الخميس، 2 أبريل 2015

ذئب لعبة الـ"غو go" او لعبة الـ weiqi 围棋




يقال إنّ أقدم لعبة في العالم هي لعبة الـ"غو 
go"، أو الـ"واي تشي  围棋wéi qí" وهو الاسم الصينيّ لهذه اللعبة التي يعود تاريخ نشأتها إلى حوالي أربعة آلاف سنة. ولكن، بدءاً، أريد سرْد حكاية روتها الكاتبة الصينية شاو لان  shao lan 晓岚  المقيمة في بريطانيا والتي تساهم مساهمة فعّالة وفنّية في الغرب في التسويق للغة الصينية عبر طريقتها الفنّية المعروفة تحت اسم  " Chineasy  " لكسر الانطباع القائل بصعوبة تعلّم الكتابة الصينية .
 تروي الحكاية مقطعاً من حياة طفل يعيش على مقربة من غابة، قرّر الطفل، ذات يوم، المغامرة والتنزّه في الغابة، فغادر منزله وترك باب بيته مفتوحاً، انتهزت بطّة غياب الطفل للتجوّل في البيت واللعب ببركة الماء الموجودة في بهو المنزل، وبينما كانت البطّة تستحم بمياه البركة مرّ عصفور بجوار البطة وراح يضحك منها، ويسخر من أجنحتها مخاطبا إياها: أيّ صنف أنتِ من الطيور، اذا كنت لا تحسنين إطلاق العنان لأجنحتك؟ فالتفت إليه البطّة وقالت: وانت أيّ نوع من الطيور اذا كنت لا تحسن السباحة؟ لمحت، في هذه الاثناء، هرّة العصفور والبطة وهما يتشاجران، فقالت لنفسها، انها فرصة جميلة للقفز على العصفور الشهيّ، ولكن شاء حظّ الهرة السيّىء أن يعود الطفل، وعلم ما يدور في خلد الهرّة فأنذر العصفور الذي حلّق واستنجد بغصن شجرة بعيداً عن رغبات فم الهرّة . سمع جدّ الطفل صوته فعلم انه كان خارج البيت، فأنّبه وقال له: ألم تفكر في احتمال خروج ذئب من الغابة؟ ولكن الولد، وكان يثق بنفسه، قال لجدّه: الأطفال مثلي لا يخافون الذئاب. وقبل اتمام حديثه كان ذئب يخرج من الغابة متوجّها فوراً الى مصدر الصوت، فدلف الطفل بلمح البرق الى بيته، أمّا البطّة التي لم تحسن الطيران، فإنها سقطت فريسة سهلة بين فكّي الذئب، وحين رأي الطفل المأزق الذي وقع فيه أصدقاؤه ، تسلّق شجرة بعد ان اخذ معه حبلاً ، فعقد طرفه واستطاع بواسطته ان يلقط الذئب من ذيله، راح الذئب يقفز يميناً ويساراً محاولاً تخليص ذيله من الأنشوطة، وكانت الأنشوطة كلما تحرّك الذئب تضيق أكثر فأكثر وتلتفّ أكثر وأكثر حول جسد الذئب. مرّ صيّاد ورأى الطفل على الشجرة، والذئب يتلوّى ويعوي، فأراد الصياد إطلاق الرصاص على الذئب، ووضع حد لشغبه، ولكن كان للطفل رأي آخر، وهو أسر الذئب لا قتله ثمّ الذهاب به الى حديقة الحيوانات في القرية المجاورة وإبقائه حيّاً إلى أن يحين أجله الطبيعيّ.
ذكّرتني نهاية الذئب بلعبة الـ"غو"، وهي لعبة كما قلت، من أقدم العاب الترفيه الفكريّ، وتاريخ نشأتها مغموس بالأساطير، اذ يربط الصينيون نشأتها بالإمبراطور الأول Yao الذي يعتبر مؤسّس الصين، وكثيراً ما تنعقد مقارنات بينها وبين لعبة الشطرنج، لإظهار الاختلاف الجذريّ بين الذهنيّة الغربيّة والذهنية الصينيّة. والألعاب ليست مجرّد ألعاب، إنّها أنماط تفكير وسلوك ووجهات نظر حياتيّة.




                   

للعبة الـ"غو" أسماء مختلفة باختلاف الأمكنة واللغات التي تتعامل معها في الشرق الأقصى، ولكن غلب اسمها اليابانيّ الـ "غو"، في الغرب، على اسمها الصيني بسبب ان الأوروببين اطلعوا على هذه اللعبة من اليابان، فحملت الاسم اليابانيّ، وهي هاجرت من الصين وعبرت الأراضي الكورية التي منها وصلت الى اليابان.
"الفراغ" كلمة أو مفهوم صينيّ يعتبر من صلب الفكر الطاوي، فالفراغ أهمّ من الملآن، الفراغ عجينة عجيبة بين يديك، تتحكّم بها كما شئت، من هنا الخلاف الأوّل بين الشطرنج والـ"غو". رقعة الـ" الغو"، بمربعاتها التي تشبه مربعات الشطرنج، تكون فارغة تماماً، بينما رقعة الشطرنج تكون الأحجار مرصوفة فيها بكلّ اشكالها وانواعها ومسمياتها وطبقاتها الاجتماعية من ملك ووزير وجنديّ، وتدور المعركة في الشطرنج بغاية القضاء على الملك وتصفية أحجاره، " مات الملك" عبارة لا يمكن سماعها من أفواه لاعبي الـ"غو"، تتهاوى في لعبة الشطرنج الأحجار، بينما في الـ"غو" لا يتهاوى أي حجر، ولا يموت أيّ احد، ولا ترتكب أيّ مجزرة، الكل يبقى حيّاً يرزق، لأنّ مفهوم الانتصار في الفكر الصيني مغاير لمفهوم الانتصار في الفكر الغربي، وكثيرا ما تعقد ايضا مقارنات بين الفكر الاستراتيجيّ الصينيّ من خلال كتابه الفذّ " فنّ الحرب" لسون تزه وكتاب "فنّ الحرب" الغربي للمنظّر الاستراتيجيّ النمساويّ كارل فون كلوزفيتش، وتظهر فلسفة كلّ من الطرفين. التدمير ليس من شيم الاستراتيجيا الصينية، يقول سون تزه: أفضل الانتصارات هو الانتصار الذي لا تسفك فيها نقطة دم، وأفضل الاحتلالات هو الاحتلال الذي لا ينجم عنه تدمير. اعادة الإعمار باهظة الكلفة، والولع بالتوفير مسألة تثير العجب في الصين. ويقال إنّ التوفير عادة من عادات الشعب الصينيّ، بل ما لفت نظري، أنّنا حين نريد العدّ للعشرة على الأصابع فاننا نستعين بعد العدد خمسة باليد الثانية لمتابعة العدّ، بينما في الصين، العدّ من الواحد الى العشرة يتمّ باستخدام يد واحدة، ممّا يشي رمزياً بالمقدرة الفائقة على التوفير حتّى في أبسط الأشياء، كما لو الصينيّ يعرف أن المبذّرين إخوان الشياطين!
تتشكّل لعبة الـ"غو" من لاعبين، كلّ لاعب يملك عدداً من الاحجار 181 حجرا أسود، و180 حجرا أبيض، وهي ذات لونين : أبيض وأسود على نسق لوني الـ" يين واليانغ yīn yáng 阴阳 " . وبحسب التقليد فإنّ من يملك الاحجار السوداء هو من يبدأ اللعبة. لكلّ لاعب لون من الاحجار والحجر مستدير غير مسطّح شكله يشبه شكل حبّة الملبسّ بالشوكولا المستديرة، ويبدأ اللاعبان بنثر الأحجار على الرقعة المقسمة إلى أربعة وستين مربّعاً وفق أصول معتمدة وهي أن يوضع الحجر على تقاطع المربعات الصغيرة التي تشكّل رقعة الـ"غو" وعدد التقاطعات 361 تقاطعاً، والهدف من اللعبة ليس إفناء الخصم، أو القضاء عليه، فليس في لعبة الـ"غو" موت. تقوم اللعبة على بناء مستوطنات، ومنع الخصم من القدرة على الحركة، وفي نهاية اللعبة، المنتصر يكون منتصراً بفارق النقاط، وليس ذلك الانتصار الكاسح الذي نألفه في لعبة الشطرنج.
لكسينجر كتاب بعنوان "عن الصين"، ومعروف دور كيسنجر في بناء العلاقات مع الصين في عهد نيكسون. وفي كتابه يتناول هذه اللعبة التي تقوم على محاصرة الخصم، لا على القضاء عليه، من خلال لعبة التحكم بالفراغ، ومن يتابع الحركة الصينية في العالم، يعرف أنّ الصين تذهب الى أماكن لم تكن من أولويات أميركا،  وكثيرون يدركون الآن أن الصين في تمدّدها وانتشارها في العالم إنّما تسير وفق قوانين لعبة الـ"غو"، كما ان استراتجيتها التجارية تقوم على أسس لعبة الـ"غو" والمرافىء التي تساهم بعمالها ومهندسيها في إنشائها على ضفاف المحيطات إنّما هي من وحي لعبة الـ"غو".
في لعبة الشطرنج كلّ فريق يرى أمام عينيه قوّة الآخر، بينما القوة في لعبة الـ"غو"، خفيّة، قوّة تشبه مفهوم " الطاقة  تشي    qi " في الصين. لعبة الغو لا تكتفي بالموجود على الرقعة، فهي تنهل من الدعم الموجود خارج الرقعة، وهي أحجار تغيّر في كلّ لحظة العلاقات بين الأحجار المتخاصمة. ويعتبر كيسنجر أنّ لعبة الـ" غو" تمثّل خير تمثيل الليونة الاستراتيجيّة التي تشبه ليونة جسد التنين الصيني . وتطبّق اللعبة عبارة سون تزه:" لا تهاجم عدوّك وإنّما خطط عدوّك".
هدف لاعب الـ"غو" يشبه هدف طفل الحكاية وهو أن يبقي الذئب حياً، بدل قتله، لأنّ الحيّ يستثمر وقد يثمر أيضاً، فخصمك، في العمق، مجالك الحيويّ!

بلال عبد الهادي


هناك تعليق واحد: