الأحد، 27 مارس 2022

وصار للياسريّة فانزاتها....!!!

 



وصار  للياسريّة فانزاتها....!!!

هل من علاقة بين الفانزات والياسريّة؟

ما كان ليخطر لي ببال أن أستعمل كلمة fan  أو  fans  أو فان أو  فانزات...

دفعتني اليوم الياسريّة    إلى البحث عن كلمة fan  لأعرف دلالاتها ... 

فليس للكلمة دلالة واحدة...

الكلمة مثل القطّة بسبعة أرواح.. ولا يستهويها أن تضع دلالتها في سلّة واحدة...

فتعرّفت اليوم إلى ما خفي من حروفها ودلالتها...

فهي  في الأساس fanatic   أسقط آخرها .. كما يحدث لكلمات كثيرة...

الاختصار قدر كلمات كثيرة..

انظر إلى كلمة سينما أو سيلما كما تستعمل في بعض الأفواه.. 

التبادل بين اللام والنون كثيرٌ...

الليرة كنت أسمعها من بعض الأفواه نيرة... وتفاجأت ذات يوم من كلمة علوان الفصيحة والمهجورة والتي تعني ما تعنيه كلمة عنوان... 

واسم إسماعيل الذي نسمعه في بعض اللهجات إسماعين... وجبريل وجبرين...

لا أعرف لماذا اذكّرت الكاتب الرهيب أحمد فارس الشدياق في كتابه الساق على الساق فيما هو الفارياق... وكيف كان يضع بين فكرة وفكرة فاصلاً معجميا أو لغويّاً... ويمرّر بين الجدّ والجدّ الكثير من الهزل... أو بين الهزل والهزل شيء من الجدّ على سنّة الناثر العربي الكبير الجاحظ...

عودة إلى الياسريّة..

وهذا النصّ  من وحي ما سمعته اليوم على لسان  إحداهنّ بعد أن تناولت صحن ياسريّة، إذ قالت لي: أنا من فانزات الياسريّة...

أعرف أنّ كلمة فانزات تستعمل في سبيل الكلام على أتباع فنّان أو فنّانة..   أمّا أن تأتي الكلمة مقرونة بالياسريّة فهذا استعمال نادر...   ومحبّب... وهي المرّة الأولى التي تحظى الياسريّة بهذا التكريم  اللغويّ الحلو...

كان يمكن لي أن أعرّج على مسائل لغويّة أخرى هي بنت خيال الفراهيديّ المجنّح وقصدت التقليبات الصوتية... للجذر المؤلف من ثلاثة حروف:  

أحببت أن أعرف إن كان لجذر فنز وجود عربي... فلم أعثر إلى الآن عن معنى راسخ...

فنز، فزن، نفز، نزف، زنف، زفن...

من هذه الجذور الستّة، هناك جذر واحد نازف... وهو نزف... أمّا الجذور الأخرى فيحتاج الذهن إلى تجوال أعمق في خبايا الذاكرة أو   دهالير الذاكرة للعثور على معنى أو ظلّ معنى

الجمعة، 25 مارس 2022

نظرية الفستق 2 بين المتنبي وأبي تمّام

 ورد في كتاب نظرية الفستق 2 في هامش الصفحة  141 ما يلي:


هذا القول أتى على سبيل التضمين لبيت المتنبي المشهور:

السيف أصق إنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

ولكن هذا البيت المشهور هو لأبي تمام وليس للمتنبي

حمّص مدقوق ومخفوق بالطحينة...

 



حمّص  مدقوق ومخفوق بالطحينة...

اللون طبيعيّ دون أي إض


افة...

ولكن من أين أتى هذا اللون الأبنوسيّ.. فاقع السواد؟

من مكوّنين.. من الحمّص الأسود ومن الطحينة..

الطحينة السوداء موجودة ..  فحبّة السمسم منها نوع لونه أسود.. 

الاعتياد يبلبل النظر حين يواجه بما لم  يألفه..

وحبّة السمسم السوداء تشبه إلى حدّ بعيد حبّة البركة... حجما ولوناً...

ومنها تصنع الطحينة فيصير عندك طحينة شديدة السواد.. وطحنها مع الحمّص الأسود يعطيها هذا اللون...

عالم الطعام مفتوح على اختمالات لا يحصرها خيال أو مذاق...

الطاقات الكامنة في الأشياء كثيرة تماما كما الطاقات الكامنة في    الإنسان... 

كل ما تتطلّبه تحفيزها... 

وطاقات الإنسان تفوق طاقات الأشياء الكامنة في حبّة أرزّ أو حبّة فول أو حبّة سمسم...

الخميس، 24 مارس 2022

Restaurant Dannoun مطعم النون لصاحبه ياسر عبد الهادي وأولاده

 


على المرء أن يكون لديه ذهن يشبه ليونة جسد الهرّ

 

على المرء أن يكون لديه ذهن يشبه ليونة جسد الهرّ في هذا الزمن الذي نحن فيه، الزمن اللبناني أوّلا، والزمن الدولي ثانيا...

في لبنان عليك أن تجد لنفسك قاعدة في بلد يخلو من كل قاعدة... قاعدة تكثّر من استثناءاتها حتى لا تقضي عليها...

تكتشف في لبنان أنّك هشّ، ولكن عليك أن تمنح هشاشتك قدرات خارقة ترفع عنها هشاشتها الظاهرة...

كل مما حولك يغريك بالقرف، ولكنّك تقاوم... بكلّ ما اوتيت من عبث...

هل يمكن للعبث أن يكون منقذا للمرء من العبث..

هل يكون عبثك على غرار عبث المعرّي وهو يملي كتابه عبث الوليد... فكانه عبثه شيء كالجد، فيه الكثير من الرصانة الفكرية؟

واقع يشبه الضباب... 

كيف يمكن لك أن تجعل من الضباب بوصلة تخرجك من الضباب؟

لبنان على شاكلة أطلال... ولكن الأطلال كانت فواتح القصائد والمعلقّات...


الثلاثاء، 22 مارس 2022

طريقتك في الأكل هي طريقتك في التفكير...

 


طريقتك في الأكل هي طريقتك في التفكير...

هناك أناس لا تحب المخاطرة ولا المغامرة، ويظهر ذلك من نفورهم من تجريب مآكل جديدة، لا يحبّون تعكير مزاج ذائقتهم، وإذا تتبعّت طريقتهم في الأكل يمكنك أن تتوصّل إلى طريقتهم في التفكير..  

عدّة طرق يمكننا أن نسلكها للوصول إلى مكان واحد،  وأعطي مثالا بسيطا من عالم الطرقات، فإن كنت في منطقة التلّ في طرابلس ، وتريد الذهاب إلى الميناء يمكنك الذهاب من شارع المائتين، أو شارع عزمي، أو طريق الميناء، أو طريق رأس الصخر، أو الذهاب من المنطقة الصناعية، المنافذ إلى الهدف ليست واحدة، دائما هناك خيارات، وكذلك أمر النفس، فإنّه يمكنك أن تعرفها من طرائق شتّى، ماذا تأكل خبر، وكيف تأكل خبر آخر، ماذا تلبس خبر، كيف تلبس خبر،  ماذا تقرأ خبر، كيف تقرأ خبر، كلّها أشياء تخبر عنك، قصّة شعرك خبر، أشير هنا إلى احتمال خبر مزيّف يشبه الشائعة، أو خبر هو لجسّ النبض.

كل شيء يحكي، كل سلوك هو نصّ يتطلّبه ما يتطلبه تحليل نص من أدوات كثيرة، أدوات لغوية، ونفسية ، واجتماعية، وشعورية، واقتصاديّة...

ردّ فعلك هو سلوك يشبه تعليق على نصّ...

لكل سلوك معجمه الخاص، وصرفه ونحوه، ولكن له ما للقواعد من استثناءات تثبت القاعدة أو تبفي القاعدة....

كل ما تراه عينك هو مجموعة جمل من نص مديد، 

وكل ما يدور في ذهنك هو مجموعة جمل من نصّ مديد، نصّ متين ورخو كشبكة الصيد أو شبكة مرمة الكرة. 

رخاوة النصّ سرّ متانته... واهتزازات النصّ هي ما تمنحه قوّة الامتصاص...

من حسنات علم السيمياء أنّه يعلّم المرء كيف يرى؟ 

السيمياء أشبه برياضة روحية لشبكة العين... 

علم يرميك في عالم الأسئلة...

يقول لك: خذ الشبكة وتعلّم فنّ الصيد... 

السيمياء علم يعلّمك المتعة... 

ولعلّ أجمل ما تعلّمنا إيّاه السيمياء هو أن لا نكفّ عن التعلّم، وتعلّم مساءلة ما تعلّمناه...

تعلمك السيمياء أن تكون رخوا كشبكة صيد.... وغرّاً كي لا يفترسك الغرو

بليلة من مطعم الدنون


 

حلم أميركا كابوس العالم...

 


حلم أميركا كابوس العالم...

لأميركا جناحان: جناح ملائكيّ وجناح شيطانيّ...  وبهما معاً تحلّق...

لا أحد ينكر فضل أميركا على العالمين...

ولا أحد ينكر شرّ أميركا على العالمين...

عنجهيّة القوّة  نقطة ضعف القوّة ومقتله


 




#ياسريّة بالفطر والقلوبات...

وحين كتبت " قلوبات" راح ذهني إلى عالم اللغة... 

كنت أريد أن أتكلّم على علاقة الفطر بالحمّص.. فوجدت أنّ نفسي تهفّ إلى صيغ الجمع في اللغة العربيّة... وهي صيغ يبدع في استخدامها كبار اللشعراء أو من أوتي من اللغة بنصيب وافر وذائقة أدبيّة..

وكتبت أكثر من مرّة عن شعريّة  الجموع...    

ففي العربيّة ولنأخذ كلمة بحر مثلا:

بحر، وجمعه: بُحُر، بحار، أبحر، أبحار، أباحر، أباحير.. هذا ما ورد في خاطري .. وهناك جموع أخرى ربّما...

وكلمة قلب: قلوب، ولكن نأخذ الجمع لنعيد جمعه فيصير : قلوبات، وقلوبات  تحمل الدلالات ما لا تحمله كلمة قلوب... 

القلوبات: هي لوز، وبندق، وكاجو، وفستق...  وهنا تميّز نفسها القلوبات عن المخلوطة.. تتباهى القلوبات  بطبقتها   النقديّة... فهي ليست الفول السوداني، وليست القضامة، وليست البزورات...  فهي ليست قلباً واحدا، ولا قلوباً وإنّما قلوبات...

عودة إلى الياسريّة بالفطر والقلوبات...

للأسف سعر الفطر مرتفع بحيث  إدخاله كفرع من فروع الياسريّة.. يرفع من ثمنه أكثر وأكثر... وكذلك وجود القلوبات من  لوز، وصنوبر، وكاجو بالإضافة إلى الجوز  ...  وهذا ما يردعني من إنزاله في لائحة الأصناف...

نعيش في لبنان في زمن مجنون...

الانهيار الاقتصادي الجارح يجعل المرء يعدّ للعشرة، في الأقلّ، قبل   إضافة أصناف جديدة... 

فالياسريّة أطباق عديدة  اكتفيت بسبب الأزمة الاقتصاديّة  بصنفها الأساس،  الذي يمكن أن نذهب منه إلى مذاقات عديدة... وكلّها   منطلقها صحّيّ...  

أكثر من مرّة هيّأت مكوّنات الياسريّة بالفطر لتحضيرها ، ولكن كان يشغلني شاغل فأؤجّل تحضيرها... ولكن اليوم نويت أن أحضّرها أيّا كانت المشاغل أو ضيق الأوقات...

كنت  أحضّرها بهدوء وانشغاف ..     

ولم يخيّب مذاقها ظنّ  توقّعاتي، وظنّ حاسّة الذوق لديّ...

يمكن لمن يرغب أن يحضّرها تحضيراً منزليّاً...

وفي حال نزلت على مائدة الإفطار الرمضانيّة..  أرجّح أن تنال  الياسريّة بالفطر والقلوبات من  الأصوات ما لن يناله غيرها من الأصوات.. 

وأغلب الظنّ أن يقحّط الصحن حتّى آخر لقمة...

مسحت الصحن ولا زالت نفسي تخفّ إلى بضع لقيمات...

كلفة المكوّنات  لهذا الطبق هي مائة ألف  ليرة... وهو مبلغ أعرف أنّه موجع لكثيرين في هذا الوقت الاقتصادي العصيب...

ولكنّها تجربة مذاقيّة تستحقّ بعض الوجع...

الخيارات أمام الياسريّة مفتوحة على طعمات  تفوق أصابع اليد....

الأحد، 20 مارس 2022

الخميس، 17 مارس 2022

طريق الحرير اللغويّة

 

تحية طيبة، وبعد

بداية أشكر الدكتورة الفاضلة شيماء كمال على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذا المؤتمر الموقّر   الذي يعقده قسم اللغات والترجمة في جامعة بدر تحت عنوان  " المثاقفة والمبادلة، دراسات بينيّة في الإنسانيّات".

كما وأشكر المشاركين الذين لا ريب سيمتعني سماع مداخلاتهم التي ستغني معرفتي حول ما ستنتجه مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها في العام 2013 الرئيس الصينيّ شي جين بينغ، وهي مبادرة يصحّ فيها ما قيل في أبي الطيب المتنبّي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، فمبادرة الرئيس الصينيّ ملأت الدنيا وشغلت الناس، حقا، مبادرة تشبه المغامرة، وتاريخ الإنسان، في أيّ حال، هو تاريخ المغامرين والمبادرين.

مداخلتي هي بعنوان: لغات طريق الحرير، وكان يمكن لهذه المداخلة أن تكون باسم "طريق الحرير اللغويّة"، وهو اسم حديث نسبيّاً وجذّاب. ومن الطريف أن تأتي التسمية من الغرب، ومن ألمانيا تحديداً، لتعني بضاعة اكتشفت صناعتها الصين، وبقيت سرّا محيّرا إلى زمن طويل، حتّى أنّ فرجيل كاتب الملحمة الرومانيّة الإنياذة ظنّ أنّ الحرير مصنوع من مادّة نباتيّة على غرار القطن.

لعلّ أوّل من لفت نظري إلى فكرة لغات طريق الحرير هو ابن بطّوطة الرحّالة الشهير والذي ترجمت رحلته إلى لغات عديدة ومنها اللغة الصينيّة، لم تواجهْه خلال تجواله المديد في عالم الشرق أو في عالم آسيا مشكلة لغويّة ، فحيثما حلّ عصا الترحال كان يجد من يتكلّم معه اللغة العربيّة، وكانت اللغة تحلّ مشاكله اليوميّة في أغلب البلدان التي زارها ومنها الصين، حيث سجّل مشاهداته وانطباعاته ودهشته، وخصوصاً حين رأى صورته مرسومة على الكاغد أي الورق الصينيّ ومعروضة في الطريق. ولا أعرف إن كانت صورته هي أوّل صورة مرسومة لإنسان عربيّ، ولا أعرف إن كان في الأرشيف الصينيّ لذلك العهد نسخة من هذه الصورة، والبحث عنها يستحقّ العناء الفنّيّ والعلميّ.

عدّة كتب عربيّة تراثيّة تناولت الصين كان لها الفضل في أن تولد في رأسي فكرة دراسة لغات طريق الحرير وتفاعلها فيما بينها. ومنها كتاب بعنوان أخبار الهند والصين يعود تاريخ كتابته إلى العام 237 للهجرة، نشره في العام 1948 المستشرق الفرنسيّ جان سوفاجيه مرفقاً بترجمة فرنسيّة، وشروحات مستفيضة. استوقفتي أمور كثيرة في الكتاب، واستوقفني بشكل خاصّ كلمة، كلمة صينيّة، لو لم يقم ناشر الكتاب بشرحها لظلّت مجهولة الدلالة بالنسبة لي، وشروحات الكاتب وحدها لا يمكنها تزويدك بالجزم حول دلالتها، وهي كلمة "ساخ"، وهنا أستشهد بالفقرة : "ويختصّ الملك من المعادن بالملح، وحشيش يشربونه بالماء الحارّ ويباع منه في كل مدينة بمال عظيم ويقال له الساخ. وهو أكثر ورقاً من الرَطْبة، وأطيب قليلاً، وفيه مرارة، فيغلى الماء ويذرّعليه فهو ينفعهم من كلّ شيء. وجميع ما يدخل بيت المال الجزية والملح وهذا الحشيش".

كلمة الشاي لم تدخل إلى اللغة العربيّة من باب كلمة الشاي، وإنّما من باب كلمة " الساخ"، وإلى اليوم لا أعرف من أي لهجة من لهجات اللغة الصينيّة أخذها الكاتب، كما أنّ المترجم نفسه لا يعرف من كتب هذا الكتاب، فهو عثر على المخطوطة، تنقصها بعض الأوراق، وخصوصا الصفحات الأولى التي تعرّف باسم الكاتب، وناشر الكتاب ينسب الكتاب طورا للمسعودي صاحب كتاب " مروج الذهب ومعادن الجوهر"، وطورا آخر للتاجر سليمان.

كانت هذه الكلمة " ساخ" وراء اهتمامي بالكلمات المهاجرة، والكلمات المهاجرة في اللغات تغري بكتابة سيرها الغنيّة، ووراء الكلمات التي يكون للتجّار ، تحديداً، فضل شيوعها وانتشارها وتبنّها من قبل  لغات أخرى. والكتاب الذي وردت فيه هذه الكلمة، في أي حال، كتاب منسوب إلى من كانت التجارة مهنته.

وللتجارة فضل لغوي لا ينكر، وكثيراً ما قلّلنا من شأن التجّار في ترويج الأفكار، وغالباً ما نظرنا إلى الجانب السلبيّ من التجارة، بحيث إنّنا نجد كثيراً من الأمثال تتناول التاجر بالسوء، وتدين التجارة، وليس دائماً بسبب الجنّاس الخنّاس، فنقول: التاجر فاجر. وهكذا أعمانا فجور التجّار عن دورهم الجميل، والضروريّ، والحيويّ في نشر الأفكار. ومن الدالّ جداً أن يمتهن الرسول محمّد عليه السلام التجارة قبل أن ينزل عليه الوحي، وهناك أوصاف عدّة يتّصف بها الرسول عليه السلام، وهي أوصاف منحته إياها ممارسته التجارية، ومنها: الصادق الأمين، وهما، في الأصل، من صفاته التجاريّ قبل أن تلحق بصفاته النبويّة.

وهنا بخصوص التجارة أحبّ الاستشهاد بحكاية صغديّة، وشعب الصغد من الشعوب الذين مارسوا التجارة على ضفاف  طريق الحرير، وكانت بلادهم في الوقت نفسه تستقبل التجّار الذي يسلكون طريق الحرير بحفاوة بالغة، تقول الحكاية: إنّ الصغديين يمسحون شفتي الطفل أوّل ما يولد بالسكّر حتّى لا يخرج من بين شفيه إلاّ الكلام الحلو كالسكّر، ولهذا تحوّلوا، بحسب ما تقول الحكاية، إلى تجّار بالفطرة، - فالتجارة لسان حلو وملقى أحلى- وهنا، كما نرى نجد رابطاً طريفاً ودالاً على العلاقة الحميمة بين اللغة والتجارة من جهة، وبين اللغة وطريق الحرير من جهة ثانية.

 وأخذتني هذه الفكرة، أو هذه الروابط بين أضلاع هذا المثلّث، وهي: اللغة والتجارة وطريق الحرير إلى تساؤل حول علاقة اللغة العربية الفصحى بطريق الحرير.

التجارة واللغة على صلات عميقة، هذا ما يقوله لنا العصر الجاهليّ بشكل من الأشكال وإن بطريقة مواربة.

التجارة واللغة في حياتها اليوميّة،

والتجارة واللغة في وجهها الأدبيّ،

دارس نشأة اللغة الفصحى يتوقّف عند لهجة قريش. فالشائع لدى الدارسين أن العربيّة الفصحى هي لهجة قريش.

لهجة ارتقت إلى مستوى الفصاحة الناصعة لسببين:

-        سبب دينيّ

-        سبب تجاريّ 

 

سأتوقف في كلمتي، هنا، عند السبب التجاريّ، والذي يمكن اختصاره بكلمة قرآنيّة، أي الكلام على السبب التجاريّ بمفردات دينيّة، وبالتحديد قرآنيّة، وهي مفردات وردت في سورة قريش:

 

"لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)".

 

دلالات كثيرة يمكن أن يستخرجها القارئ من هذه الآيات، ولكن أكتفي بالدلالة التجارية الموجزة في عبارة " إيلاف قريش"، التي تحمل في طيّاتها فكرة الاستيراد والتصدير.

ما هو الدور الذي لعبه "إيلاف قريش " في تعزيز حضور لهجة قريش، ومن ثمّ في تبنّيها كلغة جامعة لقبائل العرب، ولهجات العرب؟

حين نسبر دلالات عبارة " إيلاف قريش" وأبعادها الجغرافيّة يتبيّن لنا، في جزء منها على الأقلّ، أنّها على صلة حميمة مع طريق الحرير.

طريق الحرير جعلت من قريش محجّة تجاريّة، ومَحجّة لغويّة ومحجّة أدبيّة ومحجّة نقديّة، بقدر ما جعل وجود الكعبة من قريش محجّة دينيّة، وجعل من الكعبة شاهداً أدبيّاً تعلّق على جدرانها قصائد العرب الخالدة وقصدت " المعلّقات" .

 

وأختم ببعض الكلمات من كتاب بيتر فرانكوبان Peter Frankopan  الموسوم : طرق الحرير، واختار صيغة الجمع في عنوان الكتاب، ولكن عناوين الفصول تبنّت صيغة المفرد، وهي عناوين معبّرة جدّا عن الأدوار التي لعبتها طرق الحرير، وأكتفي ببعض منها:

 

طريق الأيمان،

طريق الثورة،

طريق الوفاق،

طريق الفرو،

طريق السماء،

طريق الذهب،

طريق الفضّة،

طريق الذهب الأسود،

طريق القمح،

طريق القوى العظمى.

 

ولكن ليس من بين هذه العناوين عنوان باسم: طريق اللغة أو طريق اللغات.

 

أشكركم، وعلى أمل لقاء لا ينتمي على الواقع الافتراضيّ.

 

د. بلال عبد الهادي

رئيس قسم اللغة العربية

كلّية الآداب والعلوم الأنسانية

الجامعة اللبنانية- الفرع الثالث

 

 

 

 

 

المحيط الأزرق عنوان كتاب في إدارة الأعمال، وهذا العنوان تحوّل إلى مصطلح في إدارة الأعمال وخلق الأعمال...

 


المحيط الأزرق عنوان كتاب في إدارة الأعمال، وهذا العنوان تحوّل إلى مصطلح في إدارة الأعمال وخلق الأعمال...

يمكن الحصول على نسخة رقمية من هذا الكتاب مجانا من الإنترنت..

والمقصود بهذا المصطلح هة التعامل بشكل مختلف مع مفهوم  المنافسة، 

كن فوق المنافسة، ابحث عن مكان لا تطاله المنافسه، وقد أعطى الكاتب امثلة كثيرة، من الأشياء التي لفتت نظري أنّ كيس الإسمنت في إحدى المناطق كان الهدية التي تقدّم للأزواج الجدد!

كيف يمكن أن يتحول كيس الإسمنت إلى هديّة؟

سوق العمل يتطلب دراسة المجتمع، ودراسة الواقع الاقتصادي، ودراسة علم النفس، ودراسة الهجرة ومفهوم الشعور...

تيم براون مبدع التفكير التصميمي يقول إنه لا يتغني عن الأنترولوجيّ حتّى في تصميم درّاجة هوائية...

ولإدوارد دي بونو مبدع مصطلح التفكير الجانبي كتاب بعنوان ما فوق المنافسة، يصبّ مصب كتاب المحيط الأزرق... ويروي هذه الحكاية عن المنافسة، وكيف أن منافسك فرصة لك، هذا ما تعيشه الشركات اليابانية المتنافسة في ميادين شتذى ، التعاون بين المتنافسين شرط لإيقاف الهدر.... 

النظرة ، دائما النظرة هي ما تغيّر من علاقتنا بالأمور، بل هي ما تغير الأمور...

أتذكر دائما قولا عربيا مأثورا ، وكيف أنّ هذا القول تغيرت دلالته رأساً على عقب حين تبناه الرسول عليه السلام بحذافير ألفاظه مع إعطائه بعدا دلاليا جديدا: انصر أخاك ظالما او مظلوما، حوّر الرسول معناه بل صوّب معناه ، نصرك أخاك ظالما هو أن تردعه عن ظلمه، لا أن تؤازره في ظلمه، اكتسب القول بفضل الرسول عليه السلام حياة جديدة... 

والعرب القدامى كانوا يستعملون هذه العبارة : " أهل النظر" للكلام على المفكّرين، وأصحاب الرأي بل وصناع الرأي...ني.

الثلاثاء، 15 مارس 2022

الإبدال اللغوي وصحن الفتّة في مطعم الدنون

 



الإبدال مصطلح لغوي ويعني استبدال حرف بحرف دون أن يتغيّر المعنى، فلنلاحظ كلمة زعتر، نجد أنّها تكتب في المعاجم على الشكل التالي: زعتر، سعتر، صعتر... 

ولكن قد نجد أنّ الاستبدال يحلّ مشاكل من نوع آخر، فلنذهب إلى الأكل...  ونجد الاستبدال، وسأخذ مثالا من صحن الفتّة لأطبّق عليه نظرية الإبدال اللغوي، والإبدال اللغوي طريف جدا وغنّي ويدفع مخيلة القارىء غلى مطارح كثيرة غير لغوية...

لماذا اخترت الفتّة؟

شهر الصيام المسيحي هو الذي دفعني الى اختيار الفتّة ..

ما علاقة الفتّة بالصيام؟

شهر رمضان على الأبواب، أظنّ هذا يكفي للفت النظر الى البعد الديني في صحن الفتّة..

المآكل لا تبتعد عن الدين.. فعلاقتنا مع الطعام في شقّ منها دينيّ...

الحلال من الكلمات التي يكثر حضورهاا في دول الغب على أغلفة الطعام... هل يخلو سوبرماكت من كلمة حلال؟ وهل يخلو متجر غذائي من كلمة حلال...

ويمكن القول أنّ الطعام زاد من منسوب طباعة مفردة حلال بالحرف العربي او بالحرف اللاتيني...

الفتّة عادة تحضّر باللبن، أو فلأقل إنّ اللبن من مكونات طبق الفتّة ، واللبن مادّة حيوانية، والصيام المسيحي هو انقطاع عن أكل الحيوان ومشتقات الحيوان ، وعليه فإنّ اللبن رادع للأفواه، لهذا نقدّم في مطعم الدنّون فتّة صيامية وتسمّى أيضا بالفتة القاطعة ، وهنا من يمد لنا يد العون هو حبّة السسم... ولا اظن أحدا يستهين بقدرات حبّة السمسم الخارقة، ومن لم يسمع بعبارة #افتح_يا_سمسم...؟

نحضّر فتّة بالطحينة بدلا من اللبن، وهيي من المآكل التي تخطر ببالي في موسم البرد... تحضّر طحينة الفتة أو تبلتها بطريقة خاصّة ، وهكذا تبني الفتة علاقة شهية وطيبة مع الصيام المسيحي عن طريق ابدال مادة اللبن بمادة الطحينة من غير أن يتهمها أحد بالهرطقة أو الزندقة أو لي عنق الدلالات...

وهي فتّة في البرد تحديددا تشعرك بدفء عجيب.. دفء  جوّانيّ، وبرّاني

التشويه باب من أبواب الحماية

 


الإنسان يشوّه الأشياء كي يحميها... أو يشوّه نفسه كي يحمي نفسه، وهذا ما كتبته في


 مقال نشرته في كتابي لعنة بابل من وحي قول مأثور: لأمر ما جدع قصير نفسه. والكلام فيه عن شخص اسمه قصير جدع أنفه كي لا يموت..

الأنسان يشوّه نفسه أحيانا حفاظا على روحه، يضحّي ببعض الجسد للحفاظ على بقية الجسد...

ومن يتابع ما يكتبه الناس يجد أن هناك تشويها لبعض الكلمات، وهو تشويه مقصود ليس مبعثه بالصواب، بل يشوّه من باب الاحتياط وحساب خط الرجعة...

في اللغة باب لطيف جدا يعرف بأسماء متعددة ، التابو اللغوي، المحظور اللغوي، تلطيف التعبير، ويقصد به أنّ هناك كلمات لا نتلفّظ بها لأنّ المجتمع لا يتقبلها، وينظر شذرا إلى من يستعملها، أو لأنّه يخاف أن يستعملها لما سيناله جراء ذلك من عقوبات لا يتحمّلها.

فلنتأمّل ما يفعله غوغل أو تويتر أو الفايسبوك,,, غزاء ما لا يرضيهم من مواقف، يسلطون عليك سيف الحظر... أو الإقفال ، إقفال الحساب مؤقتا أم بشكل دائم...

وهناك كلمات وتعابير محظور استعمالها ، ومن التهوّر أو الغفلة احيانا استعمالها لأّنها تهددك بالططرد أو بالحظر.

فما يفعل المرء؟

أمامه خيارات كثيرة، طرق ملتوية، فرعية، تشه تلك الطرق التي يستعملها المرء في سيارته للهروب من الزحام أو من حاجز طيّار... الزَوْرَبَة سلاح في مواجهة الحظر، وفي مواحهة المنع، وفي مواجهة الملاحقة..

يعمد الكاتب إلى حيل لغوية، كأن يقطّع أوصال الكلمة، فبدلا من أن يكتب الحظر مثلا يختار بديلا هو الح ظ ر ، أو يستعين بحروف العلّة الألف والواو والياء كبدائل للحركات، كأن يكتب الحوزب بدلا من الحزب، وقد يختار حرفا له علاقة ما مع الحرف المحذوف كاختار الصاد بدلا عن السين، وقد يستعين بحرف لاتيني ويدخله بين الحروف العربية من قبيل كلمة حzب، فهنا تعرف أن المقصود بالكلمة هي كلمة حزب، أو يبدل القول بثياب الحرف اللاتيني، فيصير كالنقاب، النقاب الشفاف في أي حال، 

هناك وسائل تشويهية وهناك وسائل تنكّرية، وهناك وسائل أيقونية حيث يمكن لأيقونة ما أن تقوم بدور الكلمة في النصّ ....

وهناك وسائل تتطلّب دراية لغوية ... وأعود إلى كلمة الزوربة ... على من يزورب أن يكون ماهرا وخبيرا بالمسالك العديدة وخارطة المكان بشبكة مواصلاتها قابعة في دماغه... وهكذا الزوربة اللغوية ، فهي تتطلّب معرفة المترادفات والكنايات والأساليب البلاغية والمجازات والاستعارات التي تسمح للواحد أن يسلك بين النقاط دون أن يبتلّ ....

والعلاقة بين اللغة والشوارع أو وجه الشبه بين اللغة والشوارع كنت قد تناولتها في مقال شعريةة الترادف في الكتابة على جلدة الرأس....

اللغة صورة عن الحياة، وما تجده في الحياة فتّش عنه في اللغة فهو بانتظارك على مفرق طريق...

طبق القدسية من مطعم الدنون

 





#اللغة  مكوّن من مكوّنات الطعام،

#الأنتروبولوجيا مكوّن من مكوّنات الطعام،

#الآيديولوجيا مكوّن من مكوّنات الطعام.. ( هذا ما يقوله مكدونالد حين أعلن انسحابه من روسيا تنديداً  بهجمتها على أوكرانيا)..

#السياسة جزء من #طعام الناس وشرابهم..

يمكن هنا أيضاً  قراءة  ما ورد في كتب كثيرة عن دور الكوكاكولا في الحرب العالميّة...

والقضيّة الفلسطينية  جزء منها طعام.. وجزء من هذا الطعام هو صحن الحمّص...

يمكن هنا أيضاً الاستعانة بموقع اليحث غوغل للقراءة عمّا ورد عن حرب الحمّص بين فلسطين وإسرائيل من جهة، وبين لبنان وإسرائيل من جهة أخرى...

لا أبالغ حين أقول أن صحن الحمّص حلبة مصارعة... وأرض متنازع عليها...

ومن القضيّة الفلسطينية سأدخل إلى صحن الحمّص الوارد في الصورة...

عملت في السفارة الأردنيّة في باريس حوالي  السبع سنوات..   فخطر ببالي ذات يوم أن أحضر لموظّفي السفارة ترويقة  من أصناف المآكل التي نحضّرها في المطعم  .. وكان من جملة ما حضّرته صحن حمّص زيّنته بحبّات  الفول، فسمعت كلمة من أفواه الأردنيين لفتت سمعي، قالوا لي: وبتعمل قدسيّة كمان... رنّت  الكلمة في سمعي وكأنّها أجراس #القدس .. فاستفهمت عن سبب التسمية.. فجاءني جواب يحمل كزءا من مأساة فلسطين وابنزوح وابتهجير وعذابات اللاجئين.. قالوا لي: حين اختلت إسرائيل القدس وتهجّر الفلسطينيّون إلى الأردن حمل معهم أهل #المقدس عادتهم في المآكل ومنها أكل #الحمّص مع تزيين وجه الصحن بحبّات #الفول.. فسمّى الأردنيّون هذه الطريقة في تحضير الحمّص  بالقدسيّة نسبة إلى مصدرها..  وهكذا قرّرت حين عدت إلى #لبنان باختصار اسم الطبق الذي كان طويلاً أشبه بتوصيف فوتوغرافيّ لشكله،  وحاولت الترويج لاسمه ووضعه على لائحة المآكل بهذا الاسم  #قدسيّة... 

الأسماء قضايا   ومذاقات قضايا.

ثمّة مهن ترافقك مدى الحياة ليس لأنها مهنتك

 



#حبّة_حمّص

ثمّة مهن ترافقك مدى الحياة ليس لأنها مهنتك، وإنّما لأنّها مهنة أبيك. طبعا ثمّة وظائف لا تسمح للأبناء بالمشاركة الفاعلة، ولكن لا يمكن لابن أن يعيش بعيداً عن مهنة أبيه، أياً كانت هذه المهنة، ولكن يختلف الآباء والأبناء في علاقتهم بمهنهم. ثمّة أناس يجدون أنّ مهنة آبائهم بعيدة عن أحلامهم أو لا تليق بأحلامهم فيديرون لها ظهورهم. وثمّة أناس يفتخرون بمهن آبائهم، بالنسبة لي المهنة التي تستحق الافتخار هي أي مهنة يمارسها المرء باقتدار. لا أؤمن بالتمييز العنصري بين المهن، فقد احترم سائق سيّارة عموميّة لأنّه يمارس مهنته بمقدرة ومهارة وشغف ولا أحترم كلّ من يتأفّف من مهنته  مهما علا شأن مهنته لأنّي أعتبره خائناً لها، والخيانات المهنيّة كارثة وطنيّة وأخلاقيّة واقتصاديّة ودينية.

أليس إيمانه ناقصاً من لا يسكب روحه في عمله؟

فتحت عينيّ على الدنيا ، ووالدي صاحب مطعم بسيط للحمّص والفول في #طرابلس، ومن جميل الصدف ربّما أن يكون عام مولدي ١٩٥٩ هو نفسه عام انتقال والدي من مطعمه #مطعم_الدنّون  في باب الحديد الذي افتتحه في العام ١٩٤٩ ولمّا يبلغ العشرين من عمره إلى شارع #المطران بالقرب من #شارع_عزمي، والأب عادة ما يأخذ أولاده معه إلى محلّه في أوقات الفراغ، وعليه رافقت مطعم والدي من أيام الطفولة، وعشت معه مع تفتّح وعيي على الدنيا، وفي أوقات العطل في المدارس، وفي العطلة الصيفيّة كنت أنزل إلى المطعم، وهذه الحالة لم تنقطع إلاّ خلال وجودي في #باريس لنيل الماستر والدكتوراه. 

اشتغلت بكلّ ما له علاقة بعمل #المطعم، كنت أرافق والدي إلى سوق الخضرة لشراء #النعنع والبقدونس والبندورة والبصل، وشراء #الفليفلة الخضراء في موسمها أو اللفت أو الخيار أو المقتي لكبسه ، كما كنت أرافقه إلى #سوق_القمح لاختيار شوالات الحمّص والفول.  أمّا في المطعم فلقد عملت بكل ما يتطلبه المطعم ، فأحياناً كنت أقوم بتوصيل الطلبات إلى البيوت، كنت أوصلها في صغري سيراً على الأقدام، وحين كبرت وتعلمت ركوب الدراجة صرت أوصّل الطلبات على الدراجة، كما عملت في تقديم الأطباق إلى الزبائن في قلب المطعم، وأقوم بتقشير البصل، وتخريط الكبيس، وتحضير السرفيس، وبعد أن ننفّق كان يبدأ العمل الثاني، صوبنة الصحون، وتنقاية الحمّص والفول من العجائز والبحص والقشّ، ينقّى حبّة حبّة، وكان والدي يقوم بنفسه أحيانا في تنقاية الحمّص، يضع كميّة من الحمص في صدر ألمنيوم ويروح يمرر الحبّات من تحت أصابعه ويلتقط الحبّة السيئة، أو الحصوة الصغيرة، أو القشة، ويضعها جانباً. 

رأيت مشهداً ذات يوم،  يقوم به أبي، وهو مشهد بسيط، ولكنه لم يبارح ذاكرتي، نفرت حبّة #حمّص من الصدر وتدحرجت وكرجت إلى خارج المحل، فقام والدي وذهب لإحضارها وإعادتها إلى الصدر.

ماذا تعني حبّة حمّص حتّى يقوم والدي بإحضارها؟ فتنني المشهد، شعرت بإيمان أبي، بورعه، بتقاه، وهو يقوم بهذه الحركة البسيطة، تقديرا للنعمة، وما رأيت والدي على امتداد عمره رحمه الله يتجبّر على نعمة، أو يتكبّر على نعمة، أو يستصغر نعمة، أو يتكبّر على أحد أو يستصغر شأن أحد، ما طاوعه قلبه أن يترك حبّة #الحمّص على قارعة الطريق، وهو الذي يعرف أنّها ما وصلت إلى المطعم إلا بعد سلسلة طويلة من معاناة الزارع والحاصد والشاحن. 

بعد مضيّ حوالي ثلاثة عقود على قصّة حبّة الحمّص قرأت قصيدة صينية عن حبّة أرزّ، عن حبّة أرزّ واحدة، يحكي #الشاعر سيرة حياتها وتقلّب المصائر عليها، فطلّت من حبّة الأرزّ الصينيّة حبّة حمّص والدي.

من يعرف والدي يعرف أنّ السخاء من طباعه، وعطفه على الفقير من خصاله، ولمّه للحبّة ليس الا امتنانا للنعمة، ولا تزال الكلمات الأخيرة التي سمعتها منه على شكل جمل متقطّعة، وهو في النزع الأخير،  يرنّ صداها في أذنيّ، كان يبتسم ويقول لي: أنتم أحبابي، والفقراء أحبابي. وضع الفقراء في مصافّ أهل بيته، في مصافّ أبنائه. وكم كنت أفرح بأبي وأنا أراه يعطف على الفقراء .

كم كنت أفرح بأبي وأنا أرى الناس يقصدون مطعمنا فقط لتذوّق لقمة حمّص أو فول أو فتّة من يديه الطاهرتين، وكان مذاق لقمته، باعتراف من يتذوّق لقمته، فريداً. 

عاش عاشقاً لما يقوم به، أياً كان هذا العمل، تنقاية حمّص أو بناء بناية. دقّ سنّ ثوم، أو قصّ غصن شجرة زيتون يابس، أو لمّ حبّة زيتون من الأرض. 

من أبي تعلّمت الشغف بالأشياء، فهو مدرستي في الشغف، ومثالي في التفاني، ورفيقي الدائم في غيابه، وإن كنت ، إلى اليوم، أحبّ حبّة الحمّص، وأجلّ حبّة #الفول فلأنّهما روح والدي، ورائحة والدي، وجهاد أبي وحياة أبي. وإن كنت إلى اليوم لا آكل إلا الصحن الذي أحضّره بيدي فلأنّي أحاول أن أمارس ما تعلمته من يد أبي، ومن نظرتي ليد أبي وهي تدق الحمّص وتعركه في الطاسة أو تخلط حبات الفول بحبات الحمّص لتحضير طبق الفول. أشعر وأنا أحضّر صحن حمّص بيدي أنّي أتقمّص روح أبي، وأشمّ رائحة أبي وهي تفوح من مذاقات الحبّات وهي شكل من أشكال القراءة لسيرة ابي العطرة

الاثنين، 14 مارس 2022

بين وقت وآخر، أتناول مبدأ من مبادىء نظرية #تريز #triz

 



بين وقت وآخر، أتناول مبدأ من مبادىء نظرية #تريز #triz ، سأحكي اليوم عن مبدأ اسمه مبدأ التعديل الموضعي، وهو على شاكلة البنج الموضعي...

إذا تأمّلنا قشّة الشرب في الصورة نجد أن صانعها عدّل مقطعا منها بحيث سمح لها أن تنثني، تعديل بسيط ولكنه سهّل عملية الشرب، ونفس المبدأ نراه في القفازات التي عدّلت عند أطراف الأصبع بحيث لا تتعطّل حاسة اللمس إذا اردنا استخدام شاسة الهاتف المحمول ... تعديل بسيط ولكنّه أعطى قيمة مضافة للأشياء، وفتح لها سوق عمل... ومبدا التعديل غير مبدأ الحذف أو مبدأ الإضافة..

السبت، 12 مارس 2022

النحت اللغوي

 


#بِكْسِل #Pixel

#النحت_اللغويّ لا يستهوي اللغة العربية  كثيراً بسبب وجود بديل لغويّ حيويّ ذي مقدرة فذّة على توليد الكلماتوهو #الاشتقاق. والاشتقاق خصيصة من أهمّ الخصائص اللغوية التي تتمتّع بها اللغات الساميّة. وكان الراحل #عبد_الله_العلايليّ قد فصّل هذه الناحية في كتابه الفذّ " مقدمة لدرس لغة العرب"، ولكن هذا لا يعني عدم قدرة العربية على استخدام مخزونها الاحتياطيّ من النحت اللغويّ.

هنا سأتناول طواعية العربية وقدرة معدتها على هضم النحت. فهو أي #النحت، في أي حال، موجود منذ زمن بعيد، ومن اللغويين من يعتبر النحت أصل #الجذور العربية الثلاثية والرباعية والخماسية، ولكنه، اليوم، يشبه الخلايا النائمة، ولا أحد يعرف متى أو كيف يستيقظ من نومه العميق، فقد تكون حالته شبيهة بحالة الأميرة النائمة.

سأتناول النحت من خلال كلمة إنكليزية هي : بكسل" التي عبرت اللغات بفضل الحاسوب، والهاتف المحمول،والانتقال في فنّ التصوير من الفضّي إلى الرقميّ الذي اختلف في جوهره، فصارت الصورة تتعامل مع البكسل.

والبكسل غيّر من طبيعة الصورة ومن طبيعة التصوير، وكان ما يعرف بالـ " فلو flou" أي عدم وضوح الصورةخطأ تصويريا استثمره بعض كبار التصوير في توليد بورتريهات رومانسية تشبه غباش الحلم الملفّع بالضباب، وكان البعض يتقصد " الفلو" ضمن مقدار معيّن لتوليد جمالية خاصة، وما عدت أذكر اسم ذلك المصوّر الاميركي الذي أدهش العالم بصوره " الفلو" الضبابية الحالمة الممتعة للناظر!

البكسل نقطة، ولكنّه عمليا وفعليا ليس نقطة، الانتقال الى العالم الرقمي ربّع الدوائر، فالبكسل هو أصغر عنصرمربّع مكوّن للصورة، وهو من حيث المبدأ لا يرى لضآلة حجمه وإن كنت ترى أثره، ولكن يكفي تكبير أي صورة على شاشة الحاسوب مهما كانت نقيّة، وواضحة لتظهر على سطح الصورة تلك المربعات الملوّنة التي تتكوّن من تراصفها الصورة!

وكلمة بكسل pixel ليست كلمة قديمة، فهي كلمة انكليزية منحوتة من كلمتين ، هما: picture  و element ،أخذ قسم من الكلمة الأولى pic التي تحوّلت إلى pix شكلاًمع الحفاظ على النطق، وقسم من الكلمة الثانية هو el فصار عندي كلمة جديدة.

النحت، هنا، يلعب دور الرحم في إنجاب أولاد جدد.حاول العرب توليد كلمة منحوتة وإن بدا للناظر أنها ليست منحوتة، والكلمة العربية ترجمت الكلمتين الانكليزيتين قبل أن يُعمِل مقصّ النحت عمله، وهما: عنصر وصورة،  وأسفر النحت عن " عُنْصورة " بمعنى بكسل. الغلبة اليوم في الاستعمال العربيّ هو للبكسل، ولكن لا يمكن معرفة مَن من الاثنين سينتصر فيما بعد! وهذا النحت العربيّ طريف، وطرافته في الصاد التي نراها في " عنصر" وفي " صورة" ، ممّا يجعل المرء لا يعرف إن كان حرف الصاد في " #عنصورة" هو صاد " عنصر" أم صاد " صورة"؟ فهنا، على قولة أهل النحو، يجوز الوجهان.

ليس هناك انتصار حاسم في مسائل لغوية كثيرة كما في مسائل حياتية كثيرة. كلّ انتصار هو انتصار مؤقت، وكلّهزيمة حتّى وإن كانت ماحقة هي هزيمة مؤقتة، ومن يقلّب صفحات التاريخ بين يديه، يعرف هذا التداول للقوّة في العالم!  كم من هزيمة ماحقة كان موّلدها انتصارات ساحقة! فالأضداد يتوالد بعضها من بعض! فهل يكتب لكلمة عنصورة" " العمر الطويل؟ الله أعلم! أعمار الكلماتبيد الله، والكلمة التي لها عمر لا تقتلها شدّة! ما أودّ قوله هو أن كلّ إنسان يشهد في حياته ولادة أشياء، وولادة كلمات!ونحن في عصر نشهد فيه ولادات أشياء كثيرة، وكلمات كثيرة، فالعصر عاصف بتحوّلاته الرائعة والمروّعة!

#بلال_عبد_الهادي


على هامش صحن فول بالطحينة

 


سمعت هذه الحكاية الطريفة والممتعة من الأخ العزيز طوني الحاج، قال: جاءه ذات يوم كوبل لشراء خاتم ذهب. لاحظ طوني أنّ الشاب سحب من جعبته مفكرة صغيرة من جيبه، وراح يرسم، أو بالأحرى يخربش، الرسم الأوّل خربشة، أو كالضباب، وقال ذلك الشاب لطوني إنه مصمّم قوارير عطور، ولقد استوحى من شكل الخاتم قارورة عطر..

لم أستغرب الخبر، لاّن للإبداع والابتكار ألف وجه ووجه، بل  إن شئت الدقة التريزيّة ( كلمة مأخوذة من نظريات تريز triz  في الاختراع أو الابتكار) لقلت إّن للابتكار أربعين مبدا لا غير، استيحاء شكل قارورة عطر من خاتم هو مبدا من المبادىء التريزية الأربعين...

كان من اوّل الأشياء التي جذبتني إلى ستيف جوبز هو طريقته الإبداعيّة، حين قرات أنّه كان يحب أنّ يتجوّل في السوبرماركت وتجديدا في قسم الأدوات المنزلية ليستوحي أشكال كمبيوتراته... وأنّه استوحى شكل الأيفون الأوّل من شكل سيّارة المرسيدس... 

أحد عناصر الإبداع أن ترى شيئا فترى في هذا الشيء شيئا آخر، كما رأى ذلك الشاب في الخاتم قارورة عطر... وكما رأى ناشر كتب ياباني في التفاحة كتابا...

هل الكتاب تفاحة؟

كيف تقرا في تفاحة؟

ستيف جوبز قرأ قضمة من تفّاحة في أي حال.

قرر ذلك الناشر أن ينتج كتبا للأطفال...

فكر في طرائق عديدة...

أعطيت هنا مثالا عن الكتاب والتفاحة..

ولكن التفاحة ليست المرة الأولى التي تصير فيها ورقة كتابة!

في تراثنا العربيّ كتاب طريف جدا اسمه الظرف والظرفاء للوشّاء... وهو كتاب في فصل منه يحكي عن الكتابة على الأشياء، ومن جملك ما حكاه الكتابة على التفاحة، تتحوّل كلمات التفاحة الى رسالة غرام.. وأقاصيص عشق... رسالة حب تؤكل.

الناشر الياباني فكّر بشيء آخر، 

كيف أجذب الطفل إلى الكتاب؟

ورقة الكتاب تؤكل، مصنوعة من شيء طيّب يفتح شهية الأطفال...

مرسومة على الورقة مثلا تفّاحة، ومكتوب أسفل التفاحة اسم التفاحة،  بعد أن يتعلم الولد اسم التفاحة، ويرى شكل التفاحة، وتفوح من الورقة أيضا رائحة التفاحة، قد يشط ريق الطفل على أكل التفاحة، هنا تقول له الورقة: كلني، مذاقي بطعم التفّاح، وهكذا يكون الطفل قد استخدم كل حوّاسة حقيقة لا افتراضا في تعلّم كيفية كتابة التفاحة

اللغة لعبة

 

ومن أوائل من لعب باللغة من علمائنا العرب هو الخليل بن احمد الفراهيدي... كان ذهنه ذهنا رياضيا، ومن باب الرياضيات دخل إلى عالم اللغة، كثيرون لا يدخلون إلى اللغة من باب اللغة. للغة ممرات سرية كثيرة، وممرات كالسراديب.

يصعب حصر مفردات لغة، ومع هذا أخذ الفراهيدي قرارا بحصر ما لا يحصر، وما هي القاعدة في أي حال؟ أليس حصر ما لا يحصر. عندما نكتشف قاعدة ما فإننا نكتشف في الوقت نفسه سرّه وروحه المحركة لأعضاء بدنه. القاعدة رحم خصب، منجاب.

نظر الخليل إلى مفردات العربية فوجد أن أغلبها ذو أصل ثلاثي، مكتبة أصلها ( ك، ت، ب)،  اندفاع أصلها (د.ف.ع) وهكذا. لم يكتف بتأمّل تسلسل الأصل الثلاثي وما يعتريه من تعديلات في أوّله أو آخره، أو أحشائه،  وإنما راح يلعب بالأصل الثلاثي وكأنّه ثلاث أكر بين يدي بهلوان ولاعب بالأكر.

لاحظ مجموعة أشياء، الأصل الثلاثي ذو طبيعة مختلفة، خذ جذر (ح،ل،م) تجد أنّ كل تقديم أو تأخير لحرف ينجب تركيبا جديدا لا يخلو من دلالة، فعندك: الحلم ، الحمل،اللحم، اللمح، وعندل الملح، والمحل... بينما جذور أخرى لا تملك ما يملكه الحلم، هنا الحلم لا يعجزه تقدديم أو تأخير، ولكن خذ جذر العلم، فعندك ( العلم، والعمل، واللمع) بينما الاحتمالات الأخرى لا تلقى لديك أي صدى. فما معنى معل؟ أو معنى ملع؟أو معنى لعم؟ لا أظنّ أن أحدا ما سوف يتعامل مع معل كما يتعامل مع عمل؟

أتسلى أحيانا بلعبة التقليبات الصوتية للجذر لأرى مقدربته البهلوانية مقارنة بغيره من الجذور... وكنت قد كتبت مقالين عن الخليل نشرتهما في كتاب لعنة بابل، واحد عن أنف الخليل، وآخر عن الفراهيدي وعلاقته بالقرصان الرقمي.

استوقفني منذ عدة أيام جذر العلم، فقلبته ووجدت أن ثلاثة تقليبات من أصل ستة لها حضور عربيّ، فوجدت في هذا المثلث الجذري مثلثا حياتيا؟ وهم: علم، عمل، لمع.

لا قيمة لعلم بلا عمل، العمل النظري المحض، العلم البرجعاجيّ،قرن العلم بالعمل يجوّد العلم ويجوّد العمل، العلم مدرّب يشرف على العمل، والعمل يقدّم للعلم مادة لتحسين العلم، عندما تحسن علمك يتحسن عملك أي أداءك، اقتران العلم بالعمل يثمر ما يلمع، تصير لامعا في علمك وعملك.

العلم ينقذ عملك من التخبيص....

وعملك ينقذ علمك من التهويمات السريالية

الجمعة، 11 مارس 2022

يوم الأطفال في مطعم الدنون ضمن مبادرة استحلي وخود


 


يوم الأطفال

أحبّ الصديق علاء الجندي  إدخال الفرح إلى عقول الأطفال وأخيلتهم  فتكرّم بتقديم مجموعة من كتب الأطفال لمبادرة #استحلي_وخود...

علّموا أولادهم  حبّ القراءة... 

القراءة أهمّ من الحمّص

😊

فله جزيل الشكر

أعجبتني فكرة وجدتها في كتاب عن ساحر الإلكترونيات توماس إديسون

 


أعجبتني فكرة وجدتها في كتاب عن ساحر الألكترونيات توماس إديسون، وهي في


 الوقت نفسه مستوحاة من نظرية سمارت S.M.A.R. T ، وسمارت هنا لا تحمل معنى الكلمة وإنما هي أوائل الحروف الأولى لخمس كلمات. 

حرف S هنا هو الحرف الأوّل من كلمة specific اي محدد، ويقصد به حدد بالضبط ما تريد إنجازه وبالتفصيل.

كاتب الكتاب مايكل غلب، أخذ اسم إديسون، وجعله مجموعة حروف تشير إلى طريقة عمل إديسون E.D.I.S.O.N,وجعل من حرف ال E بداية كلمة emotional عاطفي ، مع تحميلها دلالة عملية تحفيزية، أي بحسب ما يقول الكاتب: عبر عن هدفك بالطريقة التي تشحذك بالطاقة وتستنفر قواك. اشعر بالعاطفة التي ترافق إنجاز هدفك.

الفكرة التي خطرت ببالي هي تحويل اسمك الشخصي غلىى هدفك، استخرج من اسمك مشروعك واحلامك واعمالك.  أي تستخرج من اسمك خطّة عمل لك. 

المسألة لعبة، لعبة تحفيزية، ولعبة خيالية، ولعبة لغوية، ولعبة مصيرية، يتحول اسمك الى حقلل دلالي لتطلعاتك ورغباتك وشغفك. اللغة لن تبخل عليك بالعثور على هدفك، بل لن تبخل عليك بتحقيق حلمك، فالإنسان ابن الكلمات التي يتبناها ، وابن معجمه الشخصيّ... وإذا حاولت في لحظة ما أن تلوم أحداً ، فلا تلومنّ إلا معجمك الذي أخرجته من اسمك الشخصي. ورأس معجمك الشخصيّ ليس يابساً ولا متحجرّا، طبيعة اللغة مائيّة يمكنك أن تتحكّم بمجراها وأن تشعبّ مجراها لتنتج ما يشبه دلتا النيل.

هل وجدت نهرا بلا تشعبّات، اذهب إلى غوغل وابحث عن الرسم الهندسي لأي نهر، تجده يشبه شكل الشرايين في الجسد...

مسألة إيجاد نفسك في المعجم سهل، قد تدور الكلمة على رأس لسانك، دوّر عليها في المعجم، فليكن على سبيل المثال عادل، يمكنك أن تنطلق أن دلالة اسمك المعجمية ثمّ تفرّق اسمك إلى ع.ا.د.ل. تفتح المعجم على حرف العين ، وتروح تبحث عن الكلمة التي تبدأ بحرف العين، وتجدها تعبّر عن أحلامك وطموحك، ثمّ عن الألف، ثم عن الدال، ثم عن اللام.

اعتبرها لعبة، لعبة في البداية، كحل الكلمات المتقاطعة،  أو كلعبة السوديكو، لعبة قد تمنحك في ختامها مكافأة هي إيجادك لهدفك إن كنت تبحث عنه، أو خارطة طريق إلى هدفك إن كنت قد ضللت الطريق...

اللغة مرشد روحي، ومدرّب خبير، وكوتش لا يستهان به.

الخميس، 10 مارس 2022

عالم اللغة عالم فاتن... ما يضع غلالة على فتنته هو الإلف والعادة، فالحكي جزء من

 


عالم اللغة عالم فاتن... ما يضع غلالة على فتنته هو الإلف والعادة، فالحكي جزء من


 حياتنا، الصمت حارق.. كثيراً ما أتأمّل تلك التعابير التي نستعملها لتشير إلى مفاعيل الصمت المدمّرة: بدّي إحكي، بطق إذا ما حكيت، ما عاد فيني بدّي إحكي، ح إنفجر بدّي إحكي. والصيام عن الكلام اصعب بكثير من الصيام عن الطعام. سكوت ما تحكي. لأ بدّي إحكي. بموت إذا ما حكيت. هذه التعابير ليست من عندي، وإنّما هي تعابير أسمعها كما يسمعها غيري، وأحياناً أستعمل بعضاً منهان كما يستعمل غيري بعضا منها... ويمتعني تدوينها وأرشفتها، ودراسة دلالاتها وأوقات استعمالها، وسياقات استعمالها.

الأنسان حيوان ناطق، اي أنّه حيوان يحكي، بالحكي يمارس انسانيته حتّى ولو استعمل اللغة لمآرب حيوانيّة.زز

ما يفتنني باللغة هو مجازها، هو نطنطة الكلام من الحقيقة الى المجاز، ومن المجاز إلى الحقيقة، وكنت قد تناولت في مقال نشرته في كتابي لعنة بابل عن المجاز والحقيقة وتبادل الأدوار فيما بينهما من طريق استعارة الرمز الصيني الين واليانغ، مع أمثلة من واقع اللغة، ومن طريف الكلمات أن المعنى الحقيقي كلمة ما قد يصير مجازا،    إلى هنا المسألة طبيعية، ولكن المعنى المجازي يتحوّل مع الوقت والاستعمال إلى معنى حقيقيّ، ولكن هذا المعنى الحقيقي يستعين بالمعنى الحقيقي الأوّل ليؤدّي دورا مجازيا. فتصير الحقيقة مجازا، ويصير المجاز حقيقة، وهكذا دواليك في حركة دائرية ولولبيّة لا تنتهي، على غرار الحركة الدائرية المستمرة لدائرة الين يانغ... 

كيف يتعامل الدماغ مع الحقيقة ومع المجاز؟

كنت قد قرأت عن شخص ولد وفي شقّ دماغه الأيمن فجوة، فجوة غابت فيها المنطقة التي تعالج المجاز، بمعنى أنّه كان عاجزا عن استعمال المجاز، وعاجزا عن فهم المعنى المجازي، فإن قال له أحدهم: أعرني أذنيك ، خاف وارتعب إذ كيف بإمكانه أن يستغني عن أذنيه.

في حياتنا اللغوية هناك تواصل لغوي مستمر بين شقيّ الدماغ، حين نسمع عبارة مجازية ، يتبلبل الشق الأيسر، لا يمكن له أن يفهمها إلا بمعناها الحرفي، هنا يتدخل الشقّ الأيمن ويوضح للشقّ الأيسر الأيسر، فيطمئنّ بال الشقّ الأيسر. 

النغمة التي ترافق الكلمة وتقلب معناها من جد الى هزل، أو من جد إلى سخرية، لا يمكن للشقّ الأيسر أن يستوعبها، لأنها من المهمات الملقاة على عاتق الشقّ الأيمن

حجم سوق الشموع في أميركا حوالي مليارين ونصف المليار...

 


حجم سوق الشموع في أميركا حوالي مليارين ونصف المليار... 

ماذا يعني هذا؟

هل قضت الكهرباء على الشموع؟

هل بمقدور اللمبة إزاحة الشمعة؟

من أين تاتي قوّة الشمعة؟

ما الذي يمدّ بعمر الشمعة؟

كيف يعيش ما لا لزوم له؟

ما الدافع لأن يبقى ما انتهت صلاحيته كامل الصلاحيّة؟

كما لو أنّ للأشياء أرواحا تؤمن بالتقمّص!

الكلام والطعام

 


سأدخل الآن الطعام في كلامي على الكلام، وفي كلامي على الدماغ..

وظيفة الشقّ الأيسر من الدماغ تحضير الكلام ، ولافترض هنا ان الكلام طبخة، الشق الأيسر يقوم بتحضير الطبخة.. وبعد الانتهاء من الطبخة يجيء دور الشقّ الأيمن من الدماغ، وهو سكب الطعام في الصحون وتقديمها وتوزيعها على المائدة... 

لأعمّق المقارنة أكثر.. لأظهر أن الشقين متممان لبعضهما البعض: فقد يكون المرء ماهرا في الطبخ، ولكنه غير مذوق في تقديم الطعام بشكل يفتح النفس... وقد يكون المرء ماهراً في تقدين الطعام وعرضه ولكن لقمته غير طيبة.

هذا ما نلحظه حين نستمع لمحاضرة، فقد يكون المحاضر باردا رغم أنّ موضوعه شيّق، ومضمونه شيّق، ولكنه رتيب الكلام، نغمة واحدة في كلامه تمط إلى آخر الكلام، فيجلب الملل والضجر إلى آذان مستمعيه والنعاس إلى عيون مشاهديه. بينما آخر يبقيك يقظاً وكأنّك تشاهد فيلم " أكشن".. كلماته تشبه عصا مايسترو

اللغة والدماغ

 


لا شيء يضاهي معرفة الدماغ فتنة، وعبارة " معرفة الدماغ" فيها الكثير من التهوّر ،


 فحتّى اكبر علماء الأعصاب والدماغ يعرفون تماماً أنّ معرفتهم بالدماغ لا تزال عامرة بالنقص...

فالإنسان يكتشف الدماغ، وهو في مرحلة التعرّف على الدماغ.. وفكّ لغازه وأسراره لغزا لغزا، وسرا سرا، ولا يزال في جعبة الدماغ الكثير من الأسرار... ومن حسن حظ من يعيش في هذا الزمن أنّه صار بإمكانه أن يرى الدماغ وهو يعمل عن طريق التصوير بالرنين الوظيفيّ..

كنت أقرأ شيئاً عن الدماغ في كتاب دانيال بينك : عقل جديد كامل، وهو كتاب يفتح الشهيّة على التأمّل وتوليد الخواطر، واستوقفتني نقطة لغوية ، ولكن كلّ نقطة لغوية هي أيضاً نقطة غير لغويّة، نقطة سلوكية او شعوريّة، فالكلام يؤثر في السلوك، والتعابير التي تجسّد ذلك كثيرة، منها: "كلمة تحنّن، وكلمة تجنّن" ، والكلمة كالسكّين تجرح.

كيف يتعامل الدماغ مع اللغة؟

كيف يتعامل الشقّ الأيسر؟

كيف يتعامل الشقّ الأيمن؟

الشقّ الأيسر وهو الشقّ اللغويّ بامتياز، ولكن ماذا يحدث للكلام إن لم يشارك الشقّ الأيمن في العملية اللغوية؟

أخذ الكاتب مشهداً بسيطا من حياة الناس اليومية، لتفصيل مسألة فهم العبارة، وهو:

" افترض انك انت وزوجتك كنتما تعدان العشاء في ليلة ما، وافترض ايضا انه في منتصف عملية التحضير اكتشفت زوجتك انك نسيت شراء اهم مكون في طعام العشاء، ثم افؤض ان زوجتك عندئذ قد أمسكت بمفاتيح السيارة وعلى وجهها علامات الضيق والاستياء، ثم قالت وهي ترمقك بنظرة قاسية:" أنا ذاهبة إلى المتجر" ان كل من له عقل سليم كان سيفهم أمرين من تلك الكلمات التي زوجتك. الأول غنها سوف تتوجه الى السوبر ماركت، والثاني انها غاضبة ومستاءة جدا.

ان نصف كرة مخك الأيسر هو الذي اكتشف الجزء الأول. بمعنى انه قد فك شفرة كلمات الجملة التي قالتها زوجتك، وتعرف على بناء هذه الجملةن وتوصل بالتالي الى معناها الحرفي، ولكن نصف كرة مخك الأيمن قد أدرك الوجه الثاني من الحوار، بمعنى انه بمعنى أنه قد أدرك ان تلك الكلمات التي بدت محايدة تماما " أنا ذاهبة الى المتجر" لم تكن محايدة على الإطلاق ، فالنظرة الشرسة في عينيها، ونبرة صوتها القاسية تشيران الى غضبها واستيائها. "

  ولو لم يتدخّل الشق الأيمن لغاب المعنى العميق للعبارة. يحدث أن يصاب أحد شقي الدماغ بعطب، فيهم شقّ من المعنى ويغيب شق آخر. ففي حال العطب كان من نصيب الشق الأيسر سوف يلاحظ غضب زوجته ولكنه لن يعرف إلى أين هي ذاهبة. 

قرأت ذات يوم عن الدماغ المشطور، وهو حالة يعالج بها الصرع، أو قد يولد المرء دون تلك الوصلات أو الجسور بين شقّي الدماغ فتولد مشاهد موجعة وسرياليّة في آن... وكنت قد نشرت هذه النقطة في كتابي الكتابة على جلدة الرأس...

علاقتنا مع اللغة ليست علاقة كلمات فقط، بل سياقات ونغمات ونبرات ومشاعر ومواقف ، وهذه كلّها يقبض بزمامها الشقّ الأيمن من الدماغ...

للشقّ الأيسر حقيقة اللغة،  وللشقّ الأيمن مجازاتها...

وهل بمقدور حقيقة لغوية أن تعيش لولا بركة المجاز، وأوكسجين المجاز؟؟؟


العقل الأبجدي

 


العقل الأبجديّ

هل يقرأ العربيّ كما يقرأ الفرنسيّ والإنكليزي؟

هل نستعمل الدماغ بنفس الكيفيّة؟

القراءة حركة.

حركة عين، وحركة رأس؟

هل يحرك العربي رأسه وهو يقرأ بنفس الطريقة التي يحرك بها الفرنسيّ رأسه؟

كيف يعمل الدماغ وأنا أقرأ نصا عربيا؟

اتجاه الكتابة في العربية غير اتجاه الكتابة الفرنسية..

في العربي أبدأ من اليمين باتجاه اليسار؟

وفي الفرنسية أكتب أو أقرأ من اليسار باتجاه اليمين؟

من المسؤول عن تحريك الرأس من اليمين إلى اليسار؟ الشقّ الأيسر من الدماغ؟ ومن يحرك الرأس من اليسار إلى اليمين؟ الشق الأيسر من الدماغ ؟

مجرّد سؤال، هل حركة الرأس في القراءة من اليمين إلى اليسار هي التي كانت وراء الاستغناء عن كتابة الحركات في العربيّة، وكذلك في اللغة العبريّة التي تقرأ كالعربية من اليمين إلى اليسار؟

القراءة العربية رياضة شيّقة للشقّ الأيمن من الدماغ مقرّ الخيال والنغمات والتصوّرات...

ومن خصائص الشقّ الأيمن ما يلائم طبيعة الكتابة العربية الخالية من الحركات، فالشق الأيمن لا يعمل وفق بنية العناصر أ-ب-ت-ث-ج، فمهارته الخاصة تتمثّل في قدرته على تفسير الأشياء مجتمعة في وقت واحد".والقراءة العربية ( الإعرابية) تتطلب الكرّ والفرّ في السطر الواحد، أي القيام بتجوال في السطر، فالتقديم والتأخير هو تقديم وتأخير في عملية القراءة الذهنية قبل التلفظ بالكلمة ...

وعادة القراءة الراسخة عزّزت من تشكيل بنى ذهنية مختلفة... كما عزّزت الكتابة الصينية من فوق لتحت على امتداد مئات السنوات على تكوين ذهنية صينية مختلفة عن الذهنية العربية والذهنية اليونانية واللاتينيّة.. وما عمّق الشرخ المعرفيّ بين الصين من جهة وبيننا نحن والغرب من جهة ثانية هو الكتابة التصويرية لا الأبجدية في الكتابة الصينيّة...


الأربعاء، 9 مارس 2022

تأمّلات في الياسرية

 



سأتّخذ  من الياسريّة توطئة إلى عالم المذاقات... وليس بالضرورة إلى عالم الياسريّة... وما سأقوله عن الياسريّة يمكن أن يقال عن أي طبق آخر...

الأكل أذواق... 

والأكل استثناء في عالم الأذواق ، استثماء جميل... هذا ما يفصح عنه قول مأثور: كل على ذوقك والبس على ذوق الناس...

إذا دقّقنا في القول، ولا يمكن الأخذ بهذا القول على عواهنه، كما لا يمكن أخذ أي قول على عواهنه...

فالقول كالأكل أيضاً أذواق... فقد تكون مدمناً على القراءة، ولكنّك مدمن على قراءة الشعر، وقد يكون غيرك مدمناً على القراءة ولكن لا يطيق العر، فقراءته تجنح إلى كتب الاقتصاد  لا القصائد... 

والأكلة الواحدة هي أكلات.. فطبخة أمّك ليست كطبخة أمّي... وطبخة أختك ليست كطبخة أمّك.. وقد تحبّ تبّولة هذا المطعم ولا تحبّ   تبّولة مطعم آخر... 

جملة عناصر تدخل في ذوق الآكل، بل قرأت ذات يوم أن المرأة الحامل يتغيّر مذاقها تبعاً لنموّ الجنين في رحمها...

ما هو الوحام؟

علاقة طارئة مع المذاق... وهو أي الوحام بحسب بعض علماء الأجنّة     ما يرغب بأكله ذوق الجنين فيستدرج والدته عبر الوحام إلى نيل مأربه!

أقول ذلك، لأنّي أعرف أنّ هناك من ستكون علاقته مع الياسريّة غير ميسورة لأنّها تعارض مذاقه وعاداته...  ولكن أعرف أنّ هناك من لا يحبّ البقدونس ولكنّه استذوقه مع الياسريّة... بحسب ما قاله لي... البقدونس هنا دخل في سياق جديد.. فتغيّرت مذاقاته  كما يتغيّر معنى قول بتغيّر سياقاته...  وكما تتغيّر قيمة شيء ما بتغيير ما يجاوره...

ألا يقول المثل: عاشر السعيد تسعد؟؟

وللدردشة الياسريّة تتمّات..

فلا ينفد قول ولا ينفد مذاق....

فالواحد متعدّد...

والنعمة الواحدة نِعم، بحسب قول  ذي العزّة والملكوت:

وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها!

أليست حبّة الحمّص نعمة من ربّ الأكوان.

غيمةٌ سيميائيّة

 



#علم_السيمياء Sémiologie / sémiotiqueعلم من العلوم الإنسانيّة التي تهتمّ بالعلامة #signe أي بدلالة الأشياء اللغويّة أو غير اللغويّة. كلّ شيء، كما يقول الناقد الفرنسيّ اللامع #رولان_بارت، دالّ ( أي يحمل معنى ما). ولكن ليس سهلا أن يعرف الإنسان ما هي العلامة #السيميائية؟ وكيف تنتج العلامة دلالتها؟ لا يزال هذا العلم ورشة عمل. أريد أن أحكي عن نقطة واحدة وبسيطة منه لتوضيح مسالكه عبر الكلام عن الغيمة من منظور سيميائيّ ومن منظور طبيعيّ. الإنسان لا يعيش في عالم واحد، إنه يعيش في عالمين على الأقلّ، عالم الطبيعة وعالم الثقافة والسيمياء. أعود إلى الغيمة لأطرح السؤال التالي:هل الغيمة في السماء علامة سيميائيّة أم علامة طبيعيّة؟ ما الفرق بين العلامتين؟ وهل أتعامل مع الغيمة الطبيعية كما أتعامل مع الغيمة الثقافية/السيميائية؟ متى تكون الغيمة طبيعيّة لا سيميائيّة؟ ومتى تكون الغيمة غيمة سيميائيّة تتلبّس بلباس الطبيعيّ؟ ليس في نيّة الغيمة أن تخبرني أنّ السماء ترغب في المطر، ولا تقول لي الغيمة: انتبه لحالك، وخذ احتياطاتك اللازمة من شمسية أو لبس مشمّع واق من المطر. لم يخطر ببال الغيمة كلّ هذه الأشياء. وعليه فهي ليست علامة سيميائية وإن كنت أنا اشحن حضورها الجوّال في الجوّ دلالات لم ينطق بها لسانها الغيميّ. وأحوّلها إلى غيمة سيميائية؟ يمكن أن أخرج الأمور الطبيعية من طبيعيّتها. وسأعطي مثالاً وليكن الغيمة نفسها. هل الغيمة في السماء هي نفسها الغيمة في مشهد سينمائيّ؟ طبعا، لم تقرّر الغيمة أن تلعب دوراً في الفيلم. الغيمة نجمة رغماً عن أنفها في الفيلم! لم تتدّخل على المخرج ليدخلها في مشهد. ولكن المخرج قرّر أن يدخل الغيمة في الفيلم لأنّه أراد أن يمنحها دورا، كأن يكون ظهور الغيمة في الفيلم هو تغيير في مستوى مجريات الأحداث ومنعطفاً سرديّاً يمهّد الطريق أمام تحوّلات مشهديّة كدنوّ الخطر من بطل الفيلم مثلا. إنّها شكل من أشكال الموسيقى التصويرية، أو المؤثرات الصوتية. تحوّلت الغيمة إلى مشهد سردي. هنا، لم تعد الغيمة غيمة سمائيّة صارت غيمة سيميائيّة. حين لقط المخرج الغيمة ووضعها على شريط مصوّر لم تعد غيمة مستقلّة، دخلت في علاقات وسياقات ليست من طبيعتها. ولم يعد من المسموح لي هنا أن أرى الغيمة بعينَي وإمّا بعينَي المخرج.

وإذا نظرت إلى الغيمة الموجودة في الصورة، وتساءلت : هل هي غيمة؟ وهل صوّرها المصوّر لأنّها غيمة؟ ما الذي شدّ المصوّر إلى الغيمة؟ هل شدّته غيميّتها ، إذا صح التعبير، أم شيء آخر؟ هل يمكن للغيمة أن تعشق؟ هل ينبض قلبها بالحبّ؟ هل كانت هنا تريد أن تشكو للناظر لواعج الحبّ؟ هل هي غيمة أم قلب. هي في عين نفسها غيمة، ولكن في عين من صوّرها قلب غائم. قلب ملبّد بالغيوم. للغيمة الواحدة أكثر من قراءة: قراءة تضمينية وقراءة تعيينية. كلّ تضمين connotation ينقلب على تعيين dénotation ، وكلّ تعيين ينقلب إلى تضمين. هل جرن الكبّة الحجريّ مثلا هو جرن كبّة حين يستخدم كمزهريّة؟ تبادل الأدوار لا يتوقّف بين الدالّ والمدلول، ولا بين الدالّ والدالّ، ولا بين المدلول والمدلول. التعيين، في المصطلح اللغويّ، هو ما يقوله المعجم عن هذ الكلمة أو تلك، والتضمين هو ما يفيض من الدلالة، ويتعدّى ما يقوله المعجم. التضمين هو علاقتك الشخصية أنت مع الكلمات، ذكرياتك معها. التضمين هو حين تخرج الكلمة من وراء قضبان المعجم وتعيش حياتها بناء لرغبات الناطقين بها، وهي قد تضرب بالمعنى المعجمي عرض الحائط.


صحن ياسرية من مطعم الدنون

 



#صحن_ياسريّة

عبارة بسيطة مكتوبة على طرف ورقة مؤلّفة من  تركيب إضافيّ: صحن ياسرية... قد لا تعني هذه العبارة شيئاً لكثيرين... ولكنّها تعني لي أشياء كثيرة... ليست هي المرّة الأولى  التي تصلني هذه الورقة..  فهي المرّة الثانية على هذه الشاكلة من طرف مختلف...  كاتبها هاف أن ينسى حاملها اسمها فاحتاط للأمر بكتابتها... وكثيراً ما يأتي أشخاص لطلب الياسريّة فيستعينون بالوصف .. فأفهم من خلال الوصف مقاصدهم.. وأحيانا يأتي أحدهم  ويريني صورة مطلوبه... 

هذه الورقة  لحظة من سيرة طبق... طبق يحاول أن   يقدّم مذاقاً، ومع المذاق فكرةً، ومع الفكرة حلماً،  ومع الحلم  ملامح وقت آت...

أحببت إدخال عبارة " الجيل" في كلامي على الياسريّة... كما يحكى عن أجيال الهواتف المحمولة...، فبين الأيفون ١ والأيفون الراهن تطوّرات كثيرة، وتعديلات كثيرة، وإضافات كثيرة...



لكلّ عمل هدف... حتّى الأهداف العبثيّة لا تقصد العبث من أهدافها أو العبث بأهدافها، هذا ما يقوله المسرح العبثيّ في أي حال، وهذا ما يقوله الفنّ السرياليّ أيضاً... فما بالك بهدف غير عبثيّ...

وغالباً ما تكون الأهداف متشعبّة.. وكثيراً ما أشبّه الهدف باليد.. وأحدّد اليد لأنّ اليد هي التي تحقّق الهدف، انظر إلى أي هدف هل استغنى عن تدخّل اليد.. بل وعن تعزيز اليد...  وكثيراً ما أتأمّل الفكر اليدويّ من وراء الفعل اليدوي... فاليد أداة الأفكار...  ولعلّ هذا ما أكسب اليد دلالات كثيرة في لغات الشعوب...  علاقة اليد بالأفكار تشبه علاقة الأرقام بالحروف،  حتّى الأشياء  المبتكرة والتي لا علاقة لها باللغة لا يمكن  لها أن تثبت حضورها إلاّ من طريق اللغة.. حتّى لو اخترع شخص ما  سلعة جديدة كانت بمثابة اختراع عليه لحفظ حقوقه أن يقدّم براءة اختراع، وبراءة الاختراع هي كلمات مكتوبة...

بل حاول أن تقرأ كتاباً مسموعاً دون الاستعانة بكلمات مكتوبة..

المكتوب مدخل إلى المسموع...

ما أقصد من ربط اليد بالهدف أو صورة اليد بالهدف... تأملت اليد فإذ هي واحة يد وأصابع... ونظرت إلى راحة اليد كهدف تتفرّع منه أهداف...

الأصابع أهداف...



أي كيف يولد من هدفٍ هدفٌ، ومن واحدٍ  متعدّدٌ...

طبق الياسريّة يتمتّع بقيمة غذائيّة عليا، فكلّ مكوّن من مكوّناته  يقدّم قيمة غذائيّة غير منكورة...  قيمة غذائيّة يحتاجها الجسد...

كان تقديم هذه القيمة أو رفع القيمة من أهدافي...

وكان  إعلان الوفاء لوالدي أحد هذه الأهداف.. ودائما ما أكرّر ليس لأنّه والدي... ولكن لإنسانيّته وبساطته وطموحه وطيبته وجمعه بين أشياء نادراً ما قدر امرؤ على الجمع بينها...

كان يفرح لكلّ ناجح في الحياة، ولم أره يوما يحسد ناجحاً.. بل كان يعلن  البهجة..  لهذا اخترت اسمه كمنبع للتسمية.. وهو اسم نبيل  الدلالة، جميلها، يحمل معنى اليسر،  والدين يسر لا عسر، ومن الأقوال المأثورة : يسّروا ولا تعسّروا...

وكان من أهدافي تقديم طبق بمذاق مختلف لتقديم تجربة مختلفة...

والمأكل جزء من هويّة الشعوب...

هل يوجد شعب في العالم لا يعتزّ بأطباقه...؟

ومن تتبّعي لمسار هذا الطبق وهو حديث الولادة  وهو  بالكاد أتمّ شهره الثالث.. لاحظت أنّ أغلب الناس أحبّوا مذاقه، وأحبّوا شكله، وأحبّوا حضور اسم الطبق على الصحن تحت لوغو المطعم.. وهي فكرة جديدة.. المطاعم عادة قد تضع لوغو المطعم  أو اسم المطعم على الصحن ولكن لم يخطر ببالها أن تكتب اسم الطبق على الصحن..لأنّ الصحن يستخدم عادة لاحتضان مآكل متعدّدة.. ولكنّي خصّصت صحناً خاصّاً  للياسريّة.. وهكذا صار الصحن  يحكي، يقول لك : من أنا؟

ومن الأشياء التي لاحظتها أنّ وجهه فوتوجينيك، فكثيرون يصورونه ، ويتأمّلونه قبل تذوّقه...

ولا أنكر أنّ هذا الطبق يتمتّع بقوّة الشخصيّة  بمقدار ما يتمتّع بالطيبة.. 

وفي الختام أشكر كلّ  من كتب عنه.. سواء كان الهدف من كتابته تحسين الطبق، أو تغيير الشكل، 

كل رأي من الآراء على العين والرأس.. ويؤخذ بعين الاعتبار وعين التقدير