الخميس، 30 يوليو 2015

أدب الوصايا


الموت لا يلاحق فقط الطاعنين في السنّ الذين وصلوا الى أرذل العمر. الطفل لا يخطر بباله أن يفكّر بالموت، والشابّ يظنّ أن الموت بعيد عنه. ولكن الحروب تنسف هذه القاعدة، السيارات تنسف هذه القاعدة، والأحزمة الناسفة تطيح بهذه القاعدة.
حين يكبر المرء يفكّر بكتابة وصيته. ونادرا ما خطر ببال فتى أن يكتب وصيته، ان يكتب كما لو انه يكتب من وراء الجسد الهشّ.
أدب الوصايا جميل، وفي تراثنا غرض قائم برأسه هو "أدب الوصايا".
تغيّرت طبيعة الوصايا، ويعجبني منها النصّ المكتوب المؤجّل، نصّ معلّق الدلالة، ينتظر غيابك ليحضر. نصّ كلامه غامض، ممنوع لمسه، ولا ينكشف معناه إلاّ بغيابك.
نصّ غنيّ بالمفاجآت، يلعب بالتوقعات. قد يطفىء إحناً، وقد ينتج فتناً، نصّ يوزّع الثروة والجاه والمناصب.نصوص الوصايا طريفة، وغنيّة. ليس بالضرورة ان تكون الوصيّة قطعة أدبيّة، أو نصّا محكم الحبك والسبك.
اللغة لا تعنيه الاّ كوسيلة، وإن اتخذت الوصية احيانا شكل النصّ الأدبيّ، وكتبت بحبر النثر الفنّي .والوصيّة تحكي لا فقط عن الممتلكات، طريقة الحكي عن الممتلكات هي ايضا طريقة في الحكي عن الذات. 
انها الطريقة التي يتصوّر فيها الغائب حضوره بعد الغياب!
والوسائل الحديثة قد غيّرت من طبيعة الوصيّة، فقد تكون على قرص مدمج في هيئة فيلم فيديو، حيث يقعد المتوفّى ويحكي. تسمع الراحل بالصوت والصورة يقسم الأزراق، ويمنح الهبات.
وصيّة الغائب ، هنا، هيبة حاضرة.
في التداولية بحسب كلام اوستين عن اللغة : الكلام أنواع، ومن اخصب الانواع ما يتحوّل إلى فعل. كلام القضاة في المحاكم، وكلام رجال الدين في عقود الزواج، وكلام عقود البيع والشراء. كلام ينقل الأشياء من شخص إلى آخر، كلام يبدّل العلاقات، كلام يقلب الحرام حراماً. كلمة طلاق تخرج من شفتي الزوج : تجعل امرأته غريبة عنه. الكلام هنا سلطة نافذة.
وككلّ شيء هناك شروط. تحويل الكلام الى سلطة يتمّ بإشراف قوى معيّنة. 
الوصيّة سلطة ، أيضا، ضمن شروط.
كلامي عن سلطان الوصايا، ومضامين الوصايا كمغيّر علاقات وممتلكات!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق