الخميس، 12 ديسمبر 2019

تقرير عن رسالة نسرين شلهوب عن شعر جوزيف حرب



ظلّت دراسة الخطاب بعيدة عن متناول الدرس إلاّ في حالات شديدة الندرة على امتداد فترات طويلة من عمر الخطاب إلى أن جاءت الألسنية بعتادها ومدارسها وتياراتها، ونظرت إلى النصّ باعتباره كتلة واحدة، أو جملة واحدة .  كانت ثمة دراسات طفيفة حاولت النظر إلى النصّ باعتباره كياناً واحداً شديد التماسك والتفاعل ، كالمحاولة التي قام بها الباقلاّني في كتابه "إعجاز القرآن"  حين درس معلّقة امرىء القيس ولكن، للأسف، بهدف تفنيدها لا بهدف إعلاء شأنها، بخلاف ما كان عليه الحال مع المحاولة الفذّة التي  قدّمها ابن حازم القرطاجنّي في كتابه "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" حين تناول بائية المتنبي في كافور الإخشيدي " أغالب فيك الشوق، والشوق أغلب". كانت الدراسات اللغوية والنقدية تعمد الى تمزيق النصّ وتقطيع أوصاله، بينما الدراسات الحديثة عمدت الى ترتيق النصّ ولمّ شمله إذا صح التعبير، أي إعادة اللحمة بين عناصر النصّ الواحد أو أعضاء النصّ الواحد. فخرجت من مفهوم الجملة الى مفهوم النص او من مفهوم الجملة إلى مفهوم "الملفوظ".
وهذا من فضائل الألسنية التي لا يمكن نكران حسناتها الفكرية والأدبية والجمالية لأيّ دارس مهما حاول التفلّت من الرؤية الألسنية للنصّ.
وانتهى المطاف بالألسنية الى التعامل مع النصوص تعاملاً براغمياتيا، وخيرا فعلت. فالبراغماتية هي النظر إلى اللغة في حياتها اليومية، أو في حياة الناس اليومية أي ربط الكلام بالقائل والمتلقّي والزمن والمكان ، وهنا أشير إلى مسألة شديدة الخصوبة في الدراسات القرآنية، والتي تسمى بأسباب النزول في علوم القرآن، وأحيل هنا إلى ما ورد في كتاب السيوطيّ " الإتقان في علوم القرآن"، وهناك دارسون جادّون يحاولون استلهام ما ورد من أسباب النزول  كما فعل على سبيل المثال محمد الخطّابي في كتابه "لسانيّات الخطاب"، وتبني فكرة أسباب النزول كأدوات عمل وتشريح لتلك العلاقات التي تربط بين أعضاء النصّ والإحالات إلى ما هو من خارج النصّ. لكأنّ المعنى نكرة لا يأخذ ال تعريفه إلاّ من أمور ليست منه. فما هو غير لغويّ طريقك الى ما هو لغويّ.
كانت قراءتي للرسالة حول شعر جوزيف حرب التي تقدمها الطالبة نسرين، اليوم، ممتعة. قراءة شعر جوزيف حرب بحد ذاتها نعمة فنية، عينه عدسة مصوّر محترف ومقتدر وأنيق. حتى أن الأناقة التي يتمتع بها ديوانه على مستوى الشكل، من حيث نوع الورقة ولون الورقة، وجلدة الغلاف ورسمة الغلاف كأنها كلّها  ليست إلاّ مؤشّرات على مضامين قصائده وأناقتها الدلالية وهي من منظور جيرار جينيت عتبات وارفة الدلالة . قرأت رسالتك بمتعة، ولم تخل قراءتي لرسالتك من بعض التعب الذي فرضته على نفسي، في الوقت نفسه، خصوصا في الفصلين الأولين اللذين يتناولان مطولات جوزيف حرب ، ولكنه تعب حلو. في الفصلين الأولين كان الكر والفرّ في رسالتك  دائمين بين ما تقولينه عن القصائد الطويلة حين تعالجين مسائل جزئية أو مقاطع شعريّة والعودة الى ملاحق القصائد لتتضّح صورة هذه الجزئية ضمن اللوحة الفنية الكاملة للقصيدة، دنوّ وابتعاد مستمران بغية التقاط شبكة القصيدة بكامل خيوطها.
مقدّمة الطالبة مقدّمة ضافية، واضحة، تعرض فيها المنهج الذي اختارته ، وتعرض لأعمال كبار في هذا الاختصاص الذين وضعوا أسس لسانيات الخطاب، كما قامت بعرض للمصطلحات التي كانت أدواتها في تشريح النصوص وهي مصطلحات براغماتية أو سيميائية، والمصطلحات أشبه بخارطة طريق إلى النصّ.  ولعلّ من أشق ما يعترض أيّ باحث في بدء مسيرته البحثية هو هضم المصطلحات،  والتمرّن على استعمالها، فالمصطلحات خطيرة خطورة سكّين بيد صغير، يحتاج ترويضها إلى وقت وجهد وصبر ، ويبدو أنّ الطالبة أعطت الوقت والجهد  والصبر حقّهم. ولا أظنّ أحدا منّا لم يعان أو لم يتصارع مع المصطلحات وهو صراع لا ينتهي فيما أعتقد . وهذا ما نلحظه في أي حال في قاعات المحاضرات ونحن ندرّس الموادّ الألسنية أو النقديّة على وجوه الطلاّب حيث تكون بعض المصطلحات كالضباب الذي يشوّش النظر؟
وإن كنت لا اوافق الطالبة في بعض حالات التعميم كعبارتها مثلا " وللبراغماتية مفاهيم أساسية كانت قد تجاهلتها كلّ من فلسفة الكلام والألسنيّة"( ص 8)، فلا أظنّ أنّ فلسفة الكلام قد تجاهلت البراغماتيّة، ولا أظنّ أنّ الألسنية قد تجاهلت أيضاً البراغماتية، فبذور البراغماتيّة يمكن ان نراها في فلسفة الكلام وفي الألسنية، وفي ما قبل الألسنية كشذراتـ وأقول كشذرات، وهنا أتوقف عند عبارة وردت في كتاب الخصائص لابن جنّيّ  عن لغويّ وردت وردت على لسانه الجملة التالية: "أنا لا أحسن أن أكلّم الناس في الظلمة" فالظلمة تمحو بعض دلالات القول، أو بعض سياقات القول. عبارة بسيطة ولكنّها مكتنزة بالدلالات وخصوصاً أنّ من استشهد بها شخص عالي الكعب في المجال اللغويّ.
ومشكورة الطالبة في وقوفها عند مفاهيم كثيرة، معتمدة في تفسيرها وتوضيحها على مراجع حديثة ، فالعلوم اللغوية تشبه في تسارعها الى حد ما التطوّر التكنولوجيذ السريع بحيث إنّ العالم اللغويّ يشعر أنّه ملحوق دائماً، وأنّه يحتاح إلى تحديث معلوماته. واختيار الطالبة للبراغماتية والسيميائية كمدخل إلى بهو جوزيف حرب الشعريّ هو اختيار حيويّ يخصّب المقروء ويجمع الخيوط العديدة التي تشكّل الشبكة الدلاليّة الغنية والعفيّة لشعر جوزيف حرب، فالبراغماتية تتعامل مع اللغة بليونة خارقة تشبه ليونة اللغة نفسها.
كان المدخل الذي قدمته الطالبة غنيّا ومكثّفاَ، ولم يبق في الإطار النظريّ المحض بل عمدت الطالبة الى توضيحه بالأمثال والشواهد والحجج كما فعلت على سبيل المثال حين تناولها لمفهوم "الملفوظة الإنجازية" أو الدلالات الإنجازيّة".
ومن الأمور التي تستحقّ التنويه في عملها هو وضع المصطلح الذي تستعمله مع مقابله الفرنسيّ. فالمصطلحات الحديثة المنقولة عن لغات أجنبية يبقى بعضها كالطلاسم في حال لم نعرف مقابله الغربيّ، رغم بساطته، وهكذا صار بإمكان القارىء للمصطلح في تركيبته العربية أن يفقه بلا مشقّات أو تخمينات الدلالات التي يحيل إليها المصطلح. وأزمة المصطلحات العلمية في عالمنا العربيّ أزمة دالة على ما يعيشه عالمنا العربي على الصعيد العلميّ والفكريّ والاجتماعيّ.
ويتمتّع المدخل الذي كتبته الطالبة بكثافة في المعلومات، ولكنّها كثافة دسمة وغنيّة بالمعلومات النظرية البراغماتية لدى أقطاب هذا العلم ، ولن أذكر أسماء كلّ الأعلام الذين وردوا في هذا المدخل ، وأكتفي بما عرضته من أفكار غريس البسيطة والعميقة في آن واحد، بسيطة بحيث لم يخطر لكثيرين تبيان دورها الفعّال في عملية التواصل، وكثيراً ما تكون البديهيّات ضحيّة اسمها. كتحديده للفوارق بين الجملة والملفوظة والتضمين بأنواعه وتبسيط مفاهيمه عبر ترسيمات وأمثلة، وتناوزلها لمبدأ التعاون ومبادىء التبادل وآلية الاستدلال.
الفصل الاول
اشكال الخطابات النمطية وتضافرها في قصائد حرب.
كان المبحث النظريّ  في فاتحة الفصل الأوّل  مفيدا لمعرفة الطريقة التي ستعتمدها الطالبة في قراءة مطولة جوزيف حرب : لتوضيح معنى التماسك أو الاتساق، ولعبة الضمائر في تمتين روابط النصّ، وأسماء الإشارة، والمقارنة، من استبدال وحذف، وأظن ان المحذوف قد يكون هو الحاضر الأبرز، فالغياب مثير ودال ومبهج في أحيان كثيرة،  وأستعير كلمة " مبهج" من عبارة قالها الزمخشريّ هي "بهجة الحذف". كما شرحت دور الوصل في عملية لم شمل أوصال النصّ بأشكاله المختلفة من وصل إضافي أو عكسيّ أو سببيّ،  ، والتكرار عبر اختلافاته،  فالتكرار قد يكون عبر الترادف أي عبر التكرار المعنوي لا التكرار اللفظي مع ما لهذا من مكتسبات على الصعيد الدلاليّ أو الجماليّ كما تكراتر كلمة الأم مثلا في قصيدة " مدرستي الأولى"( 195)، ولفتت إلى الدور الذي يؤدّيه تكرار البنية  أو التكرار المتوازي، ومفهوم التضامّ في تعزيز صلابة النصّ، والحقل المعجميّ، الانسجام والترابط،
لقد كانت كل هذه الادوات كفيلة بالشروع في المبحث التطبيقي في دراسة المطولة التي شرعت الطالبة في تشريحها وتبيان دلالاتها الوارفة، وكنت اتخيل وأنا أقرأ هذه الفصل انني امام شجرة تنمو في اصيص من زجاج فجذورها الخفية لم تعد خفية وكنت ترى كيف قام الشاعر بكتابتها وتفريخ أغصانها وأوراقها وثمارها.
وفي الفصل الثاني، تتعمل الطالبة مع مسألة شديدة الحداثة والثقل، وهي الدور الذي يوديه الايقاع في تمتين أواصر الدلالة، فالايقاع جزء من المعنى، بل ترجمان له عند الشاعر المقتدر، فالايقاع يستعين بكل ما هو صوتي وزمني ، من تنسيق صوتي وهندسة موسيقية من توازن وتواز وتكرار، كما تستعين بالمستوى الاسلوبي الذي توخاه الشاعر جوزف حرب في التشكل الابداعي للنماذج الذهنية والحدثية عبر استخدام الرموز والانزياحات والتضمينات.
اما الفصل الثالث فهو اقل الفصول ارهاقا في القراءة ربما لأنه لم يعتمد الى دراسة المطولات الشعرية ، وهو الفصل الموسوم بعنوان الخطاب الدرامي في شعر حرب، حيث تبدأه الطالبة بمبحث نظري لمفردات هذا الغرض ومكوناته من فعل وصراع وحوار ومن ما هو مأساويّ وهزلي، والهزلي كما يبدو في شعر حرب هو هزل جارح، سخرية موجعة تثير الضحك بمقدار ما تفتق من جروح مبعثها التضاد كما فعلت الطالبة في قراءتها للمثقف العربي في الزمن الراهن، كما تبدى ايضا في عبارة " درامية الهزلي في شعر حرب"  حيث درست الطالبة قصيدة المثقف
" مثقف
له رأس كيقطين يعلقه بمطبخه
كبير القوم.
وريشة حبره بيضاء فوق بياض صفحته
تكفّر عن خطاياها بطول الصوم.
ويمضي اليوم
بعد اليوم.
ويبقى مثل مسمار على حائط
قديم، موحش، ساقط،
تعلق فيه أفكار ممزّقة، قبيل النوم".
ولا أعرف لماذا خطر ببال الطالبة وهي تدرس هذه القصيدة قصيدة ابن الرومي في هجاء لحية. ص 427.
وهل هناك ما يبرر فكرة التناص؟ أترك مهمة ذلك للطالبة.
وفي الختام، لا انكر أنني تمتعت بقراءة هذه الرسالة عن شاعر يستحق شعره أكثر من دراسة وأطروحة.  فهو شاعر يتمتع بشخصية شعرية خاصّة، على المستويين الفصحى والعامية الراقية والباذخة وشاهدي على ذلك اختيارات فيروز لعدد من  كلمات قصائده كإسوارة العروس:
اسوارة العروس مشغولي بالدهب
و انت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب
و
حبيتك تنسيت النوم يا خوفي تنساني
حابسني براة النوم و تاركني سهراني