أظنّ أنه من الضروري فتح اقسام في جامعاتنا الوطنيّة بغية تكوين صورتين: تكوين صورة عن
صورة الآخر عن نفسه، وتكوين صورة، أيضاً، عن طريقته في النظر إلينا، وذلك من باب
بناء جسور فعلية بين الأنا والآخر. لا أحد ينكر، فيما أظنّ، أنّ الصورة التي
يرسمها كلّ طرف عن الطرف الآخر لا تزال محكومة بنزاعات موروثة، وصراعات مستجدّة
تستنجد بالتاريخ لتبرير استمرارها، وهي صراعات تتداخل فيها عوامل كثيرة: اقتصادية،
دينية، جغرافية. كان قد أشار المفكّر المصري حسن
حنفي، الى اهمية ولادة علم الاستغراب وهو واجب ضروريّ، ولكن هنا أحب توسعة مفهوم
الاستغراب، للدلالة على دراسة الآخر، كل الآخرين، فليس هناك غريب بسمنة وغريب بزيت
كما يقال. ماذا نعرف، اليوم، عن الآخر؟ وعن أيّ أخر نتكلّم حين نتكلّم؟ اننا عادة
ما نتكلّم على العالم الغربيّ، أوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة. ولكن لا
الولايات المتحدة الأميركية هي الآخر، ولا أوروبا هي الآخر. علم الاستغراب المطلوب
والمنشود، فيما أتصوّر، عليه أن يكون علماً منفتحاً على الآخر. ما هي الكتب
المكتوبة بلغتنا وبأقلام كتّابنا عن كندا او البرازيل او الارجنتين او المكسيك او
كوبا، او روسيا، او نيكاراغو او عن الصين أو عن اليابان أو سيريلنكا أو الحبشة، ان
أحد اهمّ كتب اليابان لم يترجم، على سبيل المثال، الاّ مؤخرا الى العربيّة وهو
كتابهم المقدّس "الكوجيكو" رغم ما يمثله لليابانيين من قيم روحية
وميتولوجيّة. سأروي حادثة طريفة حصلت معي، وهي حادثة تكرّرت في أكثر من مكتبة.
بدأت اهتمامي باللغة الصينية والحضارة الصينية منذ عام 2002 تقريباً، وكنت أحبّ ان اتصيّد الكتب
العربيّة التي تتناول تاريخ الصين وحضاراتها ولغتها في المكتبات ومعارض الكتب. كنت
حين ادخل المكتبة وأسأل صاحبها ان كان عنده كتب عن الصين، أتفاجأ من ردّة فعله كما
كان هو، بدوره، يتفاجأ بطلبي. ثم يحاول صاحب المكتبة ان يسترجع في ذهنه اسماء
الكتب التي تحويها مكتبته عن الصين فلا يجد صدى لكتاب، ثمّ يسألني مستغربا اهتمامي
بكتب لا يهتمّ بها أحد عن دولة لا تثير الفضول العلميّ عند العربيّ الحديث كما لم
تثر فضول العربيّ القديم على غرار ما أثارته حضارة اليونان وفلاسفتها. لقد نشطت
الى حد ما، حديثا، ترجمة الكتب الصينية، ولكن هنا ايضا لا بد من اضاءة وهي ان
الكتب الصينية المترجمة لم تترجم من الصينية وانما ترجمت من طريق لغة ثالثة
الانكليزية او الفرنسية أو الالمانية، ونادرا ما ترجمت الكتب مباشرة من معين اللغة
الصينية. وان كان المتابع اليوم يلحظ ان
بعض الكتب ترجمت الى العربية من الصينية مباشرة بفضل قلّة من المتخصّصين
باللغة الصينية. الترجمة هي ضرب من الحوار بين الأمم والشعوب. ولا تزال إلى اليوم
تحمل العبارة العربية المأثورة "اطلب العلم ولو في
الصين" معنى ملتبساً، وعبارة " ولو في الصين" لا تعني الصين بقدر ما تعني
الاستحالة، وكأنّ الصين عالم لا يمكن الوصول إليه.
لدى كلّ أمّة كتب تعتزّ بها، وتعتبرها معبرة عن
روحها ومكنونها، سواء كانت كتب دين او ادب او تاريخ أو شعر. كيف يمكننا ان نفقه
روح شعب ان كانت كتبه التي تمثل روحه ليست في متناول القارىء العربيّ. هل يمكن
لشخص ما أن يفقه روح الصين بشكل عميق ان لم يتعامل مع كتاب" الأغاني"
الصينيّ، ولم يدرس الأثر البليغ الذي تركه هذا الكتاب في طريقة تفكير الصينيين. ما
قلته عن الصين يمكن ان أقوله عن اليابان او كوريا او الهند؟ لأفترض اني اردت ان
اقرأ بلغتي العربيّة اهم كتاب في نظر الكوريّ هل تسعفني المكتبات، ولكن اذا ذهبت
الى اللغة الفرنسية او الانكليزية او الالمانية فاني حكما سأرى أنّ هذه الكتب متوفّرة
بهذه اللغات مع دراسات عنها بأقلام فرنسيين او انكليز أو ألمان.
ما
اردت تبيانه هو انّ الاستغراب، كلمة ليست واضحة تماماً، لأنّها تشير من حيث الجذر
على الأقلّ الى الغرب، ولكن هل يكفي علم الاستغراب بمفرده دون ان يرافقه في بلادنا
علم يمنحه مداه الأرحب، هو علم الاستشراق
أيضاً أي دراسة الشرق الكبير والغنيّ والناهض نهضة نأمل أن نرى مثيلا لها في
عالمنا العربيّ؟ أو بتزويد هذا العلم معنى الغريب، أي كلّ ما هو ليس أنت؟ وهنا
يصير هذا العلم هو " علم الآخر" سواء كان هذا الآخر متقدّما أم متخلفاُ.
لقد
ورثنا من اجدادنا عاهة يمكن ان اسميها مزمنة،
ولا بدّ من معالجتها للشفاء منها، وهي عدم الاهتمام بأدب الشعوب وأساطيرها،
فلقد وضعنا جانبا في القديم الادب المسرحي اليوناني، والأساطير والخرافات
اليونانيّة، والآن نحن نمارس الأمر ذاته تقريبا مع آداب وأساطير الشعوب الأخرى.
من
المثير للتامّل ان علاقتنا بالصين والهند علاقة قديمة جدّا، ولكن ما الذي نقلناه
الى العربية من آداب وأساطير هاذين الشعبين العريقين؟ ما الذي نعرفه مثلا عن اهمّ
نصين هنديين وهما " المهاباراتا" أو " الرامايانا"؟ وحين
الكلام عن الاستغراب من المفيد جدّا الاشارة الى كتاب البيروني" تحقيق ما للهند
من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، وهو كتاب بديع عن الهند من الداخل
بشتّى وجوهها، ومن المفيد جدّاً أن يدرس هذا الكتاب وتستخرج منه قواعد لا تخلو من رحابة
عن كيفيّة النظر الى الآخر، ودراسته من دون خلفيّة مسبقة تنمّط النظر إلى ما نراه
وتحنّط المعنى الثاوي في السلوك.
أحبّ الاشارة، أيضاً، الى اسم كونفوشيوس، فرغم
انه الشخصية الابرز بين حكماء الصين لم يصلنا اسمه الى العربية الا عبر شكله
اللاتيني بعد ان انفتحنا على الغرب واستوردنا منه اسم كونفوشيوس الذي هو ترجمة عن
اللاتينية وليس عن الصينية. لقد بحثت ولا أزال عن ذكر الصين وتقميش المعلومات عنها
عساي احظى باسم كونفوشيوس، ان اسمه لا وجود له حتى في كتاب ابن بطوطة التي عاش في
الصين سنوات عديدة ونقل الكثير من عاداتها وتقاليدها وان في مبالغة أحياناً.
لا
يكفي أن نفقه الغرب ونتمعّن في دراسته، فمعرفة القويّ ضرورة بقدر ما هي ضرورة
معرفة الضعيف. ولا يمكن لأحد أن يدّعي انه يعرف نفسه ان كان لا يعرف الآخر بكل
تناقضاته وتجلياته ، الآخر الغربيّ والآخر الشرقيّ، الآخر الغربيّ المتناثر في
القارات، والآخر الشرقيّ المجاور لنا، في الهند والصين واليابان وكوريا والفيليبين
وفيتنام. وخصوصاً ان المستقبل القريب على ما تقول أغلب الدراسات سيكون زمامه بيد
الشرق بوجهيه الهندي والصينيّ، وأميركا اللاتينيّة ممثّلة بالبرازيل التي تحتضن في
ربوعها كمّا لبنانيا هائلا غير مستثمر كجسر ثقافيّ أو اقتصاديّ أو سياسيّ.
أختم
بعبارة تختصر فكرتي: معرفة الغرب دون معرفة الشرق تشبه عصفورا يطير بجناح واحد،
ويستغرب، في الوقت نفسه، عدم قدرته على التحليق.