كثيراً ما يقع الإنسان فريسة الأشكال
التي تقول خلاف ما تقوله النوايا، وذلك من خلال تصديق منطوقها المراوغ. وثمّة قول
شعبيّ مأثور يفصح عن هذه الازدواجيّة الماكرة، وهو: "تمسكن حتّى تتمكّن".
وهنا مكمن الالتباس القاتل والفاتك إذْ إنّ بعض الناس تشتبه عليهم الأمور فيعتقدون
أنّ التمسكن مرادف للمسكنة. وهذه حيلة كان يلعبها أبو العلاء المعرّي في شعره أي أنّه
كان يلعب على الظنّ الرجراج بحسب ما ورد في ديوانه "سقْط الزنْد":
ولما رأيت الجهل، في الناس،
فاشياً تجاهلت، حتى ظنّ أنّي جاهل
فواعجباً! كم يدّعي الفضلَ ناقصٌ
وواأسفي! كم يُظهر النقص فاضل
إنّ من يتأمّل بيتَي أبي العلاء المعرّي يدرك أنّه لا
يختلف كثيراً ، في بعض الأوقات، عن أبي العلاء المعرّي نفسه. كان المعرّي أعمى أي غير
قادر، حكماً، على التمييز بعينيه، ولكن أليس هذا حال كثيرين من الممتّعين بأبصارهم
حين تعجز عيونهم عن التمييز؟ العمى ليس حكراً على من فقد ناظريه. وهذا أمر يستدعي
العجب والأسف معاً لأنّ نتائجه لا تخلو إمّا من عجب وإمّا من أسف، وفي بيتَي
المعرّي شيء من العزاء، وإن بشكل موارب، لفقده ناظريه.
تلتبس الأمور،
في لحظة ما، على العين المبصرة فلا تعرف أين الفضل؟ وأين النقص؟ فتظنّ النقص
فضْلاً، والفضْل نقصاً. ولا تخلو الحياة من حكايات كثيرة تروي تفاصيل هذه الحدود
المخاتلة والمتداخلة كما لا تخلو الحياة، أيضاً، من تبادل للأدوار بين المتناقضات.
ومن باب التداخل وتبادل الأدوار والتباس الأشكال يتسلّل الخداع بدهاء، على رؤوس
أصابعه، لإنجاز رغباته وألاعيبه. كنت قد سمعت مرّة شخصاً يقول: إنّه لا يضع في
ذمّته إلاّ الموتى، أمّا الأحياء فهو يعترف بجهله لهم جهلاً مطبقاً لأنّهم متغيّرون
ومتلوّنون. فكم من صديق ودود انقلب الى عدوّ لدود؟ وكم من عدوّ انقلب وليّاً
حميماً؟
كنت قد قرأت حكاية
طريفة نقلها أكثر من كتاب من كتب التراث، أكتفي بذكر ورودها في كتابين هما:
"أخبار الأذكياء" لابن الجوزيّ، و"ثمرات الأوراق" لابن حجّة
الحموي. تقول الحكاية: قَدِم رجل إلى بغداد في طريقه إلى الحجّ. وكان معه عِقْد
يساوي ألف دينار فاجتهد في بيعه فلم يجد له مشترياً،
وخاف أن يحمله معه فيكون عرضة للسرقة أو الضياع، فجاء إلى عَطَّار موصوف بالخير والسيرة العطرة، ومعروف في الحيّ
بالتقى والورع، فأودعه إيّاه .ثم حجَّ وعاد، وحمل معه هديّة للعطّار.
حين دنا الحاجّ من العطّار، لم يظهر العطّار أي ردّ فعل يظهر أنّه يعرفه بل تعامل
معه على أساس أنّه شارٍ يريد أن يشتري بعض الأغراض، فاستغرب صاحب العقد هذا
الاستقبال الغريب والمريب، ولكن قال بينه وبين نفسه: ربما تغيّرت بعض ملامحي في رحلة الحجّ فلم يتعرّف عليّ. وحين أفصح عن
هويّته وعن سبب مجيئه قال له العطّار:
من أنت؟ وما هذا الكلام؟ ثمّ راح يرفسه ويدفعه بيديه حتّى رماه
خارج الدكّان وصاح في
وجهه:أتدّعي
عليّ مثل هذه الدعوى الجائرة أيّها اللعين، وتتّهمني بخيانة الأمانة؟ ما هذا الهراء أيّها
المفتري؟ فاجتمع الناس وتحلّقوا
حول الحاج وراحوا يؤنبونه على اتّهامه للعطّار المشهود له بالإيمان والخير ونظافة
اليد، وقالوا له:
ويلك! هذا رجل خير، ما وجدتَ من تدّعي وتعتدي عليه إلاّ
هذا الفاضل الأمين؟ فتحيّر الحاجّ، ولكنّه
لم يستسلم لهذه اللعبة التي يمارسها معه العطّار، فهو متأكّد من أن عينيه لا
تغشّانه، وأنّ ذاكرته صادقة معه، فعاد ودخل اليه فما كان من العطّار إلاّ أن عاود
شتمه وضربه.
أسقط
في يد الحاجّ وهو يرى نكران العطّار الذي لا تشوب أخلاقه شائبة في نظر من يعرفه. وهنا، انبرى رجل من بين
المتجمهرين ناصحاً الحاجّ بالذهاب إلى عضد الدولة البويهيّ، فهذه المسألة، كما قال
الرجل، لا يقدر على حلّها غيره، وهو من كبار
السلاطين في العصر العباسي، وكان معروفاً بالحنكة والفراسة ورفع المظالم فكتب الحاجّ قصّته ورفعها إلى عضد
الدولة وحين وصلته الرسالة استدعى الحاجّ وسأله عن حاله، فأخبره بالقصّة.
فقال عضد الدولة
:اذهب إلى العطّار بكرة،
واقعد على الدكّة أمام دكّانه. فإن منعك
فاقعد على دكّةٍ تقابله من الصّبح إلى المغرب، ولا تكلّمْه. وافعل هكذا ثلاثة أيام،
فإنّي أمرّ عليك في اليوم الرابع، وأقف، وأسلم عليك، فلا تقم لي، ولا تزدني على
ردّ السلام، وجواب ما أسألك عنه .فجاء الحاجّ إلى دكّان العطّار ليجلس
فمنعه، فجلس قبالته ثلاثة أيام. فلما كان في اليوم الرابع، اجتاز عضد
الدولة في موكبه العظيم. فلما رأى عضد الدولة الحاج وقف، وقال :سلام
عليكم
!فقال الحاجّ دون أن يتحرّك من مكانه :وعليكم
السلام
.قال عضد الدولة :يا أخي، تقْدم إلى بغداد، فلا
تأتي إلينا، ولا تعرض حوائجك علينا؟ قال الحاج: هكذا كان. ولم يُطل الكلام
معه، وعضد الدولة يسأله ويهتمّ، وقد وقف ووقف العسكر كلّه.
دار الحوار بين الحاج وعضد الدولة على مرأى ومسمع من العطّار، فارتعدت فرائص
العطّار الذي استهان بالحاجّ فشعر أنّ لعبته مع الحاجّ لن تكون مأمونة العواقب بعد
أن رآه على علاقة وطيدة مع عضد الدولة. وما إن انصرف موكب عضد الدولة حتى هرول
العطّار إلى الحاجّ، قائلاً: ويحك! متى
أودعتني هذا العقد؟ وفي أيّ شيء كان ملفوفاً؟ فذَكِّرني لَعلِّي أذكرُه. فقال الحاجّ :مِن صِفَتِهِ كذا وكذا .فقام
العطّار، من فوره،
وفتّش في دكّانه، ثم نَقَضَ جَرَّة عنده فوقع العقد.
فقال
:قد كنتُ نسيت. والذاكرة، يا صاحبي، خؤون، ولو لم تُذَكِّرني
في الحال ما تذكّرت. وراح يلوم ذاكرته ويلعنها على مكْرها الخبيث به.
استردّ
الحاجّ العقد ومضى إلى عضد الدولة وأعلمه باستعادته عقد اللؤلؤ فما كان من عضد
الدولة إلاّ أن حكم على العطّار بالصلب على باب دكّانه. أشير، في الأخير، إلى
أنّ القارىء يشعر كما لو أنّ الحكاية تغمز
من طرف خفيّ من قناة مثل عربيّ قديم يقول: "لا يصلح العطّار ما أفسد الدهر"
لأنّ الفساد، بحسب ما تعلنه الحكاية، من صنيعة العطّار الذي أصلحته حنكة عضد
الدولة وليس من صنيعة الدهر الذي نرمي على ظهره كثيراً من أوزار الخلق.
بلال عبد الهادي