الجمعة، 30 يونيو 2017

الغبي يللي بيعرف حالو غبي ما بكون غبي

الغبي يللي بيعرف حالو غبي ما بكون غبي

الجناس ملعب

الجناس ملعب. وهو نوعان: صوتي وكتابيّ.
بين الصوت والألفباء كرّ وفرّ دلاليان.

من قال ان اللغة الصينية صعبة؟

قرأت مرّة ان وزير الثقافة الصيني قال في مؤتمر صحفيّ ان اللغة الصينية هي من أسهل اللغات. طبعا، الحضور استغرب كلام الوزير الصيني. من يصدّق ان اللغة الصينية من اسهل اللغات، وفي الفرنسية تعبير للدلالة على استحالة الفهم، يقول: "انه مكتوب بالصيني" ويقصد بذلك ان فهم المكتوب متعذّر. ودليل الوزير الصيني كان في منتهى البساطة إذ قال:" ان لغة يتكلمّها خمس سكان العالم لدليل بديهيّ على بساطتها وسهولتها".

لقد عرف عن ذلك الوزير روح الطرافة وحبّ الدعابة وهو كان يقصد اضفاء مسحة من المزاح لا غير على حديثه. ولكن هل بإمكان انسان ان يتعلّم تسع كلمات في ظرف دقائق لا تتعدى أصابع اليد الواحدة أو أصابع اليدين على أكثر تقدير من لغة جديدة عليه كلّيا لا يعرف عنها شيئا؟ اللغة الصينية تعطيك هذه الإمكانية. يمكنك تعلم كتابة وقراءة تسعة رموز صينية بسرعة البرق. لن اعتمد على دليل الوزير الصيني ولكن اعتمد على دليلي الخاص، إذ كنت في بداية تعلمي الصينية ألهو في تركيب الرموز كما يلهو شخص في تركيب قطع بازل. وسأقدّم دليلا حسيا تلمسه أصابعك وتراه عيناك ويتحسّسه لسانك وشفتاك، ايّها القارىء الكريم.

ولأبدا ليس من الصفر! فأنا أريد البرهنة على بساطة الصينية لا على تعقيدها، والصفر خصمٌ لدود للبساطة. ولكن سأبدأ من الواحد. الواحد باللغة الصينية يكتب هكذا () كما ترى، خطّ صغير لا غير ويلفظ ( يي)، اما اثنان فيكتبان هكذا ( 二) ويلفظان (آر)، وثلاثة ، أعرف أنك صرت تعرف كيف تكتب ثلاثة بالصيني حتى من قبل ان تتعلمّها، هل من لغة تمكنك من كتابة كلمة لم تتعلمها؟ لا أظن! أعود الى الثلاثة لأقول انّها تكتب بالطريقة التالية:( 三 ) وتلفظ (سان). أظنّ انك صرت، عزيزي القارىء، تعرف أن تكتب من الواحد الى الثلاثة بالصيني، وتعرف كيف تلفظ كلّ رقم كرج الماء!

1- يي 一

2- آر 二

3- سان 三

ويكفي ان تضع خطا في وسط الرقم ثلاثة ليس لتصل إلى أربعة، وانّما الى كلمة أخرى لا علاقة لها بالأرقام وانّما لها علاقة بالملوك، وهي وتعني ملك وتلفظ (وانغ)، ويكفي ان تضيف خطا صغيرا منحنيا على كلمة ملك بين الخط السفلي والوسطي جهة اليمين حتى تحصل على مفردة صينية لها تراث وتاريخ ورموز واساطير في التاريخ الصيني وهي حجر اليشب او اليشم او الجاد jade وتكتب وتلفظ (يو). والخط المائل الذي وضعته في اليشب اسحبْه مجددا وضعْه على رأس الملك فتحصل على كلمة ضيف أو مالك أو اساسي وتلفظ (دجو).

والآن لا اتصور احدا لا يعرف كيف يرسم مربعا ويعني في الصينية سورا او ارضا مسوّرة ويلفظ (واي). قد يسأل القارىء، ومن حقّه ان يسأل، وما علاقة المربع بما انا فيه؟ أقول له اني استخدمت المربع كرمى لعيني الحجر الكريم إذ بمجرد وضعه في المربّع تحصل على مفردة جديدة تعني الدولة. وتكتب هكذا وتلفظ كوو guó. أكرم جوهرة في الصين هي الحجر الكريم جدّا( اليشب)، والدولة بغلاوة اليشب تصان بسور يحميها. ثمّ خذ اليشب مجددا وضع فوقه سقفاً فيصير عندك كلمة جديدة ثرية المعنى إذ تعني كنزا وتكتب هكذا 宝 وتلفظ( باو).
وعليه فأنت في وقت قصير نسبيا تعلمت ان تكتب ما يلي:














لغة يتعلمها المرء وهو يلهو او يلعب أو يتسلى لهي أسهل من تركيب قطع بازل أو تعلّم لغة الشطرنج. في الأقل تجد نفسك وانت تتعلمها انك تقوم بعمل شيء آخر غير تعلم اللغة الا وهو تعلّم الرسم، والرسم كما سمعت يقلّص من الاصابة بمرض الالزهايمر. وهذا ما سوف اتناوله في وقت آخر إن شاء المولى.

قد يقول لي قائل: البدايات كما رأينا سهلة، ولكن نخاف من النهايات. أقول لك، أخي الكريم، إذا تعمقت في البدايات تنتظرك، في النهايات، حكماً، لذّة. وفي سبيل اللذّة اللغوية والفكرية والحضاريّة تهون النهايات مع اللغة الصينية.

الماء ان حكى


هل وقع نظرك على قطرة ماء تطير من الفرح ، أم هل خطر ببالك ذات يوم انه يمكن لقطرة ماء أن تشعر بكآبة أو تنطوي، حزينةً، على نفسها السيّالة، أو أن تعيش كبعض الناس حياة شقية؟ وكيف تتعامل قطرة الماء مع ذاكرتها والذكريات؟ ولا ريب في أنّ ذكر الذاكرة يستدعي النسيان أيضاً، فهل ذاكرة الماء مثقوبة كالغربال أم أنها كذاكرة الآدميين معرّضة للألزهايمر؟ الأسئلة التي يثيرها العالم اليابانيّ "ماسارو إموتو" (Masaru Emoto)  كثيرة تدعو للحيرة، وتثير أحياناً استهجان العلماء كما قد تثير الاستهجان الآن لدى بعض القرّاء ولا سيّما أنّ بين الخرافة والعلم شعرة كشعرة معاوية!

اكتشف العالم الياباني "ماسارو إموتو" أنّ لكلّ ذرّة ماء سيرة ذاتية عامرة لا تملكها أي ذرّة أخرى وشكلاً هندسياً لا يحدد مصيره إلاّ ما يكتنف ذرّة الماء من تجارب غنيّة لا تكفّ عن التغيّر والتحوّل. واكتشف أن للماء قدرة على العلاج من خلال تعديل أشكاله الهندسية عبر تهيئة أجواء نفسية مريحة له. هنا أتذكّر " طاسة الرعبة " التي كانت تتعامل معها الأجيال الماضية في عالمنا العربيّ على أساس قدرة مياهها السحرية ( المقروء عليها) على استئصال الرعب في حين ينظر اليوم إليها على أنها من مخلّفات الخرافات التي أنقذنا الله، بتطور العلوم، من رعبها ولعبها بالعقول والسلوك. ولكن يبدو أنّ لـ"طاسة الرعبة" قدرة على استدعاء الشفاء، والسبب هو طبيعة الماء نفسها التي تتجاوب مع الرسائل وتتأثّر أشكال ذراتها الهندسية بما تستقبله فهي تفرح وتمدّ أجنحتها المائية للكلمة الحلوة ويتغير أو يتعكّر مزاجها وفعلها وينخدش شكلها الهندسيّ أو ينكمش لدى سماعها الكلمة المشينة النابية، وكما أن الماء يأخذ شكل الإناء الذي هو فيه يبدو أيضاً من خلال تجارب العالم الياباني الفاتنة للعين أنّ حبيبات الماء أو الكريستالات تتغير أو تأخذ شكل الإناء غير المرئي الذي تعيش فيه أي البيئة المحيطة بها صوتاً أو صورةً أو نسمةً أو رائحةً.

بدأ العالم الياباني تجاربه من خلال تصوير الأشكال الهندسية البالغة الجمال لبلورات " ثلج الماء " وكانت تترافق عملية تصوير بلورات ثلج الماء مع تعريضه للكتابات والأحاديث والصور المختلفة الأشكال والألوان والدلالات سلباً وإيجاباً، كان العالم يلحظ تبدّل الأشكال الهندسية لذرّات الماء بتبدّل مضامين الرسائل .

منذ عام 1987 أصبح من أهم المعالجين بالطبّ البديل. وراح يتعمق الكاتب في قراءة أسباب تباين ذرات الماء وراح يرسم او يصور لفترات زمنية طويلة حبيبات الماء  ونشر عام 1999  " رسالة من الماء"  ( The Messager from Water ) وهو ألبوم صور بالألوان فاتنة للأشكال الهندسية التي تأخذها كريستالات الماء.

كانت خلاصة أبحاثه أن للماء قدرات عجيبة من الذاكرة والوعي والسمع والرؤية والإدراك وكأنّه كائن مكتمل الحواسّ، فهو يدرك ما حوله ويشعر به ويتفاعل، له قدرة على قراءة المكتوب وسماع المنطوق وتأمّل الصور كما أنه يتغير لدى سماعه الموسيقى ويوافق او يعترض على ما يسمعه من ألحان من خلال تبدّل أشكاله الهندسية التي تحلو أو تتشوّه معالمها. ولقد تمّت الاستعانة بفتوحاته المائية في عملية تطهير مياه المستنقعات والبحيرات من التلوّث بواسطة تمرير موجات فوق صوتية عالية تبلغ ( 200 ألف هيرتز) ذات مضمون عذب ونبيل.

أثبتت دراساته التي يطوّرها يوماً بعد يوم أن الماء عندما يجمد بالتبريد البطيء يتخذ أشكالا هندسية ( بلّورات ثلج الماء)  تختلف باختلاف ما تعرّض له في حياته رغم أن التركيب الكيميائيّ للماء هو واحد.

وكانت تجاربه مذهلة بحقّ فثمة أشكال قبيحة، او أشكال ناقصة غير مكتملة الملامح، او أشكال مشوّهة كالأنقاض الهندسية، كما كان هناك أشكال بديعة التكاوين فائقة الجمال الهندسيّ. والسبب في ذلك يكمن في كون الأشكال المشوهة وليدة ما اعترض حياة قطرة الماء من صدمات غيّرت معالمها كأن تكون تعرضت لكلمة نابية أو قاسية أو لمرأى إنسان أنانيّ أو حسود أو عاشت في ظروف اجتماعية قاهرة في حين أن الأشكال الهندسية الفاتنة والكاملة عاشت تجربة رخيّة هادئة عابقة بالكلام الطيب.

ذهب ذهني وأنا أقرأ فتنة العالم الياباني بدراسة  ذرّات الماء وتجليات كريستالاته  إلى المعتقد الصيني" الفانغْ شْوِيْ " أي " الريح والماء " وأثر ممرّات الريح والماء على مشاعر الإنسان، وقول الله تعالى في ذكره الحكيم: " وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ " (سورة الأنبياء، الآية 30).
ولمن يرغب أن يتأمل كريستالات الماء العجيبة التكوين أحيله إلى موقع العالم الياباني(Masaru Emoto) على الانترنت ليملأ عينيه بمفاتن الكريستال المائي وتحوّلاته.

مقدمة كتاب استاذي لي تزانغ يين li zeng yin

تقديم

بدأ اهتمامي بدراسة الحضارة الصينية منذ عدّة سنوات، فاكتشفت بعضاً من أدبها وفكرها وحكمتها العريقة. ولكن كنت أقرأ ذلك إما بالعربية وإما باللغة الفرنسية. ولا أنكر أنّ الكتب العربية المهتمة بالحضارة الصينية قليلة العدد. ولا أزال اذكر كيف أني كنت أواجَه من قبل أصحاب المكتبات بشيءٍ من الاستغراب حين أطلب منهم كتبا تتناول الحضارة الصينية أو اللغة الصينية. كانوا ينظرون إلي بشيء من الذهول ثم يحاولون تلبية طلبي. ولكن كنت أخرج، أغلب الأحيان، خائباً من المكتبات التي لم تتأقلم بعد مع يقظة الصين الحديثة.
ومع تقدّم قراءاتي عن الحضارة الصينية، شعرت أني لن اقطف الثمار المطلوبة من اهتمامي إذا بقيت اللغة الصينية بمنأى عن قدراتي. ولكن أين أتعلم اللغة الصينية وأنا في لبنان الغارق حتى أذنيه، كأغلب الدول العربية، في اللغة الفرنسية أو الإنكليزية، وحيث لا مكان للغة الصينية تحت سماء لبنان؟! الممتع في وسائل الاتصال الحديثة أنّها ترفض فكرة المستحيل، فأية لغة، اليوم، في متناول سمعك وعينيك بفضل الانترنت والأشرطة المدمجة وغيرهما من وسائط المعرفة المتعدّدة. ولكن هل يمكن تعلم أصوات لغة ما من دون أستاذ يشرف على تغيير عادات لسانك اللغويّة؟
ظلّ الأمر كذلك إلى أنْ علمت أنّ "جامعة الجنان" في طرابلس اتفقت مع وزارة الثقافة الصينية لإدراج تعليم اللغة الصينية في قسم الترجمة. وانشاء دورات خاصة للراغبين في اكتساب هذه اللغة القائمة على الكتابة التصويرية لا على الأبجدية. وجدت رغبة العمر تطرق أبواب مدينتي، وبدأ مشواري مع تعلم اللغة الصينية، لغة "كونفوشيوس" و" لاو تزه" و"تشوانغ تزه"و" ليه تزه" عمالقة الحكمة الصينية.
وهنا لا بد من ذكر فضل الأستاذ " لي" الذي كان علّمنا خمس دورات مكثّفة على امتداد سنتين ونيّف بإخلاص أصحاب الرسالات. وأشهد له بالجهد الذي بذله لإزالة الصعاب التي كانت تعترض عيوننا (فالخطوط الصينية تربك العيون!) وأفواهنا وأقلامنا، وكيف كان يهتمّ بأسئلتنا ويقوم بتحضير إجابات مفصلة وميسّرة عنها. كان الأستاذ "لي" إلى جانب تعليمنا اللغة الصينية يقوم بإعداد كتاب تعليمي سهل التناول للغة الصينية وبلغات أربع، واقترح عليّ إن كان بمقدوري أن أقوم بنقل نصوص الكتاب إلى العربية، وهي ثقة من طرفه أعتزّ بها أنا الذي لا أزال أحبو في عالم اللغة الصينية الشيّقة. رحبت بالفكرة، على صعوبتها، كنوع من التعبير عن شكر الأستاذ "لي" إذ بفضله صار بإمكاني تناول الحضارة الصينية مباشرة من معينها اللغوي العذب، دون وسيط من لغة أخرى.
أخي القارىء،
إعلمْ إن اللغة لا تنفصل عن الاقتصاد. واللغة تكتسب جزءاً لا يستهان به من قوتها عن طريق اقتصادها. والنمو الاقتصادي السريع والحثيث في الصين يرافقه إقبال عالمي على تعلم اللغة الصينية في أميركا وأوروبا وبلدان الشرق الأقصى. وما فروع معهد كونفوشيوس التي تفتتح سنويا في كلّ أنحاء العالم إلاّ خير شاهد على ازدياد الراغبين في تعلم اللغة التي لا يمكن أن تنافسها أي لغة أخرى في العالم من حيث الأقدميّة.
أخي القارىء،
إعلم إنّ تعلّم اللغة الصينية لا يفتح لك فقط أبواب المستقبل وإنما يمنحك القدرة على التجوال في آلاف السنوات من عمر الحضارة الصينية العريقة وحكمتها الخالدة.
وختاما أتمنى لك، عزيزي القارىء، سفراً ميموناً في تضاعيف هذا الكتاب عملاً بالحكمة العربية القديمة التي ينسبها البعض إلى الرسول محمّد- عليه الصلاة والسلام- والقائلة: "اطلب العلم ولو في الصين".
 وأظنّ أنّه آن الأوان لوضع هذا المثل موضع التطبيق لا سيّما أنّ القرن الحادي والعشرين لن تخلو ملامحه من ملامح الوجه الصينيّ.




استراتيجية الفيروس الرقميّ




تؤمن الصين بأنّ أفضل الانتصارات هي التي تحققها من دون أن تخوضها وذلك عن طريق جعل قوة الخصم تتآكل من الداخل ويفعل التآكل فيها فعله على غرار ما تفعله الأَرَضَةُ أو السوس في الخشب. عمدت الصين، مع الوثبة التكنولوجية، إلى تطوير هذه الاستراتيجية، ووجدت في السلاح الرقميّ سلاحاً فتاكاً يحدد مصير أي معركة عسكرية قادمة. وتسعى الصين إلى امتلاك استراتيجيا فاعلة وهي شلّ أعصاب الخصم الرقمية، وتشتيت ذهنه الالكترونيّ، وزرع الضباب الرقميّ في وجهه.

 ماذا يحدث لأميركا في حال لم يعد للتواصل الالكترونيّ أي فعالية في المعركة؟ ماذا تفعل أميركا إذا تمرّد الصاروخ على كبسة الزرّ؟ ماذا تفعل الولايات المتحدّة الأمريكية بقوتها الأخطبوطية الهائلة إذا وجدت نفسها بين ليلة وضحاها عاجزة عن تحريك قدراتها المشلولة؟ إن أميركا تنظر بعيون أبوكاليبسية إلى هذا السيناريو الأسود، ولا سيّما أن أنفاسها وحياتها اليومية في الأرض معلقة بحركات وتعليمات أقمارها الاصطناعية في الفضاء. هذه بعض الأسئلة التي يطرحها الباحث الفرنسيّ جان فرانسوا سوسبيال ( Jean-François Susbielle) في كتابه:" الصين والولايات المتحدة، الحرب المبرمجة".

ترى الصين إنّ من يحدد مصير المعركة اليوم ليس من يملك القوة وإنما من يملك القدرة على شلّ القوة والتشويش على المعلومة. "الفيروس الرقميّ" أيضا سوف يساهم في تحديد مصير أي معركة؟ والصين تعمل بكل قضها وقضيضها على كسب هذه المعركة، وأميركا تنفق الكثير لتحصين مواقعها الالكترونية. إن الصين تسعى على أكثر من محور، و"الحرب السيبرنية" أحد هذه المحاور، هي حرب بكل معنى الكلمة ولكنها حرب قد تمنع حروبا ضارية. إنّ البنتاغون يستعمل 5 ملايين حاسوب وهذه الحواسيب موصول بعضها ببعض، وهي كلّها في نظر الصين أهداف عسكرية، لأن ليس للمعلومة حرمة، وخصوصاً حين تكون هذه المعلومة سلاحاً يستعمله الخصم في المعركة، وأميركا تعرف اليوم إن اغلب الهجمات التي تتلقاها مصدرها الصين. وفي "الحرب السيبرنية" (Cyberguerre) الدفاع يكلّف أكثر من الهجوم، وهو دفاع مشكوك في نجاعته لأنه لا يمكن القيام بـ"مناوارات سيبرنية" لإظهار كفاءة الدفاع. وعليه فإنّ كفاءته لا تظهر إلا في حال الهجوم، وهنا يكون الوضع حرجاُ لأنه في حال تهافت نجاعته أو قدرته على صدّ الهجمات فذلك يعني أن المعركة حسمت من أولها. والصين تنفق كثيراً على هذه المعركة، "والحرب السيبرنية" مادة تدرسها الصين اليوم في كلياتها العسكرية.

ورواتب العاملين في هذا الميدان في الصين سخيّة جدا تضاهي ما يمكن أن يأخذه الموظف في الشركات الخاصة، كما إن للصين جيشا من "الهاركرز" القابل للتجنيد في أي وقت، إنّه احتياط متمرّس ومهيّأ للتدخل في أي لحظة في هذه المعركة. ووظيفته ضرب أنظمة المعلومات للبنية العسكرية الأمريكية في عقر البنتاغون، ليس هذا فحسب وإنما ضرب قنوات الاتصال المدنية، وبورصة نيويورك.

الصين تعرف إن تفوق أميركا موجود في الفضاء، من هنا تعمل الصين على منازعة أميركا لهذا التفوق. ومن يحسم المعركة الأرضية إلى حد كبير هو الفضاء. وأميركا لا تسمح حتى لحلفائها بان يملكوا قوتها الفضائية فما بالك بخصومها؟ لان من يملك القدرة على الحركة في الفضاء هو الذي سوف يرسم حدود وإحجام القوى على الأرض. ويقول الجنرال الصيني "فانغ فانغ خوي":" علينا السعي والعمل، بكلّ عزم، للتفوق على القوة الفضائية الأمريكية".

ما هي الاستراتيجية الصينية لشلّ تفوق أميركا الفضائي؟ يروى الكاتب حكاية القمر الاصطناعي الأميركي  المعروف باسم" كيهول" keyhole)). كان هذا القمر يدور في الأسبوع الأول من أكتوبر عام 2006 فوق الأراضي الصينية على ارتفاع 320 كلم ومهمته التقاط صور رقمية، وهو قمر قادر على رؤية غرض بحجم 10 سنتمر وتصويره بوضوح عالٍ في الليل أو في النهار، كما بإمكانه التقاط مصدر الحرارة أي انه يمكنه تحديد ما إذا كانت عربة ما تستعدّ للتحرّك (عبر حرارة محركها) أم لا. ويستطيع هذا القمر سبر السواتر لرؤية ما يختبىء خلفها من دبابات أو غيرها من أنواع الأسلحة. ويعدّ "كيهول" مفخرة من مفاخر القوة الفضائية الأمريكية الرادعة. وصلت الأخبار السوداء فجأة إلى قاعدة القمر في الأرض ومفادها إن أشعة لايزر آتية من الأرض قد ضربته وأعمت عيونه. إلاّ أنّ البنتاغون لم يعلق كثيرا على الأمر، حتى لا تفلت كلمة غير متوقعة؟ ولهذا سرب المعلومة تسريبا لرؤية رد فعل الصين. والمعلومة المسربة لم تكن إلاّ فتافيت غير كافية لتبيان الضرر الفعلي اللاحق بالقمر، ولم تحدّد ما إذا كان العمى الذي أصاب القمر هو عمى مؤقت.

إن الصين تعمل على إنشاء وتطوير "قمر فضائي طفيليّ"، أو ما يمكن أن يسمى بـ"منمنمات فضائية" أو " ميكروبات فضائية". وظيفة هذا "الميكروب الفضائي" الالتصاق كما الطفيليّات على هيكل قمر اصطناعيّ، ثمّ يتحول إلى ما يشبه الخلية النائمة التي يمكن تنشيطها وتشغيلها في حال حدوث صدام للتشويش على المعلومات الصادرة والواردة إلى هذا القمر، أي أن لهذا "الميكروب" قدرة هائلة على تعطيل وشلّ طاقة القمر الاصطناعي. وهو من الإنجازات التي قامت بها "أكاديمية الأبحاث التكنولوجية الفضائية" في بكين.

بلال عبد الهادي

الحقيقة من وجهة نظر ضفدعة حكاية مثل صيني


الحكايات مثلها مثل الكلمات، مثل أي شيء في الحياة. تختلف حكاية عن أخرى بالفترة الزمنية التي تعيشها. هناك حكايات عمرها قصير وأخرى عمرها مديد. وقعت تحت نظري حكاية تعود الى زمن بعيد جدّا. ولكنها حكاية لا تزال تنبض على أفواه الناس في الصين في شكل مثل يقول: "ضفدعة، من أعماق البئر، تتأمّل السماء". والأمثال تشبه، أحياناً، الاستعارة التي عليك أن تبحث عن أركانها المغيّبة لتفقه المعنى المضمر فيها. فثمّة حكايات ذات استعارات بعيدة حيث المعنى فيها لا يكون دائماً مبسوطاً كالكفّ أمام عينيك. وخلف كلّ مثل، حكماً، حكاية فأحببت أن أعرف تفاصيل المثل وأرى ما في كواليسه. وحين رحت أنقّب عن معلومات حول المثل سمعت زقزقة عصفور في كواليسه. والفضل في ولادة هذا المقال يعود للعصفور لا للضفدعة الظاهرة في المثل. وجدت أنّ العصفور الغائب من مفردات المثل موجود في كواليس الحكاية.

تقول الحكاية إنّ ضفدعة كانت تعيش في أعماق بئر. ولدت في البئر وترعرعت وبلغت سنّ الرشد وهي فيه. وكانت حين تنظر إلى الأعلى ترى السماء عبر فتحة البئر. من خلال تجربتها اليومية مع البئر اكتشفت أنّ لون السماء غير ثابت، تلوّنه ريشة الفصول والغيوم. السماء متغيرة بخلاف حياتها في البئر. وكانت تفرح بفتحة البئر التي تعتبرها عينها الثالثة او عدسة كاميرا تلتقط تصاوير السماء البديعة. ربّما خطر ببالها أن تخرج من المكان الذي هي فيه. ولكن العجز البيولوجيّ في تكوينها منعها من تحقيق هذه الرغبة. ولم يكن لذكائها القدرة على تركيب اجنحة افتراضية تساعدها على الخروج من البئر. استسلمت لحياتها الرطبة وواقعها المائيّ المحدود. انّها في سجن مائيّ ولكن لا تنظر الى سجنها على انه سجن بل على انه العالم كلّه. ذات يوم انقلبت حياتها وافكارها واحلامها رأساً على عقب إذ مرّ عصفور وحطّ على حافة البئر ليريح جناحيه قليلا، وحين أرهف السمع تناهى اليه صوت صاعد من اعماق الظلام ولم يسبق له، ايضا، في حياته ان وقف على حافّة بئر. ولكن عرف من خبرته بالأصوات ان الصوت الآتيّ ليس أكثر من نقيق ضفدعيّ. فاستغرب الأمر فهو ألِف الضفادع ورأى غير واحدة في حياته. يعرف ان الضفادع تحبّ الماء ولكن لا يعرف أنّها تحبّ الآبار فراح ظنّه البريء يتخيل أنّ البئر ليس أكثر من فخّ لاصطياد الطرائد فاشفق عليها من المحنة التي هي فيها. وقرر ان يمدّ لها جناح العون. بدأ معها بالتحية لمعرفة اسباب ورطتها. وكم كان استغراب العصفور كبيرا حين عرف ان البئر بيتها ومأواها، وانها تألفه الف الطيور لأعشاشها. راح كلّ واحد منهما يحكي عن حياته وتجاربه في الحياة، فكان العصفور يتكلّم على رحابة أرجاء السماء وكيف أنّها بلا حدّ، هلك جناحاه من التحليق وهو يسعى لبلوغ منبع السماء. كانت الضفدعة تسمع ما يحكيه عن اتساع السماء فتجحظ عيناها من كلامه الفضفاض، ظنّت الضفدعة أنّ العصفور يهزأ بها ويضحك على عينيها اللتين تكذبان كلّ ما يتفوّه به منقاره. من أين يأتي العصفور بهذه الترّهات والخرافات؟ قالت بينها وبين نفسها. كيف لهذا العصفور المغرور ان يكذب بمحضرها ويروح يحكي عن سماء متخيّلة ليست موجودة الاّ في رأسه الأرعن الصغير. سماء تكّذب حجمها فتحة البئر المضيئة التي هي أيضاً قبة السماء؟ فتحة البئر مثل عين الكاميرا لا تكذب في نظر الضفدعة بخلاف لسان العصفور الثرثار.

 العصفور طيّب القلب وصادق اللسان وهو لم يخطر بباله أن يضحك على الضفدعة. كلّ نيّته ان يحكي عن تجربته التي خبرتها عيناه وخبرها جناحاه. ولكنّ كلامه بالنسبة للضفدعة مكتظّ بالكذب الذي تدحضه عيناها في كل نظرة الى السماء. العصفور في عيني الضفدعة من سلالة مسيلمة الكذّاب! انقهر العصفور من ردّة فعل الضفدعة وغضب من افترائها عليه واتهامها له بالكذب أو التخريف. ولكن هل كانت الضفدعة تفتري عليه حقّا؟ انّها صادقة وعفوية في كلامها وردود افعالها مثلها مثل لسان العصفور تماما. كلاهما صادق ولكن كلّ منهما يتّهم الآخر بالكذب من غير نيّة في الافتراء. صدْقان ينقض احدهما الآخر. وحقيقتان كخطين متوازيين. هل الكذب ابن حقيقتين؟ حقيقة نطقت بها سماء العصفور، وحقيقة أخرى  نطقت  بها سماء الضفدعة. الضفدعة عندها قناعة ان السماء بحجم فتحة البئر- والقناعة كنز لا يفنى بنظر الضفادع!- بينما العصفور  يعرف أن السماء ملعب واسع جدّاً لا تحدّها عيناه.

الحقيقة- كما يبدو من خلال الحوار بين الضفدعة والعصفور- هي بنت المكان الذي أنت فيه.لا الضفدعة تكذب وتفتري، ولا العصفور يكذب أو يدّعي. كلّ الفرق هو في كون العصفور يعرف لأنّ ظروف حياته الجوّية سمحت له ان يعرف، والضفدعة لا تعرف لأنّ ظروف حياتها البئريّة، الجوّانيّة لم تسمح لها ان تعرف، ولكن من دون ان تعرف انّها لا تعرف. ومن أين لعقلها أسير البئر المعتم أن يستوعب أنّ رقعة السماء الظاهرة من فتحة البئر ليست أكثر من نقطة زرقاء من محيط السماء المديد؟

الكذب ليس دائما بنيّة الكذب، وحين نؤمن بحقيقة ما ليس بالضرورة ان تكون هذه الحقيقة التي نعرف والتي نؤمن بها هي الحقيقة التي لا غبار على عينيها.

بعض الناس علاقتهم بالحقيقة هي كعلاقة الضفدعة بفتحة البئر. من أين لهم أن يخطر ببالهم انّ حقيقتهم ليست الحقيقة؟ ومن اين لهم ان يقلقوا على حقيقتهم الراسخة في الأعيان والأذهان؟ وليس بالضرورة أن تمرّ العصافير عليهم وتأخذ بخاطرهم وتوقفهم على حقيقة لا تعترف بها أعينهم، وهي حقيقة، في أي حال، لو سمعوها لما وجدوا في تفاصيلها الاّ براهين على تهافتها وزيفها وبطلانها رغم أنّها خالية من الزيف والبطلان والتهافت.

إن الحقيقة التي يملكها العصفور ليست الحقيقة التي تعرفها الضفدعة، ولكن السماء قد تأتي بمن يفنّد كلام العصفور وتجرّده كما جرّد الضفدعة من "ال" التعريف  التي صدّرت بها "حقيقتها" غير القابلة للنقض.

في عالم الحقائق عصافير لا حصر لأجنحتها، وضفادع راضية بحياتها البئريّة الوادعة. ولكن، في لحظة ما، قد يتحوّل العصفور إلى ضفدعة دون أن يصدّق انّه ليس عصفورا!

اللغة بين قطبي الحقيقة والمجاز



الثنائيّات جزء من صلب الحياة، فهناك الليل والنهار، والذكر والانثى، ولكن هذه الثنائيات ليست ثنائيات صارمة، فالنهار ينبثق من قلب الليل، والليل ينبثق من قلب النهار. والذكورة لا تخلو من بعض الأنوثة، والأنوثة لا تخلو من بعض الذكورة، من دون أن يكون في ذلك طعن في ذكورة أو أنوثة. وثمة آية كريمة تتناول تماسّ الأضداد تقول: " تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَار،ِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ " ( آل عمران/ 27 )، وهذا ما يشير اليه رمزٌ صينيّ شهير جدّاً، يعرف بالين واليانغ  yin yang، وهذا الرمز البسيط يمثّل جوهر الفكر الصينيّ، وجوهر الحياة نفسها، جوهر الحياة بما في ذلك الوجه الآخر لها أي الموت.الاسماء تحمل بذور اضدادها في كلّ حرف من حروفها، فالشيخوخة بذرة تحتضنها الطفولة، والليل آخر مسار النهار.
لقد اتّخذ هذا الرمز الصينيّ شكل الدائرة المقسومة بدورها الى شطرين يرمز كل شطر منهما الى الحركة المستديمة، وفي وسط كلّ شطر دائرة صغيرة من لون الشطر المخالف لها وهي بمثابة نواة التحوّلات القادمة، ممّا يعني أنّ الاضداد تتلاقى وتتوالد من بعضها بعضاً وتتحوّل بشكل مستمر، تحوّل بطيء، صامت، خفيّ، قد لا تلحظه العين الاّ بعد وقت، ولكنّه لا يتوقّف لحظة عن التحوّل. لا أحد ينتبه إلى حركة عقرب الساعات بخلاف عقرب الثواني مثلاً، ولكن من بإمكانه أن يجزم أن ما لا تراه العين يتحركّ - وهو عقرب الساعات- لا يتحرّك. العين خدّاعة ومن هنا قول يزداد صواباً، يوماً بعد يوم، لحكيم الصين كونفوشيوس يقول فيه:" لا تصدّق نصْف ما تراه عيناك".

وجدت أنّ هذا الرمز السيّال والمتحوّل يمكنه أن ينطبق على اللغة انطباقاً تاماً من حيث طبيعة اللغة الثنائية. فاللغة تكتظّ بالثنائيّات، فهناك الصوت والمعنى، ثمّ المعنى الذي ينشطر بدوره الى شطرين: المعنى المجازيّ والمعنى الحقيقيّ. وحركة المعنى من المجازيّ الى الحقيقيّ، ومن الحقيقيّ الى المجازيّ كحركة الين واليانغ حركة دائبة لا تتوقّف، كما ان في قلب كلّ حقيقة لغوية مجازاً ينتظر البزوغ. وثمّة عبارة للغويّ العربيّ الفذّ ابن جنيّ يقول فيها:" إنّ أغلب اللغة مجاز"، وهذا صواب إلى حد بعيد. ولكن ما هي حقيقة المعنى الحقيقيّ؟ وما هي حقيقة المجاز؟ إنّ من يتأمّل حركة الدلالات يكتشف أنّ الثبات في مسائل المعنى وهْم من الأوهام، والدراسة التاريخيّة لدلالات المفردات تكشف لنا من خلال خطّها البيانيّ الشديد التعرّج كيف أنّ الحدود بين الحقائق والمجازات هشّة للغاية، فما يكون حقيقة من الحقائق في زمن من الأزمان قد يغير من مجراه اكتشاف غير لغويّ يغيّر من مصيره اللغويّ، اللغة طينة لزجة تنتقش فيها تصاوير ما يحدث في هذا العالم، فكلّنا نقول إلى اليوم " طلعت الشمس" مثلاً، العين ترى أنّ الشمس تتحرّك، طالعةً نازلةً، في كبد السماء ، الا ان العلم اكتشف ان الشمس لا تتحرّك، ومع هذا ظلّت العبارة هي هي، لم يتغيّر منها حرف واحد، ولكنّ معناها نسف من أساسه. طرأ على حياة العبارة تغيير جوهريّ، نقلها من حيّز الحقيقة، على السنة الناس، إلى حيّز المجاز. وقد تجد من يتعامل مع عبارة " طلعت الشمس" على اساس انّها حقيقة كونيّة لا مجاز لغويّ فما يكون منك إلاّ أن تشكّ في سويّة ذهنه. وقد نشهد تحولّات عبارات من حقيقتها الى مجازيتها، وقد تكون بسيطة، او تافهة، ولكن اللغة لا تتحمّل وزر التفاهة،  وسأعطي مثالاً حيّاً عن لحظة تتحوّل فيه حقيقة بعض التعابير إلى مجاز يبدأ يشقّ طريقه أمام عينيك. اكتب الآن هذه الكلمات من غير ان استعين بالقلم، أو ان يكون هو الوسيط بين الفكرة والورقة، الورقة التي اكتب عليها الآن ليست ورقة، هي ورقة مجازية، افتراضية، والقلم لم يعد قلماً صار لوحة مفاتيح وملامس أبجديّة،  تخرج هذه الكلمات الى النور من دون ان تستعين بخدمات القلم، لم يعد لها حاجة إلى وسيلة قلم. و"الوسائل رسائل" على قولة عالم الاتصالات مارشال مكلوهان. ما جعلني أتناول هذه النقطة القلميّة هو قراءتي ذات يوم العبارة التالية "بقلم فلان" في رأس مقال، وانا أعرف تماماً أنّ الكاتب صاحب المقال قد توقف عن كتابة مقالاته بالقلم من وقت ان حضر الحاسوب، ولا تزال عبارة " بقلم..."  تسبق اسمه. ان عبارة " بقلم..." بالنسبة له لا تمت الى الحقيقة بصلة من الصلات، عبارة انهارت حقيقتها أمام النقرات على لوحة المفاتيح، ولكن بالنسبة لغيره قد تكون حقيقة مائة بالمائة، ثمّة كرّ وفرّ دائمان في ميدان الكلام بين اللغة والمجاز. ومن الطريف جدّا مطاردة التحوّلات التي تعيشها المفردات، تعيش الكلمة في كنف الحقيقة لفترة تطول او تقصر، ثمّ تكتسب، لظرف من الظروف، معنى مجازيّاً ويكون للمعنى المجازيّ الغلبة على المعنى الحقيقيّ ثمّ مع كثرة الاستعمال يتحوّل المجازيّ من فرط رسوخه إلى معنى حقيقيّ لا يخطر ببال من يعبر عينيه أو أذنيه أنّه معنى غير حقيقيّ. فمن يخطر بباله، مثلاً، أنّ جذر" هلك" يعني، في الأصل، "السير على القدمين"، والهلاك بمعنى الموت ليس إلاّ معنى مجازيّاً اشتدّ عوده وتحوّل بحكم الشيوع الى معنى حقيقيّ توارى خلفه المعنى الحقيقيّ الأوّل؟ وحين يتحوّل المعنى المجازيّ إلى معنى حقيقيّ يسعى مجدّداً لأنْ يكون له مجازه الجديد لأنّ جناح الحقيقة اللغويّة وحده لا يرفرف.


مقال من كتاب " لعنة بابل"
تأليف: بلال عبد الهادي






حربة المسيح في معركة أنطاكية بحسب ابن الأثير


للمؤرّخ العربيّ ابن الأثير( ت 630هـ) كتاب بعنوان " الكامل في التاريخ"،  وابن الأثير اسم علم لثلاث أخوة مهروا في ميادين ثقافية مختلفة. ومن يعمل في مجال الأدب يعرف ان هناك كتاباً مهمّا في ميدان النقد وهو" المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر" لشقيق المؤرّخ.
كنت اتصفحّ كتاب "الكامل في التاريخ" فاستوقفتني عدّة امور، فالمؤرخ كان شاهد عيان على لحظات تاريخية ومفصلية دامية في حياة العرب والمسلمين، لحظات فيها الكثير من الانكسارات والانهيارات تشبه تلك التي يعايشها الانسان العربيّ اليوم.  من هنا وجدت ان بعض كلماته هي لسان حال مجموعة كبيرة من ناس هذا الزمان، فلقد عاصر الموجة المغولية التي عصفت بمنطقة بلاد الشام ، والعراق، فقال وهو يرى الممالك تنهار، ما يلي:
" ثم دَخَلت سنة سبع عشرة وستمائة: لقد بقيتُ عدة سنين مُعرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذِكرها ، فأنا أقدّم إليه رِجلا  وأُؤخّر أخرى، فمَن الذي يَسهل عليه أن يَكتُب نَعي الإسلام والمسلمين؟ ومَن الذي يَهون عليه ذِكر ذلك ؟ فيا ليتَ أمّي لم تلِدني، ويا ليتني متّ قبل حُدوثها وكنتُ نسيًا منسيًّا، إلا أنّي حثّني جماعة من الأصدقاء علي تسطيرها وأنا مُتوقِّف، ثُم رأيتُ أن تَرْك ذلك لا يُجدي نفْعًا، فنقول: هذا الفعل يتضمّن ذِكر الحادثة العُظمى، والمُصيبة الكُبرى التي عَقَمت الأيامُ والليالي عن مِثلِها، عمّت الخلائقَ، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إنّ العالم منذ خَلَق الله سبحانه وتعالى آدمَ، وإلى الآن، لم يُبْتَلَوا بمِثلِها، لكان صادقًا، فإنّ التواريخ لم تتضمّن ما يُقارِبها ولا ما يُدانيها
وما قاله ابن الأثير  في هذا النصّ الحزين من تعابير مزلزلة " نعي الإسلام والمسلمين" ، " عقمت الأيام والليالي عن مثلها"،  تعبّر عن فداحة  " المصيبة الكبرى"، وكلامه هنا هو قبل سقوط بغداد المدوّي  يوم الأحد 4 صفر 656 هجرية الموافق 10 فبراير 1258 ميلادية علي يد هولاكو وقتل الخليفة العبّاسي المستعصم. ولا أدري ماذا كان سيقول ابن الأثير لو سمح له العمر أن يرى انهيار الخلافة العباسية مع توابعها من مجازر
وقتل الخطباء والأئمة وحَمَلةُ القرآن، حيث تعطّلت المساجد والجماعات والجُمُعات مدة شهور ببغداد بحسب ما نقلته كتب التاريخ عن فظائع الأحداث يوم سقوط بغداد!
ولقد عاش  ابن الأثير ايضا في الفترة التي بدأت فيها الحملات الصليبية تغرز انيابها ومخالبها في العالم العربيّ، وكان شاهد عيان على بعض الاحداث الجسام شأنه في ذلك شأن الأمير اسامة بن منقذ الذي عرض في سيرته الذاتية  الشيّقة الكثير مما عاينه ورآه بأمّ العين.
 ومن جملة ما قرأت حادثة تتعلّق باحتلال أنطاكية، وفيها نقطة لا تخلو من دلالة، وهي صلة الإنسان بالخرافات، وإيمانه بالأساطير، وولعه باختراع الكرامات، وهو ولع لم يحسم أمره التقدّم العلميّ، ولا التطوّر التكنولوجيّ. فالأسطورة ضرورة إنسانية وحياتية على ما يبدة تعين الإنسان على إيجاد أجوبة لا يسمح له عقله القاصر أن يجدها أو يصوغها، ويمكن أن نعرف حضور الأسطورة في حياة الإنسان المعاصر من شبابيك تذاكر صالات السينما في العالم المتطوّر والنامي على السواء . وأنقل هنا ما ورد على لسان ابن الأثير حول دور الخرافة في تغيير مسار الحروب، والخرافة خدعة، والحرب كالخرافة خدعة، ومن الطريف أن يعمل المرء على جمع وتوثيق الخرافات التي تنبت في أرض المعارك، وتترعرع وتجول في الأذهان كالحقائق التي لا يأتيها الباطل من خلفها او قدّمها. يقول ابن الأثير، عن  معركة أنطاكية ما يليّ:
"لما سمع "قوام الدولة كربوقا" -  وكان أميرًا للموصل، وتولّى تربية عماد الدين زنكي وتعليمه فنون الفروسية والقيادة والقتال - بحال الفرنج، وملكهم أنطاكية، جمع العساكر وسار إلى الشام، وأقام بمرج دابق، واجتمعت معه عساكر الشام، تركها وعربها سوى من كان بحلب، فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك، وجناح الدولة، صاحب حمص، وأرسلان تاش، صاحب سنجار، وسليمان بن أرتق، وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم. فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم، وخافوا لما هم فيه من الوهن، وقلة الأقوات عندهم، وسار المسلمون، فنازلوهم على أنطاكية، وأساء كربوقا السيرة، فيمن معه من المسلمين، وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظناً منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال، فأغضبهم ذلك، وأضمروا له في أنفسهم الغدر، إذا كان قتال، وعزموا على إسلامه عند المصدوقة.
وأقام الفرنج بأنطاكية، بعد أن ملكوها، اثني عشر يوماً لي لهم ما يأكلونه، وتقوت الأقوياء بدوابّهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر، فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد، فلم يعطهم ما طلبوا، وقال: لا تخرجون إلاّ بالسيف.
وكان معهم من الملوك بردويل، وصنجيل، وكندفري، والقمص، صاحب الرها، وبيمنت، صاحب أنطاكية، وهو المقدم عليهم. وكان معهم راهب مطاع فيهم، وكان داهية من الرجال، فقال لهم: إن المسيح، عليه السلام، كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق.
وكان قد دفن قبل ذلك حربة في مكان فيه، وعفى أثرها، وأمرهم بالصوم والتوبة، ففعلوا ذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم، ومعهم عامتهم، والصناع منهم، وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر، فقال لهم: أبشروا بالظفر، فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقف على الباب، فتقتل كل من يخرج، فإن أمرهم الآن، وهم متفرقون، سهل. فقال: لا تفعلوا! أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. ولم يمكن من معاجلتهم، فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه، ومنعهم، ونهاهم.
فلما تكامل خروج الفرنج، ولم يبق بأنطاكية أحد منهم، ضربوا مصافاً عظيماً، فولى المسلمون منهزمين، لما عاملهم به كربوقا أولاً من الاستهانة بهم، والإعراض عنهم، وثانياً من منعهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف، ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم، وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة، لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم. فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة، إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله، وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعة من المجاهدين، وقاتلوا حسبة، وطلباً للشهادة، فقتل الفرنج منهم ألوفاً، وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوّتهم" وكان ذلك في الثامن والعشرين من شهر حزيران 1098/ الموافق للسادس والعشرين من شهر رجب  491.
كان يكفي وجود راهب " داهية من الرجال" على ما يقول ابن الأثير، في جيش الإفرنج وحربة عاديّة صقلتها الخرافة لتغيير مجرى المشاعر وتوليد قوّة من ضعف، وانتصار من تضاعيف هزيمة متوقعة.
بلال عبد الهادي