كل الحضارات الراهنة على شاكلة ملامح التنين الرمزية. والصين بلد الوسط والتسامح والتناغم، وفلسفتها الأخلاقية والروحية تقوم على فكرة الانسجام، والذين يرعبهم النهوض الصيني إنما يجهلون الأسس الفكرية والروحية التي تقوم عليها ثقافة الصين الأعرق في التاريخ الراهن. وثمة أمور كثيرة مثيرة للاهتمام في الفكر الصيني، ولقد أدرك العالم الغربي أهمية أشياء كثيرة في هذا الفكر منها مثلا مفهوم"الفانغ شوي" ( الريح والماء)، أي علاقة العمران بالمكان وأثره على السكّان، والمكتبات الغربية مليئة بالكتب التي تتناول الأبعاد الروحية لممارسة الـ"فانغ شوي" الصينية.
ثمة مفاتن وأمور كثيرة تسترعي التأمل والنظر في بلاد الوسط أو بلاد "الهارد وير" كما سماها بعض الدارسين الغربيين، مستلهما تركيب الكمبيوتر المؤلّف من "سوفت وير" و"هارد وير" معتبرا ان القرن الحادي والعشرين سيكون على شاكلة الكمبيوتر، "الهارد وير" من نصيب الصين بينما "السوفت وير" من نصيب الهند.
الفكر الصيني لا يرضى أن ينحبس في وجهة نظر واحدة، ولعل هذا السبب يعود إلى الطبيعة البراغماتية التي يتمتع بها والتي تلخصها عبارة رجل نهضة الصين الراهنة الرئيس الراحل دانغ شياو بينغ القائل انه "لا يهم أن يكون لون الهرّ ابيض أو اسود وإنّما المهمّ أن يأكل الفأر". في أي حال ثمة عدة أقاصيص وحكايات تظهر ليونة الفكر الصيني الشبيه بليونة حركات التنين ورهافة عضلاته التي يمكن لها أن تتحرك في كلّ الاتجاهات، كما ان الفكر الصيني يعتمد اعتمادا كبيرا على التشبيهات والمجازات المائية لما يمتلكه الماء من خاصية مرنة، طيعة، هذا ما يلحظه قارىء كتاب "التاو" على سبيل المثال للفيلسوف الصيني "لاو تزه". ويروي الكاتب الصيني المقيم في فرنسا أندريه شيانغ حكاية تشير إلى أن الصيني لا يمكن أن تحبسه في وجهة نظر واحدة، وليونته في التعامل مع الحقائق والمطلق أمر غاية في العجب، بل أن كلمات مثل "مطلق" أو "منطق" كلمات ومفاهيم طارئة، لم تدخل القاموس الصيني إلا حديثا اثر الانفتاح على الغرب.
يروي اندريه شيانغ قصة معبد صيني مبني وسط بحيرة اصطناعية كبيرة في بكين، مما يجعل أمر الوصول إليه مستحيلا إلا على متن زورق أو عن طريق عبور الجسور. ويشير الكاتب الصيني إلى حيرة السائح الغربي امام تركيبة الجسور فهي متعرجة كمجرى نهر، مع انه لا يوجد أي عائق طبيعي يفرض هذه التركيبة المتعرجة، أي ان الاعوجاج ليس وليد عائق جغرافي أو بسبب تضاريس قاهرة. إن الحيرة التي تصيب الغربي لا تصيب بالتأكيد الصيني المعتاد على أن ينظر إلى أي أمر من الأمور نظرات متعددة ومن زوايا مختلفة. يقول اندريه شيانغ شارحاً طبيعة الجسور المتعرجة: ان الجسر المستقيم ممكن جدا وتكاليف بنائه اقل بكثير ربما إلا انه يمنع الذاهب إلى المعبد من أن يتشبع بروح المكان وبالطبيعة المحيطة لان عينيه ستكونان حبيستي نظرة واحدة أو اتجاه واحد، في حين ان منعرجات الجسر تسمح للذاهب إلى المعبد بان يرى أكثر من مشهد أو يرى المشهد الواحد من زوايا متعددة، فهو أي الجسر يمنع، من جهة، من السقوط في فخّ الرتابة، ويزود العين، من جهة أخرى، بالمقدرة على تقليب النظر في المشهد وتغيير مرآه، ويبدو أن علاقة الصيني بالعين علاقة مميزة فعلا، وهنا لا بد من العودة إلى أسطورة أخرى شديدة الطرافة والدلالة على ولادة الخطّ الصيني المميّز، المعروف أن ليس هناك أي فضل للأبجدية الفينيقية على كتابة اللغة الصينية التي نبتت من تجربة الحضارة الصينية نفسها ولم تستوردها من خارج حدودها، فهي كتابة تصويرية وليست أبجدية أو صوتية، أي أن الكلمة الصينية لا تشير إلى صوت وإنما إلى معنى أو شكل، ولعل هذا السبب هو الذي جعل من إتقانها مسألة صعبة بصعوبة خرق سور الصين نفسه. وتروي الخرافة الصينية انّ "صان دجيه" الكاهن في عهد مؤسس الإمبراطورية الصينية هوانغ تي هو الذي اخترع الكتابة عبر ملاحظة آثار اقدام الطيور على التراب، إلى هنا الأمر، إلى حد ما، عادي إذ من المعروف ارتباط بدايات الكتابات بالكهانة والسحر معاً في أكثر من حضارة، إلا أن الأسطورة احتفظت لنا برسم لمبتكر الكتابة الصينية واسمه "صان دجيه"، ومن يتأملها يلحظ فوراً غرابة في تكاوين وجهه، فهو لا يملك عينين اثنتين وإنما أربع عيون، أي أنّه يمتلك حدّة في النظر لا تتوفّر لسائر الخلق إلاّ في الأساطير. ولا ريب في ان الكتابة الصينية تحتاج إلى ذاكرة بصرية مرهفة لا تحتاج لها بقيّة اللغات القائمة على الكتابة الأبجدية أو الصوتية. إن رمزية العيون الكثيرة في صورة "صان دْجْيِه" هي عملية تحرير الأمور من عقال النظرة الواحدة أسيرة الايديولوجيا المغلقة. من هنا يرى بعض الماركسيين انحراف الصين عن الخط الماركسي إلا أن الصينيين يجيبون بان الذين يؤمنون بحرفية نص ماركس هم من ألد أعدائه وأكثرهم بعداً عن الماركسية لأنهم يقتلون أفكاره بتحجيرها. هذه الليونة في التعامل مع الفكر الماركسي هو الذي أنقذ الحزب الشيوعي في الصين من أن يلقى المصير نفسه الذي لقيه الحزب في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. وهذه النظرة الواسعة والمتحركة ليست بنت الغرب وإنما بنت التراث الصيني الروحي والمادي على السواء. وتحجير النص أو المعنى أمر لا يخطر ببال صيني، وهذا ربما من أثر لغتهم على فكرهم، والمعروف أن الإنسان لا يمكن له أن يرى العالم إلا من منظور لغته، أي لا بد من أن يتنبى وجهة نظر لغته بطريقة عفوية ولا واعية، لأننا نعيش، كما يقول العالم الألسني الفرنسي فندريس، تحت رحمة اللغة.
واللغة الصينية من أكثر اللغات خضوعاً للنظرية السياقية، فالسياق هو الذي يحدد دلالات الكلمات. هو الذي يحدد طبيعة الكلمة فيما إذا كانت اسما أو فعلا أو حرفا، لأنّ الكلمة الواحدة هي نفسها قد تكون فعلاً أو اسماً أو حرفاً من دون أي تعديل في صيغتها الصوتية أو الكتابية. ليس هناك من صيغ مائزة للأفعال والأسماء، كما أن اللغة الصينية لا تملك أيضا علامات فارقة تميز بين المفرد والجمع بخلاف العربية مثلا التي تملك للمفرد الواحد عدة أشكال من صيغ الجموع. السياق وحده في اللغة الصينية هو الذي يحدد ما إذا كانت المفردة تدلّ على مفرد أو جمع، كما أن ليس في اللغة الصينية أدوات تنكير أو تعريف، فـ"ال" التعريف ليست من صلب اللغة الصينية والسياق وحده يشير إلى كون المقصود نكرة أو معرفة، كما أن ليس في الصينية أيضا تصريف للأفعال، فالأفعال لا تصرف، لها شكل واحد بدلالات متعددة، والسياق وحده هو الذي يقوم بمهمة تحديد ما إذا كان الفعل يدل على الحاضر أو الماضي أو المضارع. لغة تتحرر فيها الكلمات من القيود اللغوية لا بد إلا أن تنعكس على نظرة الناطقين بها وعلى رؤيتهم للأشياء. إن العلاقات بين الكلمات هي التي تحدد معنى الكلمات، والبعض يشير إلى أن الصينيين هم الذين اخترعوا المغناطيس وذلك بسبب إدراكهم لوجود علاقات خفية بين الأشياء وهو ما يعرف بمصطلح "تْشِي" في اللغة الصينية. المعنى غير ثابت أو مكتمل ولا يمكن سجنه في دلالة مفردة. ويشير الكاتب الفرنسي المتخصص في الفكر الصيني فرنسوا جوليان إلى مقولة صينية حول المعنى، حيث تشبه فرشاة الكتابة بالمجذاف ( وبالمناسبة فرشاة الكتابة هي نفسها فرشاة الرسم في الصين، بخلاف الفصل بين أدوات الرسم وأدوات الكتابة في الغرب أو العالم العربي). إن رفع المجذاف لا يعني على الإطلاق إيقاف الزورق، لان المياه المتموجة لا تسمح للزورق بالاستقرار التام. وهكذا المعنى لا يمكن تجميده في أرضه، انه متحرك حركة الزورق بعد رفع المجاذيف.والحركة هنا هي حركة براغماتية، طبيعية. وعلى هذا تقوم فكرة "التاو= الطريق" في الفلسفة التاوية وخلاصتها عدم المقاومة، وعدم السباحة ضد التيار. إنّ ركوب التيار لا ترهق الجسد إرهاقه في حال كانت السباحة ضد التيار، وهذا يعني الانسجام مع المكان الذي أنت فيه. ومفهوم الانسجام أو التناغم من صلب الفكر الصيني الكونفوشيّ والتاويّ على السواء، وهو مفهوم لا يزال يتكرر على ألسنة السياسيين الصينيين في نظرتهم إلى إدارة شؤون العالم ومعالجة أزماته، وهو مفهوم يزعج الغربيين، لأنهم يرون أنّ الشعب الصينيّ متعرج كالجسر الموصل إلى المعبد، وكمجرى النهر الذي لا يعرف الخطّ المستقيم. والحضارة الصينية بنت حوض النهر الأصفر, ومنه اكتسبت استراتيجيتها المائية، كما يتبدى ذلك بجلاء في كثير من فصول كتاب" فن الحرب" لـ "صن تسه"، وهو من أوائل الكتب التي تتناول فن الاستراتيجيا- كتب في منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد- والكتاب لأهميته لا يدرس فقط في الكليات الحربية وانما يدرس أيضا في كليات إدارة الأعمال حتّى في أميركا نفسها. ومن الأمور التي لا يستوعبها العقل الغربي عدم التزام الصينيين بالمعاهدات، ليس لأنهم لا يحبون الالتزام بالمعاهدات والمواثيق، ولكن لان المعاهدة ضد سنة الحياة المتغيرة، وهو يؤمنون بالتغيرات والتحوّلات وبان كلّ شيء متغير، لأنّ الثبات أشبه ما يكون بفكرة سريالية في نظر الصينيين، تدحضه حركة الـ"ين" والـ"يانغ" الدائمة، كما ورد في كتابهم الأول الذي يدلّ عنوانه على جوهر فكرهم، وهو "كتاب التحولات". فكيف يلتزمون بمعاهدة بعد أن تتغير ظروف عقدها؟ أليس من الطبيعيّ أن تتبدل بنود المعاهدات بتبدل الظروف والسياقات عملاً بمفهوم التناغم والانسجام؟ عدم معرفة الروح الصينية يجعل تفسير الأمور يأخذ مساراً مثيراً للالتباس والغموض، أو يولد تفسيراً منقوصاً.
والصينيّ يميل إلى حلّ النزاعات بالمفاوضات بدلاً من الصراعات والمواجهات ولعلّ هذه الطرفة الواقعية تشير إلى نفورهم من المنافسات والحسم الصارخ لأنها قد تؤدي إلى إراقة ماء الوجه ( تْيُو مْيانْ تْزُهْ) وهذا ما لا تطيقه الذهنية الصينية. تقول الطرفة إنّ احد الجنرالات الصينيين في ثلاثينيات القرن الماضي دعي إلى مباراة كرة قدم، وهي لعبة لم تكن مألوفة بعد في الصين، وبعد عدة دقائق من بدء اللعب، دعا الجنرال احد معاونيه للاستفسار عن هذا النزاع المثير للسخرية حول كرة، متسائلاً لماذا لا تعطى لكل لاعب كرة ويفضّ هذا النزاع؟ والى الآن، فإنّ الألعاب التي يمهر فيها الصينيون هي الألعاب التي تعتمد على امتلاك تقنية وليس على مشادات تنافسية، ربّما بسبب ولعهم بالمثل الصينيّ الذي تحوّل إلى استراتيجية ناعمة وفاعلة والذي يقول:" أغمد خنجرك في بسمة"، وهذا المثل هو في الوقت نفسه عنوان لأحد فصول كتاب" 36 حيلة عسكرية" الطائر الشهرة، وبالمناسبة فإن للبسمة في اللغة الصينية خمسين مفردة تحمل خمسين دلالة مختلفة لعلّ الغمد واحد من هذه الدلالات!
وتسعى الصين حاليا إلى فصل سيرة حياة التنين الصيني عن التنانين الغربية الغريبة، والتي ترمز إلى الرذيلة بخلاف ما ترمز اليه التنانين الصينية. من هنا اقترح المفكر الصيني كوان شيه دْجْيِه) (Guan Shi jie الاحتفاظ بالكلمة الصينية "لونغ" للتنين، وإدخالها إلى معاجم الغرب حتى لا يتلوّث معناه بالمعنى الغربي، معتبرا ان تشويه صورة التنين الصيني تعود إلى عامل مطابقته بمدلول مفردة التنين الغربيdragon) ) الذي ينطوي على دلالات سلبية. فالتنين الغربي يرمز إلى الهيمنة والسيطرة والاقتحام في الغرب، وعليه فإن تحرير التنين الصيني من معناه الغربيّ يعيده إلى طبيعته الصينية المسالمة الموحدة، التي تنشد التناغم. وان اتخذت العولمة مسارها بما ينسجم مع طبيعة التنين الصينيّ المركبة فهذا يعني ان العولمة سيشارك فيها الجميع، وتكون ملامحها مأخوذة من كل الحضارات الراهنة على شاكلة ملامح التنين الرمزية. والصين بلد الوسط والتسامح والتناغم، وفلسفتها الأخلاقية والروحية تقوم على فكرة الانسجام، والذين يرعبهم النهوض الصيني إنما يجهلون الأسس الفكرية والروحية التي تقوم عليها ثقافة الصين الأعرق في التاريخ الراهن. وثمة أمور كثيرة مثيرة للاهتمام في الفكر الصيني، ولقد أدرك العالم الغربي أهمية أشياء كثيرة في هذا الفكر منها مثلا مفهوم"الفانغ شوي" ( الريح والماء)، أي علاقة العمران بالمكان وأثره على السكّان، والمكتبات الغربية مليئة بالكتب التي تتناول الأبعاد الروحية لممارسة الـ"فانغ شوي" الصينية.
ثمة مفاتن وأمور كثيرة تسترعي التأمل والنظر في بلاد الوسط أو بلاد "الهارد وير" كما سماها بعض الدارسين الغربيين، مستلهما تركيب الكمبيوتر المؤلّف من "سوفت وير" و"هارد وير" معتبرا ان القرن الحادي والعشرين سيكون على شاكلة الكمبيوتر، "الهارد وير" من نصيب الصين بينما "السوفت وير" من نصيب الهند.
الفكر الصيني لا يرضى أن ينحبس في وجهة نظر واحدة، ولعل هذا السبب يعود إلى الطبيعة البراغماتية التي يتمتع بها والتي تلخصها عبارة رجل نهضة الصين الراهنة الرئيس الراحل دانغ شياو بينغ القائل انه "لا يهم أن يكون لون الهرّ ابيض أو اسود وإنّما المهمّ أن يأكل الفأر". في أي حال ثمة عدة أقاصيص وحكايات تظهر ليونة الفكر الصيني الشبيه بليونة حركات التنين ورهافة عضلاته التي يمكن لها أن تتحرك في كلّ الاتجاهات، كما ان الفكر الصيني يعتمد اعتمادا كبيرا على التشبيهات والمجازات المائية لما يمتلكه الماء من خاصية مرنة، طيعة، هذا ما يلحظه قارىء كتاب "التاو" على سبيل المثال للفيلسوف الصيني "لاو تزه". ويروي الكاتب الصيني المقيم في فرنسا أندريه شيانغ حكاية تشير إلى أن الصيني لا يمكن أن تحبسه في وجهة نظر واحدة، وليونته في التعامل مع الحقائق والمطلق أمر غاية في العجب، بل أن كلمات مثل "مطلق" أو "منطق" كلمات ومفاهيم طارئة، لم تدخل القاموس الصيني إلا حديثا اثر الانفتاح على الغرب.
يروي اندريه شيانغ قصة معبد صيني مبني وسط بحيرة اصطناعية كبيرة في بكين، مما يجعل أمر الوصول إليه مستحيلا إلا على متن زورق أو عن طريق عبور الجسور. ويشير الكاتب الصيني إلى حيرة السائح الغربي امام تركيبة الجسور فهي متعرجة كمجرى نهر، مع انه لا يوجد أي عائق طبيعي يفرض هذه التركيبة المتعرجة، أي ان الاعوجاج ليس وليد عائق جغرافي أو بسبب تضاريس قاهرة. إن الحيرة التي تصيب الغربي لا تصيب بالتأكيد الصيني المعتاد على أن ينظر إلى أي أمر من الأمور نظرات متعددة ومن زوايا مختلفة. يقول اندريه شيانغ شارحاً طبيعة الجسور المتعرجة: ان الجسر المستقيم ممكن جدا وتكاليف بنائه اقل بكثير ربما إلا انه يمنع الذاهب إلى المعبد من أن يتشبع بروح المكان وبالطبيعة المحيطة لان عينيه ستكونان حبيستي نظرة واحدة أو اتجاه واحد، في حين ان منعرجات الجسر تسمح للذاهب إلى المعبد بان يرى أكثر من مشهد أو يرى المشهد الواحد من زوايا متعددة، فهو أي الجسر يمنع، من جهة، من السقوط في فخّ الرتابة، ويزود العين، من جهة أخرى، بالمقدرة على تقليب النظر في المشهد وتغيير مرآه، ويبدو أن علاقة الصيني بالعين علاقة مميزة فعلا، وهنا لا بد من العودة إلى أسطورة أخرى شديدة الطرافة والدلالة على ولادة الخطّ الصيني المميّز، المعروف أن ليس هناك أي فضل للأبجدية الفينيقية على كتابة اللغة الصينية التي نبتت من تجربة الحضارة الصينية نفسها ولم تستوردها من خارج حدودها، فهي كتابة تصويرية وليست أبجدية أو صوتية، أي أن الكلمة الصينية لا تشير إلى صوت وإنما إلى معنى أو شكل، ولعل هذا السبب هو الذي جعل من إتقانها مسألة صعبة بصعوبة خرق سور الصين نفسه. وتروي الخرافة الصينية انّ "صان دجيه" الكاهن في عهد مؤسس الإمبراطورية الصينية هوانغ تي هو الذي اخترع الكتابة عبر ملاحظة آثار اقدام الطيور على التراب، إلى هنا الأمر، إلى حد ما، عادي إذ من المعروف ارتباط بدايات الكتابات بالكهانة والسحر معاً في أكثر من حضارة، إلا أن الأسطورة احتفظت لنا برسم لمبتكر الكتابة الصينية واسمه "صان دجيه"، ومن يتأملها يلحظ فوراً غرابة في تكاوين وجهه، فهو لا يملك عينين اثنتين وإنما أربع عيون، أي أنّه يمتلك حدّة في النظر لا تتوفّر لسائر الخلق إلاّ في الأساطير. ولا ريب في ان الكتابة الصينية تحتاج إلى ذاكرة بصرية مرهفة لا تحتاج لها بقيّة اللغات القائمة على الكتابة الأبجدية أو الصوتية. إن رمزية العيون الكثيرة في صورة "صان دْجْيِه" هي عملية تحرير الأمور من عقال النظرة الواحدة أسيرة الايديولوجيا المغلقة. من هنا يرى بعض الماركسيين انحراف الصين عن الخط الماركسي إلا أن الصينيين يجيبون بان الذين يؤمنون بحرفية نص ماركس هم من ألد أعدائه وأكثرهم بعداً عن الماركسية لأنهم يقتلون أفكاره بتحجيرها. هذه الليونة في التعامل مع الفكر الماركسي هو الذي أنقذ الحزب الشيوعي في الصين من أن يلقى المصير نفسه الذي لقيه الحزب في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. وهذه النظرة الواسعة والمتحركة ليست بنت الغرب وإنما بنت التراث الصيني الروحي والمادي على السواء. وتحجير النص أو المعنى أمر لا يخطر ببال صيني، وهذا ربما من أثر لغتهم على فكرهم، والمعروف أن الإنسان لا يمكن له أن يرى العالم إلا من منظور لغته، أي لا بد من أن يتنبى وجهة نظر لغته بطريقة عفوية ولا واعية، لأننا نعيش، كما يقول العالم الألسني الفرنسي فندريس، تحت رحمة اللغة.
واللغة الصينية من أكثر اللغات خضوعاً للنظرية السياقية، فالسياق هو الذي يحدد دلالات الكلمات. هو الذي يحدد طبيعة الكلمة فيما إذا كانت اسما أو فعلا أو حرفا، لأنّ الكلمة الواحدة هي نفسها قد تكون فعلاً أو اسماً أو حرفاً من دون أي تعديل في صيغتها الصوتية أو الكتابية. ليس هناك من صيغ مائزة للأفعال والأسماء، كما أن اللغة الصينية لا تملك أيضا علامات فارقة تميز بين المفرد والجمع بخلاف العربية مثلا التي تملك للمفرد الواحد عدة أشكال من صيغ الجموع. السياق وحده في اللغة الصينية هو الذي يحدد ما إذا كانت المفردة تدلّ على مفرد أو جمع، كما أن ليس في اللغة الصينية أدوات تنكير أو تعريف، فـ"ال" التعريف ليست من صلب اللغة الصينية والسياق وحده يشير إلى كون المقصود نكرة أو معرفة، كما أن ليس في الصينية أيضا تصريف للأفعال، فالأفعال لا تصرف، لها شكل واحد بدلالات متعددة، والسياق وحده هو الذي يقوم بمهمة تحديد ما إذا كان الفعل يدل على الحاضر أو الماضي أو المضارع. لغة تتحرر فيها الكلمات من القيود اللغوية لا بد إلا أن تنعكس على نظرة الناطقين بها وعلى رؤيتهم للأشياء. إن العلاقات بين الكلمات هي التي تحدد معنى الكلمات، والبعض يشير إلى أن الصينيين هم الذين اخترعوا المغناطيس وذلك بسبب إدراكهم لوجود علاقات خفية بين الأشياء وهو ما يعرف بمصطلح "تْشِي" في اللغة الصينية. المعنى غير ثابت أو مكتمل ولا يمكن سجنه في دلالة مفردة. ويشير الكاتب الفرنسي المتخصص في الفكر الصيني فرنسوا جوليان إلى مقولة صينية حول المعنى، حيث تشبه فرشاة الكتابة بالمجذاف ( وبالمناسبة فرشاة الكتابة هي نفسها فرشاة الرسم في الصين، بخلاف الفصل بين أدوات الرسم وأدوات الكتابة في الغرب أو العالم العربي). إن رفع المجذاف لا يعني على الإطلاق إيقاف الزورق، لان المياه المتموجة لا تسمح للزورق بالاستقرار التام. وهكذا المعنى لا يمكن تجميده في أرضه، انه متحرك حركة الزورق بعد رفع المجاذيف.والحركة هنا هي حركة براغماتية، طبيعية. وعلى هذا تقوم فكرة "التاو= الطريق" في الفلسفة التاوية وخلاصتها عدم المقاومة، وعدم السباحة ضد التيار. إنّ ركوب التيار لا ترهق الجسد إرهاقه في حال كانت السباحة ضد التيار، وهذا يعني الانسجام مع المكان الذي أنت فيه. ومفهوم الانسجام أو التناغم من صلب الفكر الصيني الكونفوشيّ والتاويّ على السواء، وهو مفهوم لا يزال يتكرر على ألسنة السياسيين الصينيين في نظرتهم إلى إدارة شؤون العالم ومعالجة أزماته، وهو مفهوم يزعج الغربيين، لأنهم يرون أنّ الشعب الصينيّ متعرج كالجسر الموصل إلى المعبد، وكمجرى النهر الذي لا يعرف الخطّ المستقيم. والحضارة الصينية بنت حوض النهر الأصفر, ومنه اكتسبت استراتيجيتها المائية، كما يتبدى ذلك بجلاء في كثير من فصول كتاب" فن الحرب" لـ "صن تسه"، وهو من أوائل الكتب التي تتناول فن الاستراتيجيا- كتب في منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد- والكتاب لأهميته لا يدرس فقط في الكليات الحربية وانما يدرس أيضا في كليات إدارة الأعمال حتّى في أميركا نفسها. ومن الأمور التي لا يستوعبها العقل الغربي عدم التزام الصينيين بالمعاهدات، ليس لأنهم لا يحبون الالتزام بالمعاهدات والمواثيق، ولكن لان المعاهدة ضد سنة الحياة المتغيرة، وهو يؤمنون بالتغيرات والتحوّلات وبان كلّ شيء متغير، لأنّ الثبات أشبه ما يكون بفكرة سريالية في نظر الصينيين، تدحضه حركة الـ"ين" والـ"يانغ" الدائمة، كما ورد في كتابهم الأول الذي يدلّ عنوانه على جوهر فكرهم، وهو "كتاب التحولات". فكيف يلتزمون بمعاهدة بعد أن تتغير ظروف عقدها؟ أليس من الطبيعيّ أن تتبدل بنود المعاهدات بتبدل الظروف والسياقات عملاً بمفهوم التناغم والانسجام؟ عدم معرفة الروح الصينية يجعل تفسير الأمور يأخذ مساراً مثيراً للالتباس والغموض، أو يولد تفسيراً منقوصاً.
والصينيّ يميل إلى حلّ النزاعات بالمفاوضات بدلاً من الصراعات والمواجهات ولعلّ هذه الطرفة الواقعية تشير إلى نفورهم من المنافسات والحسم الصارخ لأنها قد تؤدي إلى إراقة ماء الوجه ( تْيُو مْيانْ تْزُهْ) وهذا ما لا تطيقه الذهنية الصينية. تقول الطرفة إنّ احد الجنرالات الصينيين في ثلاثينيات القرن الماضي دعي إلى مباراة كرة قدم، وهي لعبة لم تكن مألوفة بعد في الصين، وبعد عدة دقائق من بدء اللعب، دعا الجنرال احد معاونيه للاستفسار عن هذا النزاع المثير للسخرية حول كرة، متسائلاً لماذا لا تعطى لكل لاعب كرة ويفضّ هذا النزاع؟ والى الآن، فإنّ الألعاب التي يمهر فيها الصينيون هي الألعاب التي تعتمد على امتلاك تقنية وليس على مشادات تنافسية، ربّما بسبب ولعهم بالمثل الصينيّ الذي تحوّل إلى استراتيجية ناعمة وفاعلة والذي يقول:" أغمد خنجرك في بسمة"، وهذا المثل هو في الوقت نفسه عنوان لأحد فصول كتاب" 36 حيلة عسكرية" الطائر الشهرة، وبالمناسبة فإن للبسمة في اللغة الصينية خمسين مفردة تحمل خمسين دلالة مختلفة لعلّ الغمد واحد من هذه الدلالات!